البحوث والمقالات

(٥٦٢) المنهج في دراسة روايات العلامات (٣)

المنهج في دراسة روايات العلامات (3)

الشيخ وسام البغدادي

يقوم هذا المنهج على أسس وضوابط علمية يمكن من خلالها دراسة روايات العلامات بطريقة رصينة خاليه من التشويش والانتقائية وبعيدة عن التوقيت المحرم والتطبيق السلبي، وكذلك بعيدة عن الاتجاه النقدي والحشوي في التعامل مع الروايات والأحاديث الشريفة، فان هذا المنهج يعتمد على عدة ركائز مترابطة في قبول الروايات والأحاديث التي تحدد لنا خارطة الظهور الشريف، ولا يمكن الأخذ ببعضها دون الآخر، بل هي عبارة عن منظومة متكاملة ترشد الباحث لتحديد خارطة الظهور الشريف.
تحديد هوية النص:
بما إننا نتعامل مع نصوص لها أهمية قصوى في مجال البحث فلابد من التحقيق في هوية النص بخطوات متأنية جداً لكي يسهل على الباحث الخوض في هذه المهمة، وذلك يكون من خلال عدة أمور:
أ‌- التأكد من نسبة الكتاب إلى مؤلفه:
إنّ إحدى المشاكل التي يعاني منها الباحث هي الكتاب الناقل للخبر ومدى دقة نسبته إلى مؤلفه، وما إذا كان المؤلف معروفا يمكن الوثوق به أو ليس بمعروف، فان المهمة الأولى التي لابد أنْ توضع بالحسبان هي معرفة الكتاب المتحدث عن العلامة الفلانية، وكذلك معرفة الطريق إلى ذلك الكتاب، فنحن لم نأخذ بكتاب (الكافي) للشيخ الكليني (قدس سره) مثلا إلّا بعد ما تثبتنا من صحة نسبة هذا الكتاب إليه (قدس سره) ومعرفة الطريق الذي وصل به إلينا، وهذا في واقع الحال أمر يحتاج إلى دقة وتأمّل وتريث وبحث عميق بأحوال المؤلفين.
وبحمد الله قد بذلت جهود كبيرة من قبل علمائنا الأعلام كفتنا المؤونة في هذا المجال، وذلك من خلال الرجوع إلى كتب (رجال النجاشي)، و(الفهرست للطوسي) و ( كتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة) للشيخ آقا بزرك الطهراني (قدس سره)، وغيرها مما تعنى بذلك، مضافاً إلى جهد الباحث نفسه في التقصي والتأكد مما يمكن أنْ يعتمد عليه من المصادر في هذا المجال.
ب‌- التأكد من نسبة النص إلى المعصوم (عليه السلام):
فإنّ كتب المسلمين فيها كم كبير من الأحاديث، وقد تنسب إلى المعصوم والى غيره، والذي يعنينا في مجال البحث هو الحديث المنسوب إلى المعصوم (عليه السلام) لما يملك من الحجية دون غيره الذي يفتقر إليها.
ومما يؤسف له حقا هو أنّ هنالك مجموعة ممن كتبوا في علامات الظهور قد خلطوا بين هذا وذاك، والبسوا على القراء بين ما هو عن المعصوم (عليه السلام) وبين غيره، حيث أنهم ذكروا بعض النصوص وكأنها مسلمة عن المعصوم، ولكن عند البحث والتحقيق ربما نجدها لا تمت إلى الأئمة (عليهم السلام) بصلة.
فمثلاً مما يوهم القارئ أنّه حديث عن المعصوم ما ذكره بعض الكتاب من أنّ (أعداء الإمام (عليه السلام) مقلدة الفقهاء من أولي الاجتهاد، لما يرونه من الحكم بخلاف ما حكمت به أئمتهم، فيدخلون كرها تحت حكمه خوفاً من سيفه وسطوته، ورغبة فيما لديه)، وذلك من غير أن يذكر صاحب الكتاب مصدر ذلك الكتاب وهوية هذا النص وهل هو حقا منسوب إلى المعصوم (عليه السلام) أو لا، مع إننا عندما نبحث عن هوية هذا النص سنجده عبارة عن مقولة لابن عربي في (الفتوحات المكية) (ج1 ص 106)، وليس لها علاقة بكلام المعصوم (عليه السلام) فلا حجية لها أصلاً.
