البحوث والمقالات

(٦٥٣) المذهب التناسخي يعود بلباس الرجعة الروحية (١)

المذهب التناسخي يعود بلباس الرجعة الروحية (1)

الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي

حاجة المجتمع إلى الخبير:
إنَّ ممَّا لا شكَّ فيه بين الناس هو ضرورة رجوع الجاهل منهم إلى العالم، وهذا ما جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أمضت الأديان إيجاباً وتقريراً تلك السيرة.
توضيح ذلك:
إنَّ الملاحظ لطريقة الحياة الاجتماعية لدى العقلاء سواءً ما كان منها بدائياً أو مدنياً يجد وضوحاً لا لبس فيه أنَّ العقلاء جرت سيرتهم في تعاملاتهم الحياتية على رجوع غير المتخصِّص منهم إلى الخبير المتخصِّص، وليس ذلك الرجوع منهم إلَّا تلبية لفطرة جُبلوا عليها، ولا تستقيم الحياة بدونها.
وهذه السيرة ليست مختصَّة بتخصّص ما، بل تشمل جميع صنوف الحياة وفنونها.
وجاءت الأديان لتُقرِّر وتُمضـي هذه الحالة الفطرية كما أمضت من قبلها حالات فطرية أُخرى كثيرة.
نعم هذا الامضاء ضمن ضوابط وحدود.
وهكذا فيما نحن فيه من رجوع الجاهل إلى العالم الخبير في مجال بيان الأحكام الشـرعية الدينية وتوضيح العقائد وتبيين المختلف فيه للناس، فإنَّ أصل الإرجاع ممَّا لا شكَّ فيه (أي إرجاع غير المتخصِّص في الدين والأحكام الشـرعية إلى المتخصِّص)، نعم هناك شروط وضعتها الشـريعة في كيفية كون المتخصِّص الديني متخصِّصاً، (كما أنَّ التخصّصات الاجتماعية وضعت ضوابط لكون المتخصِّص فيها متخصِّصاً)، وما لم ترع تلك الضوابط والشـروط لا.يُسمى ذلك الشخص متخصِّصاً يجوز الرجوع إليه.
وممَّا دلَّ من الذكر الحكيم والروايات على أصل الإرجاع الديني إلى المتخصِّص.
1 - قوله تعالى: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (الأنبياء: 7).
2 - وقوله تعالى: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ (النساء: 83).
أمَّا من الروايات:
فقوله (عليه السلام): «أمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا»(1).
بعد وضوح - من خلال التتبّع والتأمّل - أنَّ الراوي المقصود به هنا هو المتخصِّص في هذا الفنّ لا مطلق من يروي عن أهل البيت (عليهم السلام).
أمَّا ما دلَّ على كيفية الإرجاع وشروط المُرجَع إليه، فمنها:
1 - قو ل الإمام العسكري (عليه السلام): «فأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يُقلِّدوه»(2).
هذا وبعد وضوح ضرورة الرجوع إلى المتخصِّص في تحصيل الأحكام، فإنَّ أفضل طريقة لمعرفة المتخصِّص هي بالرجوع إلى ذوي الخبرة في ذلك التخصّص والاعتماد على إرشادهم.
طريقة الأخذ بالروايات:
قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فُصِّلت: 41 و42).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «لا تتقبَّلوا علينا حديثاً إلَّا ما وافق القرآن والسُّنَّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدِّمة»(3).
ومن خلال النصّ القرآني والروائي يتَّضح:
1 - أنَّ هناك أحاديث مدسوسة وموضوعة.
2 - أنَّ هناك ميزاناً لمعرفة ذلك.
توضيح ذلك: أنَّ الآية تضع لنا ميزاناً يفضح الخلط والدسّ في الرواية، فما من خلط أو دسٍّ إلَّا ويدفعه القرآن ويكشفه من خلال هذا النظم المعرفي القاضي بعزَّة القرآن وحقّانيَّته في قبال غيره.
هذا وإنَّ قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي رواه الفريقان: «ما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»(4) يُوضِّح الحالة المرضية (وجود الدسِّ) والعلاج بـ (الإرجاع إلى القرآن).
يقول العلَّامة الطباطبائي(5): (فأعطى (أي الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم))ميزاناً يوزن به المعارف المنقولة منه ومن أوليائه، وبالجملة فبالقرآن يدفع الباطل عن ساحة الحقِّ، قال تعالى: ﴿وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ﴾ (الأنفال: 7)، ولا معنى لإحقاق الحقِّ وإبطال الباطل إلَّا بإظهار صفته.
