(٦٣٩) ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) حقيقة لا تقبل التشكيك (١)
ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) حقيقة لا تقبل التشكيك (1)
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
منهج البحث حول هذا الموضوع: يقع في مقدّمة وفصلين:
مقدّمة: في بيان ضرورية ومفروغية ولادته (عليه السلام).
الفصل الأوَّل: وفيه أربعة بحوث:
البحث الأوَّل: الإثبات التاريخي التراثي، وينقسم البحث فيه إلى قسمين:
القسم الأوَّل: ونبحث فيه منهج الإثبات التاريخي.
والبحث ضمن المحاور الآتية:
أوَّلاً: تعريف المنهج التاريخي.
ثانياً: الظروف القاهرة التي عاشتها العترة الطاهرة، وتتضمَّن تسليط الضوء على:
1 - نشوء الأحكام الثانوية، وتوسيع دائرة العمل بالاضطرار.
2 - التقيَّة.
3 - خفاء الكثير من النصوص.
4 - الوضع والتحريف للنصوص مع عدم إمكان الردع عنه خارجاً.
5 - بروز ظاهرة الانحراف في عصر كلِّ إمام، بدفع خارجي ودافع مصلحي.
فإنَّه لا يخفى تأثير هذه الظروف على خفاء الولادة المباركة.
ثالثاً: بحث الروايات الدالّة على الولادة.
رابعاً: بحث الروايات المعارضة.
خامساً: بحث التواتر.
القسم الثاني: ونبحث فيه أقوال العلماء في الولادة، وهو على نحوين:
النحو الأوَّل من القسم الثاني: أقوال علماء العامّة (الجمهور)، وفيه أقوال عشر منهم سيأتي تفصيلها:
النحو الثاني من القسم الثاني: أقوال علماء الإماميَّة، وفيه أقوال نخبة منهم سيأتي تفصيلها:
البحث الثاني: المنهج العقلي (الدليل الفلسفي، دليل تراكم الاحتمال) وضرورة الوجود المبارك له (عليه السلام).
البحث الثالث: المنهج الكلامي من خلال البحث في حديث الثقلين وحديث الاثني عشر.
البحث الرابع: المنهج الكشفي، ونظرية الإنسان الكامل.
الفصل الثاني: الإشكالات وأجوبتها:
مقدّمة:
إنَّه لمن المؤسف حقّاً أن نشتغل بالبحث في قضيَّة غدت من الضـرورات المذهبية بل الدينية، هي تلك القضيَّة التي ما انفكَّ البعض بإيراد الإشكالات والتشكيكات حولها، وليس بمستغرب أن يقوم بعض السفهاء ممَّن يزجّون أنفسهم ويحشـرونها في نوادي العلم وساحة العلماء بالتشكيك في أبده البديهيات، كما شكَّك من قبلهم من هم أسفه منهم في نبوَّة الأنبياء، بل وفي وجود الذات المقدَّسة للباري (جلَّ شأنه)، ليس بمستغرب من أمثال هؤلاء الذين درسوا على مائدة النصب والعداء، وارتووا بماء بغض دين الله وأهله الذابّين عنه، أن ينكروا ولادة الإمام الذي قامت الدنيا بوجوده، وبشَّـر الأنبياء بظهوره، وتتيّم الخلق أوَّلهم وآخرهم بلقائه، حتَّى تمنّى أن يتشـرَّف بعض أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) بخدمته.
عن خلَّاد بن الصفّار، قال: سُئِلَ أبو عبد الله (عليه السلام): هل وُلِدَ القائم؟ فقال: (لا، ولو أدركته لخدمته أيّام حياتي)(1)، ليس بمستغرب من أمثال هؤلاء أن ينكروا هذه الولادة التي وضوحها كوضوح الشمس في رابعة النهار بل أشدّ.
إنَّ هذه المصيبة لها نظير في التأريخ، فحديث الغدير الوارد في إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، والذي شهده آلاف من الصحابة، ومع ذلك ينكره أمثال هؤلاء، لا لشـيء إلَّا لأنَّهم، جُبلوا على بغض أهل البيت (عليهم السلام)، ولم ينجع معهم دواء الدليل.
وإنَّما هنا نُبرز الدلائل التي تُؤكِّد وتُوضِّح ولادة الإمام (عليه السلام) إلى من يذعن بالدليل إذا ساقته مقدّماته إلى نتيجته، لننتهي بذلك إلى رفع تلبيسات هؤلاء وتدليساتهم وقصّهم ولصقهم للأحاديث.
فإنَّ مثل هؤلاء مثل الذي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه، وقد أكَّد الذكر الحكيم على أنَّ كثيراً من الناس يقومون بإيراد موارد الشبهة لإيقاع الناس فيها وإيهامهم أنَّها الحقّ، وفي الحقيقة إنَّها ليست من الحقِّ في شيء، فقد قال تعالى في كتابه الكريم: (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (آل عمران: 7).
الفصل الأوَّل
البحث الأوَّل: بحث الإثبات التاريخي التراثي
القسم الأوَّل: منهج الإثبات التاريخي:
والبحث فيه يقع ضمن النقاط الآتية:
أوَّلاً: تعريف المنهج التاريخي:
يُعرَّف المنهج لغةً: الطريق الواضح المستقيم.
ويُعرَّف اصطلاحاً بأنَّه الطريق أو السبيل الذي يسلكه الباحث للوصول إلى النتائج(2).
ويُعرِّفه آخرون بأنَّه التمشّـي المنطقي للوصول إلى الحقيقة المبتغاة، أو أنَّه عبارة عن خطوات منظَّمة تكفل لمن يسير عليها الوصول إلى نتيجة محدَّدة، أو هو عبارة عن سلوك الفرد أو الجماعة لطريقة معيَّنة في تحقيق ما يصبون إليه.
وقد أُطلقت مفردة منهج على:
1 - الدين الإسلامي على اعتبار أنَّه منهج منزَّل من الله تعالى يكفل لمن يؤمن به الوصول إلى الغاية المرجوَّة والمطلوبة.
2 - المنهج المرادف للعقيدة بمعناها العامّ.
3 - المنهج يُراد به مشرب خاصّ، وطريقة معيَّنة، كما نقول: منهج أهل البيت (عليهم السلام).
4 - يُطلَق على سلوك فئة معيَّنة طريقة خاصَّة في تحصيل النتائج، كما نقول: منهج المتكلِّمين، أو منهج الفلاسفة، أو منهج العرفاء، أو منهج الفقهاء، وهكذا.
ملاحظة: ممَّا يجدر التنبيه عليه أنَّ كلمة (المنهج) لا تُعطي معنىً محصَّلاً إلَّا إذا أُضيفت.
تعريف التاريخ:
ذكر أهل اللغة في تعريف التاريخ معانٍ عدَّة، فمن قائل: إنَّ التاريخ هو الإعلام بالوقت(3)، أو التعريف بالوقت(4).
فيقال: أرَّخت المولود أو الحدث في يوم كذا، أو أرَّخت الحادثة الواقعة في بلد كذا، أي: عرَّفتها بالوقت أو حدَّدتها بالوقت أو أعلمت بوقتها.
وقيل فيه: إنَّ التاريخ هو تعيين حدث بوقت يُنسَب إليه(5)، وقيل فيه أيضاً: إنَّه تعريف الوقت بإسناده إلى أوَّل حدوث أمر شائع(6)، من ظهور ملَّة أو دولة أو أمر هائل ممَّا يندر وقوعه(7).
التعريف الاصطلاحي للتاريخ:
عرفوا التاريخ بأنَّه معرفة أحوال الأُمم وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وأنسابهم ووفياتهم(8).
وعرَّفه آخرون بأنَّه إخبار عن الأيّام والدول، والسوابق من القرون الأُوَل(9)، أو هو التعريف بالوقت الذي تُضبَط به الأحوال من مولد الرواة والأئمَّة ووفاتهم(10).
وخلاصة التعريف هو أنَّ التاريخ يتعلَّق بجمع المعلومات والأخبار عن البلدان، وعن الأشخاص، وعن الزمن وما يتعلَّق به من هذه الأحداث والأشخاص، فنقول مثلاً: وُلِدَ فلان سنة كذا، أو توفّي في سنة كذا، وحصل العمران الفلاني في سنة كذا، والهدم الفلاني في سنة كذا، وهكذا.
من معاني كلمة التاريخ:
1 - سير الزمن والأحداث، كالتاريخ الإسلامي، والتاريخ اليوناني، و... الخ.
2 - تاريخ الرجال وأحوالهم.
3 - تحديد زمن الواقعة أو الحادثة، باليوم والشهر والسنة إن أمكن.
وبمزج المفردتين قد نحصل على تعريفات المنهج التاريخي:
الذي قيل: هو ما ينشغل بدراسة قضايا المجتمع في الحاضر مبتدئاً بمعرفة الواقع الاجتماعي بغرض تغييره، ومنشغلاً بالتعرّف على تاريخ العملية الاجتماعية، أي تاريخ المجتمع في حركته.
كما عُرِّف المنهج التاريخي أيضاً بأنَّه أداة البحث في المشكلات أو الظاهرات الإعلامية في بعدها التاريخي، أو هو سياق الوقائع والأحداث (وصف الماضي)، ووصف الظاهرة الإعلامية وتسجيلها كما حدثت في الماضي.
وهو - المنهج التاريخي - منهج علمي، لأنَّه يتبع خطوات المنهج العلمي في تحديد الحادثة وتجميع المعلومات الأساسية عنها، ثمّ صياغة الفروض كلَّما أمكن، ثمّ تجميع الأدلَّة التي نختبر بها الفروض.
تعريف آخر: عُرِّف المنهج التاريخي أو المنهج الوثائقي بأنَّه هو دراسة الوثائق التاريخية.
آليات المنهج التاريخي:
يعتمد هذا المنهج على استرداد التاريخ أو الماضي، واكتشاف حلول للمشاكل الجارية على ضوء ما تمَّ في الماضي، ويعتمد كثيراً على جمع المعلومات التاريخية ونقدها وتحليلها، وهذا النوع من البحث - البحث التاريخي - يعتمد في الأساس على مصادر كُتِبَت من قبل، لأنَّ موضوع دراسته هو البحث عن وقائع حدثت في الماضي، وبالتالي يصعب علينا اختبارها في الوقت الحاضر، وهو فنٌّ يبحث عن وقائع الزمان من ناحية التعيين والتوقيت، وموضوعه الإنسان والزمان، ومسائله أحواله المفصَّلة للجزيئات تحت دائرة الأحوال العارضة للإنسان في الزمان.