ونظير ذلك ما رواه ابن المنادي في (الملاحم) وهو من علماء العامة عن سطيح الكاهن قال: ثم يظهر رجل من اليمن أبيض كالشطن يخرج من صنعاء وعدن يسمى حسينا أو حسناً يذهب الله على رأسه الفتن.
فهذه الرواية مما يستشهد بها الكثير من الباحثين في شأن اسم اليماني ومكانه، مع أنها واضحة وصريحة أنها ليست عن المعصوم (عليه السلام)، بل هي عن سطيح الكاهن الذي ليس له علاقة بالمعصوم لا من قريب ولا من بعيد، فلا يمكن أنْ نبني على هذا الخبر بعض القضايا وهو عار عن الحجية وخال منها.
وعليه فلابد في هذه المرحلة من البحث من تحديد وتشخيص هوية النص ومعرفة صاحبه، وان ما يجب علينا أن نتقيد به هو النص الصادر عن المعصوم (عليه السلام).
صحة السند:
لا يمكن لنا أنْ نأخذ بأي حديث نجده في كتاب أو وثيقة، وإنْ صحت نسبته إلى المعصوم (عليه السلام)، بل لابد من دراسة صحة سند الحديث، وهذا ما يتميز به الإمامية عن غيرهم، حيث لم يوجد عندهم كتاب تام العصمة بعد القرآن الكريم، وإنْ صرح مؤلفوها بأنهم لم يرووا إلا عن ثقة، فهذه الوثاقة ملزمة لمؤلفيها، ولكنها غير ملزمة بالضرورة لغيرهم من أهل الفن والتخصص في علم الحديث، وعليه فلابدّ من التحقق في الأسانيد، وذلك للاطمئنان بصحة صدور الخبر عن المعصوم (عليه السلام).
وهذا خلاف لما عليه أهل السنّة، فقد حكموا بصحة بعض الكتب من قبيل صحيحي (البخاري) و(مسلم)، فقالوا بصحة كل ما ورد فيهما من الروايات.
وهناك طرق متعدد للتعامل مع الروايات التي تخص علامات الظهور الشريف:
الأول: طريقة التشدد السندي:
ويذهب البعض إلى التشدد والتدقيق بالأسانيد جرحاً وتعديلاً بحجة أنّ هذه الروايات وإنْ لم تكن بصدد بيان حكم شرعي إلا أنّ لها علاقة متصلة ببعض المسائل العقائدية الحساسة، مما يستلزم التدقيق بصحة الصدور.
الثاني: طريقة التسامح السندي:
وذهب البعض ممن كتب في خصوص العلامات إلى التسامح في التعامل مع الأسانيد التي تخص مقامنا، بحجة إنها غير واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي، مما يستدعي التشدد والتدقيق في الأسانيد، ولهذا تراه يأخذ ما هب ودب من النصوص، مما يسبب له الخلط في كثير من الأحداث، بل قد يقع بتناقضات أيضاً.
الثالث: الطريقة الوسطية أو التوازن العلمي:
ومما نعتقده أنّه لا يمكن أنْ نتعامل مع النصوص والوثائق بطريقة التشدد السندي فقط، ولا بطريقة التسامح السندي المحض، بل لابد من مراعاة عدة أمور في هذا الجانب:
أ- إنّ روايات العلامات لا تحتاج في بعض الأحيان إلى التشدد السندي، فلعل هناك حادثة معينة يتعاطاها الثقة وغيره، لما تحدثه هذه القضية من وقع في نفس المشاهد فيتناقله عنه الرواة كونه شاهد عيان حدثت هذه القضية أمامه، فهذه الأمور ليست في مجال استنباط الحكم الشرعي أو في صدد التعامل مع القضية الفتوائية، فيمكن الاستدلال على صحتها من خلال القرائن الحافة بها وطبيعة ارتباطها بعوامل تاريخية واعتقادية وغيرها مما يكون قرينة على صحتها.
