البحوث والمقالات

(٣٠٥) تأصيل مرجعية الفقهاء

تأصيل مرجعية الفقهاء

الدكتور محمد حسين علي الصغير

مني التشريع الإسلامي بنكسة كبرى ارتفعت إلى مستوى الكوارث الإنسانية، ذلك حينما أقصي أهل البيت (عليهم السلام) عن قيادة الأمة، وأقصي معهم فقههم في التشريع، واستعيض عن ذلك بمرجعية الصحابة وفقاهة التابعين، وهذا يعني إبعاد أئمة أهل البيت (عليه السلام) ابتداء من أمير المؤمنين وحتى الحجة المنتظر (عجّل الله فرجه) عن مضمارهم في نشر حضارة الإسلام، ودورهم في الإفتاء بفروع الحلال والحرام وإعلاء كلمة الله في الأرض، وهذا ما حدث فعلاً.
وقد حظر على الفقهاء تداول الأئمة صراحة، وربما كان رأي أهل البيت (عليهم السلام) أحياناً يمزج بغيره لئلا يعرف مصدره، وربما كنّي به عن أعلامهم كأمير المؤمنين (عليه السلام): بأبي زينب أو الشيخ، وعن بقية الأئمة بقال الرجل، أو قال العلَم... وهكذا.
ولعل من أطرف ما مر بأبي حنيفة النعمان بن ثابت (150هـ) انَّه سُئل عن مسألة فقهية.. قال: فاسترجعت في نفسي لأنني أقول فيها برأي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأين الله به، فما أصنع؟
ثم عزمت أنْ أصدقه (أي السائل) وأفتيه بالدين الذي أُدين الله به... فأفتاه، ومضى يقول:
إنَّ بني أُمية كانوا لا يفتون بقول علي (عليه السلام ولا يأخذون به، وكان علي لا يذكر باسمه بين الفقهاء، والعلامة بين المشايخ أنْ يقولوا: قال الشيخ.
وهكذا الحال زمن العباسيين، وكان ذلك اتجاهاً سياسياً يراد في محاولة لإخماد اللهب المتوهج من عطاء أهل البيت الفكري. وكان البديل زعامات مرجعية لا نصيب لأغلبها من ورع، ولا أثارة من علم ولا سابقة في إيمان.
وكان نتيجة هذا الخلط العجيب أنْ استطال فريق من المستشرقين على التراث الإسلامي يصفونه بالعي والعجز حيناً، ويتهمونه بالتخلف عن ركب الحضارة حيناً آخر، ضالعين في هذه الدعوى عن وعي ولا وعي، وكأنَّهم في منأى عن معرفة ما خطط أدعياء السياسة المنحرفة من مخططات رهيبة لمناهضة الإسلام، ولم يشاؤوا أنْ يقرُّوا بذلك مع عرفانهم به، ولكنهم اتجهوا نحو الإسلام يصمونه بتصرفات الملوك والسلاطين.
إنَّ مما ينوء به التاريخ الرسمي عبئاً، ذلك الصدى الحاكي لصوت الحق، وليس هو من الحق في شيء، لأنَّه استغلال للاسم والموقع فحسب دون الغوص في الأعماق، لاستقراء الحقائق الغائبة، فلا هو بواصل إلى البعد المؤثر حقاً، ولا هو بتارك الميدان لأهله الفعليين.
وكان للعباسيين لاسيما أبي جعفر المنصور الدور الفاعل في ابتكار المذهبية على أساس الولاء الحاكم، واختيار الفقهاء المتجاوبين مع سياسته الخرقاء في القتل والتدمير وسفك الدماء، والاعتداء على الهاشميين من أبناء أمير المؤمنين بصنوف العذاب الذي لا مثيل له، كالقتل صبراً للجماعة والأفراد منهم، وجعل الأحياء في اسطوانات البناء وإغلاقها، للموت جوعاً وعطشاً وخنقاً، وهدم السجون على المعتقلين وهم أحياء وليموتوا تحت الأحجار المتراكمة، وقطع الرؤوس وكتابة أسماء أصحابها في لوحات عليها، وجعل ذلك ميراثاً لولده المهدي وهدية لحفيده الرشيد.
