(٦١٥) المهدوية في ضوء التوحيد
المهدوية في ضوء التوحيد
إدريس هاني
ربّما شقّ على البعض أنْ يكون الحديث حول المهدوية هو فرع للحديث عن الإمامة نفسها، كما لو كان القول في المهدوية لا يقع إلّا في طول القول في الإمامة. ومع أنّ جانباً من الصحة يعكسه هذا الرأي، إلّا أننا نعتقد أيضاً أنّ المهدوية هي بالأحرى عقيدة قائمة بذاتها؛ حيث أنّ موضوعها ثابت في الوجدان الديني وغيره على النحو الأعم.
إنّها بهذا المعنى، فكرة راسخة في الوجدان البشري، بل هي المشترك الذي قد يحصل تصوّره بدفعة واحدة؛ ولا تأتي المكابرة إلّا في مرحلة ثانوية، بعد أنْ كانت المهدوية حدساً يتعقّله الوجدان حضورياً. فلو سألت أي كائن بشري في كل جيل وفي كل دين؛ هل ترجو شيئاً، أو لمَ تحمل بعض الأمل على الرغم من كل صنوف العذابات التي تلّم ببني البشر، لأجاب فوراً: نعم أرجو الكثير وآمل في الكثير، إنّ المستقبل في وجدان البشر لا محالة هو أفضل.
وإذا سألت كيف تتوقّعه، ربما هام وفتح المجال لأقصى الخيال. وبين سؤال الأين وسؤال الكيف، خرج الموضوع عن الإجماع بالجملة، لتتكاثر الأفكار والأحاسيس والرسوم في الجملة.
ولو أسسنا لهذه القاعدة الكلامية، لاعتبرنا بأن المهدوية أساساً صالحاً للبرهنة على ما قبلها من اعتقادات.
إنّ المهدوية بهذا المعنى، لو أصبحت قاعدة وجدانية استدلالية وليست فكرة مستدلّ عليها، فإنّها ستصبح موضوعاً جامعاً لكل المعتقدات الإسلامية؛ وأعني ها هنا الأصول الخمسة. لأنها العنوان الذي يمثل النتيجة الحتمية للاعتقاد بالأصول الخمسة، كما أنّ الاعتقاد بالمهدوية يجعل الاعتقاد بالأصول الخمسة أمراً حتمياً.
المهدوية والتوحيد:
إنّنا ندرك من خلال صفة القدرة، وهي بمقتضى الاعتقاد تجلٍّ لكمال الذات، أنّ الله تعالى، كما جاء في بيان الأئمة الأطهار عليهم السلام، إنّما خلق الكون متكاثر الأنواع ومتعدّد الفروق، اختلافاً ملحوظاً في الخلق من القوي فالأقوى إلى الضعيف فالأضعف، حتى يعبّر عن كمال العظمة الإلهية والقدرة الربّانية. فقال الصادق (عليه السلام): (إنّ الله تبارك وتعالى، لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لإظهار قدرته وليكلفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه...).
إنّ عظمة التوحيد تستوجب وجود الكُمَّل من أصفيائه، رسلاً كانوا أو أوصياء، كما أكّدت سيرة الرسالات ومنطق البعثات والاصطفاءات، فكان أجود ما جاء في النهج حول مقاصد البعثة: (فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكِّروهم منسيَّ نعمته، ويحتجوا إليهم بالتبليغ، ويثيروا فيهم دفائن العقول). ولم يكن المهديون والأوصياء - والغُيَّب منهم تحديداً - بدعاً في منطق الرسالات، حتى يقال إنّ غيبة مهدي الأمة أمر ناشز عن مقتضى المعقول والمنقول. فالمدار هو الهداية أياً كانت وسائطها، نبياً رسولاً أو إماماً مصطفى وحيث لا موضوع للحديث عن التزاحم بين وظيفة الرسل والأوصياء المهديين، إلا بمقدار ما يقال ذلك في الرسل الذين كانوا قبلنا، حيث وجود موسى (عليه السلام) لم يكن مزاحماً لوجود مهدي يشاركه المجال والزمان. ولم تكن وظيفته الرسالية مزاحمة لوظيفة الخضر (عليه السلام). بل تكاملت واستدعت مرافقة موسى (عليه السلام) لمهدي خفي أمره على عموم الناس، وباشر كل انجازاته خفية من الناس. فإذا كان التزاحم لم يحصل في الحضور لأنبياء عاشوا حقبة واحدة، فكيف يقال إن المهدوية منافية للرسالة الخاتمة. بل لو نظر إلى المهدوية بعين اللطف وحكمة المبدع الهادي، لكان ذلك عنواناً لفيض اللطف وتكثيفاً للباعثية على مسلك الطاعة، به يتحقق المراد.