مادَّة المنهج التاريخي:
يتَّخذ ويعتمد المنهج التاريخي الحوادث التاريخية والاجتماعية والسياسية وسيلةً لتفسير وتعليل ظواهر وخصائص ما، ويُركِّز على تحقيق النصوص وتوثيقها.
ثانياً: الظروف القاهرة التي عاشتها العترة الطاهرة:
والتي كانت سبباً لنشوء الكثير من الأحكام الاستثنائية، والقواعد الشـرعية والاجتماعية الاضطرارية، وخفاء الكثير من النصوص، وتمكّن أصحاب النفوس الضعيفة والمآرب الدنيئة من وضع وتزوير ودسِّ أحاديث لم تصدر عن أهل البيت (عليهم السلام) في أحاديثهم.
فالمتتبِّع لسير أحداث التاريخ الذي عاش فيه أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) من حيث بعده الديني والسياسي وأثر ذلك على التراث الديني المنقول إلى الأجيال اللاحقة، يجد أنَّ هناك توسعة كبيرة في الأحكام الثانوية والأحكام الاضطرارية(11)، غير التي جعلها الشارع المقدَّس للتسهيل على المكلَّفين، وإنَّما نشأت هذه الأحكام لخصوص ما عاناه أهل البيت (عليهم السلام) من حكّام الجور وتسلّط الظالمين، ولولا ذلك - أي لو فُرِضَ أنَّ الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) مارسوا دورهم الطبيعي وتكليفهم الإلهي دون عوائق من حكّام الجور وسلاطين الظلم والاستبداد والقهر - لما شهدنا لتلك الأحكام من وجود أو أثر في التراث المنقول إلينا عن أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا ما سنقف على بعض منه حتَّى نتعايش الحالة، أو نكون في الأجواء التي اكتنفت النصوص الواصلة لنا والتي تحكي الظرف الذي نشأ فيه الإمام المهدي (عليه السلام) ووُلِدَ، وصعوبة ذلك الظرف والأجواء، وما تعكسه هذه الصعوبة على وصول أخبار ولادته (عليه السلام) أو من شاهده وتشـرَّف بلقائه وما شاكل ذلك ممَّا سوف نحاول الوقوف عليه بشـيء من التفصيل أو الإشارة إليه على نحو الإجمال وذكر موارد تفصيله.
التقيَّة وخفاء الكثير من النصوص:
كثيراً ما يقف من لم ينتمِ إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فكراً وعقيدةً مع هذا المصطلح موقف الاستهجان والريب والشكّ والتردّد، ولكن لو نظرنا إلى هذا المصطلح وهذه المفردة بعيداً عن التشنّجات التي مرَّت بها الساحة الإسلاميَّة لرأينا أنَّ هذه المفردة تُعبِّر عن مبدأ إسلامي أصيل، بل إنَّنا نجد أنَّ هذه المفردة تُعبِّر عن مبدأ إنساني جُبل عليه البشـر عند اضطراره إلى اللجوء إليه، فمبدأ التقيَّة يُعبِّر عن حالة إنسانية تسكن أعماق البشـرية منذ أن وُجِدَت ووُجِدَ الاجتماع والنظام والتكاثر البشـري، فكثير منّا يستخدم التقيَّة عشـرات المرّات عندما يتعرَّض إلى مواقف معيَّنة يمرُّ بها أثناء مسيرة حياته الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الدينية.
وهذا أمر وجداني لا يمكن إنكاره وإن اختلفنا في التعبير عنه، فتارةً نُعبِّر عنه بالتقيَّة، وتارةً نُعبِّر عنه بالمداراة، وتارةً نُعبِّر عنه بموارد أجاز لنا الشارع فيها استخدام هذه القنوات التي وُضِعَت للتخفيف عن كاهل المكلَّفين دون أن نُسمّيها بتسمية معيَّنة، المهمّ الذي نخلص إليه من هذه الديباجة المقتضبة أنَّ التقيَّة فضلاً عن كونها مبدأ إسلامي(12)، فهي مبدأ انساني ابتداءً، ومن يشكُّ في ذلك فحاله حال من ينكر الضـرورات والبديهيات التي يتعامل معها، ويتعايش ويعيش في كنفها، ويتلبَّس بها في كلِّ آنات حياته، ومع ذلك فهو ينكرها. وقد شاهدت شخصياً أثناء الكثير من الحوارات مع المخالفين سواءً كانوا على صعيد الخلاف الديني أو الخلاف المذهبي من تلبَّس بالتقيَّة أثناء حديثه دون أن يشعر، وعندما نُنبِّه لذلك إمَّا أن يصمت ولا نجد له حراكاً، أو أنَّه يحاول أن يُخرج ما تلبَّس به عن عنوان التقيَّة وإن أقرَّ في داخله أنَّ ما صدر منه ليس إلَّا تقيةً أو مداراةً، المهمّ الذي لا بدَّ أن لا ننكره هو أنَّ مبدئية التقيَّة إنسانية.
أمَّا فيما يخصُّ التقيَّة كعلامة ومبدأ بارز في التشيّع الإمامي الاثني عشـري، فإنَّ هذا البروز له دوافعه وأسبابه التي لولاها لما وصل إلينا تراث يسطر لنا حياة الأئمَّة (عليهم السلام) وأصحابهم ومن سار على نهجهم وفق هذا المنهج.
ففي زمن العبّاسيين وهم كما لا يخفى من بني هاشم، وتحديداً في زمن الإمام الصادق (عليه السلام) نلاحظ أنَّ حكّام الجور قد وضعوا حظـراً على الإمام الصادق (عليه السلام) ورقابةً شديدةً، بل وإنَّه استدعي عدَّة مرّات إلى بلاط الحكم نتيجةً لإيصال الوشاة أخباراً عنه وعن أتباعه بأنَّ لهم تحرّكات يريدون بها قلب النظام، وفي كلِّ مرَّة يُبرز الإمام (عليه السلام) لهم عكس ذلك، ولو لاحظنا بعض الروايات الشـريفة لوجدنا أنَّها تنقل لنا ذلك الواقع المؤلم في زمن الإمام الصادق (عليه السلام)، مع أن البعض يُصوِّر لنا أنَّ زمنه (عليه السلام) كان فيه انفراج وحرّية حركة(13) له (عليه السلام)، فإليك هذا النصّ الذي رواه الأشعري القمّي في المقالات والفِرَق حسب نقل كتاب (نشأة الشيعة الإماميَّة)(14)، حيث قال:
(وقد قال أبو عبد الله جعفر بن محمّد (الصادق) وهو ظاهر الأمر، معروف المكان، مشهور الولادة والذكر، لا يُنكر نسبه، شائع اسمه وذكره في الخاصِّ والعامِّ: (من سمّاني باسمي فعليه لعنة الله)، وقد كان الرجل من أوليائه وشيعته يلقاه في الطريق ويحيد عنه ولا يُسلِّم عليه تقيَّة)، فالمتأمِّل المتدبِّر في هذا النصّ يجد أنَّ هناك ظروفاً حرجة كان يعيشها الإمام الصادق (عليه السلام) تستدعي منه أن يأمر أصحابه بعدم السلام عليه أثناء مسيره في الطريق، بل إنَّنا نجد في بعض الروايات أنَّه يذمُّ من يُسلِّم عليه في الطريق كما في هذا النصّ(15): عن حمّاد بن واقد اللحّام، قال: استقبلت أبا عبد الله (عليه السلام) في طريق، فأعرضت عنه بوجهي، ومضيت فدخلت عليه بعد ذلك، فقلت: جُعلت فداك، إنّي لألقاك فأصـرف وجهي كراهة أن أشقَّ عليك. فقال لي: (رحمك الله! ولكن رجلاً لقيني أمس في موضع كذا وكذا فقال: عليك السلام يا أبا عبد الله، ما أحسن ولا أجمل) انتهى، ومعنى قوله: (ما أحسن ولا أجمل)، أي لم يفعل حسناً ولا جميلاً.
فهذا النصُّ يعكس لنا ذلك الواقع المرّ والمؤلم من جهة، ويعكس لنا الشدَّة والتشدّد الذي يتبعه سلاطين الجور من جهة أُخرى، ومن كليهما نستنتج أنَّ ما سيصلنا من تراث يحكي لنا بعض الوقائع لا بدَّ أن تعتريه حالة الخفاء والغموض حتَّى لا يطَّلع عليه من يجعله سبباً لأخذ الشيعة وأئمَّتهم.
هذا حال إمام نعتقد نحن في أيّامنا هذه أنَّه كان له من حرّية الحركة والتحرّك مجال لم يُعطَ لإمام سبقه أو أتى بعده، فكيف بنا إذا نظرنا إلى الواقع السياسي أو الاجتماعي الذي عاشه الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) مثلاً، حيث يروي لنا الكشّـي في رجاله(16) بإسناده عن هشام بن سالم، قال: كنّا في المدينة بعد وفاة أبي عبد الله (عليه السلام)، أنا ومؤمن الطاق وأبو جعفر، والناس مجتمعون على أنَّ عبد الله صاحب الأمر بعد أبيه، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق والناس مجتمعون عند عبد الله، وذلك أنَّهم رووا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّ الأمر في الكبير ما لم يكن به عاهة، فدخلنا نسأله عمَّا كنّا نسأل أباه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب؟ قال: في مائتين خمسة. قلنا: ففي مائة؟ قال: درهمان ونصف، قلنا: والله ما تقول المرجئة هذا! فرفع يده إلى السماء وقال: لا والله ما أدري ما تقول المرجئة! قال: فخرجنا من عنده ضلَّالاً، (تصوَّر معي هذا الحال الذي يمرُّ به خيرة أصحاب أهل البيت (عليهم السلام)، وتصوَّر بعدها شدَّة الفتنة والامتحان، ولتنتقل بذهنك لتصوّر ذلك الواقع المؤلم والمرّ من خلال المقاطع التي سنتلوها عليك، فلنتابع).
قال: فخرجنا من عنده ضلَّالاً لا ندري إلى أين نتوجَّه أنا وأبو جعفر الأحول، فقعدنا في بعض أزقَّة المدينة باكين حيارى، لا ندري إلى من نقصد وإلى من نتوجَّه!
نقول: إلى المرجئة، إلى القدرية، إلى الزيدية، إلى المعتزلة، إلى الخوارج...
قال: فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه يومئ إليَّ بيده، فخفت أن يكون عيناً (جاسوساً) من عيون أبي جعفر (المنصور الدوانيقي)، وذلك أنَّه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على من اتَّفق شيعة جعفر عليه الصلاة والسلام، فيضربون عنقه!