نعم هناك بعض الأحداث التاريخية لها أثر في السير العلمي أو في ملازمات البحوث الأُخرى تستدعي التشدد في صحة سندها، وخصوصاً أنّ بعض الروايات قد جرى فيها تلاعب في أسانيدها ومتونها بشكل لا شبهة فيه، وهذا يعني أنّ طريقة التسامح السندي غير كافية لوحدها، بل لابد من مراعاة المعاير العلمية وجمع القرائن والإشارات التي تحف بتلك الرواية لتكون داعيا لقبولها.
ب- بما أنّ روايات العلامات تدخل تحت إطار رسم الأحداث المستقبلية للظهور الشريف، فيمكننا أنْ نترك ما أشكل فيها إلى المستقبل، وغاية ما نستفيده منها هو الاحتياط فيما سنلاقيه من الفتن وغيرها من الأحداث التي لو لم نطلع عليها فربما سنقع في بعض المحاذير، كما هو الحال فيما لو أخبرنا أحدهم بأنّ ما يلاقينا في طريقنا هو خطر ما، فإنّ العقل يدعو إلى أنْ نحتاط ونحذر فيما سنلاقيه تحرّزاً من الوقوع في الهلكة، وهذا بغضّ النظر عن كون المخبر ثقةً أم لا، وكذا الحال في علامات الظهور، فإنّ احتمال وقوعها سيجنّبنا خطر الوقوع في مهالك تودي بنا وبمستقبل ما نصبو إليه، لذا سيكون هناك داعٍ للبحث فيها وبيان ما تشير إليه تلك الرواية، ونترك تفاصيلها أو مصداقية وقوعها إلى المستقبل فهو الحاكم في ذلك.
ج- إنّ ضعف الحديث لا يدل على كذبه وعدم صدوره عن المعصوم (عليه السلام)، فقد يكون صحيحاً، ولكنه لم يصل إلينا بطريق صحيح لسبب أو لآخر، فقد يكون في سلسلة الحديث راوٍ مجهول لا يعرف له حال، أو أنّه معروف ولم يصدر توثيق فيه، ولا توجد إشارة تفيد التوثيق أو القدح، فإنّ مثل هذه الروايات وإنْ كان لا يعمل فيها في مجال استنباط الحكم الشرعي، لكن في القضايا التاريخية وغيرها مما يتعلق بالأحداث المستقبلية مثلاً يمكن أنْ يلجا إليها.
صحة المتن وضبطه:
ونعني بصحة المتن: هو تتبع وإحراز متن ومادة الرواية الشريفة، ويحصل ذلك من خلال مراعاة عدة أمور:
أ- الاطلاع على النسخ لضبط مادة الرواية وكشف مشكلاتها والعلل التي قد توجد فيها من قبيل النقص والزيادة ببعض الأحرف أو التصحيف في بعض كلماتها، وغيرها مما قد يغير المعنى، فمثلاً يذكر الشيخ الكليني (قدس سره) في كتابه (الكافي) الجزء الأول باب الغيبة، عن الأصبغ بن نباتة قال: أتيت أمير المؤمنين (عليه السلام) فوجدته متفكراً ينكت في الأرض، فقلت، يا أمير المؤمنين مالي أراك متفكراً تنكت في الأرض، أرغبة منك فيها؟ فقال (عليه السلام): لا والله ما رغبت فيها ولا في الدنيا يوماً قط، ولكني فكرت في مولود يكون من ظهري، الحادي عشر من ولدي، هو المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً.. .
