(٦٣٥) رمزية علامات الظهور ودلالتها
رمزية علامات الظهور ودلالتها
الشيخ عدنان الحسّاني الرميثي
هذا البحث يقع في مسائل فكرية تجريدية تحاول أن تُقدِّم الأبحاث المهدوية بلغة الفكر الحداثي لتصل إلى النخب الأكاديمية..، كما أنَّ البحث مبنيٌّ على رؤية الكاتب البحثية واستنتاجاته واستنطاقه للنصوص وفق أدوات فلسفة التاريخ من جهة، وسيمولوجيا التواصل من جهة أُخرى، ولا ربط للبحث بمقولة الفهم الأُصولي والكلامي إلَّا قليلاً.
مقدّمة:
يغلب على الإنسان بمفهومه المطلق وفي بعده التكويني انشغاله بعالم الشعور المباشر، أعمّ من كون هذا الشعور ناتجاً عن اقتضاء الحسّ الظاهر أو الحسّ الباطن..، في حين أنَّ مسافات شاسعة في عالم اللاشعور متاحة أمام القدرة التكوينية التي أودعها الله في الإنسان للتحليق في فضاءاتها، سواء عن طريق الحدس - وهو الطريق الطبيعي أمام أيّ إنسان قادر على تحصين مداركه أمام الملوِّثات المادّية بغضِّ النظر عن انتمائه الإيدلوجي -، أو عن طريق الإلهام الخاصّ بفئة ونخبة من الناس ممَّن ينتمون إلى دائرة قريبة من منابع الغيب.
ولأنَّ الأمر على هذه السجيَّة، فإنَّ الله تعالى شاء أن يُقدِّر الأشياء بحسب المناسيب والاستعدادات، ووضع لكلِّ منسوب نسبة، ولكلِّ مضيف إضافة، اللّهمّ إلَّا الإنسان الكامل الذي غابت في حقيقته كلُّ النسب والإضافات..، ومع تراكم النسب والإضافات بسبب ابتعاد الإنسان عن جوهره الحقيقي، وانقطاعه عن مديات العالم اللاشعوري، وفقدانه لأدوات الحدس والإلهام..، تواردت الحجب الذهنية، وأُغشيت البصائر، ورانت القلوب والخواطر..، ولم يتبقَّ للإنسان سوى التحليق المنخفض في مديات القياسات الشكلية المترتِّبة على أدوات الحسِّ الظاهر أو الباطن، والاستعانة بالمطابقات واللوازم..، وواحدة من أدواته في هذا التحليق هي رمزية العلامة والإشارة ..، ومهما بالغنا في توصيف المسوِّغات التكوينية للحاجة الإنسانية في التمسّك بمثل هذه الأدوات، والتي ترتبط بفلسفة العلوم ونظرية المعرفة، فإنَّنا غير جديرين بالإحاطة الكلّية بهذه الحاجة، وذلك لارتباطها بسُلَّم الأنماط الأنطولوجية(1) لمراتب الإنسان.
العلامة في اللغة:
وصف ابن منظور العلامة في كلام طويل بأنَّها: (.. العَلَمُ والعَلَمة والعُلْمة: الشَّقُّ في الشَّفة العُلْيا، وقيل: في أحد جانبيها، وقيل: هو أَن تنشقَّ فتَبينَ...، والعَلامة والعَلَمُ شـيء يُنْصَب في الفَلَوات تهتدي به الضالَّةُ...، وأَعلامُ القومِ ساداتهم على المثل الوحدُ كالواحد، ومَعْلَمُ الطريق دَلالتُه، وكذلك مَعْلَم الدِّين على المثل، ومَعْلَم كلِّ شيء مظِنَّتُه، وفلان مَعلَمٌ للخير كذلك، وكلّه راجع إلى الوَسْم والعِلْم، وأَعلَمْتُ على موضع كذا من الكتاب عَلامةً، والمَعْلَمُ الأثرُ يُستَدَلُّ به على الطريق، وجمعه المَعالِمُ والعالمُون أصناف الخَلْق...)(2) إلى آخر كلامه.
العلامة في المصطلح الفلسفي:
العلامة عند أُرسطو (هي الشـي الذي يؤدّي وجوده أو إنتاجه إلى وجود أو إنتاج شـيء آخر، سواء كان سابقاً أو تالياً)(3).
نفهم من ذلك أنَّ العلامة من منظور فلسفي لا تندرج ضمن المقولات، وإنَّما على الأغلب هي عبارة عن ماهيَّة جعلية تأسيسية (تسنين ثقافي)، وأقول: على الأغلب، لخروج الدلالة الطبعية عن هذا التعريف، باعتبارها تقتضيها طبيعة الأشياء من دون أن يكون ثَمَّة جعل اعتباري أو تأسيسـي لأجل ذلك، فإنَّ العلامة لا تأتي إلَّا مضافة إلى شـيء أو إلى قضيَّة، كما لو قلنا: علامة المؤمن أو علامة الظهور أو علامة الرضا، ولعلَّ جميع أنواع الدلالات المنطقية سواء الطبعية أو الوضعية أو العقلية (لفظية أو غير لفظية) هي تُعبِّر عن حقيقة العلامة بشكلها المعرفي..، أمَّا العلامة بشكلها التواصلي التداولي فإنَّ قيم الاتِّصال والانفصال فيها تختلف عمَّا في البعد المعرفي، باعتبار أنَّ التواصل والتداول هو فعل الاجتماع، وظرف الاجتماع مادَّة تاريخية ترتبط بقيم التاريخ وحركته وسننه، في حين أنَّ الأبعاد المعرفية الدلالية ذات قيم تجريدية تتَّصل وتنفصل مع المعاني المجرَّدة في أُفق اللاتعلّق الخارجي.
يقول ابن سينا: (إنَّ الإنسان قد أُوتي قوَّة حسّية، ترتسم فيها صور الأُمور الخارجية، وتتأتّى عنها إلى النفس، فترتسم فيها ارتساماً ثانياً ثابتاً وإن غابت عن الحسِّ...، ومعنى دلالة اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم ارتسم في النفس معنى، فتعرف النفس أنَّ هذا المسموع لهذا المفهوم، فكلَّما أورده الحسُّ على النفس التفتت إلى معناه)(4).
فالعلامة في نظر ابن سينا هي ثنائية المبنى، تتكوَّن من مسموع اسم ومعنى. ملغياً بذلك من مفهوم العلامة الواقع الخارجي أو المرجع الذي تستند إليه العلامة، وذلك ما فعله (دوسوسير)(5) أيضاً، على عكس ما هو عند بعض الدارسين الأقدمين، حين يكون المرجع طرفاً أساسياً في العلامة.
أهمّية العلامة في حياة الإنسان دينياً وفكرياً:
لا أعتقد أنَّ مقولة بيرس: (لا نملك القدرة على التفكير بلا علامات)(6) هي مقولة صحيحة على إطلاقها، فيمكن أن نقول: إنَّنا نمتلك القدرة على التفكير المجرَّد حتَّى عن اللغة..، فاللغة ليست إلَّا قالب لإبراز الفكرة، هذا فيما إذا قلنا بأنَّ العلامة أعمّ من اللغة، أمَّا إذا كانت أخصّ فإنَّ التفكير في غنى واضح عن العلامات، ولذلك يمكن توجيه هذه المقولة على النحو التالي: (لا نملك القدرة على التمييز بلا علامات)، فالعلامة بمثابة الحدِّ الأوسط في التمييز بين الأفكار والأشياء، وليست هي حدودا وسطى لإثبات الأفكار المجرَّدة، ففائدتها التمييز لا الإثبات.
وقد أكَّد ابن سينا على أهمّية وجود العلامات في حياة الإنسان، من أجل تحقيق التواصل. و يتبيَّن ذلك من خلال قوله: (لـمَّا كانت الطبيعة الإنسانية محتاجة إلى المشاركة والمحاورة، فانبعثت إلى اختراع شيء يتواصل به..، فمالت الطبيعة إلى استعمال الصوت، ووُفِّقت من عند الخالق بآلات تقطيع الحروف وتركيبها معاً، لتدلَّ على ما في النفس من أثر. ثمّ وقع اضطرار ثانٍ إلى إعلام الغائبين من الموجودين في الزمان، أو المستقبلين إعلامياً بتدوين ما عُلِمَ، فاحتيج إلى ضرب آخر من الإعلام فاختُرِعَت أشكال الكتابة)(7).
إنَّ أهمَّ عنصـر من عناصر التواصل الاجتماعي هو عنصـر اللغة، وبات هذا العنصـر هو الشغل الشاغل للمدارس الفكرية العالمية، بل ذهب بعضها إلى اعتبار اللغة الانتقالة الأهمّ في أدوار التفكير الإنساني، لأنَّها تُعَدُّ التعبير الأتمّ عن منبِّهات شـرطية سابقة تفترض الانسياق مع فكرة أثَّرت في إيجاد النظام الإشاري السيميائي من ناحية سلوكية صرفة.
ومن الواضح أنَّ هذا التفسير للعلاقات اللغوية قائم على أساس أنَّ اللغة هي الأداة الأكثر تحكّماً بمناسيب الإدراك وقنواته، في حين أنَّ اللغة في الفكر الديني لا تُمثِّل سوى انعكاس تبعي لا شرطي للأفكار، بل إنَّ اللغة ذاتها ليست سوى فكرة اجتماعية متَّفق عليها بين المجتمعات من أجل التواصل وتبادل الأفكار والأخبار والانطباعات الشعورية، سواء قلنا بأنَّ هذه الفكرة الاجتماعية جاءت نتيجة اقتران متكرِّر بين بعض الأصوات وبعض المنبِّهات الطبيعية، وهي نظرية السيِّد الشهيد الصدر (قدّس سـرّه)، أو جاءت نتيجة تعهّد لا شعوري خلقته عملية التعاطي اللغوي وفق ما تعورف عليه بين المجتمعات، وهي نظرية السيِّد الخوئي (قدّس سرّه).
ولكن يبقى التعامل مع النصِّ الديني كأحد أبرز القنوات الموصلة إلى الواقع مثاراً للجدل في ظلِّ التشابك المحتدم بين النظريات اللغوية واللسانية المنبثقة هنا وهناك، ولا تُعَدُّ هذه الإثارة نقطة ضعف في التعاطي مع معطيات النصِّ الديني بقدر ما تعطيه من زخم تطاولي يظهر مدى قوَّته وارتكازه على أُسس واقعية، ليس من حيث الاكتناه الهوهوي(8) فحسب، بل من حيث التحكّم بجميع عناصـر المثاقفة والتدليل، لأنَّها أكثر العناصـر انسجاماً مع الميول الغريزية والذوق الفطري عند القارئ، ونحن نتحدَّث عن القارئ دون السامع، لأنَّ النصَّ المقروء هو الذي يساير أكثر عناصـر التحكّم النصّـي بعكس المسموع، والذي قد يفتقد بعض العناصر التي تُحقِّق أعلى مستويات الرائزية(9) في البحث النصّـي، ولكي نقف على بيان المستويات المفروضة لحاكمية النصِّ الديني لا بدَّ أوَّلاً من معرفة وظيفة النصِّ الديني، ودراسة هذه الوظيفة تاريخياً وبشرياً وتحليلياً.