وكما أنَّ القبول المطلق تكذيب للموازين المنصوبة في الدين لتمييز الحقِّ من الباطل، كذلك الطرح الكلّي تكذيب لها وإلغاء وإبطال للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهو القائل (جلَّ ثناؤه): ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشـر: 7)، وقال تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ (النساء: 64).
إذ لو لم يكن لقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حجّية أو لما يُنقَل من قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلينا معاشر الغائبين في عصـره أو الموجودين بعد ارتحاله من الدنيا حجّية لما استقرَّ من الدين حجر على حجر، والركون على النقل والحديث ممَّا يعتقده البشـر ويقبله، في حياته الاجتماعية قبولاً يضطرُّ إليه بالبداهة ويهديه إلى ذلك الفطرة الإنسانية، لا غنى له عن ذلك. وأمَّا وقوع الدسِّ والخلط في المعارف المنقولة الدينية فليس ببدع يختصُّ بالدين.
ونحن على فطرتنا الإنسانية لا نجري على مجرَّد قرع السمع في الأخبار المنقولة إلينا في نادي الاجتماع، بل نعرض كلّ واحد واحد منها على ما عندنا من الميزان الذي يمكن أن يوزن به، فإن وافقه وصدَّقه قبلناه، وإن خالفه وكذَّبه طرحناه، وإن لم يتبيَّن شيء من أمره ولم يتميَّز حقّه من باطله وصدقه من كذبه توقَّفنا فيه من غير قبول ولا ردّ على الاحتياط الذي جُبلنا عليه في الشرور والمضارّ.
هذا كلّه بشرط الخبرة في نوع الخبر الذي نُقِلَ إلينا، وأمَّا ما لا خبرة للإنسان فيه من الأخبار ممَّا يشتمل عليه من المضمون، فسبيل العقلاء فيه الرجوع إلى أهل خبرته، والأخذ بما يرون فيه ويحكمون به.
فهذا ما عليه بناؤنا الفطري في الاجتماع الإنساني والميزان الديني لتمييز الحقّ من الباطل، وكذا الصدق من الكذب، لا يغاير ذلك بل هو هو بعينه. وهو العرض على كتاب الله فإن تبيَّن منه شيء أُخِذَ به وإن لم يتبيَّن لشبهة فالوقوف عند الشبهة. وعلى ذلك أخبار متواترة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمَّة من أهل بيته (عليهم السلام)) انتهى.
بيان بعض المعاني والمفاهيم ذات الصلة بالبحث:
1 - الرجعة:

الرجعة لغةً: الرجوع هو العود إلى ما كان منه البدء، قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ (الأنعام: 60)، وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ﴾ (الأعراف: 150)، فأنت تلاحظ أنَّ الرجوع مستخدم في العودة إلى المبدأ أو إلى ما منه البدء(6).
الرجعة في اصطلاح أهل التخصّص:
يقول الحرُّ العاملي: (اعلم أنَّ الرجعة هنا في الحياة بعد الموت قبل القيامة، وهو الذي يتبادر من معناها، وصرَّح به العلماء، ويُفهَم من مواقع استعمالها، ووقع التصـريح به في أحاديثها، وصرَّح بذلك علماء اللغة، فعُلِمَ أنَّ هذا معناه الحقيقي، فلا يجوز العدول عنه في موضع لا قرينة فيه)(7).
ويقول الشيخ المظفَّر عن الرجعة: (وأمَّا من طعن في الرجعة أنَّها تناسخ فلأنَّه لم يفرق بين معنى التناسخ وبين المعاد الجسماني والرجعة من نوع المعاد الجسماني، فإنَّ معنى التناسخ هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر منفصل عن الأوَّل، وليس كذلك معنى المعاد الجسماني، فإنَّه معناه رجوع نفس البدن الأوَّل بمشخَّصاته النفسية، فكذلك الرجعة)(8).
ويقول الشيخ المفيد رحمه الله: (إنَّ الله يردُّ قوماً من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها...، وذلك عند قيام مهدي آل محمّد (صلّى الله عليهم أجمعين))، ثمّ قال: (وقد جاء القرآن بصحَّة ذلك، وتظاهرت به الأخبار، والإماميَّة بأجمعها عليه إلَّا شُذّاذ منهم تأوَّلوا ما ورد فيه ممَّا ذكرناه على وجه يخالف ما وصفناه)(9).
