البحوث والمقالات

(٦٤٣) محوريَّة التمهيد في المنظومة المهدوية

محوريَّة التمهيد في المنظومة المهدوية

الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي

بعد أن استوطنت البشرية الأرض نمت فكرة التمهيد بنموِّها وتوسَّعت بتوسّعها إلى أن غدت من أكبر المفاهيم وأكثر المعاني تجسيداً في حياة الإنسان.
فآمنت الشعوب بعملية التمهيد، والتي تُعتَبر المرحلة المتوسِّطة لتحقيق الأهداف.
فأيُّ فكرة بشرية لا بدَّ أن تمرَّ بمراحل ثلاث تتخلَّل كلّ واحدة منها مجموعة من المنظومات المعرفية والسلوكية.
وهذه المراحل هي:
الأُولى: وهي مرحلة الفكرة التي ينشدها شعب ما.
الثانية: وهي مرحلة التمهيد لها.
الثالثة: فهي تجسيدها من خلال تحقّقها الناتج عن اجتماع الأمرين المتقدِّمين، أي من خلال التمهيد - الفردي والجماعي - على مستواه المعرفي والسلوكي.
هذه المراحل الثلاث تُعتَبر محور أيّ فكرة أو حقيقة يتمُّ التمهيد لها.
فعلى سبيل المثال التمهيد لكلِّ نبيٍّ كان من خلال التمهيد الذي يقوم به النبيُّ السابق إلى أن وصل إلى نبيِّنا (صلّى الله عليه وآله وسلم) حيث مهَّد له جميع الأنبياء بما فيهم أُولو العزم (عليهم السلام).
إذن التمهيد حقيقة إنسانية وجدانية لا غبار عليها ولا تحتاج إلى دليل لإثباته، بل هي قائمة بالنفس.
والدين الإسلامي باعتباره أوسع منظومة عرفتها البشرية بما يحمله من قيم معرفية وقواعد سلوكية أعطا للتمهيد أهمّية كبيرة في حركة أفراده التكاملية.
فإطلالة سريعة على مصادر هذه المنظومة تجد أنَّ من بين أهمّ المحاور العقدية والسلوكية عقيدة التمهيد.
فالفرد المسلم يُمهِّد لحياة أُخرى من السعي الدؤوب في هذه الدني، والجماعة تُمهِّد لحياة أفضل لتنعم بحياة أُخرى بعيدة عن المنغَّصات والآلام.
وللتأكيد على هذه الظاهرة وتسليط الضوء عليها نأخذ بالتطبيق لهذه الفكرة من خلال السيرة العملية والنظرية التي قامت بها السماء من أجل التمهيد لسيادة العدل والسعادة من خلال إظهار دين الإسلام والسلام على يد منقذ البشرية وإخراجها من حالة العيش في الظلم والخنوع للاستبداد والاستعباد.
وإنَّ أوَّل من قام بأعباء هذه المهمَّة الكبيرة هو الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) من خلال جملة من الأحاديث التي تُركِّز على الانتظار وفضل المنتظرين والممهِّدين وبيان مراتبهم حتَّى جعلهم (صلّى الله عليه وآله وسلم) إخواناً له، وهذه الأُخوَّة جعلها النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) مرتبة أعلى من مرتبة الصحبة.
ثمّ أخذت هذه الظاهرة بالتوسّع على يد الأئمَّة (عليهم السلام) إلى أن تبلورت بشكل واضح وأصبحت مكتملة في زمن الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام).
إذ برزت عوامل التمهيد متكاملة عملياً ونظرياً.
ومن أبرز عوامل التمهيد التي قام به(عليهم السلام):
1- التمهيد للدولة المهدوية.
2- التمهيد لقائد الدولة.
أمَّا التمهيد للدولة وبيان حيثياتها وأهدافها وأين تكون وما هي مقوِّماتها وما هي علائمه، فقد برز ذلك جليّاً من خلال الكمّ الكبير من الروايات التي عكست لنا أجواء تلك الدولة المباركة، والتي ستحكم الأرض ويسود فيها العدل والرضا لجميع البشرية وعلى مختلف المناحي والأصعدة.