ولا نطيل الحديث في هذا الموضوع المفجع، ولا الاسترسال في تلك الفظائع التي ارتبكت باسم الدين، فله غير هذا الموقع من البحث التاريخي.
والذي نريد قوله أنَّ أبا جعفر المنصور قد فتح الباب على مصراعيه في استغلال وعّاظ السلاطين، فتسنَّم منصة الإفتاء غير المؤهلين علمياً ودينياً، ففسروا كتاب الله بما لم ينزل به سلطان، واخترعوا الأحاديث الكاذبة في ولاية الظالمين، وقالو بالسنّة بالأهواء، وضربوا بالعقل عرض الجدار.
وانزلوا الشريعة منازل الرأي دون النظر في الأدلة، وذهبوا إلى الاستحسان دون الاستنباط، والى القياس دون الاجتهاد القائم على الدليل والقواعد الفقهية والأصولية.
كان الفقهاء الرسميون قد انتشروا في المماليك والأقاليم، ينفّذون رغبة السلطان، ويفتون بما تملي عليهم أوامر الحاكمين، يفتعلون الأحاديث وينسبونها للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويضعون الروايات التي تمجّد أسلاف الخلفاء زوراً وبهتاناً، وينتحلون السنن التي لم تكن، إلا صبابة ضئيلة منهم يمنع الورع الذاتي حيناً، والوازع الديني حيناً آخر عن العبث والإسراف.
وكان لهذه الظاهرة إشكالية مريرة في تاريخ الإسلام التشريعي، وهي ليست مشكلة سياسية تحل بالإداريين والولاة والكتاب وهي ليست مشكلة اقتصادية تعالج بالرفاهية وبذل الأموال، وهي ليست مشكلة عسكرية تحتوى بتعيين القادة ورجال الحرب والتجنيد الإلزامي، ولكنها مشكلة دينية خطيرة تتعلق بهذا الدين الحنيف، في السنَّة والفقه والتشريع وإفتاء المسلمين، وتتعلق بتطبيق قانون السماء المختار من الله تعالى بين العباد.
وهنا بدأ الفراغ القاتل في حياة الشريعة ينذر بالخطر، ولم تكن الفئات المتغلبة سياسياً بإزاء ملء هذا الفراغ الحقيقي، إذ انقسموا متاجرين وولاة وحكاماً وسياسيين، وأهل الدنيا، ورجال أعمال، وسواداً ولم يكن هناك..
ومهما يكن من أمر فقد استقبل المسلمون هذه المشكلة دون حل، واستقبلها الحاكمون بكثير من العناء، فعليهم أنْ يجدوا ويوجدوا من يفتي بين الناس، وكان إيجاد البديل عن قيادة الأئمة المعصومين متعثراً، يقع في إشكاليات معقدة حيناً، ويتعرض لشطحات الأهواء حيناً آخر، فكثر الأخذ والرد بلا طائل، وقام الخلاف على قدم وساق ومني المسلمون بخسارة كبرى في تلقي معالم الدين.
لقد حاول المنصور الدوانيقي (ت 158هـ) الذي تزيّا بزي الأكاسرة، وأحدث تقبيل الأرض بين يديه. وأنْ يطوّع الفقهاء في مشروع لخلق المذاهب الأخرى قبال مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فاستعصى عليه سليمان بن الأعمش، وتحدّاه برواية أهل البيت (عليهم السلام) وأحاديث الإمام الصادق (عليه السلام) وأخبار العترة النبوية (عليهم السلام) في مواقف يطول شرحها، ولعل المنصور قتله.
