البحوث والمقالات

(٦٥٠) الدعاوى المزيَّفة - جذورها التاريخية وطرق مقاومتها

الدعاوى المزيَّفة - جذورها التاريخية وطرق مقاومتها

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

في هذا البحث مدخل، وثلاثة فصول، وخاتمة.
المدخل:
وفيه نقطتان:
النقطة الأُولى:
يُمثِّل إثبات الرأي وردّ الخصم وإقناع الآخر همّاً لدى الكثير ممَّن يتبنَّون عقيدة معيَّنة، بغضِّ النظر عن نوعها وفلسفتها ومنهجها وتوجّهاتها، وبالتالي فقد أخذ هذا الأمر ومنذ زمن بعيد مكانه المهمّ في أروقة المكتبات وعقول المفكِّرين، حتَّى بات هذا الأمر عِلْماً له مناهجه وروّاده ومريدوه.
إنَّ لكلِّ عقيدة مادّةً وصورةً، المادَّة تُمثِّل واقع المبادئ والقيم والسلوكيات التي تؤمن بها تلك العقيدة ويتبنّاها أتباعها ويترجمونها في حياتهم إلى سلوك عملي، وتلك المواد - وحتَّى يلتزم أتباعها بها - تحتاج إلى إثباتها بالدليل الذي لا يُنقَض، وبالصورة التي ترسمها كأقوى ما تكون العقيدة.
وقد اختلفت طرق الإثبات من ناحية الزمان والمكان ونوع العقيدة ونوع الأتباع، والحاذق هو من يتعرَّف الطريق المناسب في الزمكان المناسب ليطرح عقيدته ضمن تلك الظروف الموضوعية المناسبة.
ومن المعلوم في علم المنطق أنَّ طرق الإثبات تبتني على قضايا تختلف من حيث قوَّة الإثبات:
فمنها القضايا اليقينية، التي تنتج (اعتقاداً مطابقاً للواقع لا يحتمل النقيض لا عن تقليد)(1).
ومنها القضايا الظنّية، التي تنتج اعتقاداً عن حدس أو تخمين من دون مشاهدة أو دليل أو برهان، فيشمل التقليد، والظنُّ بمعنى ترجيح أحد طرفي القضيَّة نفياً أو إثباتاً مع تجويز الطرف الآخر(2).
ومنها القضايا المشهورات أو الذائعات، وهي التي اشتهرت نتائجها لدى الناس وذاع التصديق بها عند جميع العقلاء، أو عند أكثرهم، أو عند طائفة خاصَّة منهم(3).
ومنها القضايا الوهميات، وهي أحكام الوهم في المعاني المجرَّدة عن الحسِّ(4)، والتي هي في واقعها (قضايا كاذبة، إلَّا أنَّ الوهم يقضي بها قضاءً شديد القوَّة، فلا يقبل ضدّها وما يقابلها حتَّى مع قيام البرهان على خلافها، فإنَّ العقل يؤمن بنتيجة البرهان، إلَّا أنَّ الوهم يعاند...)(5).
ومنها المسلَّمات، التي هي قضايا حصل التسالم والتوافق بين طرفين على أنَّها قضايا صادقة، مع غضِّ النظر عن واقعها وأنَّها صادقة واقعاً أو كاذبة، فالمهمّ فيها أنَّ كلا الطرفين المتنازعين يبنيان على تسليم كونها صادقة(6).
ومنها المقبولات، وهي التي تؤخذ تقليداً عمَّن يُوثَق بصدقه، بغضِّ النظر عن سبب الوثوق بصدق المقلَّد فيها، وأنَّ له ارتباطاً بالسماء أدّى إلى الوثوق به، أو أنَّ له عقلاً متكاملاً وخبرةً عمليةً تُولِّد تلك الثقة(7).
ومنها المشبّهات، وهي قضايا كاذبة لكن يحصل الاعتقاد بها لأنَّها تشبه اليقينيات أو المشهورات في الظاهر، فيستعمل الخصم أُسلوب المغالطة ليقنع الطرف الآخر بصدقها...(8).
ومنها المخيّلات، وهي القضايا التي ليس من شأنها أن توجب تصديقاً، إلَّا أنَّها توقع في النفس تخيلات تؤدّي إلى انفعالات نفسية، من انبساط في النفس أو انقباض...(9).
ولكلِّ واحدة من هذه القضايا أنواع متعدِّدة، ولكلٍّ منها طريقة معيَّنة للصياغة.
ولا شكَّ في أنَّ أهمّ القضايا الإثباتية على الإطلاق هي القضايا اليقينية، وكلُّ ما عداها لا يصل في قوَّة إثباته - لو كانت له قوَّة - إلى مستوى اليقينيات، وبالتالي فعلى من يريد أن يتبنّى عقيدة باطمئنان ووثوق لا يتزلزلان أن يختار ما تُثبته القضايا اليقينية من عقائد، وهو ما دعا إليه الدين الإسلامي في آياته ورواياته بصورة لا تقبل التشكيك، رافضاً الطرق الظنّية فما دونها في قضايا الدين والعقيدة.
قال تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام: 116)، وقال تعالى: ﴿وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (النجم: 28).
وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ كلَّ عقيدة تحتاج إلى أن تثبت مبادئها من خلال طرق مناسبة، وعلى أتباعها أن يهتمّوا بالمثبِّتات اليقينية منها. وعلى المنظِّرين لها صياغة أدلَّتها بما يتناسب مع الحاجة الفعلية للإثبات.
النقطة الثانية: ما هي الحاجة إلى إثبات الرأي؟
لا شكَّ أنَّ لإثبات الرأي دوافع منهجية وحاجات واقعية، تتمثَّل تلك الحاجات بالتالي:
أوَّلاً: تقوية أساس المبدأ والعقيدة، الأمر الذي يجعل منها عقيدة قويَّة في مضمونها، رصينة في منهجها، واضحة في توجّهاتها.
ثانياً: إنَّ لكلِّ عقيدة معارضين، يحاولون نقضها أو إلقاء الشبه حولها، وهنا تتمثَّل الحاجة إلى إثبات الرأي والعقيدة بدفع ورفع الشبه، أي بردِّ الشبه والإشكالات المطروحة من قِبَل الطرف المناوئ، وبرفع الشبه والإشكالات المتوقِّعة قبل أن تُسوَّق وتُطرَح في العلن.
ثالثاً: إنَّ كلَّ عقيدة تهدف إلى جذب أكثر الأتباع إلى حرمها، وبالتالي فإنَّ تقويتها بالأدلَّة والبراهين يُمثِّل أقوى الطرق لجذب الأتباع، سواء كانوا من الطرف المناوئ، أو ممَّن كانوا على التلِّ.
رابعاً: فضلاً عمَّا تقدَّم، فإنَّ نفس إثبات العقيدة بأدلَّة قويَّة يستبطن إلقاء أدلَّة على بطلان العقيدة الأُخرى، وهو هدف ترنو إليه أعناق أتباع أيّ عقيدة، إذ أنَّ واحداً من أهمّ أهداف الحوار والنقاش هو إثبات بطلان الرأي الآخر.
خامساً: ولا شكَّ أنَّ الحوار وإثبات الرأي وبيانه بالحجج القويَّة والراسخة ينفع في تقريب وجهات النظر عند من يطلب الحقَّ، وفي تخفيف حدَّة الخلاف، وفي خلق جوّ وسطي من شأنه أن يجذب المخالف ويردع المعاند.
الفصل الأوَّل: الجذور التاريخية للدعاوى المزيفة:
يحكم العقل قبل النقل بضرورة التزام الفرد بما فيه، وعدم تجاوزه لغيره، فالعقل يحكم بقبح من ادَّعى شيئاً ليس له أو ليس فيه، ولا يختلف في هذا الحكم عاقل.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ألَا وإنّي أُقاتل رجلين: رجلاً ادَّعى ما ليس له، وآخر منع الذي عليه»(10).