فخفت أن يكون منهم، فقلت لأبي جعفر: تنحَّ فإنّي خائف على نفسـي وعليك، وإنَّما يريدني وليس يريدك، فتنحَّ عنّي لا تهلك وتعين على نفسك، فتنحّى غير بعيد، وتبعت الشيخ، وذلك إنّي ظننت أنّي لا أقدر على التخلّص منه!
فما زلت أتبعه حتَّى ورد بي على باب أبي الحسن موسى (عليه السلام)، ثمّ خلَّاني ومضـى، فإذا خادم بالباب، فقال لي: أُدخل رحمك الله، فدخلت فإذا أبو الحسن (الكاظم عليه السلام)، فقال لي ابتداءً: (لا إلى المرجئة، ولا إلى القدرية، ولا إلى الزيدية، ولا إلى المعتزلة، ولا إلى الخوارج، إليَّ إليَّ إليَّ).
قال: فقلت له: جُعلت فداك، مضـى أبوك؟ قال: (نعم)، قلت: جُعلت فداك، من لنا بعده؟ فقال: (إن شاء الله أن يهديك هداك)، قلت: جُعلت فداك، إن عبد الله يزعم أنَّه من بعد أبيه، قال: (يريد عبد الله أن لا يعبد الله)، قال: قلت له: جُعلت فداك، فمن لنا بعده؟ فقال: (إن شاء الله أن يهديك هداك أيضاً)، قلت: جُعلت فداك، أنت هو؟ قال لي: (ما أقول ذلك)، (تأمَّل جيِّداً عبارة الإمام، ومن يخاطب، وتصوَّر الوضع الذي يعيشه الإمام وأصحابه في ذلك الزمان.
قلت في نفسـي: لم أصب طريق المسألة، قال: قلت: جُعلت فداك، عليك إمام؟ قال: (لا)، فدخلني شـيء لا يعلمه إلَّا الله إعظاماً له وهيبةً أكثر ممَّا كان يحلُّ بي من أبيه إذا دخلت عليه، قلت: جُعلت فداك، أسألك عمَّا كان يُسئَل أبوك؟ فقال: (سَلْ تُخبَر ولا تذع، فإن أذعت فهو الذبح)، فسألته فإذا هو بحر، قال: قلت: جُعلت فداك، شيعتك وشيعة أبيك ضلَّالاً! فألقي إليهم وأدعوهم إليك؟ فقد أخذت عليَّ بالكتمان، قال: (من أنست منهم رشداً فألق عليهم، وخذ عليهم بالكتمان، فإذا أذاعوا فهو الذبح - وأشار بيده إلى حلقه -).
قال: فخرجت من عنده، فلقيت أبا جعفر، فقال لي: ما وراءك؟ قال: قلت: الهدى، قال: فحدَّثته بالقصَّة، ثمّ لقيت المفضَّل بن عمر وأبا بصير، قال: فدخلوا عليه وسلَّموا وسمعوا كلامه وسألوه ثمّ قطعوا عليه، ثمّ قال: ثمّ لقيت الناس أفواجاً، فكان كلُّ من دخل عليه قطع عليه، (يعني قال: إنَّه الإمام).
ولننتقل إلى تصوير آخر يُصوِّر لنا نفس الفترة التي كان يعيشها الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) والشيعة آنذاك، فقد روى داود بن كثير الرقّي، قال: وفد من خراسان وفداً يُكنّى أبا جعفر، واجتمع إليه جماعة من أهل خراسان، فسألوه أن يحمل أموالاً ومتاعاً ومسائلهم في الفتاوى والمشاورة، فورد الكوفة، ونزل وزار أمير المؤمنين (عليه السلام)، ورأى في ناحية رجلاً حوله جماعة، فلمَّا فرغ من زيارته قصدهم، فوجدهم شيعةً فقهاء يسمعون من الشيخ، فقالوا: هو أبو حمزة الثمالي، قال: فبينما نحن جلوس إذ أقبل أعرابي فقال: جئت من المدينة، وقد مات جعفر بن محمّد (عليه السلام)، فشهق أبو حمزة، ثمّ ضـرب بيده الأرض، ثمّ سأل الأعرابي: هل سمعت له بوصيَّة، قال: أوصـى إلى ابنه عبد الله، وإلى ابنه موسى، وإلى المنصور، فقال: الحمد لله الذي لم يضلّنا، دلَّ على الصغير، وبيَّن على الكبير، وستر الأمر العظيم. ووثب إلى قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) فصلّى وصلّينا، ثمّ أقبلت عليه، وقلت له: فسِّـر لي ما قلته.
قال: بيَّن أنَّ الكبير ذو عاهة، ودلَّ على الصغير إذ أدخل يده مع الكبير، وستر الأمر العظيم بالمنصور، حتَّى إذا سأل المنصور: من وصيَّه؟ قيل: أنت. قال الخراساني: فلم أفهم جواب ما قاله(17).
إذن فحالة التقيَّة الشديدة التي نشأت نتيجةً لاستئثار الملوك بالسلطة، وخوفهم من القواعد الجماهيرية الموالية لأهل البيت (عليهم السلام)، كان لها أثر كبير في ضياع أو إجمال الكثير من الروايات والنصوص ذات الأثر المهمّ في سير الحركة الإسلاميَّة وتكاملها وفق منهج أهل البيت (عليهم السلام)، حتَّى أنَّ ممَّا كان يفعله الإمام (عليه السلام) حفاظاً على جمهوره وعلى المؤمنين المخلصين، هو إلقاء الخلاف بينهم، كي لا يُعرَفوا من خلال الرأي الواحد واتِّفاق الكلمة، وممَّا دل على ذلك ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: إنَّه ليس شـيء أشدّ عليَّ من اختلاف أصحابنا، قال (عليه السلام): (ذلك من قِبَلي)، أي بما أخبرتهم به من جهة التقيَّة وأمرتهم به للمصلحة(18).
وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن مسألة فأجابني، قال: ثمّ جاء رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثمّ جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلمَّا خرج الرجلان قلت: يا ابن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شيعتك قدما يسألان، فأجبت كلَّ واحدٍ منهما بغير ما أجبت به الآخر، قال: فقال: (يا زرارة، إنَّ هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم، لو اجتمعتم على أمر واحد لقصدكم الناس، ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم)، قال: فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام): شيعتكم لو حملتموهم على الأسنَّة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فسكت، فأعدت عليه ثلاث مرّات، فأجابني بمثل جواب أبيه(19).
وعن معاذ، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّي أجلس في المجلس، فيأتيني الرجل، فإذا عرفت أنَّه يخالفكم أخبرته بقول غيركم، وإن كان ممَّن يقول بقولكم أُخبره بقولكم، فإن كان ممَّن لا أدري أخبرته بقولكم وقول غيركم فيختار لنفسه، قال: (رحمك الله، هكذا فاصنع)(20).
الوضع والتحريف للنصوص مع عدم إمكان الردع عنه خارجاً:
خلال تتبّعنا لمجموعة من النصوص وجدنا أنَّ هناك مجموعة عوامل أوجبت حالة الوضع والدسِّ في كلِّ التراث الإسلامي، ومكابر من ينكر ذلك(21)، نعم تختلف هذه الحالة شدَّةً وضعفاً من تيّار إلى آخر ومن منهج إلى آخر، نعم يمتاز أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أنَّهم دائماً يراقبون تراثهم الروائي، ويعرضونه على المعصوم في عصـره كما حصل ذلك أبان عهد الأئمَّة المتأخِّرين من أهل البيت (عليهم السلام) ، أو يحاولون إخضاع الواصل إليهم إلى مناهج وقوانين محدَّدة من قِبَل أهل العصمة (عليهم السلام) لتحديد الموضوع المحرَّف من غيره، أو لتحديد الصادر في ظروف استثنائية عن الصادر في الأجواء والظروف الطبيعية والذي يُمثِّل المراد الحقيقي والجدّي لأهل البيت عليهم السلام.
وهذا لا يهمّنا كثيراً، وهو بحث أُشبع في محلِّه، المهمّ عندنا هنا أنَّ هناك ظروفاً أدَّت إلى وجود موضوعات في الحديث، وأنَّ هناك من كان يكذب على أهل البيت (عليهم السلام) بدوافع متعدِّدة، ولكي نعكس هذه الصورة للقارئ، ونجعله في أجواء ذلك العصـر نعرض مجموعة من النصوص نقف من خلالها على أجواء عصور الأئمَّة (عليهم السلام)، حتَّى نفهم ما هي الطريقة التي كان يوصل بها الأئمَّة (عليهم السلام) تراثهم إلى أتباعهم، وهذه نقطة جديرة بالاهتمام، لأنَّ الكثير ينتقدنا بكثرة تهافت النصوص - البدوي - في تراثنا، فمن يفهم طريقة أهل البيت (عليهم السلام) أعتقد أنَّ بإمكانه أن يجد الحلول الناجعة والموضوعية لكثير ممَّا يلتبس عليه، بخلاف من لم يكن في أجواء طريقة أهل البيت (عليهم السلام) ومنهجهم.
المهمّ أترك القارئ مع مجموعة من النصوص يعيش في أجوائها، وينتقل من خلالها لفهم المنهج الإلهي لهذه الفرقة المسدَّدة حرسها الله تعالى، وأُؤكِّد على أن تكون دراسة هذا المنهج المبارك من خلال المجموع لا من خلال التجزئة واقتطاع نصوص محدَّدة، أو مقطع زمني محدَّد، أو موقف محدَّد، بل الدراسة لكي تكون مفيدة وناجحة لا بدَّ أن تكون شاملة وشمولية لكلِّ التراث النبوي والولوي، حتَّى يتمكَّن الدارس من خلالها الوصول إلى مرادات أهل البيت (عليهم السلام)، ويقف على حقيقة هذا المنهج.
فعن يونس بن عبد الرحمن أنَّ بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر، فقال له: يا أبا محمّد، ما أشدّك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على ردِّ الأحاديث؟ فقال: حدَّثني هشام بن الحكم أنَّه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (لا تقبلوا علينا حديثاً إلَّا ما وافق القرآن والسُّنَّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدِّمة، فإنَّ المغيرة بن سعيد لعنه الله دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يُحدِّث بها أبي، فاتَّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربِّنا تعالى وسُنَّة نبيِّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فإنّا إذا حدَّثنا قلنا: قال الله (عزَّ وجلَّ)، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، قال يونس: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام)، ووجدت أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم، فعرضتها بعدُ على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله (عليه السلام)، وقال لي: (إنَّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد الله (عليه السلام)، لعن الله أبا الخطّاب، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام)، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنّا إن تحدَّثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السُّنَّة، إنّا عن الله وعن رسوله نُحدِّث، ولا نقول: قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا، إن كلام آخرنا مثل كلام أوَّلنا، وكلام أوَّلنا مصداق لكلام آخرنا، وإذا أتاكم من يُحدِّثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه، وقولوا: أنت أعلم وما جئت به، فإنَّ مع كلِّ قول منّا حقيقة وعليه نور، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك قول الشيطان)(22).
