(٣٦٧) بين قصور العقول وضرورة المعرفة
بين قصور العقول وضرورة المعرفة
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
كثيرة هي معارف الإنسان التي نوّرت الحياة وجعلتها ذات بهجة، وكثيرة هي الخطوات التي تتابعت من العلماء والمفكرين حتى تمخّضت عن هذا التقدم الذي يعيشه الناس اليوم، وكثيرة هي التمحيصات التي مرَّت بها تلك المعارف والتي أزالت الكثير من الأخطاء وأبقت الصحيح، وقد أنتجت تلك المعارف -بخطواتها المتتابعة وتمحيصاتها الدقيقة - عقولاً منفتحة، جيدة الإدراك وسريعة البديهة، وقوية الحجة والبرهان.
ولكن يوجد دائماً إلى جنب كل ما ذكرناه ما يمكن أنْ يشوّش على العقول ويجعلها تعمل بشكل سيء، مما قد يجعلها ترى الحسن قبيحاً وبالعكس، وهذا ينتج بصورة تلقائية تيارات فكرية مختلفة كلها تدّعي ابتناء أحكامها على قواعد العقل الرصينة، إلى الحد الذي قد تتحجّر عن قبول القول الآخر متلبّسة سروال التيبس، معلنة شعارها، صادحة به (إذا لم تكن معي فأنت عدوي)، وقد يصل إلى حد الاختلاف بين أبناء الجلدة الواحدة، قال تعالى: ﴿وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما﴾.
وهذه الحقيقة طالت جميع معارف الإنسان، حتى تلك المعارف الفطرية، ولذا عبد فلاسفة بقراً، وعلماء فأراً، وبقي إنسان بسيط على فطرته فعبد الله وحده، ولذا قاتل الخوارج أمير المؤمنين (عليه السلام) رغم أنهم كانوا يعلّقون المصاحف على صدورهم، لكن القرآن كان لا يجاوز تراقيهم، ولذلك نفسه ستقاتل البترية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) والمصاحف على صدورهم معلقات.
ومن المعارف التي طالتها يد التشويش هي المعارف المهدوية، رغم أنّ كثيراً من مفرداتها لا تتنافى مع أحكام العقل، ولا تتعارض مع أساسيات الدين والفطرة، لكن التشويش طالها، فرفضها قوم وسخر منها آخرون ولم يبق من الناس على الإيمان بها إلّا صبابة كصبابة الإناء.
ومن تلك المفردات نذكر:
١ - مسألة طول عمر الإمام (عجّل الله فرجه): فإنّ طول العمر أمر لا يأباه العاقل، ولا يرفضه الدين، والواقع التاريخي يشهد بذلك، لكن نجد اليوم من لم يستسغ أنْ يطول العمر بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
٢ - مسألة متابعة الإمام (عجّل الله فرجه) لأمور رعاياه رغم غيبته: فإنّها صعبت على إدراك البعض، ولم يقبل الرعاية الأبوية للإمام (عجّل الله فرجه)، ما لم يكن ظاهراً للعيان، ونسي ﴿فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً﴾ من خلف ستار الغيب، بل ونسي أنّ ربه (جل وعلا) يرعى أمور الكون ويدبّر أمور الوجود من دون أنْ يراه أحد.
٣ - مسألة ظهور الإمام (عجّل الله فرجه) شاباً: فإنّ طول العمر يستلزم الهرم والشيب وتجاعيد الوجه وتقوّس الظهر، فكيف يخرج شاباً سوياً أقل من الأربعين.
٤ - كيف سيقاوم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هذه القوة الضخمة وترسانة الأسلحة التي ربما يصعب تصور قوتها التدميرية؟ بل كيف سيستطيع التغلب عليها في مدة قياسية لا تتجاوز البعض من الأشهر؟
وهكذا تجد من يتوقف في بعض مسائل الغيبة أو الظهور من دون أنْ يستند إلى ركيزة عقلية، ومن دون أنْ يتوكأ على مبدأ شرعي، بل يتوقف لمحض وجود تشويشات وتوهّمات وقعت فيها بعض العقول ممن لم يتنوّر أصحابها بنور أهل البيت (عليهم السلام).
وأمام هذا الواقع علينا أنْ نلتفت إلى التالي:
١ - ليكن معلوماً أنّه كلما مضى الناس عالياً في مرقاة ما يسمى بالتقدم الحضاري، كلما كثرت أسباب التشويش على عقولهم، خصوصاً وأنّ التقدم الحضاري قد سبب انغلاقاً على المصالح الشخصية لم يسبق له نظير، مما قد أبعد الناس عن النظر إلى سمو الهدف الذي وجدوا من أجله، وبالتالي الابتعاد عن مصادر الوحي.
إذن علينا أنْ نتريّث كثيراً في علاقتنا مع التقدم الحضاري وأنْ نقيّد علاقتنا به بما تمليه علينا الشريعة.
٢ - علينا أنْ لا نعتمد كثيراً على عقولنا، فإنها مهما كملت يبقى للنقص فيها حيّز واسع، وعلينا أنْ لا نعوّل كثيراً على تخميناتنا واستنتاجاتنا، فإنّها مهما قاربت الصواب لكن يبقى للخطأ فيها مجال رحب، وكما قالوا في علم الرياضيات: إنّه يمكن أنْ يكون للوصول إلى نفس النتيجة بعدة طرق.
٣ - ديننا الحنيف لم يكن غافلاً عن هذه الحقيقة، لذلك زوّد أتباعه بما يحتاجون إليه، ليخوضوا غمار الحرب ضد مشوّشات العقل والأخطاء الشخصية، لذا علينا أنْ لا نغفل ضرورة المراجعة المستمرة للقائمين على حفظ الدين وأنْ لا نهمل آراءهم في هذا المجال.