إلَّا أنَّه ورغم ذلك، نجد الكثير ممَّن يدَّعي العقل، قد خالف هذا الحكم العقلي، وسار على غير رشد وهدى، فأخذ يتقمَّص غير لباسه، ويمدُّ عينيه إلى غير ما يملك، ويقتبس من الغافل غرَّته، فكثرت الدعاوى المزيَّفة، وكثر مدَّعوها، حتَّى لا نجد عصـراً من العصور قد خلا من دعوة كاذبة وأُخرى مزيَّفة.
وهذا يعني أنَّ الدعاوى المزيَّفة ليست وليدة اليوم، ولم تُولَد من رحم عقيم، إنَّما لها جذور تمتدُّ في أعماق الماضي السحيق، في سُنَّة يُعبِّر عنها القرآن الكريم بسُنَّة ﴿تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (البقرة: 118).
وبتقليب سريع لملفّات الماضي، يمكن أن نستكشف أنَّ الدعاوى المزيَّفة قد أخذت نمطين أساسيين:
النمط الأوَّل: الدعاوى الأرضية:
وأعني بها الدعاوى التي لا تمتُّ إلى الاتِّصال بالغيب بصلة، بل هي من نوع ادِّعاء قيادة ما، أو ادِّعاء ملك شيء ما، أو ادِّعاء شهادة دنيوية ما، ، كدعوى بطليموس أنَّ الأرض مركز الكون، وتقابلها نظرية غاليلو أنَّ الأرض كروية وليست مسطَّحة، وأنَّها كوكبٌ صغير يدور حول الشمس مع غيره من الكواكب، وهكذا.
والنماذج الكثيرة على هذا النوع أشهر من أن تُذكر، ولا يهمّنا استقصائها، لأنَّها خارج حريم هذا البحث.
النمط الثاني: الدعاوى السماوية:
وهي التي تضمَّنت دعوى اتِّصال بالغيب والسماء، كالنبوَّة، والخلافة عن نبيٍّ، أو وكالة عن وصيٍّ، أو سفارة، بل يدخل فيها حتَّى دعاوى الأُلوهية.
ويبدأ تأريخ هذه الدعاوى منذ اللحظة الأُولى لوجود الخليقة في هذا العالم، حيث ادَّعى إبليس ما لازمه أنَّه أحقّ بسجود الملائكة له من آدم، مستعملاً لإثبات هذه الدعاوى دليلاً من نوع (القياس)(11)، ليبدأ في تزييف الدعاوى بأدلَّة ظنّية غير يقينية.
﴿قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ (الأعراف: 12).
وقد سار على نهجه الكثير من فقهاء السلاطين ممَّن انحرفوا عن خطِّ أهل البيت (عليهم السلام)، فقد روي عن عيسى بن عبد الله القرشي، قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له: «يا أبا حنيفة! بلغني أنَّك تقيس»، قال: نعم. قال: «لا تقس، فإنَّ أوَّل من قاس إبليس حين قال: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾، فقاس ما بين النار والطين، ولو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين، وصفاء أحدهما على الآخر»(12).
وقد حفظ لنا التاريخ وثيقة سوداء التصقت بجباه بعض بني إسرائيل، ممَّن أرادوا ليِّ الإرادة الإلهية حسب مشتهياتهم، فإنَّه في الوقت الذي يعتقد جميع الموحِّدين بأنَّ جعل النبيِّ أمر خاصّ بالله تعالى، فهو وحده من له الحقّ في اختيار نبيٍّ من الأنبياء، فإنَّ بني إسرائيل أو بعضهم على الأقلّ حاول أن يجعلها تحت إرادته بطريقة هي أشبه إلى الكوميديا منها إلى الصراحة والجدِّ.
فقد روى محمّد الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّ يوسف بن يعقوب (صلوات الله عليهما) حين حضـرته الوفاة جمع آل يعقوب وهم ثمانون رجلاً، فقال: إنَّ هؤلاء القبط سيظهرون عليكم، ويسومونكم سوء العذاب، إنَّما ينجيكم الله برجل من ولد لاوي بن يعقوب اسمه موسى بن عمران بن فاهث بن لاوي، غلام طوال، جعد الشعر، آدم اللون، فجعل الرجل من بني إسرائيل يُسمّي ابنه عمران، ويُسمّي عمران ابنه موسى»، فذكر أبان، عن أبي الحصين، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله(13) أنَّه قال: «ما خرج موسى حتَّى خرج ثمانون كذّاباً من بني إسرائيل كلّهم يدَّعي أنَّه موسى بن عمران»(14).
وفي زمن موسى (عليه السلام) وصل الأمر بفرعون أنَّه ادَّعى الأُلوهية، بل قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى﴾ (النازعات: 24) ، بل ادَّعى أنَّه لا إله غيره: ﴿وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيـُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي﴾ (القصص: 38).
وكما ادَّعاها قبله نمرود فيما نقله القرآن الكريم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْـرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 258).
وهكذا دعوى السامري بأنَّ العجل هو ربُّ بني إسرائيل، ولكن موسى نسـي هذا الأمر!- في أحد التفسيرين - ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِـيَ﴾ (طه: 88).
ولا يغيب عن البال دعاوى البنوَّة لله تعالى من قِبَل اليهود والنصارى، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ﴾ (التوبة: 30).
ولو أردنا استقصاء هذه الدعاوى لخرجنا عن المألوف في البحوث إلى السرد التاريخي المطوَّل.
القضيَّة المهدوية لم تسلم من الادِّعاءات الباطلة:
حالها حال أيّ قضيَّة مصيرية، ولها وزنها الثقيل في عالم الإنسان، فإنَّ القضيَّة المهدوية لم تسلم من مثل تلك الدعاوى المزيَّفة، على عدَّة أصعدة، سواء ادِّعاء المهدوية نفسها، أو البابية إلى المهدي، أو الوكالة عنه، أو اللقاء به، أو السفارة عنه، أو اليمانية، وغيرها.
وما نشاهده اليوم من دعاوى مرتبطة بهذه القضيَّة لا يخرج عن الإطار العامّ للمزيَّف منها والباطل، وهي ليست جديدة على الساحة، فإنَّ الدعاوى المهدوية قد سبقت حتَّى ولادة مهدي الأُمم ابن العسكري (عليه السلام).
وتبرز من أوائل تلك الدعاوى عند (الكيسانية) الذين قيل: إنَّهم ادَّعوا أنَّ محمّد بن الحنفية هو المهدي، وإنَّه لم يمت وغائب في جبل رضوى بين أسد ونمر يحفظانه، وعنده عينان نضّاختان تجريان بماء وعسل، وإنَّه يعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت جوراً(15).
وقد يظهر من بعض الروايات أنَّ البعض كان يتوهَّم أنَّ الإمام الكاظم (عليه السلام) هو المهدي المنتظر، الأمر الذي كشفت زيفه السلطات العبّاسية عندما نادت على جنازة الإمام الكاظم (عليه السلام): هذا إمام الرافضة يزعمون أنَّه لا يموت فانظروا إليه ميِّتاً(16).
كذلك حاول العبّاسيون أن يدَّعوا أنَّ (محمّد بن عبد الله المنصور) هو المهدي المنتظر، وقد تصدّى لهم الإمام الصادق (عليه السلام) وكشف تزويرهم الحقيقة ببثِّه للأحاديث الكثيرة التي تُثبت أنَّ المهدي هو التاسع من ولد الحسين (عليهم السلام)، وأنَّه من ولد فاطمة لا من بني العبّاس.
وغيرها من الدعاوى التي ظهرت قبل ولادة الإمام المهدي (عليه السلام).
وهكذا يستمرُّ مسلسل التزييف إبّان الغيبة الصغرى، ليُمثِّله محمّد بن عليّ الشلمغاني وأحمد بن هلال العبرتائي ومحمّد بن نصير النميري الذين ادَّعوا السفارة عن الإمام المهدي (عليه السلام)، بل ادَّعى بعضهم أكثر من هذا المقام.
وتفاصيل دعاواهم تضمَّنتها كتب تراجم الرجال(17).
