البحوث والمقالات

(٥٣٦) العقيدة المهدوية في عصر الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) (١)

العقيدة المهدوية في عصر الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) (1)

السيد محمد القبانجي

العمل على تأصيل العقيدة المهدوية:
إنَّ الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) - مشاركاً آباءه الكرام وأبنائه الأطهار (عليهم السلام) - بذل جهداً ملحوظاً مؤطِّراً ومسوِّراً للعقيدة المهدوية، بحيث لا يبقى هناك خلل في معرفة المنهج وتشخيص المصداق بتعريف جامع مانع، وتمثَّل هذا الجهد والتحرّك من خلال عدَّة أبعاد:
التركيز على وحدة الإمامة في العقيدة المهدوية:
يتمثَّل هذا البُعد في تركيز الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) على إعطاء صورة كلّية للعقيدة المهدوية ولشخص الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ترتبط بكلّي الإمامة والرسالة، وأنَّه حلقة ضمن سلسلة متلاحمة ومتَّصلة لا يمكن معرفة هويَّتها وسبر غورها إلَّا من خلال التحرّك لمعرفة جميع أطراف السلسة، والتي تبدأ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتنتهي بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وبدون هذه الحركة المعرفية الكلّية تكون المعرفة بتراء مشوَّهة بل منحرفة، وبالفعل فقد ساعدت هذه المعرفة الشوهاء والمنفصلة عن كلّي الهرم الإمامي العقائدي إلى الانحراف المعرفي عن المنهج والشخص في العقيدة المهدوية، فظهرت لدينا مهدويات مدعاة تبتعد كلّ البعد عن الأُطر التي وضعها وأسَّس لها أهل البيت (عليهم السلام) من جهة المنهج، كما أنَّها لا تنسجم ولا تتشابه مع الشخصيات التي تُمثّل الشجرة العلوية والدوحة المحمّدية من جهة النسب، ولذلك نجد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ركَّز على الوحدة المهدوية مع سائر الشجرة النبوية، حيث لا يمكن لها أن تنفصل أو تختلف، فجاء تصريحه الشريف كما يرويه الشيخ المفيد (رحمه الله): «إذا توالت ثلاثة أسماء: محمّد وعلي والحسن، فالرابع هو القائم صلوات الله عليه وعليهم»، ليقول بوضوح: إنَّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو فرع من آبائه الكرام (عليهم السلام) ومن هذه السلسلة الذهبية لا يشذُّ عنها نسباً ومنهجاً.
تعريف وتعيين الإمام المهدي (عليه السلام):
يتمحور هذا البعد في إعطاء البعد المعرفي للشخصية المهدوية الحقّة، وذلك بعدَّة أساليب:
الأُسلوب الأوَّل: التعريف النسبي له (عجّل الله فرجه):
حيث أكَّد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) بصورة لا يمكن تزييفها، وحقيقة لا يمكن تحريفها، انتماء المهدي الموعود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبر سلسلة نسبية محدَّدة، تبدأ بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الفاتح وتنتهي بالوصيّ الخاتم (عجّل الله فرجه)، كما عبّر عن لسانهم (عليهم السلام): «بنا فتح الله جلَّ وعزَّ، وبنا يختم الله».
وقد تجلّى هذا الأُسلوب بكتابه (عليه السلام) إلى عبد الله بن جندب حينما قال: «إذا سجدت فقل: اللّهم إنّي أُشهدك، وأُشهد ملائكتك وأنبياءك ورسلك وجميع خلقك بأنَّك أنت الله ربّي، والإسلام ديني، ومحمّد نبيّي، وعلي وليّي، والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمّد بن علي وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمّد بن علي وعلي بن محمّد والحسن بن علي والخلف الصالح صلواتك عليهم أئمّتي، بهم أتولّى ومن عدوّهم أتبرَّأ».
الأُسلوب الثاني: التعريف الرقمي بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه):
بذل أهل البيت (عليهم السلام) جهداً بالغاً وعناية خاصّة بلغة الأرقام في تعيين مهدي الأُمم وبأشكال مختلفة ومتنوّعة، فطائفة من الروايات تقول: الثاني عشر، وأُخرى تقول: التاسع من ذرّية الحسين، وثالثة تقول: الرابع من ولدي، وغيرها. ولذا فقد جاءت تصريحات الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ضمن هذا النسق أيضاً في تعيين الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فقد روى ابن بابويه (رحمه الله) بسنده عنه (عليه السلام) أنَّه قال: «إذا فقد الخامس من ولد السابع، فالله الله في أديانكم، لا يزيلنَّكم أحد عنها...» وغيرها.
