البحوث والمقالات

(٤٠٠) نماذج التدبير المهدوي للأمّة في الغيبة

نماذج التدبير المهدوي للأمّة في الغيبة

السيّد محمّد القبانجي

قد يفهم البعض ممَّن لا دراية له بأصول عقائد الشيعة وأقوال علمائهم أنَّ عنوان الغيبة يقصد منه الابتعاد المكاني والانعزال التامّ عن الواقع وعن احتياجات الأمّة ومتطلّباتها.
وبمراجعة بسيطة للعقيدة الحقّة نفهم أنَّ الغيبة يراد منها ما يقابل الظهور وليس ما يقابل الحضور، إذن فالإمام (عجّل الله فرجه) مع كونه غائباً إلاَّ أنَّه حاضر في أوساط الأمّة يدبّر أمورها بحسب الإمكان، وبما لا ينافي الغيبة والوقوع في أيدي الظالمين والكشف عن هويَّته، فليس هو في معزل عنها لا يهمّه مصيرها ولا يؤلمه مصابها، وكيف ذا وهو القائل: إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء أو اصطلمكم الأعداء.
وبهذه الرؤية الصحيحة عن الغيبة وأبعادها يندفع إشكال البعض عن الفائدة من وجوده (عجّل الله فرجه) إذا كان غائباً - مع غضّ النظر عن الفوائد الكونية والذاتية لوجوده المقدَّس-.
ولا نريد الخوض في التنظير لأسس العمل السرّي والتدبير الخفي والحركة الدؤوبة للإمام (عجّل الله فرجه) في حال الغيبة، فقد تحدَّث عن ذلك الأعلام، ومنهم سماحة الشيخ السند في أكثر من كتاب له في العقيدة المهدوية حيث بيَّن وبصورة جليّة دور الحكومات الخفية في التأثير على مجريات الأحداث الظاهرية، وأوضح أنَّ الحكومات السرّية كلَّما كانت متكتّمة وخفية أكثر فهي علامة على قوَّتها ومتانتها، بخلاف الحكومات الظاهرية فإنَّها تكون مكشوفة الأوراق للأعداء والأصدقاء، وهذا مضرّ بقوَّتها وصلابتها.
ما نريده هنا والذي يدلُّ عليه العنوان هو إعطاء نماذج وصور لهذه الحركة الخفية والتدبير المهدوي في عصر الغيبة لكي نضع النقاط على الحروف، ولا يكون البحث مجرَّد تنظير يحوم في عالم المفاهيم والفكر، ونركّز على تدبيره لنجاة الأمّة وحفظها وإلاَّ فهناك الكثير من التحرّكات والأنشطة على مستوى الأفراد أعرضنا عنها روماً للاختصار.
النموذج الأوّل: روى الكليني في الكافي عن علي بن محمّد، قال: خرج نهي عن زيارة مقابر قريش والحير. فلمَّا كان بعد أشهر، دعا الوزير الباقطائي فقال له: الق بني الفرات والبرسيين وقل لهم: لا يزوروا مقابر قريش، فقد أمر الخليفة أن يتفقَّد كلّ من زار فيقبض عليه.
ومن الواضح هنا أنَّ الإمام (عجّل الله فرجه) استبق الأحداث بعدَّة أشهر - كما في هذه الرواية أو بشهر كما في رواية أخرى - فحذَّر شيعته لطفاً بهم ورأفةً عليهم من الوقوع في مخالب سلاطين الجور وتعرّضهم للاضطهاد-، حيث إنَّ السلطان الحاكم آنذاك (المقتدر) أصدر أمراً بإلقاء القبض على كلّ من يزور الحائر الحسيني والكاظمين (عليهما السلام) والمعبَّر عنه في الرواية (مقابر قريش)، والذي كشف عن هذا الأمور الصادر هو وزير الخليفة أبو الحسن علي بن الفرات المتوفّى سنة (312هـ)، فأوصل لهم هذه المعلومة عن طريق (الباقطائي) لأنَّهم كانوا يتشيَّعون وهم من عائلة الوزير فخاف عليهم لذلك.
النموذج الثاني: روى الكليني في الكافي عن الحسين بن الحسن العلوي، قال: كان رجل من ندماء روز حسني، وآخر معه فقال له: هو ذا يجبي الأموال وله وكلاء وسمّوا جميع الوكلاء في النواحي وأنهى ذلك إلى عبيد الله بن سليمان الوزير، فهمَّ الوزير بالقبض عليهم، فقال السلطان: اطلبوا أين هذا الرجل فإنَّ هذا أمر غليظ، فقال عبيد الله بن سليمان: نقبض على الوكلاء، فقال السلطان: لا ولكن دسّوا لهم قوماً لا يعرفون بالأموال، فمن قَبض منهم شيئاً قُبض عليه، قال: فخرج بأن يتقدَّم إلى جميع الوكلاء أن لا يأخذوا من أحد شيئاً وأن يمتنعوا من ذلك ويتجاهلوا الأمر، فاندسَّ لمحمّد بن أحمد رجل لا يعرفه وخلا به فقال: معي مال اُريد أن اُوصله، فقال له محمّد: غلطت، أنا لا أعرف من هذا شيئاً، فلم يزل يتلطَّفه ومحمّد يتجاهل عليه، وبثوا الجواسيس وامتنع الوكلاء كلّهم لما كان تقدَّم إليهم.
وبهذا التحذير الاستراتيجي أنقذ الإمام (عجّل الله فرجه) أمَّته من الضياع، وحفظ حلقة الوصل بينه وبينها من خلال حفاظه على الوكلاء، ولولا هذه الحركة المدروسة لتعرَّضت الطائفة إلى نكسة كبيرة لا يمكنها تجاوزها وتبقى آثارها المدمّرة لسنين طوال.
النموذج الثالث: جاء في رسالته (عجّل الله فرجه) للشيخ المفيد (قدس سره): ...ولنا في تيسير حجّهم على الاختيار منهم والوفاق شأن يظهر على نظام واتّساق.
ونحن لا نعلم تفاصيل التحرّك السرّي الذي قام به الإمام (عجّل الله فرجه) لتنظيم حجّ الأمّة بعد أن بليت بكثير من قطّاع الطرق والعصابات المسلَّحة، ولكن الشيء الأكيد هو تدخّله المباشر عليه السلام لضبط الأوضاع الأمنية ليكون حجّ الناس آمناً مطمئنّاً سواء علموا بذلك أم جهلوا.

البحوث والمقالات : ٢٠١٣/٠٩/١٩ : ٤.٠ K : ٠
: السيد محمد القبانجي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.