وحينما نتحدَّث عن علامات الظهور فإنَّنا وبحكم ثنائية البعد العلامي السيميائي في هذا المجال فنحن جديرون بتناولها من جانبين: الجانب الوقائعي الخارجي والمرتبط بفلسفة التاريخ، وبالجانب النصّـي المرتبط بفلسفة اللغة، حيث إنَّ البعد السيميائي له مجالان من البحث: العلامة من حيث هي واقعة أُشير إليها بمصطلح سيميائي واضح، والعلامة من حيث هي نصوص تُمثِّل سياقاتها الجملية أو الفردية رموز وعلامات سيميائية دلالية محدَّدة.
وإذا كانت العلامة من منظور سيمياء التواصل، لا تخرج عن كونها وسيطاً تواصلياً، يُستَخدم بغرض التبليغ والتأثير في الغير. كما أنَّ الفعل التواصلي يتحدَّد بناءً على استعمال العلامات، والبعد التواصلي هو الذي يُشكِّل موضوع السيميولوجيا(10)، مع العلم أنَّ هذا البعد تؤسِّسه العلامات القائمة على الغاية التواصلية أو الإخبارية، فإنَّنا حين الكلام عن علامات الظهور سوف نتعامل مع هذه الخاصّية بشكل وظيفي يعتمد على التواصل والتداول.
ولكي يكون البحث أكثر تحديداً فسأُحاول تسليط الضوء على بعض العلامات التي ترتبط بخارطة الظهور المقدَّس في سياق ما هو حتمي نصّـي، وما هو حتمي تاريخي، وأقصد بالحتمية النصّية تلك العلامات التي وردت في النصوص على أنَّها حتمية..، وأقصد بالحتمية التاريخية هي تلك العلامات التي لها مقتضـى تاريخي لوجودها وحتميتها بسبب قوانين العلل والمسبَّبات التاريخية حتَّى وإن كانت غير واردة على أنَّها حتمية في النصوص، وسوف نتحدَّث عن ذلك تفصيلاً في ما يأتي من البحث.
ما هي السيميائية؟ وماذا نقصد بالعلامة؟
يُعرِّفها (بيارغيرو) بأنَّها (العلم الذي يهتمُّ بدراسة أنظمة العلامات: اللغات، وأنظمة الإشارات والتعليمات)(11).
وهذا التحديد يدخل اللغة تحت مفهوم السيميوطيقا، وهو الفهم الجديد لعلم السيمياء بحسب ما توصَّل إليه عالم اللسانيات الشهير (فيردناند دي سوسير) الذي يقول عن السيمياء في كتابه محاضرات في علــم اللسان العامّ: (إنَّها العلم الذي يدرس حياة العلامات من داخل الحياة الاجتماعية)(12).
وتُدرَس السيميائية وفقاً لأبعاد ثلاثة:
أ - البعد النظمي السياقي: وهو يدرس الخصائص الداخلية في منظومة العلامات دون أن ينظر في تفسيرها، أي ينظر في بنية العلامات داخل المنظومة.
ب - البعد الدلالي: يهتمُّ بالعلاقة بين العلامة وبين مدلولاتها، فهو يدرس محتوى العلامات والعلاقة القائمة بين العلامة وتفسيرها وتأويلها من دون النظر إلى من يتداولها.
ج - البعد التداولي: يدرس الصلة بين العلامة ومن يتداولها، وتُحدِّد قيمة هذه العلامة من خلال مصلحة من يتداولونها.
ومن خلال هذا البعد سيتبيَّن أنَّنا من حيث النظرية قد نميل إلى ما أسَّسه (بورس)، وذلك لأنَّها (نظرية بيرس)(13) أقرب النظريات إلى الواقع التداولي، حيث إنَّها من وجهة نظر (بيرس): (علاقة ثلاثية بين ثلاث علامات فرعية تنتمي على التوالي إلى الأبعاد الثلاثية للممثل والموضوع والمؤول)(14).
كما في المصفوفة التالية(15):
ونحن إذ نتحدَّث عن علامات الظهور فلا يخفى من أنَّ البعدين الأوَّل والثاني ينتميان إلى عالم ما وراء التداول، سواء كان التداول بمقتضـى المثاقفة أو بمقتضـى التفتيش عن مطابقات تاريخية، وهذا العالم تارةً يُشار إلى مدلولاته من خلال النصِّ بالمباشرة، وأُخرى من خلال الرمز في سياق نصّـي، وعلى أيِّ حالٍ فهو يتماهى مع عوالم الدلالات بمستوياتها المختلفة. أمَّا البعد الثالث فهو ينتمي إلى عالم التداول والتواصل، بمعنى أنَّه أقرب إلى العناصر التاريخية منه إلى العناصر اللغوية.
من هنا نفهم أهمّية البعد التاريخي في التعامل مع علامات الظهور، وذلك لأنَّ هذا البعد له كامل الأثر في إضفاء أهمّية وجودية على علامات الظهور، وإلَّا فلو تعاملنا معها بالتجرّد عن عناصرها التاريخية، أي إنَّنا لو تعاملنا معها في سياق سيميائي صرف، فإنَّها ستفتقد فعّاليتها من حيث التأثير في سياق التداول والتواصل، وذلك لأنَّ (العلامة في تكوينها السيميوطيقي(16) لا تُعرِّفنا على الشـيء، ولا تزيد معرفة به، بل إنَّ وظيفتها الأساسية هو التمثيل لشـيء آخر، أي إنَّ العلامة تُمكِّن الموضوع من الخروج من دائرة الوجود الطبيعي المادّي (الفيزيقي) إلى ما يُشكِّل جوهر الوجود المعنوي الدلالي في حياة الأشياء، فنحن لا نُدرك العالم بشكل مباشر في غياب العلامات، وهذا يعني أنَّ الإنسان يخترع ويتَّفق مع أخيه الإنسان على علامات وإشارات معيَّنة يُدركون شفراتها ويفهمون معانيها فيما بينهم كاللغات الإنسانية، وإشارات المرور التي اخترعها البعض واتَّفق الكلُّ على معانيها ومضامينها، وهذه علامات اصطناعية. أمَّا العلامات الطبيعية فلا دخل للإنسان فيها، ولكن الطبيعة هي من أفرزتها عفوياً، كأصوات الحيوانات والطيور، فمثلاً نباح الكلب هو علامة سيميوطيقية، ودلالة على وجود كلب في الجوار وإن لم ترَه، وهناك أيضاً علامات لا إرادية ينتجها الإنسان عفوياً، كالتوجّع والصـراخ أو التعجّب. وأخيراً فلا وجود للفكر الإنساني بدون علامات، ولا يمكن أن نُفكِّر خارج ما تُقدِّمه هذه العلامات)(17).
وهذا التفسير السيموطيقي للعلامة لا يتأتّى في نطاق الحديث عن علامات الظهور، لأنَّ هذه العلامات لها مناشئ انتزاع ميتافيزيقية أبعد من الوجود الدلالي للعلامة، ويمكن توضيح المفارقة بين التفسير السيموطيقي للعلامة وبين فهمنا لعلامات الظهور على الشكل التالي:
العلامة في الفكر السيموطيقي:
أمَّا العلامة على مستوى فهمنا لعلامات الظهور، فعلى الشكل التالي:
أمَّا الخصائص الأساسية للعلامة، فهي:
1 - إنَّ العلامة شيء يشير إلى شيء آخر ويُنبئ به.
2 - إنَّ العلامة غالباً ما تُنبئ بمدرَكات حسّية.
3 - إنَّ العلامة تقتضـي حدوث سلوك معيَّن أساسه الواقع.
4 - إنَّ العلامة هي الأساس في سلوك الحيوان، ويستخدمها الإنسان في تعاملاته.
5 - إنَّ العلامة جزء يشير إلى بقيَّة الكلِّ.
6 - الارتباط بين العلامة والشيء الذي تشير إليه ارتباط شرطي في أغلب الأحيان.
فلسفة علامات الظهور:
في البدء أُشير إلى بعض القواعد العامَّة التي أنطلق منها في تفسير فلسفة العلامة، ومعنى العلامية.
القاعدة الأوَّلية في فلسفة العلامات أنَّها موجَّهة (لخصوص المؤمنين المنتظرين)(18)، لا لجميع الناس، بمعنى أنَّ النصَّ المرتبط بالعلامات موجَّه على نحو القضيَّة المهملة، كما في قوله تعالى: (وَالْعَصْـرِ * إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْـرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصـر: 1 - 3). والقضيَّة المهملة بقوَّة الجزئية وإن لم تكن لها مواصفات القضيَّة الجزئية، خصوصاً المحصورة منها، بمعنى أنَّ دائرة المؤمنين مفتوحة لا مغلقة.
ويدلُّ على هذه الخصوصية ما نستوحيه من بعض الروايات، منها على سبيل المثال أنَّ الإمام الباقر (عليه السلام) يقول لجابر بن يزيد الجعفي: (ولا تُحرِّك يداً ولا رجلاً حتَّى ترى علامات أذكرها لك، وما أراك تدرك ذلك)(19).
بمعنى أنَّ هذه العلامات خاصَّة بنخب تاريخية معيَّنة بمقتضـى ضرورة تحصيل التوفيقات الخاصَّة من جهة، وضرورة تحديد الفترة الزمنية المحتفَّة بساعة الصفر من جهة أُخرى.
وعليه فإنَّ فلسفة العلامة تنسجم مع موجبات التمهيد والممهِّدين، نعم من حيث الحجّية فإنَّ العلامات حجَّة على جميع الناس، وتتأكَّد حجّية العلامات بالنسبة إلى الأشخاص المطَّلعين والمثقَّفين، نعم المستضعفون والقاصرون معذورون من هذه الجهة.
إذن فمع تجرّدنا عن هذه الخصوصية فإنَّ الحكمة بشكل عامّ من وجود العلامة هو تحصيل التالي:
1 - قطع الطريق أمام المدَّعين والأفّاكين.
2 - إبراز الدليل أمام المستضعفين والقاصرين والتائهين.
3 - تأكيد الحجَّة على صدق الإمام أمام أنصاره من جهة، وأعدائه من جهة أُخرى.
