البحوث والمقالات

(٣٨٣) الإعلان عن ولادة صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)

الإعلان عن ولادة صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)

السيّد محمّد القبانجي

لعلَّ الكثير منّا يستغرب من الإعلان عن ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) والاستبشار به وإظهار السرور والفرح وإقامة الولائم لميلاده المقدَّس من قِبَل أبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، ومن حقّه الاستغراب بل والتساؤل: كيف يجتمع هذا مع التكتّم الشديد على ولادته (عجّل الله فرجه)، والتقيّة المكثَّفة التي كان يستعملها الإمام آنذاك، والخوف والحذر الشديدين من أزلام الطغمة العبّاسية الحاكمة بعد معرفتهم بأنَّ المولود الثاني عشر هو مهدّم العروش ومبيد الطواغيت ومذلّ المستكبرين، إذن مع كلّ هذه الحيطة والحذر كيف يمكن إقامة الولائم بمناسبة ميلاده (عجّل الله فرجه) الميمون؟
الحقيقة إنَّ الجمع بين هذين الأمرين من الصعوبة بمكان، بل يمكن القول باستحالته إلاَّ للمعصوم (عليه السلام)، وهنا تظهر القدرة الربّانية للعسكري (عليه السلام) والتدبير الإلهي في الجمع بين الأمرين، فهو من جهة يعيش أقصى حالات الكتمان لولادة ابنه الإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه) كما يذكر لنا التاريخ حتَّى أنَّ اُمّه نرجس (عليها السلام) لم يظهر عليها الحمل إلاَّ ساعة الولادة، مع إحاطة بيت الإمام (عليه السلام) بالعيون والرصد لصالح الحكم الطاغوتي يتتبَّعون كلّ صغيرة وكبيرة للإمام (عليه السلام) ويرصدون حركاته وسكناته ويرقبون كلّ شاردة وواردة في هذا البيت، فبمثل هذه الأجواء الحالكة ولد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، ومن جهة أخرى فهو مأمور أيضاً بالإعلان والكشف عن الولادة الميمونة والاصحار بها حتَّى لا ينفرط عقد الإمامة وحتَّى تصل الحجّة على العباد، ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ﴾، ولكي ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾.
ومن هذا المنطلق ولأجل تثبيت ولادة الحجّة بن الحسن (عليه السلام) وإقامة الحجّة على الخلق لكي لا يضلوا بادر الإمام العسكري (عليه السلام) إلى استعمال عدَّة آليات للكشف عن الولادة والإعلان عنها:
منها: إراءته للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) للخُلَّص من أصحابه، كما في كمال الدين عن جعفر بن محمّد بن مالك الفزاري، قال: حدَّثني معاوية بن حكيم، ومحمّد بن أيّوب بن نوح، ومحمّد بن عثمان العمري (رحمه الله)، قالوا: عرض علينا أبو محمّد الحسن بن علي (عليهما السلام) ونحن في منزله وكنّا أربعين رجلاً فقال: هذا إمامكم من بعدي، وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرَّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أمَا إنَّكم لا ترونه بعد يومكم هذا، قالوا: فخرجنا من عنده فما مضت إلاَّ أيّام قلائل حتَّى مضى أبو محمّد (عليه السلام).
ومنها: إخباره بالمشافهة أو عن طريق المراسلة لبعض وكلائه المعتمدين في الأقطار، كما في (كمال الدين) عَنْ عَلاَّنٍ الرَّازِيّ، قَالَ: أخْبَرَني بَعْضُ أصْحَابِنَا أنَّهُ لَمَّا حَمَلَتْ جَارِيَةُ أبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، قَالَ: سَتَحْمِلِينَ ذَكَراً وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَهُوَ الْقَائِمُ مِنْ بَعْدِي.
وعن أحمد بن الحسن بن إسحاق القمّي، قال: لمَّا وُلد الخلف الصالح (عليه السلام) ورد عن مولانا أبي محمّد الحسن بن علي (عليهما السلام) إلى جدّي أحمد بن إسحاق كتاب فإذا فيه مكتوب بخطّ يده (عليه السلام) الذي كان ترد به التوقيعات عليه، وفيه: ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً، فإنّا لم نظهر عليه إلاَّ الأقرب لقرابته، والوليّ لولايته، أحببنا إعلامك ليسرّك الله به مثل ما سرَّنا به، والسلام.