والتعريف الرقمي حقيقة ينبغي التأمّل فيها والتوقّف عندها، فلماذا انتهج أهل البيت (عليهم السلام) هذه الوسيلة لتشخيص الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وتعيينه؟
والجواب: يمكن الإشارة إلى عدَّة احتمالات قد يكون بعضها صالحاً للإجابة، وقد تكون كلّها كذلك، ولعلَّ هناك إجابة لم نتوفَّر عليها لقلَّة الزاد والبضاعة المزجاة.
ولعلَّ من الأوجه هو: أنَّ اللغة الرقمية والرياضية لا يمكن أن تخطأ أو تنحرف عن الصواب أو تلتبس على المخاطب، بعكس لغة التشبيه والمثال والمقاربة، ممَّا يعكس اهتماماً فائقاً عند أهل البيت (عليهم السلام) في إيضاح الشخصية بأجلى صورها وبشكل لا يمكن أن يتخلَّله الاشتباه بالمصاديق والإجمال بين الأفراد.
وربَّما يكون الهدف من اللغة الرقمية هو إحاطة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بمزيد من السرّية والتكتّم - في عين الجلاء والوضوح لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد -، فهي تتناسق وتتماهى مع عقيدة الغيبة في مدرسة أهل البيت ومبدأ التقيّة عندهم (عليهم السلام)، والتي تعني في إحدى جنباتها إيصال الفكرة مع تغليفها بأُطر يعجز عن إدراكها البعيد عن مفاهيم هذه المدرسة الإلهية ولا ينالها إلَّا ذو حظّ عظيم، ولذا نلاحظ أنَّه وبالرغم من أنَّ الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) عرَّف المهدي (عجّل الله فرجه) تعريفاً رقمياً لا يمكن أن يخطأ، إلَّا أنَّه وبالوقت نفسه قال: «عقولكم تصغر عن هذا»، وذلك حينما سأله أخوه علي بن جعفر: يا سيّدي، من الخامس من ولد السابع؟ فقال: «يا بني، عقولكم تصغر عن هذا، وأحلامكم تضيق عن حمله، ولكن إن تعيشوا فسوف تدركونه».
وفي خصوص هذه المفردة الرقمية التي تحدَّثت عنها الرواية المهدوية الكاظمية يمكن أنْ يكون المراد هو الإشارة إلى تلبيس مفهوم المهدوية من قِبَل البعض على الولد السابع، والذي يعني نفسه القدسية، والابتعاد عن المصداق الحقيقي والوحيد لهذا المفهوم، لذا اقتضى التنويه من قِبَله (عليه السلام) لهذا الأمر حتَّى لا تنحرف المسيرة المهدوية بإيجاد مصاديق أُخرى لها غير ما اختاره الله ورسمه وأكَّد عليه أهل البيت (عليهم السلام).
الأُسلوب الثالث: التعريف بالعلامات:
ولسنا في صدد الحديث عن العلامات وماهيتها ومفرداتها بقدر ما نريد القول: إنَّ أهل البيت (عليهم السلام) اهتمّوا في بيان العلامات وجعلوها بمثابة إشارات ودلالات للاسترشاد على الطريق المهدوي الصحيح أوَّلاً، وعلى وقت ظهوره ثانياً، وهكذا فهي تدلُّ على صدقهم فيما يخبرون ليحصل الاطمئنان لدى أتباعهم بحتمية العقيدة المهدوية وتحقّقها ثالثاً، مضافاً إلى إظهارهم لعلامات تعيّن شخصه المبارك (عجّل الله فرجه)، ممَّا لا يدع مجالاً لتغييب الحقّ والتباسه بالباطل وتشويش الواقع أمام المنتظِر، ولذلك جاء في الرواية الشريفة عن المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إيّاكم والتنويه، أمَا والله ليغيبنَّ إمامكم سنيناً من دهركم، ولتمحّصنَّ حتَّى يقال: مات، قُتِلَ، هلك، بأيّ وادٍ سلك؟ ولتدمعنَّ عليه عيون المؤمنين، ولتكفأنَّ كما تكفأ السفن في أمواج البحر، فلا ينجو إلَّا من أخذ الله ميثاقه، وكتب في قلبه الإيمان، وأيَّده بروح منه، ولترفعنَّ اثنتا عشرة راية مشتبهة، لا يُدرى أيّ من أيّ»، قال: فبكيت، ثمّ قلت: فكيف نصنع؟ قال: فنظر (عليه السلام) إلى شمس داخلة في الصفّة، فقال: «يا أبا عبد الله، ترى هذه الشمس»؟، قلت: نعم، فقال (عليه السلام): «والله لأمرنا أبين من هذه الشمس».