القاعدة الثانية: أعتقد أنَّ العلامات المرتبطة بمسمّيات أشخاص الظهور خاضعة لحسابات التناظر المثلي(20)، أو ما أُسميه مماثلة النظائر السننية، في قبال (تماثل التجربة عند كانط)(21). بعبارة أوضح أنا أعتقد أنَّ العلامات المعنونة بالحتمية، وهي خمسة، اكتسبت حتميتها بسبب التصاقها بأيّام الظهور الأخيرة، وانفصالها عن السياق التاريخي للأحداث المتسلسلة، لذلك أعتقد أنَّ عدم اتِّصاف علامة الخراساني بالحتمية هو لأنَّ الخراساني سيُشكِّل حالة لها ما يناظرها في الواقع، أي إنَّه موجود منذ زمن، وحالة معاشة، بمعنى أدقّ إنَّها وليدة سياق تاريخي طبيعي وواضح اكتسب وجوده من معطيات التوجّه العامّ للمدرسة الشيعية كمدرسة تاريخية متجذِّرة، فحتميتها تاريخية طبيعية. أمَّا علامة اليماني فإنَّ حتميتها منفصلة عن الطبيعة التاريخية للمدرسة، وكأنَّها انبثاقة عفوية خاضعة لإرادة ربّانية خاصَّة، في مقابل هذه الانبثاقة الموجبة هناك انبثاقة قطبية سالبة يُعبِّر عنها عنوان (السفياني).
واستطيع أن أُشبِّه القياس بين الخراساني واليماني كالقياس بين موسى (عليه السلام) والعبد الصالح..، فكما أنَّ وظيفة موسى (عليه السلام) متَّصلة بالسياق الترتيبي لفلسفة النبوَّة العامَّة، كذلك الخراساني وظيفته متَّصلة بالسياق الترتيبي لفلسفة القيادة، وكما أنَّ العبد الصالح حالة إلهية منفصلة جاءت كعلامة دلالية لتعميق معرفة النبيِّ بالدلالات الغائبة لظواهر الأُمور، فكانت حتميته ضرورية لا سياقية، كذلك اليماني هو حالة إلهية منفصلة لتعميق معرفة الممهِّدين بحقيقة الإمام الغائب. الفرق أنَّ العبد الصالح كان عالماً بوظيفته، أمَّا اليماني يُعبِّر عن حالة لا شعورية، بمعنى أنَّه لا يعلم بأنَّه اليماني الموعود، لا أقلّ عند خروجه الأوَّل، والدليل على ذلك هو:
1 - إنَّ معرفته لنفسه تتوقَّف على التصـريح أو التوقيع من قِبَل الإمام، وهذا يتوقَّف على الرؤية والمشاهدة، والرؤية والمشاهدة ممنوعة قبل السفياني والصيحة، وبما أنَّ خروج اليماني قبل السفياني أو هو مقارن لخروج السفياني، فلا معنى لتحقّق المشاهدة.
قد يقال: إنَّ اليماني يمكن أن يكون من الأبدال السابقين، أي ممَّن يظفر برؤية الإمام ومشاهدته، وفق تكليف خاصّ يشمل بعض الموفَّقين، وهو ما دلَّت عليه بعض الروايات.
أقول: مع ذلك فإنَّ الرواية التي تمنع الرؤية والمشاهدة مطلقة من حيث الادِّعاء، فإنَّ هولاء الموفَّقين ممنوعون من التصـريح برؤيتهم للإمام إلَّا بعد الصيحة والسفياني، وإلَّا فهم مشمولون للمنع، فحتَّى لو كان اليماني منهم فمن غير المتاح له الدعوة إلى الإمام قبل السفياني والصيحة.
2 - إنَّ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، بمعنى إذا قلنا: إنَّ اليماني يعلم بنفسه أنَّه اليماني بمقتضـى تكليفه الخاصّ السابق على ظهوره من جهة، وبمقتضـى حتميته النصّية من جهة أُخرى، نلتزم أنَّ السفياني كذلك، أي إنَّه يعلم بأنَّه السفياني الموعود قبل خروجه، وهذا ممَّا لا طائل منه، لأنَّ شرف المعلومة بشـرف الدور، كما أنَّ مثل هذا العلم يقتضـي أنَّ السفياني يتمتَّع بتوفيقات، لأنَّ علم المنايا والبلايا وما هو كائن ويكون لا يُوفَّق له إلَّا المخلصون.
وعليه وكأُطروحة احتمالية يمكن أن تكون وظيفة اليماني علامية اهتدائية، لذلك هو أهدى الرايات، بمعنى أنَّ علامته أوضح العلامات في الإيصال إلى المطلوب..، ومعسكر الخراساني وظيفته تعبوية قتالية حين الظهور، أمَّا قبل الظهور فكانت وظيفته العلامية هي إراءة المطلوب بمقتضـى سياقه التثقيفي العامّ.
بمعنى آخر أنَّ اليماني إمَّا أنَّه أهدى الرايات باعتبار أنَّ المراد من الهداية هنا هي الهداية الإعلامية الإشارية لا السلوكية، فإنَّه قد يكون على حدٍّ سواء مع الخراساني من هذه الجهة، وهناك من الروايات ما يؤيِّد هذا المعنى كما ورد عن الباقر (عليه السلام): (إنَّ المهدي إنَّما سُمّي مهديا لأنَّه يهدي لأمر خفي)، أي إنَّه سيعلن ويشير إلى أمر خفي. نعم هو معنيٌّ بإقامة الدين واستئصال الانحراف والهداية إلى الحقِّ، لكن كلَّ تلك المعاني يشترك بها مع سائر المعصومين، ولا تستدعي أن ينفرد بتسمية المهدي، لأنَّ هذه التسمية تقتضـي أن تكون عنصـراً مميَّزاً في بينونة اتِّصافه بهداية من نوع خاصّ لا ترتبط بالانحراف العقائدي والتأكيد على الاستقامة، وإنَّما بالإشارة إلى أُسس جديدة، ولذلك فهو يشير إلى أمر جديد.
كذلك نفس المعنى ينسحب على اليماني، خصوصاً وأنَّ الروايات عبَّرت عنه بأنَّ رايته راية حقٍّ، ولم تُعبِّر عنها: أحقُّ الرايات، بل أهدى الرايات. ومن جانب آخر فإنَّ الرواية ذكرت في سياق الرايات راية السفياني، فليس من الأجدى أن تُعبِّر بصياغة أفعل التفضيل، لأنَّ ذلك سيعني - ولو على نحو الاحتمال - بأنَّ راية السفياني هي راية هدى أيضاً فضلاً عن راية الخراساني التي هي القدر المتيقَّن في حدِّ الهداية الأدنى..، وهذا يعني أنَّ المقصود من الهدى هنا ليس هو من جنس الهدى العقائدي السلوكي وإنَّما الهدى الإشاري الإعلامي، فتكون راية اليماني أقرب الرايات والعلامات إلى الحقِّ إمَّا مكانياً أو زمانياً، ومن يتخلَّف عن راية اليماني ويلتوي عليها فهو متخلِّف عن الإمام المهدي (عليه السلام)، وذلك لمباشرتها الجغرافية والزمانية لظهور الإمام (عليه السلام)، نظير ما حدث بين الخضـر وموسى عليهما السلام، فالخضـر (عليه السلام) قد يكون (أقرب)(22) من موسى (عليه السلام) إلى علل الأفعال والأشياء والأُمور التي اعترض عليها موسى، وذلك بحكم العناصر الغيبية التي سُلط عليها، وعاشر بموجبها الأنبياء الذين سبقوه، وعايش تجاربهم المعرفية..، ويمكن أن يكون المعنى بأنَّ الهدى في راية الخراساني إجمالي، أمَّا في راية اليماني فهو تفصيلي، والتفصيل أهدى من الإجمال بطبيعة الحال، كما في قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدى لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) (البقرة: 185)، فذكر القرآن بأنَّه هدى للناس على نحو الإجمال، ثمّ ذكر بيِّناته وفرقانه بأنَّها الهدى، والمعرَّف أبلغ وأصرح من التنكير، وهو أقرب للتفصيل.
هذا كلّه من حيث القواعد العامَّة لفلسفة العلامة بحسب ما أوردته من أُطروحات احتمالية، ويمكن تصويره سيميائياً على الشكل المثلَّث التالي:
لكن قد يقال: إنَّ هذه الأُطروحات تحكّم وتحميل للنصِّ بما لا يحتمل، وتبقى مجرَّد أُطروحة ثانوية قابلة للنقاش في مقابل الفهم الأوَّل للرواية، وهي أنَّ راية اليماني تُعبِّر عن كونها أهدى الرايات عقائدياً وولائياً وسلوكياً، وهذا ما عبَّرت عنه الرواية في ذيلها حيث قالت: (لأنَّه يدعو إلى الحقِّ، وإلى طريق مستقيم).
الرمزية الثلاثية في علامات الظهور:
كثيراً ما أُحاول في هذه الأبحاث التركيز على الثلاثي المعروف بنظام الخرز، وذلك لما يُمثِّله هذا الثلاثي من رمزية أساسية في تصعيد وتيرة الأحداث بسبب ما تكتنزه هذه الشخصيات من طاقات متنافرة، وسوف يأتي توصيف هذا النظام وتحليله علمياً ونصّياً في الأبحاث القادمة.
ويمكننا الإشارة إليها وفق البيانات التالية:
أي إنَّ السفياني يلعب دورين، ويتَّجه على نحوين كما ورد في الروايات، تارةً يقابل الخراساني ويتسابق معه إلى الكوفة كفرسي رهان: (لا بدَّ لبني فلان من أن يملكوا، فإذا ملكوا ثمّ اختلفوا تفرَّق ملكهم، وتشتَّت أمرهم، حتَّى يخرج عليهم الخراساني والسفياني، هذا من المشـرق وهذا من المغرب، يستبقان إلى الكوفة كفرسي رهان، هذا من هنا وهذا من هنا، حتَّى يكون هلاك بني فلان على أيديهما، أمَا إنَّهم لا يبقون منهم أحداً)(23)، وأُخرى يقابل اليماني ويتسابق معه كفرسي رهان في نفس الوقت، فلقد جاء عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: (اليماني والسفياني كفرسي رهان)(24).
ويمكن التعبير عنه بالشكل التالي:
فلقد أخرج النعماني في الغيبة عن أبي جعفر محمّد بن علي (عليه السلام) في حديث طويل يقول فيه: (لا بدَّ لبني فلان من أن يملكوا، فإذا ملكوا ثمّ اختلفوا تفرَّق ملكهم، وتشتَّت أمرهم، حتَّى يخرج عليهم الخراساني والسفياني، هذا من المشـرق وهذا من المغرب، يستبقان إلى الكوفة كفرسي رهان، هذا من هنا وهذا من هنا، حتَّى يكون هلاك بني فلان على أيديهما، أمَا إنَّهم لا يبقون منهم أحداً)، ثمّ قال: (خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز، يتبع بعضه بعضاً)(25).