وفي سفينة البحار في باب الرجعة: (قال السيِّد المرتضـى (رحمه الله): الذي تذهب الشيعة الإماميَّة إليه أنَّ الله تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان المهدي (عليه السلام) قوماً ممَّن كان قد تقدَّم موته شيعته ليفوز بنصرته...)(10).
وقال عطاء الله أشرفي: (القول بالرجعة من متفرِّدات الشيعة، والدليل على إثباتها الأدلَّة الثلاث يعني الآية والرواية والإجماع)(11).
وقال الفيض الكاشاني: (وقد تظاهرت الأخبار عن أئمَّة الهدى من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) في أنَّ الله تعالى سيعيد عند قيام المهدي قوماً ممَّن تقدَّم موتهم...)(12)، ثمّ قال: (... ذلك إذا خرجوا في الرجعة من القبر)(13).
وما قاله الشيخ الصدوق ونقله عنه صاحب البحار: (إنَّ الرجعة كانت في الأُمم السالفة، وقال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) يكون في هذه الأُمَّة مثل ما يكون في الأُمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذَّة بالقذَّة، فيجب على هذا الأمر أن يكون في هذه الأُمة رجعة)(14).
وقال السيِّد محمّد حسين الطباطبائي: (... وهذا يفيد أنَّ يوم الرجعة من مراتب يوم القيامة وإن كان دونه في الظهور لإمكان الشرّ والفساد فيه في الجملة دون يوم القيامة...)(15).
2 - التناسخ:
التناسخ لغةً من النسخ بمعنى النقل أو بمعنى إزالة الشـيء بشـيء يتعقَّبه كنسخ الشمس الظلَّ والشيب الشباب(16).
التناسخ في الاصطلاح: هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر في هذه النشأة، فإذا مات البدن انتقلت إلى الثاني والثالث وهكذا(17).
وعرَّفه آخرون بأنَّه: عودة الروح إلى الحياة الدنيا بجسد جديد (وهي نظرية دينية قديمة).
وعرَّفه الشهرستاني: (هو أن تتكرَّر الأكوار والأدوار إلى ما لا نهاية له، ويحدث في كلِّ دور مثل ما حدث في الأوَّل، والثواب والعقاب في هذه الدار لا في الدار الآخرة...)(18).
وعرَّفه صدر المتألِّهين: (انتقال النفس من بدن عنصـري أو طبيعي إلى بدن آخر منفصل عن الأوَّل. سواء كان ذلك النزول من الروح إلى البدن الحيواني وهو المسخ أو إلى البدن النباتي فيكون الفسخ أو إلى الجمادي وهو الرسخ)، ثمّ قال: (وأمَّا تحوّل النفس من النشأة الدنيوية إلى النشأة الأُخروية وصيروتها بحسب ملكاتها إمَّا ذات صورة حسنة أو سيِّئة فهو أمر ثابت بالبرهان دلَّت عليه آيات القرآن وظواهر السُّنَّة)(19).
وقد عرَّفه الحرُّ العاملي بأنَّه: (تعلّق الروح ببدن آخر في الدنيا، وقد دلَّت النصوص المتواترة والإجماع على بطلانه)(20).
للتناسخ ثلاث صور:
1 - التناسخ المطلق:
وهو انتقال النفس من بدن إلى آخر في هذه النشأة، فإذا مات البدن الثاني انتقلت إلى ثالث، وهكذا بلا توقّف أبداً، والبدن المنتقل إليه قد يكون بدن إنسان أو حيوان أو نبات، وطريق الانتقال غالباً هو التعلّق بجنين المنتقل إليه.
2 - التناسخ المحدود النزولي: وهو أن يختصَّ الانتقال من الروح إلى البدن ببعض النفوس دون أُخرى، وهكذا كما هو محدود من حيث الأفراد، فكذلك هو محدود من حيث الزمان، ووجه المحدودية أنَّه لا يحصل في النفوس الكاملة التي لتكاملها لا حاجة لها للانتقال إلى أبدان أُخرى لتحصل التكامل الذي يتمُّ بالبدن الأوَّل.
3 - التناسخ الصعودي: وهو ما يحصل فيه انتقال الروح إلى البدن من جهة الصعود من النبات إلى الحيوان إلى الإنسان، وهو تحوّل انفصالي يخالف الحركة الجوهرية التي هي تحوّل اتِّصالي، على تفصيل يُطلَب من محلِّه لا حاجة لنا به، لأنَّ غرضنا يقع في القسمين الأوَّليين.
