(٣١٠) ولادة المهدي (عجّل الله فرجه) وحياته، بين الظروف السياسية وموقف الموالين والمخالفين
ولادة المهدي (عجّل الله فرجه) وحياته، بين الظروف السياسية وموقف الموالين والمخالفين
عباس الأنصاري
ولد مهدي آل محمد (عجّل الله فرجه)، في ظروف سياسية خطرة كانت تحيط بأبيه الإمام العسكري (عليه السلام): حيث الأعداء قد نصبوا عيون المراقبة حوله، وكشفوا الضغوط، ومنعوه من الخروج أو الانتقال من مكان إلى آخر ولم يكتفوا بهذا، بل عمدوا إلى مداهمة داره مرّات عديدة، وفي أوقات مختلفة ومتفاوتة، حتى وصلوا إلى أقصى درجات الحماقة في تصرّفاتهم مع عائلة الإمام العسكري (عليه السلام)، كلّ ذلك لشدّة خوفهم من البشارات التي سمعوها آنذاك بشأن ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وأنّه المنقذ للبشرية الذي يهد عروش الظالمين وينشر العدل في أنحاء العالم أجمع، بدليل أنّ أمه قد تعرضت إلى التفتيش والبحث عن حملها من اجل القضاء عليه قبل ولادته، لكنّ المشيئة الإلهية حالت بينهم وبين الوصول إلى أهدافهم الدنيئة، فكان حمله خفيّاً، وليس كما يظهر عند النساء في الحالة الطبيعية الاعتيادية، وهذا في حدّ ذاته انجاز إلهيّ خارق للعادة، وبذلك لا يتمكن أحد من الفاحصين حتى القوابل، خلال مدة الحمل... من التعرف على وجوده، فضلاً عن النظر إلى أمه هل هي حامل أو لا.
وهكذا الحال بالنسبة لولادته (عجّل الله فرجه)، فلم تكن أقل إعجازاً، بل كانت في غاية الإعجاز، فقد تجسّدت فيها عظمة اللطف الإلهي، وبعد أنْ أشرقت الأرض بنور ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لم يخبر أبوه (عليه السلام) أحداً إلاّ خاصة أصحابه، للزوم تعرفهم على الحجة من بعد الإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه)، فأمر أبوه الإمام العسكري (عليه السلام) أبا عمر عثمان بن سعيد (قدس سره)، وهو من أخصّ أصحابه... بأنْ يعقّ عن المولود الجديد عدداً من الشياه، وأنْ يشتري عشرة آلاف رطل من الخبز وعشرة آلاف رطل لحماً ويوزعه على الفقراء. هذا فيما يخصّ ولادته المباركة.
أمّا ما يخصّ حياته الشريفة، فقد كان حال حياة أبيه الإمام العسكري (عليه السلام) في مدينة سامراء، وبقي الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في مدينة سامراء العراقية طوراً من السنين ساكناً في دار أبيه العسكري (عليه السلام)، في جو ساخن بالمخاطر من جرّاء المحاولات العدوانية التي قامت بها السلطات الطاغية آنذاك، من المطاردة له، والكبس على داره من قبل هؤلاء، منهم المعتمد والمعتضد العباسيان، وهو موجود فيها، ولكنّه تخلّص من كيدهم بقوّة غيبية وحكمة إلهية، وقد عاش في غاية الكتمان بين أصحابه وشيعته، ولم ينقطع اتصاله بهم مع كل هذه الأحداث وصعوباتها، وإنّما كان يتّصل عن طريق نوابه الثقات، كيف لا؟! وقد تعلّق الغرض الإلهي الملزم بهداية البشرية في آخر الزمان بشخصه المبارك، وتنفيذ وعد الله الحق على يده الشريفة، بإقامة حكم الله في الأرض، وهذان الأمران يتوقّفان على ولادته (عجّل الله فرجه) وبقائه حياً في أمد طويل من الزمان، ومن هذا أفاض الباري (جلّت قدرته) عناية خاصة ولطفاً لا متناهياً في حفظه.