ومن خلال تحليل هذه الرواية نستطيع أن نستنتج عدَّة أنظمة معرفية، تارةً تنتمي إلى عالم اللغة، وأُخرى إلى عالم التاريخ وفلسفته.
الأنظمة الإشارية في الصراع الثلاثي:
1 - نظام الخرز(التمحور)... دورة متَّصلة:
2 - نظام المسابقة الرهانية (التجاذب والتقاطع):
الأنظمة التاريخية:
1 - الأمر المحتوم (المنعكس الشرطي):
بمعنى أنَّ ثَمَّة اقتراناً وثيقاً بين وجود العلامة المحتومة كمشير، وبين المدلول المشار إليه، هذا من جهة الرابطة الإشارية، أمَّا من جهة السنن التكوينية والتاريخية فإنَّ فلسفة وجود قطبية الشـرِّ لا تنفصل عن مقتضيات الحركة الاجتماعية والتاريخية والسنن الامتحانية، وإلَّا تخلَّفت الأغراض الإلهية من الامتحان والابتلاء، وهو محال. من هنا يمكن أن نتفهَّم الحتمية النصّية والتاريخية لوجود السفياني كمتطرِّف قطبي سلبي، والضدّ النوعي لرايات أهل الحقِّ والخير في الطرف المقابل.
2 - البداء (المحو والإثبات).
3 - نظام الخرز (التعاقب).
أخرج النعماني في غيبته بإسناده عن محمّد بن الصامت، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: ما من علامة بين يدي هذا الأمر؟ فقال: (بلى)، قلت: وما هي؟ قال: (هلاك العبّاسي، وخروج السفياني، وقتل النفس الزكيَّة، والخسف بالبيداء، والصوت من السماء)، فقلت: جُعلت فداك، أخاف أن يطول هذا الأمر؟ فقال: (لا إنَّما هو كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً)(26).
وأخرج أيضاً في رواية طويلة بإسناده عن أبي بصير، عن الإمام الباقر (عليه السلام) جاء فيها: ثمّ قال (عليه السلام): (خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً، فيكون البأس من كلِّ وجه، ويل لمن ناواهم، وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني، هي راية هدى، لأنَّه يدعو إلى صاحبكم، فإذا خرج اليماني حرم بيع السلاح على الناس وكلِّ مسلم، وإذا خرج اليماني فانهض إليه، فإنَّ رايته راية هدى، ولا يحلُّ لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار، لأنَّه يدعو إلى الحقِّ وإلى طريق مستقيم...) الحديث(27).
وهذا النظام بحسب فلسفة التاريخ، وبمقتضـى الأسباب والمسبَّبات يعطينا مسوِّغاً معرفياً على اعتباره نظاماً حتمياً لا يقبل التخلّف في أحد أجزائه، وهذا يعني أن تنبسط الضـرورة التاريخية على كلِّ مفاصله، ومنها (الخراساني)، فعلى الرغم من أنَّ الخراساني خارج عن دائرة الحتمية النصّية فلم يرد في الروايات أنَّه من المحتوم، على عكس السفياني واليماني، إلَّا أنَّه بحسب ما تقتضيه القوانين النظامية يدخل في نطاق الحتمية التاريخية، باعتبار أنَّ نظام الخرز عنصـر أساس من عناصر حركة التاريخ وترابط سننه الوجودية.
وهناك جملة من الروايات تشير إلى هذا المعنى، وتؤصِّل عدَّة قواعد وأُصول وسنن تاريخية ترتبط بمقولة النظام، حيث جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام) في رواية طويلة يُوجِّه فيها أخاه الثائر زيد الشهيد (رضوان الله عليه)، نأخذ منها محلّ الشاهد، حيث يقول (عليه السلام): (... لم يجعل الإمام القائم بأمره في شبهة فيما فرض له من الطاعة، أن يسبقه بأمر قبل محلّه، أو يجاهد فيه قبل حلوله، وقد قال الله (عزَّ وجلَّ) في الصيد: (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة: 95]، أفقتل الصيد أعظم أم قتل النفس التي حرَّم الله؟ وجعل لكلِّ شـيء محلًّا وقال (عزَّ وجلَّ): (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة: 2]، وقال (عزَّ وجلَّ): (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرامَ) [المائدة: 2]، فجعل الشهور عدَّة معلومة، فجعل فيها أربعة حرماً، وقال: (فَسِيحُوا فِي الْأَرضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) [التوبة: 2]، ثمّ قال تبارك وتعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْـرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة: 5]، فجعل لذلك محلًّا وقال: (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) [البقرة: 235]، فجعل لكلِّ شـيء محلًّا، ولكلِّ أجلٍ كتاباً. فإن كنت على بيِّنة من ربِّك، ويقين من أمرك، وتبيان من شأنك فشأنك، وإلَّا فلا ترومنَّ أمراً أنت منه في شكٍّ وشبهةٍ، ولا تتعاطَ زوال ملك لم ينقضِ أكله، ولم ينقطع مداه، ولم يبلغ الكتاب أجله، فلو قد بلغ مداه وانقطع أكله وبلغ الكتاب أجله لانقطع الفصل وتتابع النظام، ولأعقب الله في التابع والمتبوع الذلَّ والصغار...) الحديث(28).
نفهم من هذه الرواية الشـريفة أنَّ لكلِّ حقبة تاريخية نظاماً يخصّها يرتبط بقيام الدول وانحدارها، وهي قاعدة لا تختصُّ بالدول بما هي دول، بل تعمُّ الحركات والثورات، وتشمل الحركة الاجتماعية بكافَّة تجلّياتها.
ومن هنا فإنَّ إطلاق مقولة النظام على التتابع التاريخي لأحداث السفياني واليماني والخراساني يضيف إليها قيماً تأصيلية، ممَّا يقتضـي وجود مستوى من الحتمية يتناسب مع ذلك النظام التتابعي (الخرز).
علامات الظهور وجدلية اللغة والتاريخ:
في نطاق علامات الظهور توجد ثَمَّة علاقة بين فلسفة التاريخ وفلسفة اللغة أوجدتها مسوِّغات معرفية في سياق النظام الكوني الأحسن والسنن التاريخية للإنسان والعالم. فعلامات الظهور باعتبارها حوادث تاريخية ترتبط بأسباب وعلل ومسبَّبات تقتضيها منظومة العلاقات السننية بين المجتمع والدين والطبيعة في ظروف زمانية ومكانية محدَّدة تعالج في إطار معرفي يُطلَق عليه (فلسفة التاريخ)، وهذا الإطار له قواعد وأُصول ومزايا قد تكون أجنبية تماماً عن مزايا وقواعد الظواهر اللغوية والنصّية، ولكن باعتبار أنَّ هذه الظواهر حاكية عن تلك الحوادث في قوالب نصّية معبّرة فإنَّها ستُشكِّل من هذه الناحية عقبة بحثية مهمَّة يجب تخطّيها أوَّلاً ومن ثَمَّ إيجاد المسوِّغات المعرفية التي شكَّلت هذه الحوادث رمزية أساسية في مجرياتها التداولية.
ولا يخفى أنَّ فلسفة التاريخ تُفسِّـر علاقة السلوك الفردي والاجتماعي بخارطة الأحداث والوقائع ضمن تخطيط توفيقي بين الاضطرار والاختيار وصولاً إلى الغاية المطلوبة في سياق عملية امتحان بشري كبرى.
وإنَّ الأبحاث التاريخية وخصوصاً التحليلية منها بحكم انتمائها لمناطق الفراغ العقلية أوَّلاً وبالذات - وإن كان لها نحو انتماء إلى مناطق الشغل العقلية إلَّا أنَّ ذلك ثانياً وبالعرض، لأنَّ القوانين العقلية بمقتضـى كلّيتها من جهة وثباتها من جهة أُخرى لايمكنها أن تتسلَّط على كثير من القضايا المعرفية السيالة والمتغيّرة -، المهمّ أنَّها بحكم انتمائها إلى هذه المناطق فهي غير مضطردة بطبيعة الحال، وتتأثَّر بالنزعة الذاتية للباحث أكثر من تأثّرها بالعوامل الموضوعية التي من المفترض أنَّها تُحقِّق ملاكات المسألة المبحوثة.
المهمُّ أنَّنا نتسائل: هل هناك قاعدة أوَّلية نستطيع أن نُفسِّـر من خلالها علامات ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، وعلاقتها بحركة التاريخ على ضوء فلسفة التاريخ؟ بمعنى آخر: ما هو المسوِّغ التاريخي الذي يجعل من هذه العلامات تؤثِّر وتتأثَّر في حركة المجتمع والتاريخ؟
وللجواب عن ذلك نقول: إنَّ الزمان والمكان وإن كانا ينتميان إلى مقولتين مختلفتين، بل نستطيع أن نقول: إنَّهما متنافيتان، لكنَّنا نستطيع أن نقول من جهة أُخرى: إنَّ بينهما تمام الوفاق والاتِّفاق. وقبل الاسترسال في هذه النقطة التي جعلتني أتطرَّق إلى هذه المسألة هي المناسبة المستحكمة بين الإمام (عليه السلام) وبين فلسفة الزمان، حتَّى أنَّ واحدة من أشهر صفاته (عليه السلام) هو (صاحب الزمان)، ولكن ما هو الرابط؟ وما هو مقدار قيّومية الإمام (عليه السلام) على الزمان؟ إنَّ الإمام (عليه السلام) هو قيّم على الزمان، فالصحبة هنا ليست بمعنى الزمالة والصداقة، وإنَّما بمعنى التصـرّف والقيّومية..، المهمّ التساؤل هنا: ما هي المحدِّدات الفارقة بين الزمان والمكان؟
طبعاً لا بدَّ أن نعرف أوَّلاً أنَّ الزمان متسيِّد على المكان، لأنَّ الزمان لباس الوجود، وحيثيته إطلاقية، بينما المكان حيثيته تقييدية، وهي نقطة ثبوتية في حركة الزمان، وأهمّ المحدِّدات بينهما:
1 - إنَّ المكان قائم على النقطة، والزمان على الآن.
2 - إنَّ المفهوم التعميقي للمكان هو الامتداد، والمفهوم التعميقي للزمان هو الديمومة.
3 - إنَّ علاقة المكان بنفسه قائمة على التجاور، وعلاقة الزمان بنفسه قائمة على التعاقب.
4 - إنَّ ارتباط أجزاء المكان من خلال التتالي، وارتباط أجزاء الزمان من خلال التوالي.