ومنها: أنَّ الإمام عقَّ عنه الكثير من الذبائح وفرَّقها على أصحابه، وقد نقل لنا التاريخ جزءاً يسيراً من هذه الحركة الميدانية للإمام العسكري (عليه السلام)، منها ما ذكره الطوسي عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْن إِدْريسَ، قَالَ: وَجَّهَ إِلَيَّ مَوْلاَيَ أبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام) بِكَبْشٍ وَقَالَ: عُقَّهُ عَن ابْنِي فُلاَنٍ وَكُلْ وَأطْعِمْ أهْلَكَ، فَفَعَلْتُ ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لِي: الْمَوْلُودُ الَّذِي وُلِدَ لِي مَاتَ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيَّ بِكَبْشَيْن وَكَتَبَ: بِسْم اللهِ الرَّحْمن الرَّحِيمِ، عُقَّ هَذَيْن الْكَبْشَيْن عَنْ مَوْلاَكَ وَكُلْ هَنَّأكَ اللهُ وَأطْعِمْ إِخْوَانَكَ، فَفَعَلْتُ، وَلَقِيتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَا ذَكَرَ لِي شَيْئاً.
وعَنْ إِبْرَاهِيمَ صَاحِبِ أبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) أنَّهُ قَالَ: وَجَّهَ إِلَيَّ مَوْلاَيَ أبُو الْحَسَن (عليه السلام) بِأرْبَعَةِ أكْبُشٍ وَكَتَبَ إِلَيَّ: بِسْم اللهِ الرَّحْمن الرَّحِيم (عُقَّ) هَذِهِ عَن ابْنِي مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيّ وَكُلْ هَنَّأكَ وَأطْعِمْ مَنْ وَجَدْتَ مِنْ شِيعَتِنَا. ومنها ما سوف يأتي في الأمر الأخير.
وعن محمّد بن إبراهيم الكوفي أنَّ أبا محمّد (عليه السلام) بعث إلى بعض من سمّاه لي بشاة مذبوحة، وقال: هذه من عقيقة ابني محمّد.
وبالتأكيد أنَّ واقع هذه الحركة أكثر بكثير ممَّا رصده التاريخ وأثبته الكتّاب والرواة في كتبهم وأصولهم.
ومنها - وهو الذي نريد تسليط الأضواء عليه -: إقامة الولائم الكبيرة والتي تعتبر حدثاً قلَّ نظيره وملفتاً للأنظار ومحطّاً لتساؤل الأمّة آنذاك عمَّا هي الغاية من أمثال هذه الولائم وإظهار السرور لأنَّ الوليمة وبهذا النحو من الضخامة لا تكون إلاَّ لسبب استثنائي وأمر مهمّ جدّاً كوفاة زعيم وحاكم أو عرس أحد الأعيان الكبار أو ولادة مولود عظيم، وهذا ما ابتغاه الإمام العسكري (عليه السلام) من ولائمه.
فقد جاء في (كمال الدين) عن أبي جعفر العمري، قال: لمَّا وُلد السيّد (عليه السلام) قال أبو محمّد (عليه السلام): ابعثوا إلى أبي عمرو. فبعث إليه فصار إليه فقال له: اشتر عشرة آلاف رطل خبز، وعشرة آلاف رطل لحم وفرّقه - أحسبه قال: على بني هاشم - وعق عنه بكذا وكذا شاة.
وبحساب سريع لإيضاح صورة ما بذل في هذه الوليمة الطويلة والعريضة بمناسبة مولود الحجّة (عجّل الله فرجه) نقول: الرطل الواحد يعادل 450 غرام تقريباً بالرطل العراقي فالكيلوغرام الواحد يساوي أكثر من رطلين، أي إنَّ مجموع ما وزَّعه الإمام العسكري (عليه السلام) بهذه المناسبة الميمونة يساوي أكثر من (4504) كيلوغرام من اللحم والخبز، ولو فرضنا أنَّ كلّ أربعة أشخاص يأكلون كيلو لحم واحداً مع الثريد، فيكون مجموع الأشخاص الذين تبرَّكوا بهذه الوليمة ووصلهم خير الإمام (18000) شخص تقريباً.
ومن الطبيعي أن يتساءل أكثر هؤلاء عن سبب هذه الدعوة المفاجئة، وهذه الوليمة العظيمة، فيكون الجواب على الأقل بالإشارة إلى ميلاد المنقذ العالمي والإمام المنتظر (عجّل الله فرجه).
ولا شكَّ أنَّ هؤلاء الذين وصلهم خير الإمام سوف يتحدَّثون على الأقلّ إلى مثلهم من العدد فيكون مجموع من وصل إليه خبر الميلاد أكثر من (36000) شخص على الأقلّ.
فمن خلال هذا الأسلوب العملي والمنهج الذي اتَّبعه الإمام العسكري (عليه السلام) في كيفية الإعلان عن ولادة ابنه أصبحت الولادة أمراً مفروغاً منه عند الكثير ومتسالماً عليه لدى الطائفة إلاَّ من شذَّ، وربَّما لأجل هذه الفعّاليات حرصت الحكومة على تطويق بيت الإمام (عليه السلام)، بل والإغارة عليه أكثر من مرَّة بحثاً عن المولود الجديد، حتَّى وصل الأمر إلى حبس اُمّ الإمام أو إحدى جواريه حين ادَّعت أنَّ بها حملاً.
ولكن كلّ هذه التهديدات والمضايقات والبحث الجادّ عن الإمام ذهبت أدراج الرياح بفضل المنهج العلمي المتوازن من قبل الإمام العسكري (عليه السلام) بين الإعلان والإسرار والإظهار والإخفاء في ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
فستره الله (عزَّ وجل) عن أعين الظالمين وسيظهر حتَّى يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

البحوث والمقالات : ٢٠١٣/٠٩/١٦ : ٤.٣ K : ٠
: السيد محمد القبانجي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.