لقد كان مولد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ليلة النصف من شعبان سنة (255هـ) وكان سنّه عند وفاة أبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) خمس سنين، وكانت ولادته في عهد الخلافة المزعومة للمهتدي العباسي، مرحلة الفتن والاضطرابات.
لقد ولد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في كنف أبيه الإمام العسكري (عليه السلام) فأحاطه بالرعاية والسرية التامة خوفاً عليه، وتنفيذاً لوعد الله تبارك وتعالى، وعده الذي توارثه عن جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
- روي عن أحمد بن الحسن بن إسحاق القمي أنّه قال: (لما ولد الخلف الصالح، وردمن مولانا أبي محمد الحسن بن علي على جدّي أحمد بن إسحاق كتاب وإذا فيه مكتوب بخط يده الذي كان يرد به التوقيعات عليّ: (ولد المولود، فليكن عندك مستوراً، وعن جميع الناس مكتوماً).
- وفي رواية أخرى عن أحمد بن إسحاق قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام): (الحمد الله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي).
وروى المحدّث الثقة الشيخ عباس القمي (قدس سره) عن حكيمة (رضي الله عنها)... في حديث طويل... أنّها قالت: (...ثم أخذتني فترة وأخذتها فترة فانتبهت بحس سيدي، فكشفت الثوب عنه فإذا أنا به يتلقّى الأرض بمساجده فضممته إلي فإذا أنا به نظيف منظف، فصاح بي أبو محمد: هلمّي إليّ ابني يا عمة، فجئت به إليه، فوضع يديه تحت إليتيه وظهره، ووضع قدميه على صدره، ثم أدلى لسانه في فيه، وأمد يده على عينيه وسمعه ومفاصله، ثم قال: تكلم يا بني، فقال: أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم صلى على أمير المؤمنين (عليه السلام) وعلى الأئمة (عليهم السلام) إلى أنْ وقف على أبيه ثم أحجم، ثم قال أبو محمد: يا عمة اذهبي به إلى أمه).
لمّا اشتدت الظروف السياسية المحيطة بأهل البيت (عليهم السلام) في زمان الإمام الهادي (عليه السلام)، نتيجة لاضطراب الأوضاع، وتدهور الأمور في أوساط الحكومية العباسية، اتخذ الإمام الهادي (عليه السلام) نهج التقية في الارتباط بشيعته ومواليه، واعتمد الاحتجاب عن الناس، كما كان أيضاً هو تمهيد لغيبة صاحب الأمر (عجّل الله فرجه)، ومن ثم اتخذ الإمام العسكري (عليه السلام) نفس الخط الرسالي لأبيه الإمام الهادي (عليه السلام).
ومن هنا أوصى الإمام العسكري (عليه السلام) ابنه الإمام الحجّة من بعده بالغيبة والاحتجاب عن الناس إلا الخاصة من مواليه وشيعته في الغيبة الصغرى، فمن وصاياه لولده الحجّة (عجّل الله فرجه) بالغيبة، ما بيّنه (عليه السلام)، لإبراهيم بن مهزيار حين قابله في بعض أطراف مكة، وقال له فيما قال: (اعلم يا أبا إسحاق إنّه - يعني الإمام العسكري (عليه السلام)- قال: يا بني إنّ الله (جل ثناؤه) لم يكن ليخلي أطباق أرضه بلا حجّة يستعلي بها، وإمام يؤتمّ به...، وأرجو يا بني أنْ تكون أحد من أعدّه الله لنشر الحق، وطيّ الباطل، وإعلاء الدين، وإطفاء الضلال. فعليك يا بني، بلزوم خوافي الأرض وتتبّع أقاصيها...).
وفي حديثه مع علي بن إبراهيم أنّه قال: (والله مولاكم أشهر التقيّة فوكلها بي، فأنا في التقيّة إلى يوم يؤذن لي بالخروج).