5 - إنَّ ملاك تحقّق المكان هو السكون، وملاك تحقّق الزمان هي الحركة.
6 - إنَّ المعطى المتحقّق من المكان هو عنصـر الثبات، بينما المعطى المتحقّق من الزمان هو عنصـر التغيّر.
7 - إنَّ كمال المكان يرتبط بتحقّق الكينونة، وكمال الزمان يرتبط بتحقّق السيرورة.
ولأنَّ الزمان هو أحد محدِّدات الصفة التاريخية للأشياء، فلا بدَّ أن نفهم ما هو المنهج الذي يعطينا الحقَّ في تفسير التاريخ وفق مقاربات إيديولوجية؟ في حين أنَّ المطلوب من كلِّ بحث تاريخي الالتزام بالطابع الموضوعي المجرَّد. وحتَّى يتَّضح المسوِّغ الحقيقي لمثل هذا التفسير لا بدَّ أن نقارن بين المناهج المدرسية المتنوّعة التي تنتاولت البحث التاريخي بصفته التحليليلة والفلسفية.
المائز المنهجي بين تفسير المدرسة المادّية للتاريخ والتفسير الإسلامي:
تعتمد المدارس الغربية في تفسير التاريخ - وخصوصاً المدرسة التشاؤمية، والتي تتبنّى نظريات نهاية التاريخ - على مناهج متباينة بحسب تباين المآخذ، فهناك من يُفسِّـر التاريخ وفق المأخذ الفلسفي، أي بالارتكاز على القواعد في ذاتها بغضِّ النظر عن التعيّنات والمبرزات الإيديولوجية لحضارة بعينها كما هو هيجل، وهناك من يُفسِّـره وفق المأخذ الإيديولوجي الثابت ولو في نظره، حيث يدرس عناصر مجتمعية بعينها ويُحوِّلها إلى قاعدة في ذاتها كما فعل ماركس، وهناك من يُفسِّـره وفق المأخذ الإيديولوجي المتحرِّك، حيث يدرس مبرزات حضارة معيَّنة بالقياس إلى حضارات أُخرى ويبني عليها نتائج وتحوّلات كما فعل (فوكوياما)(29) ومن قبله (هنتغتون)(30).
وحيث إنَّ القواعد الفلسفية المفترض بها أنَّها تحاكي طبائع الأشياء في ذاتها وفق قواعد تجريدية، ولا تعنى بتعيّناتها الخارجية، بينما الإيديولوجيا تُمثِّل قناعات ترتكز إلى قواعد علمية إمَّا تجريبية أو استنتاجية استقرائية تلاحق تعيّنات الأشياء وتجلّياتها الحسّية.
بالمحصَّلة فإنَّ تفسير التاريخ وفق هذا التباين المنهجي للمدارس الغربية، والذي من المفترض أن يتوخّى وجوداً رابطياً بين الموضوع الفلسفي والموضوع الإيديولوجي، أو على الأقلّ بينه وبين المحمول يجعل منه تفسيراً عبثياً، أو لا أقلّ يفتقد للكثير من حلقات الوصل والاتِّصال بين أبعاده المعرفية: (المنطق، الأنطولوجيا، نظرية المعرفة).
أمَّا تفسير التاريخ وفق المنهج الإسلامي فإنَّه بعد التفصّـي عن عدم اعترافه بالمنطق الهيجلي(31) والقواعد الفلسفية للمدارس الغربية إلَّا أنَّ مقتضيات اللياقة في ممارسة الجدل تلزمه بالتنزّل ولو مؤقَّتاً، وعليه فلو سلَّمنا بصحَّة القواعد الهيجلية فإنَّها غير مناسبة لتقديم التعميمات السليمة لفلسفة التاريخ، والدليل هو لجوء الفلاسفة والمفكّرين إلى وضع مناهج أُخرى أخصّ منطقياً من الأُصول التي وضعها هيجل، خصوصاً وأنَّ أغلب المدارس الفلسفية الغربية هجرت المنطق الأُرسطي واشتغلت وفق المنطق الهيجلي الحديث.
ولعلَّ الأُطر العامَّة لقوانين التاريخ على ضوء الكتاب الكريم يمكن أن تُقرأ على الشكل التالي:
أوَّلاً: القياس الاستقرائي:
ويتحدَّد هذا القانون من خلال رؤية القرآن الكريم للحركة التاريخية للبشـرية من حيث ربط الأسباب بالمسبَّبات، وقياس النتائج إلى الأفعال عن طريق المسير الاستقرائي العقلي، والنظر بتأمّل إلى النتيجة الموحّدة لكلِّ تلك النتائج، والذي أشارت إليه العديد من الآيات، كما قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران: 137).
ويقول تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام: 11).
ثانياً: ملاحظة المعايير الاعتبارية:
من أهمّ القيم التاريخية التي أكَّد عليها الكتاب الكريم كمعايير تصلح أن تكون قانوناً اجتماعياً عامّاً للسلوك السليم الذي ينسجم مع السنن التكوينية والاجتماعية السليمة هو قيمة العبرة والاعتبار كما في قوله تعالى: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111)، فإنَّ قصص الأنبياء مع مجتمعاتهم تصلح لأن تكون قانوناً عامّاً ينبغي أن ينتفع منه المجتمع من خلال استقراء النتائج التي خرجت بها تلك القصص، والركون إلى نتيجة موحّدة، ومن ثَمَّة التزام طريق الحميَّة السلوكية والاعتقادية مع النبيِّ الخاتم (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والتصديق بما جاء به، والإيمان به، وإلَّا سيصيبهم ما أصاب الأُمم السابقة.
ومن المعايير التي تنسجم مع مقولة الاعتبار، هي:
أ - معيار التأمّل، كما في قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ) (يوسف: 109).
ب - معيار المقابلة، كما في قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (النمل: 69)، وكما يقول تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْـرِكِينَ) (الروم: 42)، ويقول تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام: 11)، وكما يقول عزَّ من قائل: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران: 137).
ت - معيار الأمكنية، والملاحظ في هذا المعيار أنَّ فيه تحشيداً واضحاً للنصوص القرآنية، وما ذلك إلَّا لأنَّ البشـرية على طول خطِّ التاريخ مستغرقة في قيم المادَّة والقوَّة، بحيث شكَّلت هذه القيم عند البشـرية مقياساً أساسياً في الانحراف عن طريق الحقِّ والسلوك السويِّ، كما في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (الروم: 9)، وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) (فاطر: 44)، وقوله عزَّ من قائل: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) (غافر: 21)، وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (غافر: 82).
ث - معيار المماثلة، وهذا المعيار جاء للتأكيد على أنَّ سنن التاريخ تتكرَّر في حقِّ المنحرفين عن القانون التكويني السويِّ، كما في قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) (محمّد: 10).
الاعتباط والقصدية في علامات الظهور:
حينما نتكلَّم عن علامات الظهور فإنَّنا بالضـرورة سوف نتحدَّث عن نوعين من الإحالات: تارةً نتحدَّث عن إحالات تقتضيها شؤون النصِّ، من قبيل: الإحالة على المعاني المدلولة لألفاظ الروايات، وتارةً أُخرى نتحدَّث عن إحالات تقتضيها شؤون الحركة التاريخية في نطاق التوقّع، وهذا النوع من الإحالات قد يفرز العديد من نقاط الصعوبة في تفسير مداليله الحقيقية، فعلى العكس من النوع الأوَّل - أقصد الإحالة على المعاني - فهو بلا أدنى شكٍّ منسجم إلى حدٍّ كبير مع البعد المقاصدي للنصِّ، كما أنَّ ارتباطه بقصدية المتكلِّم الذي هو المعصوم (عليه السلام) واضح وجليّ، لكن ربَّما نفتقد إلى المشير القصدي حينما يدور الحديث عن النوع الثاني من الإحالات..، وتتركز الصعوبة أكثر في نطاق هذا النوع من الإحالات في سياق ما يقتضية من أنظمة تكوينية وتاريخية تتدخَّل في أكثفة أنماطه الوجودية من قبيل:
1 - نظام البداء.
2 - نظام العلل والأسباب.
3 - نظام الامتحان والتمحيص.
ولعلَّ الإحالات على مضامين التوقّع التاريخي ليست واحدة، وتختلف من علامة إلى أُخرى، ومن رمز إلى رمز آخر، فعلى الرغم من أنَّ الذوات التاريخية المنفصلة عن الشهود الآني لا تشترط شكلاً خاصّاً لها، فإنَّ أشكال وجود هذه الرموز والمعاني لا يمكن أن تكون مفصولة عن السيرورة التاريخية المولِّدة لها، فالصيغ البشـرية لعلامات الظهور من قبيل السفياني واليماني والخراساني أو أيِّ شخصية أُخرى كأيقونات رمزية لا بدَّ أنَّها تستند إلى إجراء استدلالي يتَّخذ من التجاور الزماني أو المكاني والتشابه والتناظر منطقاً له. وأعتقد أنَّ ذلك يُشكِّل تحديداً وتمييزاً معقولاً للقصدية التاريخية، في حين تحيل العلامة السيميوطيقية كما يذهب السيميائيون على مدلولها عن طريق الاعتباط، فلا رابط عقلي بين المتوالية الصوتية للنصِّ في خصوص المشافهين وبين المدلول الذهني الذي يملكه المستمع عن شيء ما ممَّا يعطيها دلالات لا متناهية ليس على مستوى المعاني فحسب، بل حتَّى على مستوى الرموز الوجودية والأيقونات المعبّرة عنها.