وهكذا يستمرُّ المزيِّفون بحياكة الدعاوى الباطلة بخيوط الشكّ والوهم، متلمّسين غرَّة بعض وسذاجة بعض آخر ليُموِّهوا عليهم الحقيقة، وليُلبِسوا عليهم دينهم. ليخرج لنا (عادل هزيمة) بدعوى اليمانية، مصدِّراً دعوته بنصِّ رسالة هي أحقر من أن تُقرَأ، مدَّعياً أنَّها رسالة المهدي للناس، ليكمل الحلقة (ضياء الگرعاوي) وحركة (جند السماء)، فيثور من بعده (حبيب الله المختار) بثورة (الحبّ الإلهي) في بغداد، ومن (ديالى) وبالتحديد من (الخالص) يظهر لنا (الإمام الربّاني فاضل المرسومي) مدَّعياً أنَّه الفذّ والوتر، وأنَّه منجي الأُمَّة وسفينة خلاصها...، ولا ينقطع خطّ الوهم بذلك، فهناك (الميِّت العائد) حيدر منشد أو القحطاني، صاحب (الرجعة الروحية) الذي ستحلُّ أو حلَّت فيه روح عيسى أو روح عليّ أو روح الحسين!
وهكذا تبقى دعوى (أحمد إسماعيل گاطع) ماثلة أمامنا لتختزل خطّ الدعاوى المزيَّفة بدعوى البنوَّة للمهدي، والحاكمية للأرض بعده، واليمانية، بل والمهدوية...
فخطُّ الباطل كان ولا زال، ولم ينقطع أمس، ولا نستغرب من وجوده اليوم، هكذا أراد الله أن تمرَّ الأُمَّة بسلسلة من الاختبارات والبلاءات، حتَّى قبيل الظهور المبارك، حيث يبرز العديد وبعضهم من بني هاشم ليدَّعوا ما ليس لهم!
عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «لا تقوم الساعة حتَّى يخرج المهدي من ولدي، ولا يخرج المهدي حتَّى يخرج ستّون كذّاباً كلّهم يقول: أنا نبيٌّ»(18).
وعن أبي خديجة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لا يخرج القائم حتَّى يخرج اثنا عشـر من بني هاشم كلّهم يدعو إلى نفسه»(19).
هذه هي سُنَّة البلاء التي ستعتصر الناس حتَّى يخرج منهم أطيب ما فيهم.
عن أحمد بن محمّد بن أبي نصـر، قال: قال أبو الحسن (عليه السلام): «أمَا والله لا يكون الذي تمدّون إليه أعينكم حتَّى تُميِّزوا أو تُمحِّصوا، حتَّى لا يبقى منكم إلَّا الأندر»، ثمّ تلا: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 142)(20).
الفصل الثاني: طرق مقاومة الدعاوى المزيَّفة:
من المعلوم أنَّ الله تعالى خلق البشر وفق نظام الاختلاف، ذلك النظام الذي مدَّ ظلاله على الكثير من حيثيات الإنسان وجهات وجوده، فمن ذلك الاختلاف في الشعوب والقبائل. ﴿وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ...﴾ (الحجرات: 13).
ومنه الاختلاف في مجال الاقتصاد، الذي أنتج الخادم والمخدوم والسيِّد والعبد والغنيّ والفقير. يقول تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون﴾ (الزخرف: 32).
ومنه الاختلاف بالألسنة والألوان، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ﴾ (الروم: 22).
وقد قيل: إنَّ اللغات الموجودة لدى البشر تتراوح بين (4000) إلى (5000) لغة!
ومنه الاختلاف في الانتماء الديني والمذهبي، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (الحجّ: 17).
ومن ذلك الاختلاف في بصمة الإبهام الأيسـر، أو في صيوان الأُذُن، أو في حدقة العين، الذي استُفيد منه كثيراً في المباحث الجنائية.
فالاختلاف قدرُ الإنسان، ولا تجد اثنين بينهما تمام الاتِّحاد والتشابه، وإلَّا لرجعا واحداً لا اثنين!
ومن تلك الجهات الملموسة والمشاهدة آثارها بكلِّ وضوح، هو الاختلاف في المستويات العقلية، وفي سرعة تقبّل المعلومة، وجودة تحليل المعرفة، والقدرة على فهم الصحيح من الأفكار من السقيم منها.
إنَّ بني البشـر يختلفون في إدراكاتهم العقلية بحسب الظروف الموضوعية التي يعيشها الفرد، فقد تجد أخوين أحدهما يكون عبقري زمانه، والآخر لا ذكر له ولا وزن، وما ذاك إلَّا لأنَّ الأوَّل قد توفَّرت له من الظروف ما أتاحت له تطوير عقله، بعكس أخيه، ولا شكَّ أنَّ للتربية والتعليم أثراً مهمّاً في ذلك ممَّا ليس هذا محلّ بيانه. ولذلك تجد - والوجدان خير دليل - التفاوت الكبير بين الناس من حيث العلم والمعرفة والقدرة على الفهم السريع والابتكار والحفظ وغيرها.
وما دام الناس يختلفون في إدراكاتهم العقلية، فمن الطبيعي أن نجدهم مختلفين من حيث فهمهم لأُطروحات ومعادلات الدين.
وهذا النوع من الاختلاف فرض على الدعاة والمربّين (والأنبياء والرسل (عليهم السلام) على رأسهم) أن يتفنَّنوا في اختيار الأُسلوب المناسب للتحدّث مع الناس، وتحرّي الطريقة الناجعة لهدايتهم، والتدقيق في نوع الأدلَّة المساقة لإثبات شيء أو ردّ آخر.
عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إنَّما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(21).
ومن هذا كلّه نستنتج أنَّ على الباحث في أيِّ قضيَّة، ومنها القضيَّة المهدوية، إذا ما أراد أن يفتح باب النقاش والحوار مع طرف مخالف، أن لا يقف على طريقة معيَّنة ويجمد عندها، بل عليه أن يُنوِّع من طرق البحث والنقاش، وأن يتخيَّر منها ما يناسب الظرف الموضوعي الذي يحكمه الزمان والمكان وشخصية الطرف الآخر ووزنها العلمي.
طرق النقاش في القضايا المهدوية:
حسب المعطيات المتقدِّمة، فإنَّه يمكن أن نجد العديد من الطرق للنقاش مع أصحاب الدعاوى المزيَّفة، والتي تتناسب مع المستويات العلمية المختلفة والظروف الموضوعية المتباينة، نذكر منها التالي:
الطريق الأوَّل: الطريق الفكري:
إنَّ لكلِّ علم من العلوم وكلّ جانب من جوانب المعرفة أُصولاً موضوعية تؤخذ فيه على أنَّها أُصول ثابتة لا تنازل عنها، أي إنَّ الداخل في جانب من جوانب المعرفة سيجد فيه أساسات ومرتكزات يبتني عليها هذا الجانب المعرفي، وبالتالي على من يريد النقاش والحوار في هذا الجانب أن يلتزم أُصوله الموضوعية.
هكذا تقضي الأُصول العلمية المتعارفة في الأوساط المعرفية.
ومن هنا، فإنَّ الحوار في القضيَّة المهدوية له أساساته وأُصوله الموضوعية، وخلاصتها التالي:
أوَّلاً:
إنَّ مفردات القضيَّة المهدوية هي من نوع الروايات التاريخية أو الملاحم المستقبلية، وعليه فالروايات تُمثِّل أساساً لا يُتنازل عنه فيها، فلا موضع للتخمينات ولا للظنّيات...
ثانياً: إنَّ هذا الأمر يخضع للعلوم المتعلّقة بالروايات، كالفقه وأُصوله وقواعدهما، وقواعد التعارض والتراجيح، وعلم الرجال والتراجم، وعلم الدراية...
ثالثاً: إنَّ هذا يعني ضرورة الرجوع إلى المتخصِّص في هذه العلوم، ولا يُسمَح لغير المتخصِّص فيها أن يتطفَّل عليها.
فإذا تحقَّقت هذه العناصر أمكن أن يكون النقاش مثمراً، وصار إثبات الرأي الصائب قريباً جدّاً من حيِّز الوقوع.