وعن يونس، عن هشام بن الحكم أنَّه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (كان المغيرة بن سعيد يتعمَّد الكذب على أبي (عليه السلام)، ويأخذ كتب أصحابه، و كان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدسُّ فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي (عليه السلام)، ثمّ يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يبثّوها في الشيعة، فكلُّ ما كان في كتب أصحاب أبي (عليه السلام) من الغلوِّ، فذاك ممَّا دسَّه المغيرة بن سعيد في كتبهم)(23).
ظاهرة الانحراف وأثرها السلبي على التراث العقائدي والتاريخي:
ظاهرة الانحراف ظاهرة طبيعية لم ينفرد بها أتباع مذهب أو ملَّة عن بقيَّة المذاهب والملل، فأيّ مراجعة في هذا المجال تكشف عن أنَّ كل المذاهب والديانات سواء ما كان منها إلهية أو أرضية، بل وحتَّى المذاهب الاجتماعية قد أُوجدت فيها الظروف السياسية أو الاجتماعية، انحرافات عن المسار الذي وضعه مؤسِّسوا المذهب أو الدين أو الملَّة.
وأسباب الانحراف كثيرة جدّاً، ويمكن أن نحصـر عموماتها بالدوافع الخارجية والداخلية، فمثلاً من بين أهمّ دواعي الانحراف وجود مصالح فردية يقصدها من يقوم بالانحراف، وهذا ما يُعبَّر عنه كثيراً بالدافع المصلحي من وراء الانحراف، اما الدوافع الخارجية للانحراف فهي ما تأتي غالباً من سلطات متنفذة تهدف إلى زعزعة اجتماع فئة معينة أو مذهب معين أو دين معين.
وبحثنا هنا لا يُسلِّط الضوء على أسباب الانحراف بقدر ما نريد أن نُصوِّر للقارئ الكريم أنَّ مسألة الانحراف ليست كما يُصوِّرها لنا البعض(24) من أنَّ هناك انحرافاً كبيراً في صفوف الشيعة بعد شهادة كلِّ إمام من أئمَّتهم، وأنَّ هذه الانحرافات إن صحَّ إطلاق الظاهرة عليها - وهو بعيد جدّاً - فهي إنَّما نشأت عن شرذمة طامعة تقصد من خلال إيجاد الفرقة في صفِّ المذهب الحصول على مكاسب ومنافع آنية، وهؤلاء المتشـرذمون لا يمكن أن يكونوا بحال من الأحوال في كفَّة تجعلهم مقابل من ثبت وتمسَّك بمنهج أهل البيت (عليهم السلام)، فمثلاً الكيسانية لا يمكن أن نعدّها مذهباً في مقابل من تمسَّك بأهل البيت (عليهم السلام) وثبت على إمامة الأئمَّة (عليهم السلام) من ولد الحسين (عليه السلام)، وهذا ما يحاول البعض أن يوحيه للقرّاء، إذ يُعدِّد الفِرَق الشيعية، ويحاول أن يُوسِّع دائرتها ويجعلها في قبال من ثبت على إمامة الأئمَّة المنصوص عليهم (عليهم السلام)، مع أنَّ الواقع يُصوِّر لنا عكس هذا الادِّعاء تماماً ومن كتب مخالفينا - الذين يحاولون من خلال كتاباتهم تسجيل ما من شأنه إبعاد القرّاء عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) -، فمراجعة كتب المخالفين تُثبت أنَّ هذه الشـرذمة المنحرفة عن خطِّ أهل البيت (عليهم السلام) هي على طول خطِّ الإمامة وليست حالة برزت بعد إمام واحد حتَّى تصحَّ مقابلتها مع من ثبت على إمامة الأئمَّة (عليهم السلام).
ولمزيد من الإنصاف، وحتَّى نُعطي للقارئ تصويراً موضوعياً منصفاً، فإنَّ حالات الانحراف التي وقعت فيمن ينتحلون مذهب أهل البيت (عليهم السلام) إنَّما كانت مناشؤها محصورة بين الدوافع المصلحية الذاتية، والدافع الخارجي السلطوي - أي ترغيباً او ترهيبا - ليكونوا أداة للانحراف، وفي النصوص التي تحدَّثنا عنها فيما سبق ( تحت الهامش 12)، وبالخصوص ذلك النصّ الذي يقول: (إنَّنا ما أخذنا العطاء حتَّى شهدنا على علي بالنفاق وتبرَّأنا منه)، فإنَّ هذا النصّ يعكس لنا وضوح أنَّ هناك أيدٍ سلطوية ومنافع شخصية هي كانت المسبَّب الرئيس وراء وقوع بعض الشـرذمة في شباك الانحراف عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، اما مذاهب العامَّة، فهي بالاساس وليدة السلطة الحاكمة، ومع ذلك نجد العشـرات من الفِرَق التي تفرَّق إليها أبناء العامَّة إلى مذاهب وملل ونحل، ولست في صدد بيان تفاصيل ذلك وخصوصياته ومفرداته، وإنَّما هنا أُشير إشارة سريعة مقتضبة إلى عدد ما تفرَّق إليه أبناء العامَّة، وأعتمد فيما أذكر على كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني، ولمن طلب الازدياد والتوسعة والاستقصاء فعليه بمراجعة الكتاب المذكور والمصادر التالية:
كتاب (الفِرَق بين الفِرَق) لعبد القاهر البغدادي، وكتاب (مقالات الإسلاميّين) للأشعري، وكتاب (الفصل في الملل) لابن حزم، وكتاب (التحف في مذاهب السلف) للشوكاني، وكتاب (افتراق الأُمَّة) للصنعاني، وغيرها من المصادر الأُخرى. ومن بين هذه المذاهب: الواصلية، والهذيلية، والنظّامية، والخابطية، والحديثية، والبِشْـرية، والمعمّرية، والمردارية، والثمّامية، والهاشمية، والجاحظية، والجبائية، والبهشمية، والجهمية، والنجّارية، والضـرارية، والأشعرية، والمشبِّهة، والكرّامية، والمرجئة، والأزارقة، والعابرية، والبيهسية، والعجاردة، والصلتية، والخلفية، والحمزية، والثعالبة، والإباظية، والحفصية، والصفرية الزيادية، واليونسية، والعبدية، والغسّانية، والثوبانية، والتومنية، والصالحية، وغيرها من المذاهب التي تأسَّست حديثاً كالسلفية والوهّابية والعشـرات، بل المئات. وما عليك سوى مراجعة ما أشرنا عليك به من مصادر لتقف عليه مفصَّلاً.
إذن فمسألة الافتراق والتعدّدية في داخل المذهب الواحد هي حالة عامَّة، ونشأت عند غيرنا بوضوح ودون دوافع موضوعية، بينما نشأت عند شرذمة من اتباع أهل البيت (عليهم السلام) لأسباب موضوعية، منها الظرف الذي كان يعيشه أتباع هذا المذهب المضطهَد، وخفاء النصوص عليهم - مع عدم سعيهم لتحصيل المؤمن منها - التي من خلالها يتوصَّلون إلى الإمام الحقِّ، وقد تحدَّثنا فيما سبق من حديث وحاولنا أن نُقرِّب ونُصوِّر تلك الأجواء التي كان يعيشها أتباع هذا المذهب حرسهم الله، وكيف كان حال التقيَّة شديداً، وحال الاتِّصال بالإمام حرجاً، فهذه العوامل والأسباب لها مدخلية كبيرة في التفرّق عند من التبس عليه الأمر.
هذا وإذا ضممنا إلى هذه العوامل عاملاً آخر، وهو وجود أُناس ذوي مصالح أو أُناس مندسّين من قِبَل السلطات الجائرة، الهدف منه هو تفريق الجمهور عن الإمام، فبمجموع هذه العوامل ينبغي لنا أن لا نستوحش ونستغرب ما حصل عند ذوي النفوس الضعيفة والمتريِّنة - تلك القلوب التي ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون -.
ومن الطبيعي أن توجد وتكون هذه الأُمور التي تحدَّثنا عنها بمجموعها حالة من الضبابية والغموض - عند هذا البعض - تجاه آخر أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) وهو الإمام المهدي (عليه السلام)، حيث إنَّ الظروف السياسية والظروف الاجتماعية والظروف النفسية التي كانت تعيشها الأُمَّة توجب أن تكون حالة الخفاء والكتمان والتقيَّة شديدة جدّاً وبارزة وواضحة، وهذا ما يُؤثِّر سلباً على المصادر التي ستصل إلينا لاحقاً، والتي بموجبها نتعرَّف على الأدلَّة والنصوص الشـرعية التي نصَّت على إمامة الإمام الثاني عشر (عليه السلام).
ورغم هذا الجوّ الموبوء، وهذه البيئة المتزلزلة، والأحوال الغامضة، والتشدّد والخوف، إلَّا أنَّه قد وصل إلينا من النصوص والأحاديث ما تواتر في دلالته على ولادته (عليه السلام)، سواء ما كان منها نصوصاً على صعيد الأدلَّة التاريخية، أو على صعيد الأدلَّة العامَّة، والتي سوف نقف عندها مفصَّلاً في ثنايا أبحاثنا الآتية.
بعد البيانات السابقة لتأثير الظروف السياسية التي عاشها النصّ يتَّضح جليّاً مدى مدخلية تلك الظروف في ضبابية وعدم وضوح الصورة في قضيَّة ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)، ولمزيد من التوضيح نقرأ مجموعة من النصوص التي أكَّدت على أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) تُخفى ولادته ويُخمَل ذكره، وهذه كلّها نصوص عن أئمَّة سبقوا عصـر الولادة، وتحدَّثوا عنها بخصوصيات معيَّنة وقعت كما هي.
ومن تلك النصوص:
ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّ الشيعة قالت له يوماً: أنت صاحبنا الذي يقوم بالسيف؟ قال: (لست بصاحبكم، أُنظروا من خفيت ولادته، فيقول قوم: وُلِدَ، ويقول قوم: ما وُلِدَ، فهو صاحبكم)(25).