ولكن من الممكن أن نتصوَّر لعلامات الظهور في بعدها التداولي، وفي نطاق التوقّع التاريخي دلالات مفتوحة، لكن لا على إطلاقها، وإنَّما بشـرط شـيء وهو اتِّصالها الضمني بعصـر الظهور من جهة وبثقافة الفرد المنتظر من جهة أُخرى في نطاق تداوله لمدلولات العلامة، فيكون انفتاحها محدوداً ثقافياً خصوصاً في عصـر الغيبة، فحينما نتحدَّث عن اليماني مثلاً فمن حيث الإحالة النصّية فثَمَّة بعدان فقط في نطاق المقاصد الدلالية منها: بعد رمزي، وآخر جغرافي. أمَّا من حيث الرمزية فإنَّ هذا العنوان يشير إلى شخص يتحمَّل في سياق مضمونه الداخلي عنصـراً مهمّاً من عناصر الحكمة المتعالية، وبما أنَّ الحكمة لها ما بإزاء نصّـي ورد عن النبيِّ (صلى الله عليه وآله) حينما قال: (إنَّ الحكمة يمانية)، أُشير إليها ترميزاً من هذه الجهة، وذلك من أجل التعمية على قيامه ومشـروعه العلائمي. وأمَّا من حيث الجغرافية فهذه الحيثية أقرب الحيثتين إلى الدلالة المطابقية للنصِّ، وهي لا تتحمَّل أكثر من مستوى واحد من مستويات الدلالة السيميائية، بينما لو أخذنا بحيثية الانتزاع الرمزي فثَمَّة ثلاثة مستويات للدلالة السيميائية، وهي: مستوى الشخصية التاريخية المحيلة إلى (القطب)، ومستوى الرمزية الخوارزمية في سياق التعمية التاريخية، والتي تحيل إلى معنى من معاني الحكمة، ومستوى الإحالة إلى هذه الرمزية بإزاء ما ورد من النصِّ النبوي من أنَّ (الحكمة يمانية)(32). وفهم هذه المستويات على الرغم من مقتضاه إلَّا أنَّ مؤونته قد تكون زائدة على المدلول، وبالتالي قد تكون أقرب إلى الاعتباطية منها إلى القصدية..، أمَّا لماذا نتهرَّب من هذه المؤنة في التعبير عن رمزية اليماني وفق ما يقتضيه من مستويات متعدِّدة؟ أعتقد أنَّ ذلك يعود إلى المسوِّغ المنهجي الذي نتبنّاه، وذلك تارةً هروباً من الاعتباطية، وأُخرى تزلّفاً للنظرية السيميائية التي انتخبناها على شرط (شارل سندرس بيرس)، وهذا التزلّف له ما يقتضيه علمياً.
فالعلامة لو جرَّدناها عن البعد الرمزي يمكن فهمها بدقَّة إذا نجحت في أن تجعل المرء يستوعب عن طريق الحواسِّ الشـيء أو الموقف الذي تشير إليه، وذلك بعكس (الرمز) الذي يتمُّ فهمه حينما ندرك الفكرة التي يرمز إليها، وكما يقول أوسكار وايلد: (الشـيء المشار إليه بعلامة أبسط بكثير من الفكرة أو المعنى أو التصوّر المشار إليه برمز)(33).
علامات الظهور والتراكم الدلالي:
نستطيع أن نستوحي عدَّة أنواع من الدلالات في سياق التأمّل في نصوص علامات الظهور، منها:
1 - الدلالات اللفظية (نصّية، سياقية، خبرية):
لعلَّ السياق هو ذلك العنصـر المتحرِّك بين معظم الوظائف النصّية السالفة في خصوص النصِّ الديني، ونحن حينما نتحدَّث عن النصِّ الديني فيجب أن لا يغيب عنّا ما يلعبه السياق من أدوار تتدخَّل في جميع مفاصل الدلالة النصّية، والذي يُميِّز النصَّ الديني من حيث الحركة السياقية هو تأثّره بنمطين من هذه الحركة: الأوَّل ما يرتبط بداخل النصِّ من قرائن مقالية، والثاني ما يرتبط بخارج النصِّ من مواقف وقرائن حالية، إلَّا أنَّ النمط الداخل نصّـي هو الأكثر حركةً مع معطيات القراءة والتحليل، خصوصاً وأنَّ النصَّ الديني يتضمَّن بعداً ثالثاً من أبعاد الحركة الدلالية ألا وهو البعد التاريخي، وهو البعد الذي تتجسَّد دلالاته وفق منظومة العلاقات بين الإنسان والمكان والزمان، ولأنَّ الزمان محكوم بظاهرة التعاقب فوقائعه ستكون عرضة للاختفاء والغياب خلف أستار التاريخ ومجرياته..، ولا يمكن أن تتحوَّل القضايا الغائبة (كقضيَّة الإمام المهدي (عليه السلام) وعلامات ظهوره) إلى قضايا حاضرة من دون توسّط مقولة المعرفة، ولا يمكن أن تتولَّد مقولة المعرفة من دون توسّط أدوات التفهيم، وأقصد بها الرموز والإشارات والأصوات والحروف.
لذا كان الإنسان مضطرًّا إلى التواصل اللفظي من أجل تكوين رؤيته الشمولية للحياة والوجود، إلَّا أنَّ جملة من المعطيات الوجودية التي حدَّدتها مقتضيات السنن التكوينية أدَّت بالإنسان إلى تقحّم أزمة التعقيد في مجال التواصل المعرفي، وأهمّ هذه المعطيات:
1 - اختلاف الألسنة.
2 - أنماط الذكاء.
3 - أنماط السلوك.
4 - أنماط الرؤى الكونية.
ولعلَّ الأنماط من الطائفة الرابعة هي المعطى الأساس في تكوين دائرة الاختلاف والتعقيد في التعاطي بين اللغة والفكر من جهة، وبين خيال فاعل الفهم (القارئ) والواقع ونفس الأمر من جهة أُخرى.
والمحدِّد الأساس في تمييز هذه الأنماط هو في بلورة النظرية المعرفية وتنقيحها ابستمولوجيا عن طريق عملية الفرز المعرفية التي تتضمَّن التأشير على مصادر المعرفة ومعايرة قيمتها ومعرفة أدواتها وتحديد مراحلها، وإلَّا فمن دون هذه العملية لا يمكن ملامسة ملاك الحقيقة، وكذلك لا يمكن التمييز بين الأوهام والحقائق.
ولا يخفى أنَّ النصَّ - أيَّ نصٍّ - يلعب دوراً محورياً في معادلة التكافؤ بين المتلقي والواقع، لذا فإنَّ من الضروري أن يخضع النصُّ إلى عملية تشريح معرفية.
ويمكن أن نقول بأنَّ الانفجار التطوّري الذي أحدثه المنهج التجريبي الغربي في مجال التقنية والتكنلوجيا والعلوم التطبيقية أدّى إلى بروز اتِّجاهات متعدِّدة في تفسير علاقة الإنسان بالفكر والمعرفة بناءً على مبدأ النسبية الذي تؤمن به هذه المدارس، وبالتبع من هذا التطوّر حيث تكثَّفت المصطلحات العلمية وتكاثرت الرموز والإشارات، ممَّا أدّى إلى نشوء المدارس اللسانية الحديثة التي باتت هي الأُخرى تعيش ذروة تطوّرها النظري، ولعلَّ أهمّ مسلك شغل مساحة واسعة من الجدل بين هذه المدارس هو المسلك التأويلي الهيرمونطيقي(34) بجميع مدارسه البنيوية والتفكيكية.
ولعلَّ واحدة من انبثاقات هذه المدارس هو الاهتمام بالقيم العلامية وما يُسمّونه بـ (السيمولوجيا) أو (السيمياء).
وعلى الرغم من التباين والاختلاف الواضح في سياق الرؤى الكونية بين هذه المدارس وبين ما نؤمن به من منظومات معارفية إلَّا أنَّ نقاط التلاقي ليست قليلة بمناسبة وحدة المناسيب الإدراكية على شرط الاعتبار العقلائي. ولعلَّ هذا التلاقي ملحوظ إلى حدٍّ ما في خصوص بعض المبادئ والمقدَّمات، إلَّا أنَّ نقاط الافتراق جوهرية على مستوى النتائج والاستنباطات، فعلى صعيد فلسفة اللغة مثلاً فإنَّ هذه المدارس تؤمن بالدلالات المفتوحة والاعتباطية في فهم العلاقات اللغوية، في حين أنَّ الفكر الإسلامي يركن غالباً إلى المقاصد والثوابت خصوصاً فيما يرتبط بمحلِّ كلامنا حول علامات الظهور والبعد الرمزي والإشاري فيها، فليس من المعقول أن يُراد من اليماني مثلاً تصوّرات لا متناهية من الأشخاص، فإنَّ ذلك سيجعل من العلامة غير قارَّة، في حين أنَّ بعد المعنى للعلامة في حدِّ علاميَّتها هو القرار على شكل محدَّد بحدود تلك العلامة خصوصاً إذا كانت مادّية مجسَّدة بأبعاد المادَّة.
وهناك ثَمَّة أنواع أُخرى من الدلالات نترك الحديث عنها إلى مناسبات أُخرى رعايةً للاختصار، منها:
2 - الدلالات الحسّية (شخصية، حدثية، تاريخية).
3 - الدلالات السلوكية (الهدى، الإيمان، التوسّم، الاتِّباع).
4 - الدلالات النفسية (الانتظار، الأمل، الفرج).
5 - الدلالات الحدّية (معسكر الحقِّ، معسكر الباطل).
6 - الدلالات الغيبية (المستقبل، المنايا والبلايا، التنبّؤ).
عقيدة البداء وتأثيرها في تطويع البعدين السيميائي والتاريخي للعلامة:
يدخل البداء عاملاً مؤثِّراً بالدرجة الأساس في تغيير أنماط العلامة، بناءً على التغيير في أنماط السلوك الإنساني والمجتمعي، ومن هذه الأنماط:
1 - إذاعة السرِّ والتعجّل، سُنَّة التأجيل، تطويع التاريخ:
جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام): (فحدَّثناكم فأذعتم الحديث فكشفتم قناع الستر)، فإذاعة السـرِّ وإفشاءه يكشف عن خلل فكري، فإذا لم يحفظ الشخصُ السـرَّ وقام بكشفه، هذا يدللُّ على وجود خلل في وعيه وفكره، ثمّ يقول الإمام الباقر (عليه السلام): (ولم يجعل الله له بعد ذلك عندنا وقتاً)(35).
من هنا نفهم أنَّ للعلامة مستويات: منها ما هو قابل للتغير والتبدّل بحسب مدى التقيّد بالشـروط وارتفاع الموانع، والآخر ثابت وحتمي، وترتبط هذه الحتمية بمقاس اللياقة الامتحانية للجماعة المؤمنة المنتظرة، وبمستوى النضوج الفكري والسلوكي الذي يتمتَّعون به، فمتى ما توصَّلت هذه الجماعة إلى حدود النجاح واللياقة حينها ستكتسب صلاحية الحفاظ على السـرِّ، وبالتالي اقتضاء التدبير السليم للأحداث في ظرف التوقّع، ومن ثَمَّ استجلاء الحقائق من خلف العلامات والإشارات. وهذا ما تشير إليه الرواية الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: (إنَّ أصحاب محمّدN وُعِدُوا سنة السبعين، فلمَّا قُتِلَ الحسين (عليه السلام) غضب اللهُ (عزَّ وجلَّ) على أهل الأرض، فأضعف عليهم العذابَ، وإنَّ أمرنا كان قد دنا فأذعتموه فأخَّره اللهُ (عزَّ وجلَّ)، ليس لكم سرٌّ وليس لكم حديثٌ إلَّا وهو في يد عدوِّكم، إنَّ شيعة بني فلان طلبوا أمراً فكتموه حتَّى نالوه، وأمَّا أنتم فليس لكم سرٌّ)(36).