مثال لهذا الطريق:
ادَّعى جماعة أحمد إسماعيل گاطع أنَّه وليّ مفترض الطاعة، وأنَّه يجب على كلِّ شيعي أن يبايعه، استناداً إلى رواية أسموها برواية الوصيَّة، وهي رواية رواها الشيخ الطوسي في غيبته، وقد ورد في ذيلها:
«... ثمّ يكون من بعده اثنا عشـر مهدياً، (فإذا حضـرته الوفاة) فليُسلِّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين، له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي، واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، هو أوَّل المؤمنين»(22).
فادَّعى ابن گاطع - وصفَّق له جماعته - بأنَّه هو المقصود بأوَّل المقرَّبين وأوَّل المؤمنين، وبالتالي يجب على الشيعة أن يبايعوه و...
ووفق هذا الطريق الفكري يكون الردّ على هذه الدعوى بمنتهى العلمية والمهنية وفي نفس الوقت بمنتهى السهولة، ذلك لأنَّ هذه الرواية ضعيفة السند جدّاً، فلا تصلح للاستدلال الفقهي فضلاً عن العقائدي.
فإنَّ الشيخ رواها بالسند التالي:
(أخبرنا جماعة، عن أبي عبد الله الحسين بن عليّ بن سفيان البزوفري، عن عليّ بن سنان الموصلي العدل، عن عليّ بن الحسين، عن أحمد بن محمّد بن الخليل، عن جعفر بن أحمد المصـري، عن عمِّه الحسن بن عليّ، عن أبيه، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد، عن أبيه الباقر، عن أبيه ذي الثفنات سيِّد العابدين، عن أبيه الحسين الزكي الشهيد، عن أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)...».
وهذا السند غاية في الضعف، لاشتماله على عدَّة مجاهيل وضعفاء، فإنَّ (عليّ بن سنان الموصلي العدل)، وكذلك (أحمد بن محمّد بن الخليل)، و(جعفر بن أحمد المصـري)، و(عمّه الحسن بن عليّ، عن أبيه) كلّهم مجاهيل، فلا تصلح رواية وردوا في طريقها للاستدلال(23).
ومثال آخر على هذا الطريق، هو ما قد يدَّعيه البعض - ومنهم أحمد الگاطع - أنَّ اليماني من العراق من البصرة بالخصوص، وأنَّ اليماني المقصود منه النسبة إلى اليُمْن.
ويكون ردُّ هذه الدعوى وفق هذا الطريق بالرجوع أوَّلاً إلى الروايات، لنرى ما يُستفاد منها، وبالرجوع إلى أهل اللغة العربية لنرى ماذا يستفيدون من كلمة (اليماني).
وبالرجوع لهذين العلمين نجد أنَّ الروايات يُستفاد منها أنَّ اليماني من اليمن بالخصوص، فإنَّه قد ورد عن هشام، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: لـمَّا خرج طالب الحقِّ قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): نرجو أن يكون هذا اليماني؟ فقال: «لا، اليماني يوالي عليّاً وهذا يبرأ»(24).
فتجد أنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) لم ينفِ اليمانية عن هذا المسمّى (الطالب للحقِّ) من جهة أنَّه خرج من اليمن لا من العراق، بل نفاها من جهة عدم موالاته لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ولو كان ثَمَّة جهة أُخرى لكان مناسباً للإمام (عليه السلام) أن يُبيِّنها.
فيظهر من هذا أنَّ كون اليماني من اليمن هو من الواضحات في الذهنية الشيعية عموماً آنذاك، أي في عصـر الإمام (عليه السلام)، وسكوت الإمام (عليه السلام) عن ذلك إقرار منه بصحَّة هذا الفهم في الذهنية العامَّة.
وهكذا لو رجعنا لأهل اللغة، لرأينا أنَّهم يفهمون من (اليماني) النسبة إلى اليَمَن، كما يفهمون من (الحبرة اليمانية) انتسابها إلى اليمن، ومن الركن اليماني الجهة المقابلة من الكعبة لليمن، وأنَّ النسبة المأخوذة من (اليُمْن) هي (ميمون) لا (يماني)، بل إنَّ المتبادر من (اليماني) هو النسبة إلى اليمن، والتبادر علامة الحقيقة، ولا ينصرف إلى غير هذا المعنى إلَّا بقرينة صارفة، وهي مفقودة في المقام.
الطريق الثاني: الطريق الخطابي:
من أهمّ الأساليب الإقناعية وأقدمها وأكثرها تأثيراً في الجمهور هو أُسلوب الخطابة، ذلك الأُسلوب الذي يكون القصد المباشر منه إقناع الجمهور والطرف الآخر، سواء كانت القضايا المستعملة فيه علمية أو مشهورة أو من نوع المسلَّمات وما شابه، فليس المقصود فيها أكثر من إقناع الطرف الآخر، بغضِّ النظر عن نوع القضيَّة المستعملة في الإقناع.
ولا نريد الخوض في أجزاء الخطابة وقوامها، فإنَّ الكلام فيه طويل الذيل.
المهمّ أن نعرف أنَّ هذا الأُسلوب نافع في الكثير من الأحيان، خصوصاً إذا كان الحوار يدور على مرأى ومسمع من جمهور متوسّط الثقافة أو قليلها.
وعندما نرجع إلى أساليب أهل البيت (عليهم السلام) في الحوار نجد أنَّهم (عليهم السلام) قد يستعملون الأُسلوب والطريق الفكري العلمي، وقد يستعملون الأُسلوب والطريق الخطابي، وما ذاك إلَّا لأنَّهم كانوا يلاحظون الظروف الموضوعية المحيطة بالحالة، فيتخيَّرون المناسب من طرق الإقناع.
وكتطبيق عملي لهذه الفكرة، نجد في الروايات الشـريفة سؤالاً واحداً توجَّه إلى اثنين من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد أجابا عنه بجوابين مختلفين، وما ذاك إلَّا لاختلاف حال السائل معهما، حيث ورد أنَّ الديصاني - وهو أحد أقطاب الزنادقة الذين كانوا يُشكِّكون بوجود الله تعالى - قال لهشام بن الحكم: ألك ربٌّ؟ قال: بلى. قال: أقادرٌ؟ قال: بلى. قال: أيقدر أن يُدخِل الدنيا كلّها في البيضة، لا يُكبِّر البيضة ولا يُصغِّر الدنيا؟ فجاء هشام إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وقال له: قال لي الديصاني كذا وكذا. فقال (عليه السلام) له: «كم حواسّك؟»، قال: خمس. قال (عليه السلام): «أيّها أصغر؟»، قال: الناظر. قال (عليه السلام): «كم قدر الناظر؟»، قال: مثل العدسة أو أقلّ. قال (عليه السلام): «فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى». قال: أرى سماءً وأرضاً ودوراً وقصوراً وجبالاً وأنهاراً. فقال (عليه السلام): «إنَّ الذي قدر على أن يُدخِل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادر أن يُدخِل الدنيا كلّها البيضة، لا يُصغِّر الدنيا ولا يُكبِّر البيضة»(25).
ونفس هذا السؤال أجاب عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) بجواب آخر، فعن عمر بن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): هل يقدر ربّك أن يُدخِل الدنيا في بيضة من غير أن يُصغِّر الدنيا أو يُكبِّر البيضة؟ قال: «إنَّ الله تبارك وتعالى لا يُنسَب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون»(26).
فنلاحظ أنَّ جواب الإمام الصادق (عليه السلام) كان جواباً خطابياً اسكاتياً، وأمَّا جواب أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد كان جواباً علمياً برهانياً، مفاده أنَّ ما يقوله السائل يستلزم محالاً عقلياً، فإنَّ قدرة الله تعالى تتعلَّق بالأمر الممكن، وأمَّا الأمر الممتنع ذاتاً فإنَّ القدرة لا تتعلَّق به، لأنَّه ممتنع بالذات، وإدخال الدنيا في البيضة مخالف لقانون عقلي متسالم عليه، وهو عدم إمكان أن يكون الصغير ظرفاً للكبير، لأنَّ قانون الظرفية العقلي يقتضـي أن يكون الكبير ظرفاً للصغير.