وكان أبو حنيفة بين بين مع المنصور، يستجيب له تارة، ويتقيه تارة أُخرى فسقي من قبل المنصور بشربة عسل مسمومة فمات من غد، والصحيح أنه توفي في سجن المنصور.
وفي هذا الضوء لا نستطيع القول أنّ أبا حنيفة وقف ضد المنصور، ولا تستطيع القول انّه وقف معه، وإنما اتخذ بين ذلك سبيلاً، ومع هذا فقد غدر به المنصور.
نعم، استطاع المنصور أنْ يطوّع مالك بن انس ويجعله من المنفذين لأوامره متمثلاً في كل شيء، فقد أحضره واستدعاه فاستقبله، وأمره أنْ يؤلف كتاباً يجمع به أشتات الفقه والأحاديث قائلاً له: (لم يبق على وجه الأرض اعلم مني ومنك!! واني قد شغلتني الخلافة، فضع أنت للناس كتاباً ينتفعون به، تجنب فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئه. قال مالك: فو الله لقد علمني التصنيف يومئذ) وقد استجاب مالك لذلك وسمى كتابه (الموطأ) وهو أصل المذهب المالكي، وقد اشترط عليه المنصور أنْ لا يروي فيه عن علي (عليه السلام) شيئاً، وقد نفذ ذلك حرفياً، ولهذا فإنك لا تجد في (الموطأ) رواية عن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام).
ولقد تعهد المنصور لمالك بفرض كتابه على المسلمين بالقوة، بعد أنْ يكتبه كما تكتب المصاحف، فقد روى الذهبي أنَّ المنصور قال لمالك: (والله لئن بقيت لأَكتبنَّ قولك كما تكتب المصاحف، ولأَبعثنَّ به إلى الآفاق فلا حملنهم عليه) ومع كل هذا العمل المتواصل الذي قام به أبو جعفر المنصور، فما استطاع أنْ يمحو ذكر أهل البيت (عليهم السلام)، ولأَتمكنَّ من القضاء على الفكر الإمامي، إذ استطاع الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) (ت: 148هـ) أنْ يتبنى ما أسسه أبوه الإمام محمد الباقر (عليه السلام) من ترسيخ قواعد مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) الكبرى، وأنْ ينشر مبادئ الشريعة الغراء رغم تلك الإفرازات السامة، وبذلك أعيدت للإسلام نظراته، وازدهرت آراؤه.
وقد أعدَّ الأئمة فيما بعد قادة الفكر الإمامي من الفقهاء وأساطين العلماء وجهابذة الفن بجهود مكثفة عنيت بتدوين الأحاديث ولمّ شتاتها، وجمع ما تفرَّق منها، وقد انبثقت عن ذلك حركة الاجتهاد بين الفقهاء وفق ما أصَّله الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام) فيما ورد عنهما.
(إنَّا علينا أنْ نلقي إليكم الأصول، وعليكم أنْ تفرعوا) وما جاء عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بقوله: (علينا الأصول، وعليكم الفروع).
وبناءً على هذا التوجيه الضخم نهض الفقهاء بأداء الوظيفة الشرعية وعملوا مخلصين على إبراز فقه آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مبوَّباً مبرمجاً في ظل علم الحديث، وقد رفد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) هذه المبادرة الخيرة، وأعلن تأييده للفقهاء والأخذ عنهم، وأمر أولياءه بالرجوع إلى فتاواهم، وتقليدهم في الفروع قائلاً: (فأمّا ما كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لا مر مولاه، فللعوام أنْ يقلدوه).
وهنا الإمام (عجّل الله فرجه) أعطى خصائص الفقيه الذي يرجع إليه في التقليد، فهو ذو صفات أربع: صيانة النفس، حفظ الدين، مخالفة الهوى، إطاعة أمر المولى (عزَّ وجل).