وعن أيّوب بن نوح، قال: قلت للرضا (عليه السلام): إنّا لنرجو أن تكون صاحب هذا الأمر، وأن يردّه الله (عزَّ وجلَّ) إليك من غير سيف، فقد بويع لك وضُرِبَت الدراهم باسمك، فقال: (ما منّا أحد اختلفت إليه الكتب، وسُئِلَ عن المسائل، وأشارت إليه الأصابع، وحُمِلَت إليه الأموال إلَّا اغتيل أو مات على فراشه، حتَّى يبعث الله (عزَّ وجلَّ) لهذا الأمر رجلاً خفيّ المولد والمنشأ غير خفيّ في نسبه)(26).
وعن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إنَّ للقائم (عليه السلام) غيبة قبل أن يقوم)، فقلت: ولِـمَ؟ قال: (يخاف - وأومى بيده إلى بطنه -)، ثمّ قال: (يا زرارة، وهو المنتظر، وهو الذي يُشَكُّ في ولادته، فمنهم من يقول: مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: غائب، ومنهم من يقول: وُلِدَ قبل وفاة أبيه بسنين، وهو المنتظر (عليه السلام) غير أنَّ الله (جلَّ جلاله) يُحِبُّ أن يمتحن قلوب الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون يا زرارة)، قال زرارة: قلت: جُعلت فداك، إن أدركت ذلك الزمان أيَّ شيء أعمل؟ قال (عليه السلام): (يا زرارة، متى أدركت ذلك الزمان فلتدعُ بهذا الدعاء: اللّهمّ عرِّفني نفسك، فإنَّك إن لم تُعرِّفني نفسك لم أعرف نبيَّك، اللّهمّ عرِّفني رسولك فإنَّك إن لم تُعرِّفني رسولك لم أعرف حجَّتك، اللّهمّ عرِّفني حجَّتك فإنَّك إن لم تُعرِّفني حجَّتك ضللت عن ديني...)(27).
ثمّ قال الشيخ النعماني معلِّقاً على جملة من النصوص التي رواها بهذا الصدد في (ص 189):
(اليس في هذه الأحاديث - يا معشـر الشيعة - ممَّن وهب الله تعالى له التمييز وشافي التأمّل والتدبّر لكلام الأئمَّة (عليهم السلام) بيان ظاهر، ونور زاهر؟
هل يوجد أحد من الأئمَّة الماضين (عليهم السلام) شُكَّ في ولادته، واختُلِفَ في عدمه ووجوده، ودانت طائفة من الأُمَّة به في غيبته، ووقعت الفتن في الدين في أيّامه، وتحيَّر من تحيَّر في أمره، وصـرَّح أبو عبد الله (عليه السلام) بالدلالة عليه بقوله: (إذا توالت ثلاثة أسماء: محمّد وعلي والحسن كان رابعهم قائمهم)، إلَّا هذا الإمام (عليه السلام) الذي جُعلَ كمال الدين به وعلى يديه، وتمحيص الخلق وامتحانهم وتمييزهم بغيبته، وتحصيل الخاصّ الخالص الصافي منهم على ولايته بالإقامة على نظام أمره والإقرار بإمامته، وإدانة الله بأنَّه حقٌّ، وأنَّه كائن، وأنَّ أرضه لا تخلو منه وإن غاب شخصه، تصديقاً وإيماناً وإيقاناً بكلِّ ما قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين والأئمَّة (عليهم السلام) وبشَّروا به من قيامه بعد غيبته بالسيف عند اليأس منه؟
فليتبيَّن متبيِّن ما قاله كلّ واحد من الأئمَّة (عليهم السلام) فيه، فإنَّه يعينه على الازدياد في البيان، ويلوح منه البرهان.
جعلنا الله وإخواننا جميعاً أبداً من أهل الإجابة والإقرار، ولا جعلنا من أهل الجحود والإنكار، وزادنا بصيرةً ويقيناً وثباتاً على الحقِّ وتمسّكاً به، فإنَّه الموفِّق المسدِّد المؤيِّد) انتهى.
وهنا قد تبيَّن لك جليَّاً تأثير هذه العوامل في خفاء الولادة للمخلِّص المنتظَر، فلو أنَّ عاقلاً نظر بتدبّر أنَّه لو كان شخص قد ابتلي بواحدة من هذه العوامل، هل يا تُرى نسمع عن ذكره أو نعرف مولده؟! مع أنَّنا نجد - ممَّا ستقف عليه مفصَّلاً - كلّ الأدلَّة المتنوِّعة التي تدلُّ على ولادته رغم كلّ هذه الظروف الحرجة، فأيُّ إعجاز هذا؟
ثالثاً: بحث الروايات الدالّة على الولادة:
وأعتمد هنا في إيراد روايات المصادر الأوَّلية من كتبنا المعتمدة كــ (كتاب الكافي للشيخ الكليني، وكتاب الغيبة للشيخ الطوسي، وكتاب كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق، وكتاب الإمامة والتبصرة لابن بابويه القمّي).
وحيث سنذكر في بحث أقوال علماء الإماميَّة في الولادة قول الشيخ أبي الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (ت 329هـ) في كتابه (الإمامة والتبصرة)، فنستغني بما سنذكر هناك عنه هنا.
روايات الولادة في كتاب الكافي للشيخ الكليني:
باب مولد الصاحب (عليه السلام):
وُلِدَ (عليه السلام) للنصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين. وفي هذا الباب يُوجَد (31) رواية، نأخذ منها حسب الترقيم مجموعة ونترك الباقي روماً للاختصار، ومن يُحِبُّ التزوّد عليه مراجعة المصدر:
1 - الحسين بن محمّد الأشعري، عن معلّى بن محمّد، عن أحمد بن محمّد، قال: خرج عن أبي محمّد (عليه السلام) حين قُتِلَ الزبيري وقال: (هذا جزاء من افترى على الله في أوليائه، زعم أنَّه يقتلني وليس لي عقب، فكيف رأى قدرة الله؟)، ووُلِدَ له ولد سمّاه (م ح م د) سنة ستّ وخمسين ومائتين(28).
30 - الحسين بن الحسن العلوي، قال: كان رجل من ندماء روزحسني، وآخر معه، فقال له: هو ذا يجبي الأموال وله وكلاء، وسمّوا جميع الوكلاء في النواحي، وأنهى ذلك إلى عبيد الله بن سليمان الوزير، فهمَّ الوزير بالقبض عليهم، فقال السلطان: أُطلبوا أين هذا الرجل فإنَّ هذا أمر غليظ، فقال عبيد الله بن سليمان: نقبض على الوكلاء، فقال السلطان: لا، ولكن دسّوا لهم قوماً لا يُعرَفون بالأموال، فمن قبض منهم شيئاً قُبِضَ عليه، قال : فخرج بأن يتقدَّم إلى جميع الوكلاء أن لا يأخذوا من أحد شيئاً، وأن يمتنعوا من ذلك ويتجاهلوا الأمر ، فاندسَّ لمحمّد بن أحمد رجل لا يعرفه، وخلا به فقال: معي مال أُريد أن أُوصله، فقال له محمّد: غلطت، أنا لا أعرف من هذا شيئاً، فلم يزل يتلطَّفه ومحمّد يتجاهل عليه، وبثوا الجواسيس، وامتنع الوكلاء كلّهم لما كان تقدَّم إليهم(29).
ذكر الشيخ المجلسـي في (مرآة العقول) - وهو كتاب يشـرح فيه روايات كتاب الكافي للشيخ الكليني - الجزء السادس باب مولد الصاحب (عليه السلام): (إنَّ الأحاديث الصحيحة في هذا الباب بلغت عشـرة أحاديث) انتهى، والانصاف يقتضـي أكثر من ذلك، لأنَّ المناهج في تصحيح الأحاديث مختلفة، وهذا الباب ليس باب تقليد كما هو غير خفي على أهل الفنِّ، بل سنُثبت فيما بعد أنَّ أخبار هذا الباب بلغت التواتر.
* * *
روايات الولادة وذكر من شاهد الحجَّة القائم (عليه السلام) من كتاب كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق:
قال ما نصّه: (باب ما روي في ميلاد القائم صاحب الزمان حجَّة الله ابن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم) انتهى.
ونتعامل مع رواياته كما تعاملنا مع كتاب الكافي لنفس السبب.
حدَّثنا محمّد بن علي ماجيلويه، ومحمّد بن موسى بن المتوكّل، وأحمد بن محمّد بن يحيى العطّار (رضي الله عنهم)، قالوا: حدَّثنا محمّد بن يحيى العطّار، قال: حدَّثني إسحاق بن رياح البصـري، عن أبي جعفر العمري، قال: لـمَّا وُلِدَ السيِّد (عليه السلام) قال أبو محمّد (عليه السلام): (ابعثوا إلى أبي عمرو)، فبُعِثَ إليه، فصار إليه، فقال له: (اشتر عشـرة آلاف رطل خبز، وعشـرة آلاف رطل لحم وفرِّقه - أحسبه قال: على بني هاشم -)، وعقَّ عنه بكذا وكذا شاة(30).
وأحاديث الباب (16) حديثاً.
ثمّ ذكر الشيخ الصدوق باباً آخر بعنوان: باب ذكر من هنَّأ أبا محمّد الحسن بن علي (عليه السلام) بولادة ابنه القائم (عليه السلام)، وذكر فيه حديثاً واحداً هو التالي:
حدَّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا محمّد بن الحسن الكرخي، قال: حدَّثنا عبد الله بن العبّاس العلوي، قال: حدَّثنا أبو الفضل الحسن بن الحسين العلوي، قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن علي عليهما السلام بسُـرَّ من رأى فهنَّأته بولادة ابنه القائم (عليه السلام).
ثمّ ذكر باباً آخر بعنوان: (باب ذكر من شاهد القائم (عليه السلام) ورآه وكلَّمه)، وفيه من الأحاديث (26) حديثاً(31).
هذا ما يتعلَّق بكتاب كمال الدين.
روايات الولادة ومن تشرَّف برؤيته (عليه السلام) من كتاب الغيبة للشيخ الطوسي:
حيث قال في (ص 228) ما نصّه: (فصل: فأمَّا الكلام في ولادة صاحب الزمان (عليه السلام) وصحَّتها فأشياء اعتبارية وأشياء إخبارية، فأمَّا الاعتبارية فهو أنَّه إذا ثبت إمامته بما دلَّلنا عليه من الأقسام - التي ذكرها في كتاب الغيبة -، وإفساد كلِّ قسم منها إلَّا القول بإمامته ثبت إمامته، وعلمنا بذلك صحَّة ولادته وإن لم يرد فيه خبر أصلاً. وأيضاً ما دلَّلنا عليه من أنَّ الأئمَّة اثنا عشـر يدلُّ على صحَّة ولادته، لأنَّ العدد لا يكون إلَّا لموجود. وما دلَّلنا على أنَّ صاحب الأمر لا بدَّ له من غيبتين يُؤكِّد ذلك، لأنَّ كلَّ ذلك مبنيٌّ على صحة ولادته. وأمَّا تصحيح ولادته من جهة الأخبار، فسنذكر في هذا الكتاب طرفاً ممَّا روي فيه جملةً وتفصيلاً، ونذكر بعد ذلك جملة من أخبار من شاهده ورآه، لأنَّ استيفاء ما روي في هذا المعنى يطول به الكتاب) انتهت عبارة الكتاب.