هذه إشارة من الإمام المعصوم (عليه السلام) يُبيِّن أنَّ (شيعة بني فلان) قد حكموا لأنَّهم حافظوا على سرِّهم، سواء كان المراد بــ (شيعة بني فلان) هم العبّاسيّون أو الأُمويون أو غيرهم، أنّى كانوا فلقد حافظوا على نشاطهم السرّي حتَّى نالوا ما يصبون إليه.
في حين كان من المتوقَّع بالحسابات التاريخية غير الحتمية والمشـروطة بالكتمان وتوفّر الأنصار أن يكون الإمام الحسين (عليه السلام) هو المهدي، إلَّا أن اختلال الشـروط ووجود الموانع أدّى إلى التأجيل، وتغيَّرت تبعاً لذلك الرموز والإشارات وفقا لقانون البداء والتبدّل.
ويقول أبو بصير: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما لنا من يخبرنا بما يكون، كما كان عليّ (عليه السلام) يُخبِر أصحابَه؟ فقال: (بلى والله، ولكن هات حديثاً واحداً حدثتُكه فكتمتَه)، فقال: فوَ الله ما وجدت حديثاً واحداً كتمتُه)(37).
إنَّ القرآن الكريم ذمَّ الأقوامَ الذين يذيعون السـرَّ، لذلك يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) عيَّر أقواماً بالإذاعة في قوله (عزَّ وجلَّ): (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) [النساء: 83]، فإيّاكم والإذاعة)(38).
2 - الانعكاس السلوكي، سنة التبديل، تطويع الأشخاص والصور:
كما أنَّ هناك افرازاً سلبياً آخراً يُؤثِّر في مجريات السنن التاريخية، ممَّا يدع مجالاً للبداء في التدخّل في قوانين الحركة التاريخية للمجتمع الرسالي، وهذا الافراز يُعبِّر عن التداعي السلبي للسلوك الاجتماعي من خلال التجافي مع قيم الجهاد والمدافعة أو قيم الإنفاق في سبيل الله أو غيرها من القيم ذات البعد السلوكي الإيجابي، يقول تعالى: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة: 39).
ويقول تعالى: (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (محمّد: 38).
فإنَّ الحمولة السلبية لهذا الافراز قد تتجاوز حدود الإنذار وتصل إلى مرحلة الاستبدال، وهي من سنن الله في التاريخ، فالذين لم يُوفَّقوا في نصـرة الإمام الحسين (عليه السلام) مثلاً عرَّضوا أنفسهم إلى مقتضيات البداء، ومن ثَمَّ كانت الأُمَّة تستحقُّ سُنَّة الإبدال والتبديل، وهذا الأمر بنفسه يمكن أن يقع في مجريات عصـر الظهور وعلاماته أيضاً، وهذا ما عبَّرت عنه بعض الروايات كالرواية التي تتحدَّث عن يوم الأبدال، وأنَّ أشخاصاً كانوا في معسكر السفياني يتحوَّلون إلى معسكر الإمام المهدي (عليه السلام) وبالعكس، فلقد جاء عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) في رواية طويلة جامعة ترسم خريطة الظهور نأخذ منها محلَّ الشاهد، يقول: (... ثمّ يسير حتَّى يأتي العذرا هو ومن معه، وقد ألحق به ناس كثير، والسفياني يومئذٍ بوادي الرملة. حتَّى إذا التقوا وهم يوم الأبدال يخرج أُناس كانوا مع السفياني من شيعة آل محمّد عليهم السلام، ويخرج ناس كانوا مع آل محمّد إلى السفياني، فهم من شيعته حتَّى يلحقوا بهم، ويخرج كلُّ ناس إلى رايتهم، وهو يوم الأبدال)(39)، وهذا التحوّل ليس وليد مزاجات آنية، وما ذلك إلَّا لوجود هذه العلاقة والترابط بين السنن والسلوك.
أنواع العلاقة السيميائية والتاريخية بين العلامات:
تتآلف العلامات فيما بينها وفقاً لنوعين من العلاقات:
أ - العلاقات النظمية السياقية:
وتنبع قدرة العلامات على التآلف من محور ذي بعد واحد يجعل العلامات ترتبط بعضها بالبعض الآخر في متتالية من العلامات تنتمي إلى السياق نفسه(40).
وهو ما نطلق عليه في دائرة أدبيات الظهور بنظام الخرز، وهذه العلاقة مشتركة بين البعدين الرئيسيين للعلامة: البعد اللغوي والبعد التاريخي، فمن حيث البعد اللغوي فإنَّ ثَمَّة علاقة سياقية ودلالية واضحة بين الرموز اللغوية التي تشير إليها الروايات في خصوص الحديث عن الشخصيات الثلاث. والحاجة إلى مثل هذا السياق تقتضيها قصديتين أساسيتين:
القصدية الأُولى: ربط فهم المتلقي بمنظومة الرموز والإشارات بالاستفادة من السياقات النصّية والخطابية من خلال المثاقفة والتداول.
القصدية الثانية: توجيه المتلقي إلى تلمّس الحدود الزمانية والمكانية للأحداث من خلال ربطه بمجريات السنن التاريخية التي ستُفضي بالنتيجة إلى بروز هذه الرموز والعلامات.
ب - العلاقات الاستبدالية:
وهي تنبع من قدرة العلامات على تشكيل جداول ترتبط وحدات كلّ جدول فيما بينها، ويمكن للواحدة أن تحلَّ محلَّ الأُخرى إذا تبدَّل السياق(41).
كما إذا تدخَّل نظام البداء في عملية التبديل والتحوّل..، فالسياق تارةً سياق نصّـي وأُخرى سياق تاريخي، والتبديل في السياق النصّـي يستند إلى فلسفة اللغة، وفي الأحداث التاريخية يستند إلى فلسفة التاريخ.
الإشارة الى المدلول بين العلامية والإعجاز:
هناك مستوى من العلامات يتداعى مع دلالات الأحداث بشكل تطابقي كالخسف والصيحة وغيرها، وهناك مستوى آخر لم يُذكر أنَّ له علاقة بالظهور بشكل مطابقي، إلَّا أنَّه ينسجم مع العلامية تضمّناً، كما هو الحال بغرس القضيب واخضـراره الذي يدلُّ على صدق مدَّعى المهدي بأنَّه هو الموعود المنتظر أمام معسكر الحسني أو الخراساني..، وهذه الإشارات هي أقرب إلى المعجزة منها إلى العلامة، تقول الرواية:
(... ويلحقه هناك ابن عمّه الحسني في اثني عشـر ألف فارس، فيقول: يا ابن عمِّ، أنا أحقُّ بهذا الجيش منك، أنا ابن الحسن وأنا المهدي. فيقول المهدي (عليه السلام): بل أنا المهدي. فيقول الحسني: هل لك من آية فنبايعك؟ فيومئ المهدي (عليه السلام) إلى الطير فتسقط على يده، ويغرس قضيباً في بقعة من الأرض فيخضرّ ويورق، فيقول له الحسني: يا ابن عمِّ، هي لك، ويُسلِّم إليه جيشه، ويكون على مقدمته، واسمه على اسمه)(42).
ونفهم من سياق هذا الحديث أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) سيحظى بميزة من ميزات النبوَّة، وهي الحاجة إلى تصديق إمامته من خلال الإعجاز والمعجزة، وحينما ترد الإشارة إلى المعجزة في روايات الظهور فهذا يعني أنَّها ليست مختصَّة بتصديق الحسني، وإنَّما المقصود منها هو البعد التداولي للمتلقّي، فتكون في حدِّ كونها معجزة، فهي علامة في الوقت ذاته، أي إنَّ لها مقتضيات البعد السيميائي، ومقتضيات البعد التاريخي، بالإضافة إلى بعد جديد، وهو البعد الإعجازي ومدلولاته النفسية والكلامية والرسالية.
أمَّا البعد السيميائي لدالّة سقوط الطير على يده فهو إشارة إلى سلطته في توجيه منطق الطير وسلوكه، وأمَّا فيما يخصُّ غرس القضيب اليابس واخضراره فله ثلاثة أبعاد:
الأوَّل: تأكيدي..، باعتبار أنَّ الذي يشاهد الواقعة قد يصيبه الشكّ من أنَّ حادثة الطير إذ قد تكون مرهونة بالتدريب والتطويع مسبقاً، فتأتي حادثة القضيب لتقطع الشكَّ باليقين.
الثاني: معنوي..، وهو أنَّ رسالة الإمام المهدي (عليه السلام) هي رسالة الحياة والنموّ والتطوّر والرفاه.
الثالث: مناقبي..، وهو أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) له مقامات الأنبياء باعتباره مؤيَّد بالمعجزة.
هذا وإنَّ للكلام عن البعد السيميائي والتاريخي لعلامات الظهور مجالاً واسعاً قد يحتاج إلى تصنيف كتاب كامل نتركه إلى مناسبات أُخرى إن شاء الله تعالى.
الهوامش:
(1) الأنطولوجيا: مصطلح يُطلَق عادةً على ما يرتبط بعلم الوجود، وهو أحد بحوث الفلسفة الثلاث، وهو يشمل النظر في الوجود بإطلاق مجرَّد من كلِّ تعيين وتحديد. اُنظر: المعجم الفلسفي: 26/ إعداد ونشـر مجمع اللغة العربية/ جمهورية مصـر العربية.
(2) لسان العرب 12: 416.
(3) اُنظر: سيميائيات التأويل لطائع الحداوي: 336/ ط (2006م)/ المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء/ المغرب.
(4) العبارة لابن سينا: 4/ تحقيق محمّد الخضيري/ 1970م/ القاهرة.
(5) فرديناند دي سوسير (1857 - 1913م)، عالم لغوي سويسـري، ورائد علم اللغة الحديث، وُلِدَ سوسير في جنيف، وهو ينتمي لعائلة عُرِفَت بعطائها العلمي في مجال العلوم الطبيعية، يعود لسوسير الفضل في إرساء علم اللغة على دعائم علمية ثابتة، عندما أشار إلى أنَّ علم اللغة يعنى بصورة أساسية بدراسة عمل اللغة، وليس دراسة تطوّرها. واعتبر الدراسات اللغوية التاريخية ثانوية إذا قورنت بالدراسة اللغوية الوصفية التي دعا بصورة واضحة إلى إقرارها. وبهذا يُعَدُّ سوسير رائد الدراسات اللغوية الوصفية الحديثة، ومؤسِّساً للتفكير البنيوي أو البنيوية في اللسانيات الحديثة. اُنظر: الموسوعة العربية العالمية 78: 133 حسب برنامج المكتبة الشاملة.