إنّ العقيدة المهدوية تؤكّد على أنّ مستقبل البشرية متجه نحو الوحدة والتوحيد، بل هي الوسيلة الأقرب إلى الوجدان، دلالة على إمكان التوحد على فكرة خلاصية للنوع بهذا المعنى تصبح المهدوية ضرورة توحيدية.
لقد ارتبط ذكر المهدي بالتوحيد والوحدة.
يجمع البشرية على توحيد الله وعلى وحدة الاجتماع السياسي القائم على وحدة النظام وشريعة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) كما يتدبرها بالتأويل من أوتي الحكم الواقعي، فإذا كان التكاثر في وجهات النظر مرده إلى سيادة الظنون، وانحسار في العلم الواقعي، فإن سياسة الخلق بالحكم الواقعي والقطع الجاري مجرى المطابقة القطعية، كفيل بتوحيد الناس على نسق اجتماعي وسياسي، إن أكبر تجلي للتوحيد وظهور دين الله في الأرض سيكون على يد المهدي (عجّل الله فرجه)؛ وبذلك يكون المهدي ضرورة توحيدية، في عالم تصدع بالتكاثر وتمزقت أطرافه وازدادت تناقضاته. وحيث سيؤلف المهدي بين الجموع المتنافرة ويوحِّد الخلق على الناموس، يكون قد عبر عن تجلي الوحدة والتوحيد. وبه يتحقق الوعد الإلهي: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً). وهي لن تتحقّق، إلّا بمجيء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) الذي سيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً.
إنّك تجد أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يجسد منتهى تجلي التوحيد في العالم، فلو نظرت إليه من خلال الأسماء الحسنى الإلهية لرأيته مصداقاً أوفى لها، وذلك تأسيساً على النبوي الذي حث المؤمن على التقرب بالنوافل، حتى يكون سمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها. وما إليها من معان أحصاها العرفاء في مستوى قرب الفرائض وقرب النوافل، مع فارق جوهري بين أن يصبح المؤمن هو يد الله التي يبطش بها، وبين أن يصل مقاماً يكون الله هو سمعه الذي يسمع به ويده التي يبطش بها. وهو مصداق قوله تعالى: ﴿وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾؛ مقامات متاحة لعموم السُلاّك والعارفين، فكيف بمن وعد بالتمكين وكان قائما حجة على الخلق؟!
إنّ عنوان التمكين الذي يعكس القدرة الإلهية، سمة من سمات القائم عليه السلام، وهو أثرها الأوفى. وهكذا يمكننا قراءة مظاهر الظهور في ضوء الصفات الثبوتية، لندرك أن المهدي، هو تجلي صفة العلم، حيث سيؤتى تمامه. كما أنّه تجلّ لصفة الحياة، حيث طول العمر مصداق أوفى للحياة، فليس ذلك على الله بعزيز وهو الحي القيوم، وهكذا سائر الصفات الثبوتية كالكلام، والقدرة والعدل والوحدانية التي ستسم عصر المهدي (عجّل الله فرجه)؛ عصراً سيوقف البشرية على أحكام الله الواقعية والحقائق كما هي ونفس الأمر، وهي الأمور التي متى غابت تكاثرت حولها أهواء البشر، فتكون الوحدانية والتوحيد عنواناً بارزاً في عصر، يضع حداً لشقوة التكاثر برسم الأهواء، حيث في التكاثر عنوان الضعف والتباس الحقائق وامتناع العلم واشتداد الانسدادـ ومع الحجة القائم، هناك ظهور لكل شيء؛ للعلم والحقائق والمقاصد، وغياب الحواجز والتمكن من بلوغ المصالح بالطرق العادلة وخارج سطوة وظلم الإنسان. فمن يطلب التكاثر بالباطل والتعدد بالهوى حينئذ لا يكون إلا شقي!