وأنت تلاحظ أنَّها كافية وافية أغنتنا عن سرد الأخبار التي رواها إثباتاً لولادته ميلاً للاختصار، ومن أراد الازدياد فعليه بالرجوع إلى كتاب الغيبة لشيخ الطائفة أعلى الله مقامه.
فقط أكتفي بنقل هذا الخبر - تشرفاً - من هذا الكتاب الدالّ على الولادة، وعلى منهج قويم وضعه أهل البيت (عليهم السلام) في الظروف الصعبة، فعن محمّد بن جعفر الأسدي، قال: حدَّثني أحمد بن إبراهيم، قال: دخلت على حكيمة بنت محمّد بن علي الرضا عليهما السلام سنة اثنتين وستّين ومائتين، فكلَّمتها من وراء حجاب، وسألتها عن دينها، فسمَّت لي من تأتمُّ بهم، قالت: فلان ابن الحسن، فسمَّته. فقلت لها: جعلني الله فداكِ، معاينةً أو خبراً؟ فقالت: خبراً عن أبي محمّد (عليه السلام) كتب به إلى أُمِّه. قلت لها: فأين الولد؟ قالت: مستور، فقلت: إلى من تفزع الشيعة؟ قالت: إلى الجدَّة أُمّ أبي محمّد (عليه السلام) ، فقلت: (أقتدي) بمن وصيَّته إلى امرأة؟ فقالت: اقتد بالحسين بن علي (عليهما السلام) أوصى إلى أُخته زينب بنت علي (عليهما السلام) في الظاهر، وكان ما يخرج من علي بن الحسين (عليهما السلام) من علم يُنسَب إلى زينب ستراً على علي بن الحسين (عليهما السلام). ثمّ قالت: إنَّكم قوم أصحاب أخبار، أمَا رويتم أنَّ التاسع من ولد الحسين (عليه السلام) يُقسَّم ميراثه وهو في الحياة(32)؟
في ذكر جملة من عدَّتهم الأخبار فيمن رأوا الحجَّة بن الحسن (عليه السلام) وعايشوه، ونحن نذكر بعضاً منهم روماً للاختصار:
1 - أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري.
2 - أحمد بن الحسين بن عبد الملك الأزدي.
3 - تسعة وثلاثون رجلاً من بينهم أحمد بن عبد الله الهاشمي.
4 - ثلاثون رجلاً من بينهم إبراهيم بن محمّد بن أحمد الأنصاري.
5 - ثلاثون رجلاً من بينهم أبو نعيم الأنصاري.
6 - جعفر عمّ الإمام المهدي (عليه السلام).
7 - جعفر بن محمّد بن عمرو، وجماعة.
8 - الحسن بن وجناء النصيبي.
9 - الحسين بن روح أبو القاسم.
10 - حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام).
11 - علي بن إبراهيم بن مهزيار.
12 - علي بن بلال البغدادي، الراوي عن أبي الحسن الثالث، ومعه أحمد بن هلال العبرتائي، والحسن بن أيّوب بن نوح، والشيخ العمري.
13 - محمّد بن أحمد المحمودي أبو علي، ومعه جماعة.
14 - السيِّد العلوي الموسوي محمّد بن إسماعيل بن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام).
15 - محمّد بن أيّوب بن نوح، ومعه محمّد بن عثمان العمري، ومعاوية بن حكيم، إلى تمام أربعين رجلاً.
16 - محمّد بن جعفر أبو العبّاس الحميري، ومعه وفد من قم.
17 - أبو محمّد الدعلجي من خيار أصحاب الراوندي.
18 - محمّد بن شاذان الكابلي أبو عبد الله شاذان النيسابوري.
19 - محمّد بن القاسم.
20 - محمّد بن معاوية بن حكيم، ومعه جماعة.
وغيرهم كثير جدّاً، فقد ذكر الشيخ الصدوق أنَّ هناك الكثير من أهالي المدن قد رآه (عليه السلام) سواء من كانوا من الوكلاء أو من غيرهم، فقد رآه من أهل آذربيجان، ومن الأهواز، ومن بغداد، ومن الكوفة، ومن قم، ومن نيسابور، ومن همدان، ومن أهل أصفهان، ومن الدينور، ومن الري، ومن قزوين، ومن مصـر، ومن نصيبين، ومن همذان، ومن اليمن، ومن شهر زور، ومن الصيمرة، ومن فارس، وقابس، ومرو، وغيرها.
يراجع لذلك كمال الدين (ج 2/ ص 442/ باب 16 و43)، وبحار الأنوار (ج 52).
أنَّ هناك الكثير ممَّن كتبوا وصنَّفوا فيمن رآه، بحيث بلغت من الكثرة ما يصعب معها الإحصاء، ومن بين المصنَّفات التي كُتِبَت في هذا الباب:
1 - بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي.
2 - تبصرة الوليّ فيمن رآى المهدي (عليه السلام) للبحراني.
3 - النجم الثاقب وجنَّة المأوى للنوري.
4 - دار السلام فيمن فاز بسلام الإمام للشيخ الميثمي العراقي.
5 - بدائع الكلام فيمن اجتمع بالإمام للسيِّد اليزدي الطباطبائي.
6 - إلزام الناصب في إثبات الحجَّة الغائب للشيخ الحائري اليزدي.
7 - البهجة فيمن فاز بلقاء الحجَّة (عليه السلام) للميرزا الألماسي.
8 - العبقري الحسان في تواريخ صاحب الزمان للشيخ النهاوندي.
9 - اللقاء مع صاحب الزمان (عليه السلام) للسيِّد حسن الأبطحي.
وغيرها ممَّا صُنِّف في هذا الباب.
رابعاً: بحث الروايات المعارضة:
أثناء بحثنا في قضيَّة ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) لم نجد هناك نصوصاً صريحة تدلُّ على عقم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) من طرقنا أو من طرق غيرنا، ولم نجد كذلك روايات تُصـرِّح بأنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) سوف يُولَد في آخر الزمان، بل ولم نجد روايات تُصـرِّح وتُدلِّل على أنَّ الإمام لم يُولَد بعد.
نعم هناك أقوال لعلماء من أبناء العامَّة قالوا بأنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) مات عقيماً، ولم يُقدِّموا لنا دلائل على ذلك لا من طرقهم ولا من طرقنا، بل إنَّ هذه الأقوال معارضة بأقوال أُخرى لكبار علماء أبناء العامَّة صـرَّحوا فيها بولادة الإمام المهدي (عليه السلام) وانتسابه وبنوَّته للإمام الحسن العسكري عليهما السلام، وهذا ما يُشكِّل بحدِّ ذاته رفضاً وإسقاطاً للأقوال التي تقول بعقم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
نعم هناك من خوارج العصـر من يريد أن يُشكِّك في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) من خلال الطعن بولادة الإمام المهدي (عليه السلام) اعتماداً على بعض المتشابهات في رواية واحدة فقط، يريد هذا البعض أن يوهم من خلالها أنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لم يكن له ولد ظاهر، وأنَّه كُبِسَ على بيته أثناء مرضه وبعد وفاته ولم يُعثَر له على ولد، وأنَّ ميراثه قد قُسِّم بين عمِّه وأُمِّ الإمام الحسن العسكري، وجملة من هذه التوهّمات والتخرّصات سوف نقف عندها في بحث مفصَّل عنوناه بالفصل الثاني الذي يتحدَّث عن الإشكالات الدائرة موضوعاتها حول الولادة وأجوبتها، وهناك سوف نتحدَّث مفصَّلاً عن جملة هذه الإشكالات.
خامساً: بحث التواتر:
لا يخفى على من له أدنى معرفة أنَّ من قال بتواتر غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) فهو قائل بتواتر ولادته (عليه السلام)، وذلك لوضوح التلازم بين القول بالغيبة وبين لزوم القول بالولادة، فإنَّه لا معنى لأن يقول عالم من علماء الإماميَّة بأنَّ غيبة الإمام (عليه السلام) قد تواترت أخبارها وفي نفس الوقت لا يقول بولادته (عليه السلام)، بل إنَّنا من خلال تتبّع كلمات علمائنا وجدنا أنَّ أغلبهم يُفرِّع بحث الغيبة على بحث الولادة، فهذا هو الشيخ الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة، والشيخ الطوسي في غيبته، والشيخ الكليني في الكافي، يُفرِّعون الحديث عن الغيبة بعد أن يفرغوا من الحديث عن الولادة.
إذاً فكلُّ من قال من علمائنا الماضين رحمهم الله تعالى وأسكنهم فسيح جنّاته بتواتر الغيبة، فهم قائلون بتواتر الولادة بلا شكٍّ، فضلاً عن أنَّ هناك أقوالاً صريحة بالولادة، وبمجموع الأقوال كلّها يحصل عندنا تواتر بنقل التواتر.
وهنا لا بدَّ أن نذكر ونُنبِّه على أنَّ هناك عنصـراً آخرا لا بدَّ أن لا نغفله في تحصيل التواتر، هو روايات العلامات التي هي كثيرة جدّاً وتتحدَّث عن الظهور لا الولادة بعد حدوثها، وقد أشار إلى هذا العنصر جملة من علمائنا الماضين، فتنبَّه له ولا تغفله.
وإليك جملة من أقوال علمائنا القائلين بتواتر الغيبة، وأقوال علمائنا القائلين بتواتر الولادة:
وسيأتي الكلام في بيان أنَّ هذه الغيبة قد أشار لها بأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).
1. ففي كتاب الغيبة للنعماني يقول: (هذه الروايات التي قد جاءت متواترة تشهد بصحَّة الغيبة...)(33).
وفيه يقول: (وإلى قولهم: (وأخملنا ذكراً) يشيرون بخمول ذكره (عليه السلام) إلى غيبة شخصه واستتاره (عليه السلام)، وإذا جاءت الروايات متَّصلة متواترة بمثل هذه الأشياء قبل كونها، وبحدوث هذه الحوادث قبل حدوثها، ثمّ حقَّقها العيان والوجود، فوجب أن تزول الشكوك عمَّن فتح الله قلبه ونوره وهداه وأضاء له بصره)(34).