وهذا نموذج فريد في عملية التمهيد لا نجده في أيِّ فكرة أُخرى يمكن تناولها بالدراسة والتحليل.
أمَّا التمهيد لقائد هذه الدولة فقد برز على عدَّة أصعدة:
الصعيد الأوَّل: التمهيد للولادة المباركة لهذا القائد، وهذا ما نجده واضحاً من خلال الأدلَّة العامَّة التي سيقت للاستدلال على حقّانية هذه الدولة وحقّانية هذا القائد بإدارتها.
وقد برز من عناصر هذا التمهيد:
1 - دلالة سورة القدر التي قرنت التنزّل بشخص معيَّن مشخَّص، وقرنت كلَّ ذلك بليلة مشخَّصة يمكن لمسها من خلال تحديدها تحديداً زمنياً واضحاً.
2 - أحاديث قرن الاستقامة والصلاح والبقاء الديني، بل والكوني به (عليه السلام)، كحديث سيخ الأرض لولا الحجَّة، وحديث الثقلين، وحديث الاثني عشر.
أمَّا الأدلَّة الخاصَّة فهي كثيرة جدّاً أذكر منها حديثاً واحداً صحيح السند عن الإمام العسكري (عليه السلام)، حيث ورد عن أبي هاشم الجعفري أنَّه سأل الإمام العسكري (عليه السلام): هل أنَّ له ولد، فقال له (عليه السلام): «نعم»، فسأله مرَّة أُخرى: إن حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟ فقال (عليه السلام): «بالمدينة».
وهذا كلّه كما لا يخفى تمهيد واضح جليّ للإمام المهدي (عليه السلام).
الصعيد الثاني: أمَّا على صعيد الغيبة والتمهيد لها: فإنَّه أوضح من الصعيد الأوَّل بكثير، ففضلاً عن التواتر الاجمالي إن لم نقل المعنوي فهناك تواتر في نقل هذا التواتر.
وهذا نموذج فريد قلَّ ما نجد له قرين في المعارف الأُخرى، ويعكس لنا أهمّية القضيَّة ومقدار التمهيد الذي قام به الأئمَّة والأنبياء (عليهم السلام) والصلحاء لها.
هذا من جانب، ومن جانب آخر يُوضِّح لنا أهمّية الدور الذي ينبغي أن نقوم به في عملية التمهيد، لأنَّ هذه العملية استمرارية وليست ابتدائية، وتحضى بهذه الأهمّية الكبرى، فلا بدَّ أن يكون لنا فيها دور ما.
وقد انعكس لنا هذا الدور من خلال الروايات الكثيرة جدّ، والتي منها ضرورة وقوع الغيبة في الإمام المهدي (عليه السلام)، والتأليفات التي قام بها أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) قبل وقوع الغيبة وقبل ولادة صاحبها.
أمَّا على الصعيد العملي، فهو ما برز بشكل جليّ في عصر الإمام العسكري (عليه السلام)، حيث مارس التمهيد بأوضح صورة من خلال سيرته العملية، كنصب الوكلاء واعتماده عليهم وتغيير خارطة العمل مع الجمهور بشكل ملتفت، انعكس بعد ذلك واضحاً ومؤثِّراً على تخفيف شدَّة غيبة الإمام المهدي (عليه السلام).
وهناك عوامل أُخرى للتمهيد، منها: صغر السنِّ الذي وقع في كثير من الأئمَّة كالجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام)، بل وفي بعض الأنبياء كيحيى وعيسى (عليهما السلام)، حيث عُدَّ هذا النموذج من أفضل النماذج الاستدلالية على إمكان وقوع الإمامة في صغر السنِّ.

البحوث والمقالات : ٢٠٢١/٠٣/١٢ : ٥.٧ K : ٠
: الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.