فهنا امتناع إدخال الدنيا في البيضة لنقص في البيضة لا لنقص في قدرة الله تعالى، تماماً كما إذا كان هناك رسّام ماهر يجيد كلَّ أنواع الرسم، فيأتيه شخص ويقول له: أتستطيع أن ترسم لي لوحة على الماء أو الهواء!؟ فهل عدم استطاعة الرسّام لذلك يعني أنَّ الرسام ليس ماهراً أم أنَّ نفس الرسم على الماء والهواء مستحيل!؟ حكِّم عقلك واخرج بنتيجة.
تطبيق في القضيَّة المهدوية:
إنَّ جماعة أحمد الگاطع وحتَّى يتملَّصوا من الردِّ العلمي على رواية الوصيَّة، أنكروا (علم الرجال) ونتائجه، فلا يكفي القول بضعف سندها لردِّها، ونحن لو تنزَّلنا عن هذا الأمر، فإنَّه يمكن أن نجيبهم بجواب خطابي لا يمكنهم أن يتملَّصوا منه، وخلاصته التالي:
إنَّ رواية الوصيَّة نصَّت على أنَّ (ابن المهدي) و(أوَّل المقرَّبين) سيتولّى مهام قيادة الدولة المهدوية بعد وفاة أبيه، إذ أنَّها قالت ما نصّه: «... ثمّ يكون من بعده اثنا عشـر مهدياً، (فإذا حضـرته الوفاة) فليُسلِّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين، له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي، واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، هو أوَّل المؤمنين»
(27).
وهنا نقول: لو سلَّمنا أنَّ رواية الوصيَّة صحيحة السند، وأنَّ (أحمد إسماعيل گاطع) هو ابن الإمام، ولكن لا يجب علينا أن نبايعه ونتَّبعه إلَّا بعد ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) وحكمه الأرض ووفاته، لأنَّ هذا هو ما نصَّت عليه الرواية، وبالتالي فلا دليل على لزوم اتِّباعه اليوم إلَّا أن يخالف الوجدان ويدَّعي ظهور الإمام وموته!
الطريق الثالث: طلب المعجزة:
الاتِّصال بالغيب، ليس له أدوات حسّية للإثبات في الأعمِّ الأغلب، لذا أيَّد الله تعالى رسله وأنبياءه بالمعجزات الكثيرة، حتَّى يتمكَّنوا من إثبات اتِّصالهم بالسماء.
ذلك لأنَّ المعجزة حيث إنَّها (أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدّي، مع عدم المعارضة)(28).
وهذا الأمر لا يحصل لأيِّ مدَّعٍ، فإنَّ جريان المعجزة إنَّما يكون بإذن الله تعالى، وهو ما صـرَّح به القرآن الكريم على لسان النبيِّ عيسى (عليه السلام): ﴿وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 49).
فجريانها إنَّما يكون بإذن الله تعالى، فلو جرت على يدي مدَّعٍ كاذب، كان هذا إغراءً من الله تعالى بالمعصية، وهو بحكم العقل قبيح، والله تعالى منزَّهٌ فعلُه عن أيِّ قبيح.
فالحكمة الإلهية واللطف الإلهي يمنع من إجراء المعجزة إلَّا على يدي الصادق، ومن له علاقة بالسماء.
ومن هنا حكم العقل بصدق من تجري المعجزة على يديه، بل وضرورة طاعته.
ومن يدَّعي الاتِّصال بالإمام المهدي (عليه السلام) - وهو نوع من أنواع الاتِّصال بالغيب، إذ ليس له أدوات إثبات حسّية - عليه أن يُثبِت ذلك بنفس الكيفية، إذ ما من طريق يقيني يورث الاطمئنان بذلك إلَّا أن يأتي المدَّعي بما يكشف عن صدق دعواه، وذلك بأن يأتي بشـيءٍ خارق للعادة، من دون سابق إنذار، ومن دون تعليم مسبق، لا كما يفعل المشعوذون والسحرة.
وهذا الأمر له شواهد عديدة، نذكر منها التالي:
أوَّلاً: عن المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: يرجع في أحدهما إلى أهله، والأُخرى يقال: هلك، في أيِّ وادٍ سلك؟»، قلت: كيف نصنع إذا كان ذلك؟ قال: «إن ادَّعى مدَّعٍ فاسألوه عن تلك العظائم التي يجيب فيها مثله»(29).
فالإمام الصادق (عليه السلام) يدلّنا على أنَّ من يدَّعي مقاماً غيبياً كالمهدوية، أو حتَّى الاتِّصال بالمهدي والسفارة عنه، فعليه أن يجيب من يسأله عن أُمور عظائم، لا يجيب عليها إلَّا الإمام أو من يرسله الإمام ويعطيه المؤيِّدات على ذلك، ومن تلك العظائم بل وعلى رأسها المعجزة.
ثانياً: ما ورد عن الحسين بن عليّ بن محمّد المعروف بأبي عليّ البغدادي، قال: رأيت في تلك السنة بمدينة السلام امرأة، تسأل عن وكيل مولانا (عليه السلام) من هو؟ فأخبرها بعض القمّيين أنَّه أبو القاسم الحسين بن روح، وأشار لها إليه وأنا عنده. فقالت له: أيّها الشيخ أيّ شيء معي؟ فقال: ما معكِ اذهبي فألقيه في دجلة، ثمّ ائتيني حتَّى أُخبركِ. قال: فذهبت المرأة، وحملت ما كان معها، فألقته في دجلة، ثمّ رجعت، ودخلت إلى أبي القاسم الروحي، وأنا عنده. فقال أبو القاسم لمملوكته: أخرجي إليَّ الحقَّة فأخرجت إليه الحقَّة، فقال للمرأة: هذه الحقَّة التي كانت معكِ، ورميتِ بها في دجلة، أُخبرك بما فيها أم تخبريني؟ قالت: بل تخبرني أنت. قال: في هذه الحقَّة زوج سوار ذهب، وحلقة كبيرة فيها جواهر وخاتمان أحدهما فيروزج، والآخر عقيق. وكان الأمر كما ذكر لم يغادر منه شيئاً. ثمّ فتح الحقَّة، فعرض عليَّ ما فيها، ونظرت المرأة إليه فقالت: هذه التي حملتها بعينها، ورميت بها في دجلة. فغشـي عليَّ وعلى المرأة لما شاهدناه من صدق الدلالة والعلامة(30).
ثالثاً: ما ورد عن محمّد بن الحسن الصيرفي الدورقي المقيم بأرض بلخ يقول: أردت الخروج إلى الحجِّ، وكان معي مال بعضه ذهب وبعضه فضَّة، فجعلت ما كان معي من الذهب سبائك وما كان معي من الفضَّة نقراً، وكان قد دُفِعَ ذلك المال إليَّ لأُسلِّمه من (إلى) الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (قدَّس الله روحه)، قال: فلمَّا نزلت سرخس ضربت خيمتي على موضع فيه رمل، فجعلت أُميِّز تلك السبائك والنقر، فسقطت سبيكة من تلك السبائك منّي وغاضت في الرمل وأنا لا أعلم، قال: فلمَّا دخلت همدان ميَّزت تلك السبائك والنقر مرَّة أُخرى اهتماماً منّي بحفظها، ففقدت منها سبيكة وزنها مائة مثقال وثلاثة مثاقيل - أو قال: ثلاثة وتسعون مثقالاً -، قال: فسبكت مكانها من مالي بوزنها سبيكة وجعلتها بين السبائك، فلمَّا وردت مدينة السلام قصدت الشيخ أبا القاسم الحسين بن روح (قدَّس الله روحه)، وسلَّمت إليه ما كان معي من السبائك والنقر، فمدَّ يده من بين [تلك] السبائك إلى السبيكة التي كنت سبكتها من مالي بدلاً ممَّا ضاع منّي، فرمى بها إليَّ، وقال لي: ليست هذه السبيكة لنا، وسبيكتنا ضيَّعتها بسـرخس حيث ضربت خيمتك في الرمل، فارجع إلى مكانك وانزل حيث نزلت واطلب السبيكة هناك تحت الرمل فإنَّك ستجدها، وستعود إلى هاهنا فلا تراني. قال: فرجعت إلى سرخس ونزلت حيث كنت نزلت، فوجدت السبيكة تحت الرمل وقد نبت عليها الحشيش، فأخذت السبيكة وانصرفت إلى بلدي، فلمَّا كان بعد ذلك حججت ومعي السبيكة فدخلت مدينة السلام وقد كان الشيخ أبو القاسم الحسين ابن روح (رضي الله عنه) مضـى، ولقيت أبا الحسن عليّ بن محمّد السمري (رضي الله عنه)، فسلَّمت السبيكة إليه(31).