فعندما نأتي إلى هذه العبارة (فكرت في مولود يكون من ظهري، الحادي عشر من ولدي)، وركزنا على كلمة (من ظهري) التي فيها ياء يكون معناها أنّ هناك مولوداً من ظهر الإمام علي (عليه السلام) وهو المهدي (عجّل الله فرجه) وهو الإمام الحادي عشر من ولده (عليه السلام) وهو مطابق لما تواتر في عقيدتنا.
ولكن وردت هذه الرواية في بعض المصادر كـ(الاختصاص) للشيخ المفيد ص200، و(الغيبة) للشيخ الطوسي ص337، وقد سقطت الياء من كلمة (وظهري) وهذا مما سيؤدي إلى اختلاف كبير في المعنى حيث سيكون المعنى من الرواية هو أنّ هناك مولوداً سيكون من ظهر الإمام الحادي عشر أي من ظهر المهدي (عجّل الله فرجه)، وهذا يلزم وجود شخص غير الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ومن هنا استغل بعض المدعين للمهدوية هذا النص، وادعى أنّه هو الإمام الثالث عشر الذي أشارت إليه هذه الرواية.
والذي يحل هذا الإشكال هو التحقيق في النسخ التي وردت فيها هذه الرواية الشريفة، فقد وردت هذه الرواية في بعض نسخ (الكافي) الشريف وقد أثبتت الياء كما نقلناها منه، وكذلك (الغيبة) للنعماني ص69، و(كمال الدين) للصدوق ص289، وأبو الصلاح الحلبي في (تقريب المعارف) ص426، و(الإمامة والتبصرة من الحيرة) لابن بابويه القمي: ص121.
وللمقارنة بين النسخ التي أثبتت الياء، وبين من أسقطتها، نقول: إنّ النسخ التي أثبتت الياء أكثر، والكتب التي تناولت إثبات الياء أكثر اعتمادا من تلك، فإنّ (الاختصاص) للشيخ المفيد (قدس سره) فيه كلام بين العلماء، فالبعض كالسيد الخوئي (قدس سره) في (معجم الرجال) ج8، ص197 قال: إنّ كتاب (الاختصاص) منسوب للمفيد (قدس سره) ولم تثبت صحة صدوره منه، وعليه فتثبت صحّة النسخ التي أثبتت الياء في الرواية الشريفة.
ب- أنْ لا تكون الرواية بعيدة عن أسلوب المعصوم، كأنْ تشتمل على الركاكة اللفظية أو المعنوية، أو تكون من المعهود في أساليب أهل الكتاب أو الصحابة أو التابعين أو الحكماء، لأنّ هذه قرينة على عدم الصدور وإنْ أمكن في بعض الأحيان تبرير ذلك كما في حال احتمال النقل بالمعنى من شخص غير ضليع في اللغة العربية فينتج نصاً ركيكاً من الناحية اللفظية رغم أنّ الرواي صادق في النقل، ولكن في العادة قد يكون ما ذكرناه قرينة على عدم الصدور، فتأمّل.
ج- ضبط صيغة الرواية، فقد ترد رواية بعدة صياغات، فيرويها راوٍ بزيادة، ويرويها آخر بنقيصة، أو يبدل بعض الألفاظ بما يوجب اختلاف المقصود، أو يدس بين النصوص. أو يدرج ما هو خارج عن النص في النص، ففي بعض الأحيان يقوم بعض المؤلفين بإدراج تعليقة على الحديث في ضمن الحديث بدون فرز، مما يؤدي إلى الخلط بين كلام المعصوم وبين غيره، وغيرها مما ذكر في محله.
د- الالتفات إلى مسألة التقطيع في الروايات الشريفة، فهناك البعض ممن يبني على أمر من خلال رواية فيها تقطيع، سواء كان متعمداً أم لا، ومما يؤسف له أنْ نجد أنّ هناك البعض ممن كتب في خصوص العلامات واستخدم هذا الأسلوب وذلك لدواعٍ شخصية أو حزبية أو غير ذلك.

البحوث والمقالات : ٢٠١٤/٠٥/١٠ : ٤.١ K : ٠
: الشيخ وسام البغدادي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.