وفيه يقول: (هذه العلامات التي ذكرها الأئمَّة (عليهم السلام) مع كثرتها واتِّصال الروايات بها وتواترها واتِّفاقها موجبة ألَّا يظهر القائم (عليه السلام) إلَّا بعد مجيئها...)(35).
2. وفي الغيبة للشيخ الطوسي يقول: (... والأخبار في هذا المعنى [الغيبة] أكثر من أن تُحصـى ذكرنا طرفاً منها لئلَّا يطول به الكتاب...، على أنَّ هذه الأخبار متواتر بها لفظاً ومعنىً. فأمَّا اللفظ فإنَّ الشيعة تواترت بكلِّ خبر منه، و(أمَّا) المعنى فإنَّ كثرة الأخبار واختلاف جهاتها وتباين طرقها وتباعد رواتها، يدلُّ على صحَّتها، لأنَّه لا يجوز أن يكون كلّها باطلة)(36).
3. وفي كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق يقول: (فالتصديق بالأخبار يوجب اعتقاد إمامة ابن الحسن (عليه السلام) على ما شرحت، وأنَّه قد غاب كما جاءت الأخبار في الغيبة، فإنَّها جاءت مشهورة متواترة، وكانت الشيعة تتوقَّعها وتترجّاها كما ترجون بعد هذا من قيام القائم (عليه السلام) بالحقِّ وإظهار العدل. ونسأل الله (عزَّ وجلَّ) توفيقاً وصبراً جميلاً برحمته)(39).
وفيه يقول: (وقد أخرجت ما حضـرني من الأخبار المسندة في الغيبة في هذا الكتاب في مواضعها، فلا يخلو حال هؤلاء الأتباع المؤلِّفين للكتب أن يكونوا علموا الغيب بما وقع الآن من الغيبة، فألَّفوا ذلك في كتبهم ودوَّنوه في مصنَّفاتهم من قبل كونها، وهذا محال عند أهل اللُّبِّ والتحصيل، أو أن يكونوا (قد) أسَّسوا في كتبهم الكذب فاتَّفق الأمر لهم كما ذكروا وتحقَّق كما وضعوا من كذبهم على بعد ديارهم واختلاف آرائهم وتباين أقطارهم ومحالّهم، وهذا أيضاً محال كسبيل الوجه الأوَّل، فلم يبقَ في ذلك إلَّا أنَّهم حفظوا عن أئمَّتهم المستحفظين للوصيَّة (عليهم السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من ذكر الغيبة وصفة كونها في مقام بعد مقام إلى آخر المقامات ما دوَّنوه في كتبهم وألَّفوه في أُصولهم، وبذلك وشبهه فلج الحقُّ وزهق الباطل، إنَّ الباطل كان زهوقاً)(40).
4. وفي شرح إحقاق الحقِّ للسيِّد المرعشـي يقول:
من عمره وما رأى ولقيا وربّنا أدرى بما قد بقيا
واشتهرت من قبلها آثارها غيبته تواترت أخبارها
ينقله العدوّ والوليُّ(42) وطول عمره كذا مرويُّ
5. وفي منتخب الأنوار المضيئة للسيِّد بهاء الدين النجفي يقول: (وقد تواترت الأخبار ورُويت الآثار عن الله تعالى والنبيِّ والأئمَّة الأحد عشـر الأطهار، بالنصِّ على إمامته وظهوره بعد غيبته، فلنذكر بعض ما ورد عن كلِّ واحد واحد منهم على الترتيب، على سبيل الاختصار دون الإطناب والإكثار) انتهى، ثمّ ذكر عدَّة روايات في هذا المجال(43).
6. وفي تاج المواليد (المجموعة) للشيخ الطبرسي يقول: (وأمَّا غيبته (صلوات الله عليه) فقد تواترت الأخبار بها قبل ولادته، واستفاضت بدولته قبل غيبته، وهو صاحب السيف من أئمَّة الهدى (عليهم السلام)، والمنتظر لدولة الإيمان، والقائم بالحقِّ، وله قبل قيامه غيبتان، إحداهما أطول من الأُخرى كما جاءت به الأخبار عن آبائه الصادقين عليهم السلام)(44).
هذا فيما يخصُّ جملة ممَّن قال بتواتر غيبته من علمائنا المتقدِّمين، أمَّا من قال بتواتر ولادته:
1. وفي منهاج الكرامة للعلَّامة الحلّي يقول: (وقد تواترت به الشيعة في البلاد المتباعدة خلفاً عن سلف من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، أنَّه قال للحسين (عليه السلام): (هذا ابني إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمَّة تسعة، تاسعهم قائمهم، اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملؤ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً)(37).
2. وفي شرح أصول الكافي للمولي محمّد صالح المازندراني يقول: (وهذا القيام كاين قطعاً لروايات متواترة من طريق العامَّة والخاصَّة، إلَّا أنَّ العامَّة يقولون: إنَّه يُولَد في آخر الزمان من نسل علي وفاطمة وجده الحسين (عليه السلام) كما صـرَّح به الآبي في كتاب إكمال الكمال، ونحن نقول: هو حي موجود قامت السماوات بوجوده، ولولا وجوده لساخت الأرض بأهلها طرفة عين)(38).
3. وفي كتاب الأربعين للشيخ الماحوزي يقول: (والنصوص الواردة عليه من آبائه صلوات الله عليهم متواترة، ومن أرادها فليقف عليها في كتاب الكافي، وإرشاد المفيد (رحمهما الله)، وكتاب كمال الدين وتمام النعمة في إثبات الغيبة ورفع الحيرة لرئيس المحدِّثين محمّد بن علي بن بابويه القمّي، وكتاب ملاء الغيبة في طول الغيبة للشيخ جمال الدين أبي عبد الله محمّد بن إبراهيم الشهير بالنعماني، وكتاب الغيبة للشيخ أبي جعفر الطوسي وغيرها)(41).
4. وفي الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيِّد ابن طاووس، قال: (ونقل إلينا سلفنا نقلاً متواتراً أنَّ المهدي (عليه السلام) المشار إليه وُلِدَ ولادة مستورة...)(45).
5. وفي بحار الأنوار للعلَّامة المجلسـي يقول: (وأمَّا الذي ورد من طرق الشيعة فلا يسعه إلَّا مجلَّدات، ونقل إلينا سلفنا نقلاً متواتراً أنَّ المهدي المشار إليه وُلِدَ ولادة مستورة، لأنَّ حديث تملّكه ودولته وظهوره على كافَّة الممالك والعباد والبلاد كان قد ظهر للناس فخيف عليه، كما جرت الحال في ولادة إبراهيم وموسى عليهما السلام وغيرهما، وعرفت الشيعة ذلك لاختصاصها بآبائه (عليهم السلام) فإنَّ كلَّ من يلزم بقوم كان أعرف بأحوالهم وأسرارهم من الأجانب، كما أنَّ أصحاب الشافعي أعرف بحاله من أصحاب غيره)(46).
6. وفي كتاب الأربعين للشيخ الماحوزي يقول: (... إجماع الشيعة رضوان الله عليهم، وتواتر أخبارهم بولادته صلوات الله عليه وعلى آبائه، على نحو ولادة إبراهيم وموسى عليهما السلام، وغيرهما ممَّن اقتضت المصلحة تستّر ولادته. وقد استفاضت الأخبار عنهم باسمه ونسبه...)(47).
7. وفي عقائد الإماميَّة للشيخ محمّد رضا المظفَّر يقول: (هذا المصلح المهدي هو شخص معيَّن معروف وُلِدَ سنة (256 هجرية) ولا يزال حيّاً، هو ابن الحسن العسكري واسمه محمّد. وذلك بما ثبت عن النبيّ وآل البيت (عليهم السلام) من الوعد به، وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه)(48).
8. وفي بداية المعارف الإلهية في شرح عقائد الإماميَّة للسيِّد محسن الخزّازي يقول: (وثانيهما: هو ما أشار إليه في المتن حيث قال: وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه، ولا يجوز أن تنقطع الإمامة وتحول في عصر من العصور وإن كان الإمام مخفيّاً...)(49).
وفي موضع آخر يقول: (قال المحقِّق القمّي (قدس سرّه): إنَّ كثيراً من جوامع الشيعة أُلِّفت قبل ولادة جنابه (عليه السلام)، فهذه الأخبار مضافاً إلى كونها متواترة ومفيدة لليقين، تكون مقرونة بالإعجاز)(50).
9. وفي محاضرات في الإلهيات للشيخ جعفر السبحاني يقول: (كلُّ من كان له إلمام بالحديث، يقف على تواتر البشارة عن النبيِّ وآله وأصحابه، بظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجهل والظلم ونشـر العلم وإقامة العدل، وإظهار الدين كلّه ولو كره المشـركون، وقد تضافر مضمون قول الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم): (لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم، حتَّى يخرج رجل من ولدي، فيملؤها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً). ولو وُجِدَ هنا خلاف بين طوائف المسلمين فهو الاختلاف في ولادته، فإنَّ الأكثرية من أهل السُّنَّة يقولون بأنَّه سيولد في آخر الزمان، لكن معتقد الشيعة بفضل الروايات الكثيرة هو أنَّه وُلِدَ في سُـرَّ من رأى عام (255) بعد الهجرة النبوية، وغاب بأمر الله سبحانه سنة وفاة والده عام (260هـ)، وسوف يُظهره الله سبحانه ليتحقَّق عدله)(51).
10 . وفي منار الهدى في النصِّ على إمامة الاثني عشـر (عليهم السلام) للشيخ علي البحراني يقول: (وأمَّا بقاؤه حتَّى يُؤذَن له في الظهور فلوجوه: الأوَّل: اتِّفاق الإماميَّة عليه، وموافقة جملة من المخالفين لهم على صحَّته كما سمعت. الثاني: تواتر الأخبار عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمَّة، بعد المفروغية من إثبات كون قولهم حجَّة بإثبات إمامتهم بما ذكرناه من النصوص المتقدِّمة، والوجوه المتعدِّدة)(52).
11. وفي مجموعة الرسائل للشيخ لطف الله الصافي يقول: (وهذا الفضل بن شاذان العالم المحدِّث المتوفّى قبل وفاة الإمام أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السلام)، روى عنه في كتابه في الغيبة خبر ولادة ابنه المهدي، وكيفيتها وتاريخها، وكانت ولادته (عليه السلام) بين الشيعة وخواصّ أبيه من الأُمور المعلومة المعروفة، وقد أمر أبوه (عليه السلام) أن يُعقَّ عنه ثلاثمائة شاة، وعرضه على أصحابه يوم الثالث من ولادته، والأخبار الصحيحة الواردة بإسناد عالية في ذلك كثيرة متواترة جدّاً)(53).