ومن هذه الإشارات نفهم:
أوَّلاً:
ضرورة التروّي في اتِّباع أيّ مدَّعٍ لدعاوى الارتباط بالغيب، وعدم الاستعجال والدخول معه من دون بصيرة.
ثانياً: يجوز لنا أن نطالب مدَّعي الاتِّصال بالغيب بآية تُثبِت صدق دعواه، فإذا رفض كان ذلك علامة كذبه.
الطريق الرابع: الإهمال:
هل من الصحيح أن نواجه علناً كلَّ من ادَّعى دعوى غيبية؟
وهل من الصحيح أن نجالس كلَّ من طالبنا بالنقاش والمحاججة؟
وهل طاولة النقاش مفتوحة لكلِّ من هبَّ ودبَّ؟
الجواب:
إنَّ التفكير المنطقي الموزون يقضـي بضـرورة الجلوس والنقاش مع البعض، وفي نفس الوقت يحكم بضرورة اتِّخاذ إجراء (الإهمال المتعمَّد) مع بعض آخر، فإنَّه يكون أبلغ جواب له هو إهماله، إذ لعلَّ مناقشته ترفع من شأنه وهو وضيع، وقد تُلفِت الأنظار إليه فينخدع به من لا بصيرة له، فيكون التصرّف الحكيم معه هو إهماله، والاجتناب عن الجلوس معه، ليعرف الجميع ضعته وزيفه، وأنَّه لا يصل إلى منزلة يستحقُّ معها إنفاق بعض الوقت والجهد لأجله.
وهذا الأُسلوب قد استعمله بعض الأئمَّة الأطهار مع بعض الخصوم والمدَّعين، فقد ورد أنَّ أبا سَلَمة الخلال، وهو أحد نقباء الدولة العبّاسية، والعضو الفعّال في قيادة الثورة العبّاسية، بعث كتاباً إلى الإمام الصادق (عليه السلام) يُعلِن فيه استعداده للدعوة إليه والتخلّي عن بني العبّاس، فكان جواب الإمام: «ما أنا وأبو سَلَمة، وأبو سَلَمة شيعة لغيري»، فقال رسول أبي سَلَمة: إنّي رسول، فتقرأ كتابه وتجيبه. فدعا الإمام الصادق (عليه السلام) بسـراج ثمّ أخذ كتاب أبي سَلَمة فوضعه على السـراج حتَّى احترق، وقال للرسول: «عرِّفْ صاحبك بما رأيت»(32).
فالإهمال في بعض الأحيان جواب كافٍ ووافٍ لمن يدَّعي ما ليس فيه.
وهذا ما فعله السفير الثالث الشيخ الحسين بن روح مع الشلمغاني، فقد ورد أنَّه أنفذ محمّد بن عليّ الشلمغاني العزاقري إلى الشيخ الحسين بن روح يسأله أن يباهله، وقال: أنا صاحب الرجل وقد أمرت بإظهار العلم، وقد أظهرته باطناً وظاهراً، فباهلني، فأنفذ إليه الشيخ (رضي الله عنه) في جواب ذلك: أيّنا تقدَّم صاحبه فهو المخصوم، فتقدَّم العزاقري فقُتِلَ وصُلِبَ...(33).
وكذلك ما فعله السفير الأوَّل عثمان بن سعيد العمري الأسدي مع محمّد بن نصير النميري الذي ادَّعى أنَّه رسول نبيّ، وكان يقول بربوبية عليّ (عليه السلام)، ويقول بإباحة المحارم وتحليل نكاح الرجال...، فقد ورد أنَّه لـمَّا ظهر محمّد بن نصير بما ظهر لعنه أبو جعفر (رضي الله عنه) وتبرَّأ منه، فبلغه ذلك، فقصد أبا جعفر (رضي الله عنه) ليعطف بقلبه عليه أو يعتذر إليه، فلم يأذن له وحجبه وردَّه خائباً(34).
الطريق الخامس: الاستهزاء:
نحن نعرف أنَّ الإسلام دين الاحترام وتقييم الآخر، فليس فيه دعوة أو حثّ على الاستهزاء بالآخرين، ومعه فما معنى أن يكون الاستهزاء طريقاً للنقاش والحوار وإثبات الرأي؟
إنَّ المقصود هنا هو عدم إعطاء المدَّعي - إذا ما ثبت تعمّده الكذب واختلاق مقام ليس هو من أهله - أيّ فرصة لإثبات نفسه أو شخصيته، وعدم السماح له بالنبس ببنت شفة، وإظهار أمره لخطورة دعواه الباطلة، فإنَّ ذلك في الوقت الذي قد يُؤثِّر إيجاباً على نفسية المدَّعي، بأن يرتدع عن الخوض في الباطل، أو على الأقلّ أن يُخفِّف من التبشير بدعواه خوفاً من الفضيحة والاستهزاء، كذلك فإنَّه يقف حاجزاً دون السماح للآخرين باتِّباع المبطل، فإنَّ الناس إذا رأوا حقارة ذلك المدَّعي وعدم هيبته، فإنَّهم سيحاولون الحفاظ على كرامتهم بالابتعاد عنه، وبالتالي نكون قد حصلنا على نتيجتين في آنٍ واحد: ردع المدَّعي بالباطل، ومنع الناس من اتِّباعه.
وهذا التصـرّف يحتاج إلى حنكة اجتماعية وذكاء وجداني يستطيع من خلاله الإنسان أن يعرف التصرّف المناسب مع المدَّعي، كما فعله الشيخ ابن بابويه والد الشيخ الصدوق رحمه الله مع الحلّاج، فقد ورد أنَّ ابن الحلّاج صار إلى قمّ، وكاتب قرابة أبي الحسن - وهو والد الشيخ الصدوق - يستدعيه ويستدعي أبا الحسن أيضاً ويقول: أنا رسول الإمام ووكيله.
قال الصدوق: فلمَّا وقعت المكاتبة في يد أبي (رضي الله عنه) خرقها، وقال لموصلها إليه: ما أفرغك للجهالات؟ فقال له الرجل: ... فإنَّ الرجل قد استدعانا فلِمَ خرقت مكاتبته!؟
وضحكوا منه وهزؤا به. ثمّ نهض إلى دكّانه ومعه جماعة من أصحابه وغلمانه. قال: فلمَّا دخل إلى الدار التي كان فيها دكّانه نهض له من كان هناك جالساً غير رجل رآه جالساً في الموضع فلم ينهض له ولم يعرفه أبي، فلمَّا جلس وأخرج حسابه ودواته كما يكون التجّار أقبل على بعض من كان حاضراً، فسأله عنه، فأخبره، فسمعه الرجل يسأل عنه، فأقبل عليه وقال له: تسأل عنّي وأنا حاضر؟ فقال له أبي: أكبرتك أيّها الرجل وأعظمت قدرك أن أسألك. فقال له: تخرق رقعتي وأنا أُشاهدك تخرقها؟ فقال له أبي: فأنت الرجل إذاً.
ثمّ قال: يا غلام برجله وبقفاه، فخرج من الدار العدوّ لله ولرسوله، ثمّ قال له: أتدَّعي المعجزات عليك لعنة الله؟ أو كما قال، فأُخرج بقفاه، فما رأيناه بعدها بقم(35).