وهذا الوضوح والظهور والحقيقة المتجلّية والناصعة مع كلّ هذا التشويش الإعلامي الهائل والأبواق المأجورة إنَّما جاء بسبب أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) رسموا خارطة طريق واضحة وجليّة لا يعتريها الريب والشكّ والغموض، وذلك من خلال العلامات الدالّة، وليس من الضروري أن يتحدَّث كلّ إمام بجميع العلامات أو تفاصيلها، بل ربَّما يتحدَّث ابتداءً بما يراه مهمّاً وضرورياً وممَّا يجب التركيز عليه، كما في رواية علي بن أبي حمزة، قال: رافقت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) بين مكّة والمدينة، فقال لي يوماً: «يا علي، لو أنَّ أهل السماوات والأرض خرجوا على بني العبّاس لسقيت الأرض دماءهم حتَّى يخرج السفياني»، قلت له: يا سيّدي، أمره من المحتوم؟ قال (عليه السلام): «نعم»، ثمّ أطرق هنيئة، ثمّ رفع رأسه، وقال: «ملك بني العبّاس مكر وخداع، يذهب حتَّى يقال: لم يبقَ منه شيء، ثمّ يتجدَّد حتَّى يقال: ما مرَّ به شيء»، حيث يعتبر السفياني علامة فارقة محتومة خلافاً لكثير من العلامات التي قد يحصل فيها البداء، ولهذا نجد التأكيد المستمرّ من قِبَل أهل البيت (عليهم السلام) على هذه العلامة، إذ إنَّها بالإضافة إلى علامتها توضّح لنا المنهج المعادي لحركة أهل البيت (عليهم السلام) عموماً، والإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بشكل خاصّ.
وقد لا يتناول الإمام (عليه السلام) بعض العلامات بشكل ابتدائي ومبادر، بل يحاول الإجابة على سؤال طُرِحَ عليه بما يراه من تشخيص للفائدة، كما في رواية الحسن بن الجهم، قال: سأل رجل أبا الحسن (عليه السلام) عن الفرج فقال: «تريد الإكثار أم أُجمل لك»؟، قال: بل تجمل لي، قال (عليه السلام): «إذا ركزت رايات قيس بمصر، ورايات كندة بخراسان».
ولابدَّ من الالتفات إلى أنَّ الحديث عن عصر الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ومجريات الأُمور فيه - كما سيأتي لاحقاً - يمكن اعتباره حديثاً عن علامات ودلالات يستطيع الباحث عن الحقيقة والمنتظِر للفرج أنْ يستشف منها مطالع الظهور المقدَّس، ويستوحي ملامح القيام العالمي، ويستشرف الطريق لتحقيق الوعد الإلهي.
الأُسلوب الرابع: التعريف بعصره (عجّل الله فرجه):
والمقصود من عصره (عجّل الله فرجه) أعمّ من الظهور والغيبة، فقد يلفت الإمام (عليه السلام) أنظار مخاطبيه إلى جانب من جوانب عصره وهو ما يخصُّ حال المجتمع في غيبته (عجّل الله فرجه)، والتجاذبات التي تعتري الساحة آنذاك - كما نعيش نحن اليوم - والفتن التي تأتي كقطع الليل المظلم، فهو في الوقت الذي يصوِّر لنا المجتمع في ذلك الزمان كاستشراف للمستقبل، يحاول أيضاً أن يفيد - من خلال هذا السرد - مخاطبيه والأجيال بعدهم إلى ضرورة توخّي الحذر ومعرفة مواطئ القدم وعدم الانزلاق في تيه الفتن والعياذ بالله، ولذلك جاء قوله (عليه السلام) لإبراهيم بن هلال: «أنت تعجل»، حينما سأله عن الفرج بقوله: جُعلت فداك، مات أبي على هذا الأمر، وقد بلغت من السنين ما قد ترى، أموت ولا تخبرني بشيء؟ فأجاب إبراهيم: إي والله أعجل، وما لي لا أعجل وقد كبر سنّي وبلغت أنا من السنّ ما قد ترى. فقال (عليه السلام): «أمَا والله يا أبا إسحاق ما يكون ذلك حتَّى تميّزوا وتمحّصوا، وحتَّى لا يبقى منكم إلَّا الأقلّ - ثمّ صعَّر كفّه -».
وتارةً أُخرى يحدِّثنا الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) عن عظم المسؤولية الملقاة على عاتق مهدي الأُمم (عجّل الله فرجه) والهدف الذي سوف يتحقَّق على يديه الكريمتين نافياً في الوقت عينه المهدوية عن نفسه القدسية، كما جاء في سؤال يونس بن عبد الرحمن، قال: دخلت على موسى بن جعفر (عليهما السلام) فقلت له: يا بن رسول الله، أنت القائم بالحقّ؟ فقال (عليه السلام): «أنا القائم بالحقّ، ولكن القائم الذي يطهِّر الأرض من أعداء الله (عزَّ وجلَّ) ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً هو الخامس من ولدي، له غيبة يطول أمدها خوفاً على نفسه، يرتدُّ فيها أقوام، ويثبت فيها آخرون»، ثمّ قال: «طوبى لشيعتنا، المتمسّكين بحبلنا في غيبة قائمنا، الثابتين على موالاتنا والبراءة من أعدائنا، أُولئك منّا ونحن منهم، قد رضوا بنا أئمّة، ورضينا بهم شيعة، فطوبى لهم، ثمّ طوبى لهم، وهم والله معنا في درجاتنا يوم القيامة».

البحوث والمقالات : ٢٠١٤/٠٤/١٤ : ٣.٩ K : ٠
: السيد محمد القبانجي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.