وبهذا يكون الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قد ثبَّت قواعد الإمامية بالرجوع إلى الإمام بعد الغيبة، وأجزل القول في صفة الفقيه المقلَّد ثقة وعدالة، وبذلك يكون الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قد خرج من عهدة مسؤوليته الشرعية بعد وفاته وغيبة ولده الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بمهمتين:
الأولى: نيابة الوكلاء، وقد أمر بالرجوع لهم للوثاقة المطلقة التي أولاها إياهم، وكان (عجّل الله فرجه) يرجع أولياءه إليهم، كما عن أحمد بن اسحاق عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في شأن عثمان بن سعيد (قدس سره) وولده محمد قال، قال الإمام (عجّل الله فرجه): (العمري وابنه ثقتان، فما أديَّا فعنِّي يؤديان، وما قالا فعنِّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان).
الثانية: مرجعية الفقهاء وأخذها الطابع النهائي والصيغة القطعية بما لا يقبل الرد أو الجدل كما رأيت.
وكان الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قد أرسى أصول المبدأ، فوجَّه الإمامية بقوله: (ينظر من كان منكم فمن روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فاني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما استخفَّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والراد علينا راد على الله، وهو بحدّ الشرك).
ولم ينحرف أولياء أهل البيت (عليهم السلام) منذ وفاة السفير الرابع علي بن محمد السمري (ت329هـ) وابتداء الغيبة الكبرى، وإلى اليوم عن هذا المبدأ، فقد رجع الناس إلى الفقهاء لإكمال المسيرة، وقد واصل فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) استنباط الأحكام الفرعية في ضوء عملية الاجتهاد، وانتصب المذهب شامخاً متحدياً العصور والأجيال بالمنهج الاجتهادي في ضوء الكتاب والسنة والإجماع والعقل.
وقد كان التدريب الاجتهادي المنظم من مهمات الشيخ الأكبر المؤسس محمد بن محمد بن النعمان العكبري الكاظمي البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (قدس سره) (ت 413هـ) وقد عزز هذا المبدأ على يد تلميذه علم الهدى السيد المرتضى (قدس سره) (ت 436هـ) وقد أثمر يانعاً على يد تلميذهما أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت 460هـ) فألَّف كتابه العظيم (المبسوط) في الفقه الإمامي، وجمع فيه الفروع في كل باب وفصل ومبحث، وأفتى في ذلك كله، فانتقل بهذا العلم الجليل من حياة النص إلى حياة الإفتاء، ومن مناخ الرواية إلى مناخ الاستنباط في نحو ثلاثين انتظمت مرتبة أبواب الفقه، وهي عملية متطورة كبرى، وبداية حضارية كتب لها التوفيق والسداد، ولا نغالي إذا قلنا: إنّ من جاء بعده من الفقهاء الأعاظم قد نسج على منواله، وسلك سبيل اجتهاده، ولذا عبر عنه بشيخ الطائفة، لابتكاره المنهج الموضوعي في طرح كبريات المسائل.
وهكذا كانت المرجعية الدينية العليا تؤدي مهمتها بأمانة وإخلاص، ولم تتحكم في ترشيحها وتعيين المرجع الأعلى العوامل السياسية وإرادة السلطان، ولم تتفاعل مع الحكومات الزمنية بإيحاء أو توجيه، وإنما تتحقق مرجعية الأعلم والأمثل تلقائياً، ومن قبل أهل الخبرة العلمية، ويكون لأهل الخبرة القرار النهائي في الترشيح، وتتلقى الأمَّة هذا القرار بالرضا والغبطة والقبول، ولم يتفق ولو لمرة واحدة أنْ نجح أعداء الفكر الإمامي أو طواغيت السياسة أو يفرضوا مرجعاً واحداً خلال أحد عشر قرناً من الزمان، وبقي هذا الكيان ثابتاً مستقراً لا يتغير ولا يتحول ولا يستغل.

البحوث والمقالات : ٢٠١٣/٠٦/٠٥ : ٤.٠ K : ٠
: الدكتور محمد حسين علي الصغير
التعليقات:
لا توجد تعليقات.