ومنه ما ورد عن أبي نصـر هبة الله بن محمّد الكاتب ابن بنت أُمّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري، قال: لـمَّا أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلّاج ويُظهِر فضيحته ويُخزيه، وقع له أنَّ أبا سهل إسماعيل بن عليّ النوبختي (رضي الله عنه) ممَّن تجوز عليه مخرقته وتتمُّ عليه حيلته، فوجَّه إليه يستدعيه، وظنَّ أنَّ أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله، وقدر أن يستجرّه إليه فيتمخرق (به) ويتسوف بانقياده على غيره، فيستتبُّ له ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على الضعفة، لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحلّه من العلم والأدب أيضاً عندهم، ويقول له في مراسلته إيّاه: إنّي وكيل صاحب الزمان (عليه السلام) - وبهذا أوَّلاً كان يستجرُّ الجهّال ثمّ يعلو منه إلى غيره -، وقد أُمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصـرة لك لتقوي نفسك، ولا ترتاب بهذا الأمر. فأرسل إليه أبو سهل (رضي الله عنه) يقول له: إنّي أسألك أمراً يسيراً يخفُّ مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين، وهو أنّي رجل أُحِبُّ الجواري وأصبو إليهنَّ، ولي منهنَّ عدَّة أتحظّاهنَّ، والشيب يُبعِدني عنهنَّ [ويُبغِّضني إليهنَّ]، وأحتاج أن أُخضبه في كلِّ جمعة، وأتحمَّل منه مشقَّة شديدة لأستر عنهنَّ ذلك، وإلَّا انكشف أمري عندهنَّ، فصار القرب بعداً والوصال هجراً، وأُريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإنّي طوع يديك، وصائر إليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة. فلمَّا سمع ذلك الحلّاج من قوله وجوابه علم أنَّه قد أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه جواباً، ولم يُرسِل إليه رسولاً، وصيَّره أبو سهل (رضي الله عنه) أُحدوثة وضحكة ويطنز(36) به عند كلِّ أحد، وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سبباً لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه(37).
الفصل الثالث: آداب الحوار:
مهما كانت العقيدة التي نؤمن بها حقَّة، ومهما كانت الدعاوى المقابلة باطلة، فإنَّ المطلوب من المؤمن أن لا يخرج عن الحدود الإسلاميَّة والآداب الأخلاقية في مناظرته ونقاشه مع الآخر، ذلك لأنَّ عادة الجدال والحوار أنَّه يستثير دفائن الأُمور وكوامن النفوس، وبالتالي فإنَّ العصبية ستجد مراحاً واسعاً لتمدَّ ظلالها على طاولة النقاش، ومن هنا يلزم على المؤمن أن لا ينسى الآداب العامَّة للمناظرة، والتي أكَّد عليها القرآن الكريم والروايات الشريفة والأحكام العقلية وسيرة العقلاء.
والآداب كثيرة، نذكر منها التالي:
الأدب الأوَّل: الهدفية الإلهية:
بمعنى أن يكون الدافع من وراء إثارة النقاش هو الوصول إلى الحقِّ الذي يريده الله تعالى، لا أن يكون الدافع مجرَّد إثبات الرأي أو المراء أو إثبات أفضلية النفس والشهرة والسمعة وقوَّة إلقاء الحجَّة ورصانة التعبير، فإنَّ كلَّ شيء لا يكون المقصود من ورائه وجه الله تعالى فهو هباء.
ولازم هذا الأدب أن يخضع الشخص للحقِّ إذا ثبت، بغضِّ النظر عمَّن ثبت على يده الحقُّ.
وقد يكون هو المراد من أمر القرآن الكريم بتحديد الجدال بالتي هي أحسن، حيث يكون الهدف منه الوصول إلى الحقيقة بإخلاص وتجرّد عن الأنانية والمراء.
روي أنَّه قال أبو محمّد الحسن بن عليّ العسكري عليهما السلام: «ذكر عند الصادق (عليه السلام) الجدال في الدين وأنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمَّة (عليهم السلام) قد نهوا عنه، فقال الصادق (عليه السلام): لم ينهِ عنه مطلقاً، ولكنَّه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، أمَا تسمعون الله يقول: ﴿وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: 46]، وقوله: ﴿ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]؟»(38).
وهذا الأدب يتضمَّن التوسّل بالله تعالى في أن يجري الحقَّ على يديه نصـرةً لدينه لا نصـرةً لنفسه، فالمؤمن دائم الحذر من نفسه، وحتَّى لا ينخدع بخدعها، عليه أن يتوسَّل بالربِّ الجليل أن ينجيه من فتنتها واختباراتها.
الأدب الثاني: تحديد محلّ النزاع:
فليس من الصحيح أن نبدأ النقاش في موضوع متناثر الأطراف من دون تحديد الوجهة التي نقصدها من النقاش، خصوصاً في القضايا المتشعِّبة وذات المفاصل المتعدِّدة، كالقضيَّة المهدوية، وإلَّا فإنَّ عدم تحديد موضع النقاش يؤدّي إلى تضييع الجهد والوقت، وبالتالي عدم الوصول إلى نتيجة معيَّنة.
ويدخل تحت هذا الأدب أنَّ على المتحاورين أن يفتتحا نقاشهما بالأُمور الأصلية والأساسات التي ترتكز عليها العقيدة، لا أن ينشغلا بالأُمور الفرعية التي تُعتَبر من نتائج تلك الأساسات.
الأدب الثالث: تحديد مصادر إثبات الرأي:
بمعنى أن يتمَّ الاتِّفاق مسبقاً على الأُصول الموضوعية التي تؤخذ مسلَّمة أثناء النقاش، وما يمكن أن يكون مرجعاً لإثبات الرأي، وما لا يصحُّ الاعتماد عليه فيه، فنُحدِّد مثلاً أنَّ الحسن والقبح عقليان أو شرعيان، وأنَّ مرجعنا في النقاش هو الكتاب الكريم والسُّنَّة الشـريفة، ونُحدِّد ما هو الحجَّة من السُّنَّة الشـريفة، وأنَّه هل الحجَّة فيها هو كلّ ما احتملنا صدوره عن المعصوم أو خصوص ما صحَّت نسبته إليه، وأنَّ علم الرجال مثلاً من العلوم التي يُعتَمد عليها أو لا، وأنَّ الرؤى والأحلام هل هي حجَّة أو لا، وهكذا...
إنَّ عدم تحديد المرجع في إثبات الرأي وعدم الاتِّفاق المسبق يؤدّي إلى دوران المتناقشين في حلقة مفرغة، وإلى توقّفهم عند الخطوة الأُولى من دون إحراز أيّ تقدّم نحو النتائج اليقينية.
الأدب الرابع: الأهلية العلمية:
بمعنى أن يكون الشخص الذي يبرز للمناقشة ذا علمية وتخصّص في المجال الذي يريد النقاش فيه، ولا يكون عيالاً عليه، وإلَّا فإنَّه مغلوب محجوج لا محالة، وضياع الحقّ على يديه سيكون محتملاً جدّاً، ولن ينتج الحوار معه سوى ضياع الوقت وهدر الجهد، وهذا من أشدِّ ما ابتلى به المتخصِّصون في مجالات العلوم، حيث إنَّهم يواجهون أُناساً غير متخصِّصين، ولا يفهمون المقصود من كلام المتخصِّص، وبالتالي فإنَّ سوء الفهم لن ينتج إلَّا الجدال والمراء بغير حقٍّ.
إنَّ المتخصِّص يتميَّز بأنَّه سيكون متثبِّتاً في كلامه، مطمئنّاً بقوَّة حججه وبراهينه، وبالتالي سينعكس هذا الاطمئنان وهذه الثقة بالنفس على الطرف الآخر بالخوف والارتباك، وبالتالي الاعتراف بالعجز أو الانسحاب بخسارة.
عن عبد الأعلى، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنَّ الناس يعتبون عليَّ بالكلام وأنا أُكلِّم الناس، فقال: «أمَّا مثلك من يقع ثمّ يطير فنعم، وأمَّا من يقع ثمّ لا يطير فلا»(39).
وعن الطيّار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): بلغني أنَّك كرهت مناظرة الناس. فقال: «أمَّا كلام مثلك فلا يُكرَه، من إذا طار يحسن أن يقع، وإن وقع يحسن أن يطير، فمن كان هكذا لا نكرهه»(40).