(6) نظرية النصِّ من بنية المعنى إلى السيميائية الدالّ/ د. حسين خمري: 162/ منشورات الاختلاف/ الدار العربية للعلوم ناشرون.
(7) العبارة لابن سينا: 5/ تحقيق محمّد الخضيري/ 1970م/ القاهرة.
(8) تارةً تُطلَق على مطابق الشـيء وما يشبهه من كلِّ وجه وإن تميَّز عنه، وتارةً على ما يبقى ثابتاً دائماً بالرغم ممَّا يطرأ عليه من تغيّرات، فالجوهر هو هو وإن تغيَّرت أعراضه. اُنظر: المعجم الفلسفي: 207/ إعداد مجمع اللغة العربية/ القاهرة.
(9) رزت فلاناً، ورزت ما عنده: جرَّبته وقدَّرته، وكم رزته روزاً، فلم أرَ عنده فوزاً. وروَّز رأيه وكلامه في نفسه إذا روَّأ في تقديره وترتيبه. ورزت ضيعتي: قمت عليها وأصلحتها. وهو راز البنائين: رأسهم، وكذلك راز أهل كلّ صناعة. وكان راز سفينة نوح جبريل صلوات الله تعالى وسلامه عليهما، لأنَّه يروز ما يصنعه، ولأنَّه راز الصناعة حتَّى أتقنها. كما يقال للعالم: خبير من الخبر، وأصله رائز كشاكّ في شائك، ولذلك جُمِعَ على رازة كسائس في ساسة. اُنظر: أساس البلاغة 1: 190/ مادَّة (روز).
(10) الكلمة من أصل يوناني، وتعني العلامة (logo) أي الخطاب، وأشار في قاموس اللسانيات إلى أنَّ أوَّل من استعمل مصطلح السيميائية في العصـر الحديث هو (ش، س، بيرس)، وهي في عرفه علم العلامات الذي يدرس مختلف خصائص العلامات التي يستعملها وينتجها العقل الإنساني عبر مسيرته العلمية. اُنظر: المصطلحات الأساسية في لسانيات النصِّ وتحليل الخطاب/ د. نعمان بو قرة: 119.
(11) السيمياء/ بيبر غيرور: 50/ ترجمة أنطون بن زيد/ ط 1/ 1984م/ منشورات عويدات/ لبنان/ بيروت.
(12) محاضرات في علم اللسان العامّ/ فيردناند دي سوسير: 88/ ترجمة عبد القادر قنيني/ ط 1/ 1987م/ دار البيضاء/ أفريقيا الشرق.
(13) مناهج النقد الأدبي المعاصر/ د. بشير كاوربريت: 136.
(14) تشارلز ساندرز بيرس (1839 - 1914م)، فيلسوف أمريكي، كان له دور في نشـر الفلسفة الذرائعية، وكان من الروّاد الذين طوَّروا المنطق الرياضي، كما ساعد في تطوير دراسات الرموز أو السيميائية، وهي تُعنى بالدلالات الرمزية للعلامات، بالإضافة إلىّ الكلمات. اُنظر: الموسوعة العربية العالمية 66: 276/ حسب برنامج المكتبة الشاملة الإصدار الثاني.
(15) مصدر المصفوفة: السيميائيات أو نظرية العلامات/ جيرار دلولودال: 35/ ط (2004م).
(16) السيميوطيقا مرادفة للسيميولوجيا، وموضوعهما دراسة أنظمة العلامات أيّاً كان مصدرها لغوياً أو سننياً أو مؤشِّرياً. اُنظر: مدخل إلى المنهج السيميائي/ جميل حمداوي/ مجلَّة عالم الفكر الإلكترونية/ العدد الثالث.
(17) اُنظر: تباين الفكر السيميوطيقي للعلامة والرمز عند تصميم الصيغ البصـرية للفنِّ التشكيلي/ بحث من إعداد أحمد مصطفي محمّد عبد الكريم عابد/مدرِّس مساعد بقسم التربية الفنّية كلّية التربية النوعية، جامعة الفيوم/ (ص 14).
(18) أقصد من الخصوصية هنا مؤدّى التكليف الخاصّ الذي يتضمَّن مقتضيات التشفير، فالنصُّ الديني له مقتضيات عامَّة تشمل جميع طبقات الناس حتَّى الكفّار، وله مقتضيات خاصَّة نظير النصّ القرآني، فهو على طبقات: (العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق)، العبارة للعوامِّ، والإشارة للخواصِّ، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء. فهناك مقتضـى خاصّ في النصِّ القرآني لا يفهمه إلَّا الأولياء والأنبياء، فهو موجَّه إليهم بشكل خاصٍّ، كذلك الأمر هنا، فخطاب العلامة له مقتضيات عامَّة تشمل جميع البشـر من أجل إلزامهم بالحجَّة، وله مقتضيات خاصَّة لفئة معيَّنة (الممهِّدين)، لذلك جاءت العلامات مشفَّرة ورمزية، وهذا ما ألجئنا إلى استنطاق النظريات السيميائية الحديثة.
(19) الغيبة للنعماني: 279/ باب 14/ ح 67.
(20) التناظر: هو علاقة منطقية أساسية تقوم على أنَّه إذا عُيِّن حدٌّ أو أكثر تعيَّن تبعاً لذلك حدٌّ أو حدود أُخرى. المعجم الفلسفي: 55/ إعداد ونشر مجمع اللغة العربية/ القاهرة.
(21) يعتقد كانط أنَّ التجربة ليست ممكنة إلَّا بتمثيل رابطة ضرورية بين المدرَكات الحسّية، وتحته ثلاثة تمثيلات أو قوانين متميِّزة: 1- قانون بقاء الجوهر. 2- قانون تعاقب الظاهرات. 3- قانون تزامن الجوهر وتبادلها في الفعل. اُنظر: المصدر السابق.
(22) ليس المقصود من الهداية هنا بمعناها العقائدي، وإنَّما بمعناها اللغوي، أي بمعنى رؤية علل الأُمور بما هي عليه في نفس الأمر لا بما هي مشاهدة للعيان، وقد ذهب إلى ذلك جمع من المفسِّـرين منهم الطبرسي في بيانه يقول: (قلنا يجوز أن يكون الخضر خُصَّ بعلم ما لا يتعلَّق بالأداء، فاستعلم موسى من جهته ذلك العلم فقط، وإن كان موسى أعلم منه في العلوم التي يؤدّيها من قِبَل الله تعالى (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) يعني النبوَّة، وقيل: طول الحياة، (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) 65 أي علماً من علم الغيب، عن ابن عبّاس. وقال الصادق (عليه السلام): (كان عنده علم لم يُكتَب لموسى (عليه السلام) في الألواح، وكان موسى يظنُّ أنَّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته، وأنَّ جميع العلم قد كُتِبَ له في الألواح)، (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)66، أي علماً ذا رشد، قال قتادة: لو كان أحد مكتفياً من العلم لاكتفى نجي الله موسى، ولكنَّه قال: (هَلْ أَتَّبِعُكَ...) الآية، عظَّمه (عليه السلام) بهذا القول غاية التعظيم، حيث أضاف العلم إليه، ورضي باتِّباعه، وخاطبه بمثل هذا الخطاب. والرشد العلوم الدينية التي ترشد إلى الحقِّ، وقيل: هو علوم الألطاف الدينية التي تخفى على الناس). اُنظر: تفسير مجمع البيان 6: 329.
(23) الغيبة للنعماني: 256.
(24) بحار الأنوار 52: 253.
(25) الغيبة للنعماني: 135.
(26) الغيبة للنعماني: 263.
(27) الغيبة للنعماني: 256 و257.
(28) الكافي 1: 356.
(29) فرانسيس فوكوياما الأمريكي ياباني الأصل، يعمل مستشاراً استراتيجياً في الخارجية الأمريكية، وهو الذي طرح نظريته عن نهاية التاريخ، وهو صاحب كتاب (نهاية التاريخ وخاتم البشـر)، وملخَّص النظرية بأنَّ العالم سينتهي بسيطرة حضارة واحدة ذات منظومة قيمية واحدة، هي الحضارة الرأسمالية.
(30) صامويل هانتنجتون الأمريكي صاحب كتاب (صراع الحضارات)، والذي طرح نظرية صراع الحضارات الذي يرى فيها أنَّ الحضارات تتصارع فيما بينها، وأنَّ صراعها في جوهره صراع قيمي ثقافي، لاختلاف المنظومات القيمية بين كلِّ حضارة وأُخرى.
(31) هيجل، ج. و. ف. (1770 - 1831م)، فيلسوف ألماني يُعتَبر أحد أكثر الفلاسفة الألمان تأثيراً في المذاهب الفلسفية الحديثة. جادل هيجل في المقولة التي تفيد بأنَّه لكي نفهم أيّ ثقافة من الثقافات الإنسانية، يجب أن نعيد تتبّع وفهم تاريخها. وقد ركَّز هيجل كثيراً على أهمّية الفهم التاريخي لتطوير الدراسة التاريخية للفلسفة، والفنِّ، والدين، والعلم، والسياسة. وانتشـر المنهج التاريخي للثقافة الإنسانية الذي أشاعه هيجل حتَّى خارج حدود ألمانيا. اُنظر: الموسوعة العربية العالمية 95: 94/ حسب برنامج المكتبة الشاملة الإصدار الثاني.
(32) الكافي 8: 71/ ح 27.
(33) الرمز والأُسطورة في البناء الاجتماعي/ أوسكار وايلد: 5.
(34) يرد مصطلح الهيرمينويطيقا بشكل ملحوظ في الدوائر اللاهوتية والفلسفية، وكذلك االدبية وسادت الهيرمينويطيا كمذهب في اللاهوت الأُوربي البروتستانتي بوصفه محوراً للدراسات اللاهوتية الراهنة. والهيرمينيطيقا هي دراسة المبادئ المنهجية للتفسير والتوضيح، وهي بوجه خاصّ دراسة المبادئ العامَّة لتفسير الكتاب المقدَّس (الإنجيل). اُنظر: كتاب هيرمينوطيقا.. تفسير الأصل في العمل الفنّي.. دراسة في الانطولوجيا المعاصرة/ د. صفاء عبد السلام علي جعفر: هامش (ص 23).
(35) الكافي 1: 368/ ح 1.
(36) مختصر بصائر الدرجات: 102.
(37) المحاسن للبرقي 1: 258/ ح 305.
(38) الكافي 2: 369 و370/ ح 1.
(39) بحار الأنوار 52: 224.
(40) المنهج السيميائي/ فريد امعض شو 12: 18.
(41) المصدر السابق.
(42) عقد الدرر: 90 - 99/ باب 4/ فصل 2، مرسلاً عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).