12. وفي الإمام المهدي (عليه السلام) بين التواتر وحساب الاحتمال للشيخ محمّد باقر الإيرواني يقول: (وبعد هذا فليس من حقِّنا أن نناقش في روايات الإمام المهدي (عليه السلام) ونقول: هذه مختلفة في التفاصيل، واحدة تقول بأنَّ أُمَّ الإمام المهدي اسمها نرجس، والثانية تقول: إنَّ أُمَّ الإمام اسمها سوسن، والثالثة تقول: اسمها شـيء ثالث، أو أنَّ واحدة تقول: وُلِدَ في هذه الليلة، والثانية تقول: وُلِدَ في تلك الليلة، أو واحدة تقول: وُلِدَ في هذه السنة، والأُخرى تقول: في السنة الأُخرى، فعلى هذا الأساس هذه الروايات لا يمكن أن نأخذ بها، وليست متواترة وليست مقبولة، لأنَّها تختلف في التفاصيل، ولا تنفع في إثبات التواتر وفي تحصيل العلم بولادة الإمام سلام الله عليه، لأنَّها مختلفة ومتضاربة فيما بينها حيث اختلفت بهذا الشكل. إنَّه باطل، لأنَّ المفروض أنَّ كلَّ هذه الأخبار متَّفقة في جانب واحد، وهو الإخبار بولادة الإمام سلام الله عليه، ولئن اختلفت فهي مختلفة في تفاصيل وخصوصيات أُخرى، لكن في أصل ولادة الإمام هي متَّفقة، فالعلم يحصل والتواتر يثبت من هذه الناحية)(54).
13. وفي تنزيه الشيعة الاثني عشـرية عن الشبهات الواهية لأبي طالب التجليلي التبريزي يقول: (إنَّه قد وردت نصوص متواترة على أنَّ المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً هو ابن الحسن العسكري عليهما السلام، فقد ورد عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) في التصـريح عليه ستّون نصّاً، وعن أبيه الحسن العسكري (عليه السلام) في التصـريح على ولده المهدي اثنان وأربعون نصّاً، وعن سائر الأئمَّة (عليهم السلام) نصوص كثيرة، فراجع)(55).
14. وفي مقالات تأسيسية للسيِّد الطباطبائي يقول: (إنَّ بين أيدينا أخباراً متواترة عن طريق العامَّة والخاصَّة وصلتنا عن النبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) تُحدِّثنا عن حياة الإمام الغائب وسيرته، ومن معالم هذه السيرة يتبيَّن أنَّ هذا الإمام ابن الإمام الحسن بن علي العسكري... وُلِدَ بسامراء)(56).
الهوامش:
(1) الغيبة للنعماني: 252/ باب 13/ ح 46.
(2) مجلَّة البحوث الإسلاميَّة 58: 300 و301.
(3) الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ أهل التاريخ لشمس الدين محمّد بن عبد الرحمن السخاوي.
(4) مختصر في علم التاريخ لمحي الدين الكافجي.
(5) مختصر في علم التاريخ: 53.
(6) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة.
(7) كشف الظنون 1: 271.
(8) المصدر السابق.
(9) تاريخ ابن خلدون 1: 3 و4.
(10) الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ أهل التاريخ.
(11) كلُّ من له خلفية معرفية بواقع التشـريعات يعرف أنَّ هناك قوانين تُشـرَّع لتلافي حالات الاضطرار أو عدم قدرة الفرد على تحمّل التشـريع، وهذه الفسحة التشـريعية إنَّما أُوجدت لأجل مصلحة هي في غاية الأهمّية، وهي إلباس التشـريع الشمولية والديمومية، وليس الشارع المقدَّس ببعيد عن هذه المتعارفات العقلائية، فهو خالق العقل وسيِّد العقلاء، من هنا نجد أنَّ الأحكام الاضطرارية في التشـريعات الإلهية وخصوصاً ما شُـرِّع في الدين الإسلامي وفق منهج أهل البيت (عليهم السلام) إنَّما هي بدائل أُوجدت للمكلَّفين نتيجةً للاضطرار الحاصل عندهم بسبب العوامل الخارجية، حتَّى يبقوا في دائرة التكليف الشرعي، ولا يخرجوا عنه بسبب الاضطرار.
وهذه التشـريعات الاستثنائية تختلف سعةً وضيقاً بحسب تلك العوامل، ومن هنا ينبغي علينا دراسة كلَّ ما له مدخلية في إيجاد تلك العوامل، والتي من أهمّها الظروف السياسية التي عاشها عصر النصِّ.
(12) ففي سير أعلام النبلاء للذهبي 7: 130 و131، نجده ينقل لنا بعض قصص هذا المبدأ الإسلامي: أبو فروة ، يزيد بن محمّد الرهاوي: سمعت أبي يقول: قلت لعيسى بن يونس: أيّهما أفضل: الأوزاعي أو سفيان؟ فقال: وأين أنت من سفيان؟ قلت: يا أبا عمرو: ذهبت بك العراقية، الأوزاعي، فقهه، وفضله، وعلمه! فغضب، وقال: أتراني أُؤثِر على الحقِّ شيئاً، سمعت الأوزاعي يقول: ما أخذنا العطاء حتَّى شهدنا على علي بالنفاق، وتبرَّأنا منه، وأُخِذَ علينا بذلك الطلاق والعتاق وأيمان البيعة، قال: فلمَّا عقلت أمري، سألت مكحولاً، ويحيى بن أبي كثير، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن عبيد بن عمير، فقال: ليس عليك شـيء، إنَّما أنت مكرَه، فلم تقرّ عيني حتَّى فارقت نسائي، وأعتقت رقيقي، وخرجت من مالي، وكفَّرت أيماني. فأخبرني: سفيان كان يفعل ذلك؟
وفي صحيح البخاري 1: 38: حدَّثنا إسماعيل، قال: حدَّثني أخي، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: حفظت عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلَّم) وعاءين، فأمَّا أحدهما فبثثته، وأمَّا الآخر فلو بثثته قُطِعَ هذا البلعوم.
وكذلك سير أعلام النبلاء للذهبي 11: 87: قال سعيد بن عمرو البرذعي: سمعت الحافظ أبا زرعة الرازي يقول: كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصـر التمّار، ولا عن يحيى بن معين، ولا عن أحد ممَّن امتُحِنَ فأجاب. قلت: هذا أمر ضيِّق ولاحرج على من أجاب في المحنة، بل ولا على من أُكره على صريح الكفر عملاً بالآية. وهذا هو الحقُّ. وكان يحيى (رحمه الله) من أئمَّة السُّنَّة، فخاف من سطوة الدولة، وأجابة تقيَّةً.
(13) نعم هذا صحيح إذا قيس بعض الأئمَّة إلى بعضهم الآخر (عليهم السلام) أو في بعض الأحيان، أمَّا في حدِّ نفسه فالأمر يختلف تماماً كما تعكس النصوص التاريخية والروائية ذلك.
(14) نشأة الشيعة الإماميَّة لنبيلة عبد المنعم داود.
(15) رواه الشيخ الكليني في الكافي 2: 218 و219/ باب التقيَّة/ ح 9.
(16) اختيار معرفة الرجال 2: 565 و566/ ح 502؛ ورواه في الكافي 1: 351/ باب ما يُفصَل به بين دعوى المحقِّ والمبطل في الإمامة/ ح 7.
(17) بحار الأنوار 47: 251 و252/ ح 30، عن الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي 1: 328 و329/ ح 22.
(18) بحار الأنوار 2: 236/ باب 29/ ح 22.
(19) علل الشرائع للشيخ الصدوق 2: 395/ باب 131/ ح 16.
(20) بحار الأنوار 2: 237/ باب 29/ ح 26.
(21) أبي، عن أحمد بن إدريس، عن أبي إسحاق الأرجاني رفعه، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (أتدري لِـمَ أُمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامَّة؟)، فقلت: لا ندري. فقال: (إنَّ عليّاً (عليه السلام) لم يكن يدين الله بدين إلَّا خالف عليه الأُمَّة إلى غيره إرادةً لإبطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الشـيء الذي لا يعلمونه، فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّاً من عندهم ليُلبِّسوا على الناس). (علل الشرائع 2: 531/ باب 315/ ح 1).
(22) بحوث في الملل والنحل 7: 21؛ بحار الأنوار 2: 249 و250/ باب 29/ ح 62.
(23) بحار الأنوار 2: 50/ باب 29/ ح 63.
(24) البعض هو أحمد الكاتب في بعض حواراته في كتاب متاهات في مدينة الضباب.
(25) رسائل في الغيبة للشيخ المفيد 2: 13.
(26) كمال الدين: 370/ باب 35/ ح 1.
(27) الغيبة للنعماني: 170 و171/ باب 10/ فصل 3/ ح 6.
(28) الكافي 1: 514.
(29) الكافي 1: 525.
(30) كمال الدين وتمام النعمة: 430 و431/ باب 42/ ح 6.
(31) كمال الدين وتمام النعمة: 434 - 479/ باب 44.
(32) الغيبة للطوسي: 230/ ح 196.
(33) الغيبة للنعماني: 163 و164.
(34) الغيبة للنعماني: 340 و341.
(35) الغيبة للنعماني: 291 و292.
(36) الغيبة للطوسي: 167 - 174.
(37) منهاج الكرامة: 177.
(38) شرح أُصول الكافي 1: 301 و302.
(39) كمال الدين: 94.
(40) كمال الدين: 19.
(41) شرح إحقاق الحقِّ 13: هامش ص 369.
(42) الأربعين: 216 و217.
(43) منتخب الأنوار المضيئة: 45.
(44) تاج المواليد: 65.
(45) الطرائف: 183.
(46) بحار الأنوار 51: 107.
(47) الأربعين: 211.
(48) عقائد الإماميَّة: 78 و79.
(49) بداية المعارف الإلهية 2: 132.
(50) بداية المعارف الإلهية 2: 144.
(51) محاضرات في الإلهيات: 389 و390.
(52) منار الهدى: 628.
(53) مجموعة الرسائل 2: 402.
(54) الإمام المهدي (عليه السلام) بين التواتر وحساب الاحتمال: 19 و20.
(55) تنزيه الشيعة الاثني عشرية 2: 561.
(56) مقالات تأسيسية: 271.