الأدب الخامس: الجوّ المناسب:
لا شكَّ أنَّ للجوِّ أثره في إنتاج الحوار، لذلك ينبغي الاهتمام بهذا الجانب، فينبغي اختيار وقت مناسب بعيداً عن الأجواء الضوضائية، والاتِّفاق على إتاحة وقت كافٍ لكلٍّ من المتحاورين ليُبيِّن مطلبه والمعنى الذي يؤمن به، وعلى من يريد فتح نقاش أن يكون مرتاحاً جسدياً ونفسياً، ليتمكَّن من تجميع المعلومات وتحليلها واستنتاج النتائج منها، والانتباه إلى نقاط ضعف الخصم، وعليه أن يهتمَّ بمظهره، لأنَّ للمظهر أثره في تقبّل الآخر، وعليه أن ينتظر دوره ليلقي حججه، ولا يتطفَّل على وقت غيره، وأن يكون مستمعاً جيِّداً للطرف الآخر، ليلقي في روعه أنَّه مهتمٌّ بكلامه، وحتَّى يتمكَّن أيضاً من التقاط ما يمكن أن يُمثِّل هوة في كلام الخصم ونقطة ضعف فيه.
ويدخل تحت هذا الأدب التعارف المسبق، وإلقاء التحيَّة والترحيب والبشاشة، ونداء الطرف الآخر بما يُحبِّه من الأسماء، فإنَّ ذلك من شأنه أن يخلق جوّاً رطباً بعيداً عن التشنّجات والمهاترات.
الأدب السادس: الصبر
إنَّ إثبات الحقِّ ليس سهلاً دائماً، لأنَّ الطرف الآخر قد يكون من النوع المعاند، وقد يكون من النوع المغالط، وبالتالي فإنَّه سيكون متعباً جدّاً أثناء الحوار، فعلى من يفتح باب النقاش أن يتحلّى بالصبر، حتَّى يستطيع أن يجني ثمار نقاشه، ولا ييأس من أوَّل محاولة فاشلة، بل عليه أن يستمرَّ بالبحث وإدلاء الأدلَّة وتقوية الأساس العقدي وتضعيف الباطل بطريقة وبأُخرى، إلى أن يكتب الله تعالى له الظفر بأهل الباطل.
الخاتمة:
إنَّ العقيدة تحتاج في مسيرتها إلى أُناس يحملون همّها وهمّ نشـرها وبثّها وإثباتها، والوقوف أمام الشبهات المثارة حولها، ورصد الطرف الآخر وتحرّكاته الفكرية والميدانية، وهذا يحتاج إلى معرفة مسبقة بنوع الطرف الآخر، وبالطريقة المناسبة للتحاور معه، وبالقضيَّة التي يمكن أن تكون هي مادَّة النقاش والحوار، وهذا يحتاج إلى تخصّص في مجال معيَّن، وإلى صبر على تحصيل العلم فيه، وإلى إخلاص في العمل، حتَّى يمكن أن يكون النقاش مثمراً.
وهذا المبدأ قد أكَّد عليه القرآن الكريم حينما دعا إلى إثارة النقاش والجدال بالأُسلوب الحسن الذي يُرتجى معه الظفر ونصرة الحقِّ، والإطاحة بزخارف الباطل وبهارجه.
إنَّ على كلِّ مؤمن يحمل همّ المذهب أن يرصد الدعاوى الباطلة والمزيَّفة، التي يقوم بتشييدها أبناء الباطل ودعاة الضلال، وأن يتسلَّح بالإيمان والصبر والعلم في مواجهتها، فإنَّ المسلم هو من يحمل همّ الإسلام، والمؤمن إيمانه أصلب من الجبال، فلا تهزّه ريح صرّ عاتية.
وهذه المفردة تُمثِّل إحدى تجلّيات الانتظار بمفهومه الصحيح، ذلك الانتظار الذي يجعل الفرد دائم البحث والتنقيب عمَّا يقوّي إيمانه، ويُضعِّف من أسلحة الشيطان.
وأفضل عون على ذلك هو أن يتوسَّل الإنسان بمصدر القوَّة المطلقة، والحكمة اللامتناهية، واللطف الخفيّ، ليسلم من المنزلق، ولا يقع في حفرة الباطل، ولات حين مندمِ.

الهوامش:
(1) المنطق للمظفَّر 3: 327 بتصرّف قليل.
(2) المنطق للمظفَّر 3: 339 بتصرّف قليل.
(3) المنطق للمظفَّر 3: 340.
(4) المقرَّر في شرح منطق المظفَّر: 501.
(5) المنطق للمظفَّر 3: 348.
(6) المنطق للمظفَّر 3: 351 و352 بتصرّف.
(7) المنطق للمظفَّر 3: 352 و353 بتصرّف.
(8) المنطق للمظفَّر 3: 353 بتصرّف.
(9) المنطق للمظفَّر 3: 354.
(10) نهج البلاغة 2: 86.
(11) القياس: هو دعوى أنَّ للعقل أن يُدرك ملاكات الأحكام في المقيس عليه لاستنتاج الحكم في المقيس. وهذا معنى (الاجتهاد بالرأي). (أُصول الفقه للمظفَّر 3: 139). إنَّ القياس نوع من (التمثيل) المصطلح عليه في المنطق...، إنَّ التمثيل من الأدلَّة التي لا تفيد إلَّا الاحتمال، لأنَّه لا يلزم من تشابه شيئين في أمر - بل في عدَّة أُمور - أن يتشابها من جميع الوجوه والخصوصيات. (أُصول الفقه للمظفَّر 3: 188).
(12) الكافي للكليني 1: 58/ باب البدع والرأي والمقاييس/ ح 20.
(13) وروي هذا المقطع من الرواية عن أبي جعفر (عليه السلام) في كتاب كمال الدين للصدوق: 147.
(14) قصص الأنبياء للراوندي: 151.
(15) أعيان الشيعة لمحسن الأمين 3: 409؛ الملل والنِحَل للشهرستاني 1: 150.
(16) الفصول المهمَّة لابن الصبّاغ 2: 956.
(17) يمكن معرفة تفاصيل تلك الحركات والشخصيات وغيرها في ملحق الرصد (3): أدعياء المهدوية، الصادر عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية/ حزيران 2014م/ للباحث أحمد فرج الله.
(18) الإرشاد للمفيد 2: 371.
(19) الغيبة للطوسي: 437/ ح 428.
(20) الغيبة للطوسي: 336 و337/ ح 283.
(21) الكافي للكليني 1: 11/ كتاب العقل والجهل/ ح 7.
(22) الغيبة للطوسي: 151/ ح 111.
(23) للتفاصيل راجع كتاب: الردُّ القاصم لدعوة المفتري على الإمام القائم للشيخ عليّ آل محسن: 28 - 34/ تقديم مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (عليه السلام).
(24) أمالي الصدوق: 661/ ح (1375/19).
(25) التوحيد للصدوق: 122.
(26) التوحيد للصدوق: 129 و130.
(27) الغيبة للطوسي: 151/ ح 111.
(28) محاضرات في الإلهيات للسبحاني: 258.
(29) الغيبة للنعماني: 178.
(30) الخرائج والجرائح للراوندي 3: 1125 و1126.
(31) كمال الدين للصدوق: 516 و517.
(32) اُنظر: مروج الذهب للمسعودي 3: 253.
(33) الغيبة للطوسي: 307/ ح 258.
(34) الغيبة لطوسي: 398/ ح 370.
(35) الغيبة للطوسي: 402 و403/ ح 377.
(36) طنز يطنز طنزاً: كلَّمه باستهزاء. (هامش المصدر).
(37) الغيبة لطوسي: 401 و402/ ح 376.
(38) الاحتجاج للطبرسي 1: 14.
(39) اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 610/ الرقم 578.
(40) بحار الأنوار للمجلسي 2: 136.

البحوث والمقالات : ٢٠٢١/٠٣/١٢ : ٤.٥ K : ٠
: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.