3 - التأييد:

التأييد لغةً: أيَّدك أي قوّاك ونصـرك، وأيَّده الله أي قوّاه، ومؤيَّد بروح القدس أي مقوّى بروح القدس...(21).
قال صاحب الميزان(22) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ (المجادلة: 22): (التأييد التقوية، والمعنى: وقوّاهم الله تعالى بروح من عنده تعالى، وقيل: الضمير للإيمان، والمعنى: وقوّاهم الله بروح من جنس الإيمان يحيي بها قلوبهم...، قوله: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ على ظاهره يفيد أنَّ للمؤمنين وراء الروح البشـرية التي يشترك فيها المؤمن والكافر روحاً أُخرى. في الرواية: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) فقال لي: «إنَّ الله تبارك وتعالى أيَّد المؤمنين بروح تحضـره في كلِّ وقت يحسن فيه ويتَّقي، وتغيب عنه في كلِّ وقت يذنب فيه ويعتدي»).
وأنت تلاحظ عزيزي القارئ أنَّ هذه الروح فقط للمؤمنين، وأنَّها معهم دائماً وفي كلِّ عصـر من زمن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى زماننا، وليست خاصَّة بزمن خاصّ.
ثمّ قال العلَّامة: (قد تبيَّن ممَّا تقدَّم في ذيل الآية أنَّ هذه الروح من مراتب الروح الإنساني ينالها المؤمن عندما يستكمل الإيمان، فليست مفارقة له...، وبذلك يظهر أنَّ المراد بقوله (عليه السلام): «بروح تحضـره»، وقوله (عليه السلام): «فهي معه»، حضور صورتها حضور الهيأة العارضة القابلة للزوال، وبقوله: «تسيخ في الثرى» زوال الهيأة على طريق الاستعارة، وكذا قوله (عليه السلام) في الرواية السابقة: «فارقه روح الإيمان»).
وممَّا تقدَّم يظهر معنى التسديد، فإنَّ التسديد لغةً هو: سدَّده قوَّمه أو وجَّهه، وسدَّده وفَّقه للسداد أي للصواب من القول والعمل، ومنه: اللّهمّ سدِّدني أي وفِّقني(23).
4 - النفس والروح:
النفس: هو أصل، معناه هو معنى ما أُضيف إليه، فنفس الشـيء معناه الشـيء ونفس الإنسان معناه الإنسان، ونفس الحجر معناه هو الحجر، فلو قُطِعَ عن الإضافة لم يكن له معنى محصَّل...
وقد شاع استعماله في لفظ الإنسان خاصَّة (وهو الموجود المركَّب من روح وبدن)، ثمّ استُعمِلَ في الروح الإنساني لما أنَّ الحياة والعلم والقدرة التي بها قوام الإنسان قائمة بها(24).
الروح: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ...﴾ (الإسراء: 85)، والسؤال إنَّما هو عن حقيقة الروح، وإنَّ الجواب جاء: أنَّ حقيقة الروح من نسخ الأمر وهو الإيجاد: ﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82)، ويظهر من خلال التتبّع في الآيات والتدبّر فيها أنَّ الروح منه ما هو مع الملائكة كقوله: .﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ﴾ (النحل: 102)، ومنه ما هو مع المؤمنين كقوله تعالى: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ (المجادلة: 22)، ومنه ما نُزِّل إلى الأنبياء (عليهم السلام) كقوله تعالى: ﴿وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ (البقرة: 87)، ومنه ما هو في النبات والحيوان وغيرها، كما يُشعِر به التأمّل في آي القرآن.
وهذا يُؤكِّد أنَّ حقيقة الروح حقيقة وسيعة ذات مراتب مختلفة، وشاهد ذلك من الروايات عن المفضَّل بن عمر، قال: سألت عن علم الإمام...، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا مفضَّل، إنَّ الله تبارك وتعالى جعل في النبيِّ خمسة أرواح: روح الحياة فبه دبَّ ودرج، وروح القوَّة فبه نهض وجاهد، وروح الشهوة فبه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال، وروح الإيمان فبه آمن وعدل، وروح القدس فبه حمل النبوَّة، فإذا قُبِضَ النبيُّ انتقل روح القدس فصار إلى الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو، والأربعة أرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو»(25).
فالروح الموجودة عند الإنسان دون المعصوم هي أربعة أرواح: روح الشهوة، وروح القوَّة، وروح الدرج (روح الحياة)، وروح الإيمان. وعند المعصوم روح القدس. ثمّ إنَّ روح الإيمان يزيد وينقص كما دلَّت عليه الروايات)(26).
أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) تحتاج للعرض على المتخصِّص:
عن أبي جعفر (عليه السلام): قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إنَّ حديث آل محمّد صعب مستصعب لا يؤمن به إلَّا ملك مقرَّب أو نبيٌّ مرسَل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان...، فما ورد عليكم من حديث آل محمّد فلانت له قلوبكم وعرفتموه فاقبلوه...، وما اشمأزَّت منه قلوبكم وأنكرتموه فردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى العالم من آل محمّد، وإنَّما الهالك أن يُحدَّث أحدكم بشيء لا يتحمَّله فيقول: والله ما كان هذا...، والإنكار هو الكفر»(27).
من خلال مجموع روايات (أنَّ حديثهم صعب)، وأنَّه لا بدَّ معه من المتخصِّص، وأنَّ هناك كذباً عليهم ووضعاً لأحاديثهم بأسانيد متَّصلة كما تُؤكِّده هذه الرواية عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كان المغيرة بن سعيد يتعمَّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعوها إلى المغيرة، فكان يدسُّ فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي ثمّ يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثّوها في الشيعة»(28).
ولا يخفى أنَّ زمننا هو زمن الفتنة، بل شدَّة الفتن كما تُؤكِّده بعض الروايات، فعن أبي عبد الله (عليه السلام): «... إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة، المتمسِّك فيها بدينه كالخارط للقتاد»، والخارط من يضرب بيده على أعلى الغصن من الشجرة ثمّ يمدّها إلى الأسفل ليُسقِط الورق، والقتاد شجر الشوك. «فأيّكم يمسك شوك القتاد بيده؟»(29).
من خلال ذلك كلّه اتَّضح لنا:
1 - أنَّ زمننا هو زمن الفتن والشبهات والتأويل الباطل.
2 - أنَّ بصيص الأمل الوحيد للنجاة من الفتنة هو بالرجوع إلى العالم المتخصِّص.
وقد أكَّدت الروايات المرويَّة عن أهل البيت (عليهم السلام) كلا الأمرين، فعن العسكري (عليه السلام): «فأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يُقلِّدوه، وذلك لا يكون إلَّا في بعض فقهاء الشيعة لا جمعهم»(30).
وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «أشدُّ من يتم اليتيم الذي انقطع من أُمِّه وأبيه، يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلي من شرائع دينه، ألَا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا وهذا الجاهل بشـريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا...، ألَا فمن هداه وأرشده وعلَّمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى»(31).
وروى الكليني في حديث اللوح: «... فيذلُّ أوليائي في زمانه، وتتهاوى رؤوسهم كما تتهاوى رؤوس الترك والديلم، فيُقتَلون ويُحرَقون، ويكونوا خائفين مرعوبين وجلين، تُصبَغ الأرض بدمائهم، أُولئك أوليائي حقّاً، بهم أدفع كلّ فتنة عمياء حندس»(32).
الأقسام المتصوّرة للرجعة:
1 - الرجعة الجسمانية، وهي تعني أنَّ الله يُرجِع أمواتاً إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها.
2 - الرجعة بمعنى رجعة الروح فقط إلى بدن آخر، وهي ما عبَّر عنها مؤخَّراً بالرجعة الروحية حيث عرَّفوها: (رجوع بعض أرواح من محض الإيمان محضاً...، تقوم بتسديد أصحاب الإمام المهدي (عليه السلام).
3 - الرجعة المبدئية: وهي تعني رجوع مبادئ من تحدَّثت عنهم روايات الرجعة (لا أجسادهم ولا أرواحهم) في أشخاص آخرين.
4 - الرجعة بمعنى رجوع الدولة في زمان المهدي (عليه السلام)، ورجوع الأمر والنهي إلى الأئمَّة (عليهم السلام) وإلى شيعتهم، وأخذهم بمجاري الأُمور دون رجوع أعيان الأشخاص.
هذا ما يمكن تصوّره من معانٍ وأقسام للرجعة، وسوف نأتي على إبطال ما عدا الأوَّل الذي قام عليه الدليل كما سيتَّضح. وسنبدأ بنقاش آخرها صعوداً إلى الثاني:
أمَّا القسم الرابع وهو رجعة الدولة، فالقول بها باطل لوجوه ذكرها العلماء (رضوان الله عليهم) نذكر منها:
1 - أنَّ هذا القول ناشئ من استبعاد وقوع مضمون أحاديث الرجعة بالمعنى الأوَّل، وهذا الاستبعاد ناشئ عند المستبعد نتيجة لعدم الفهم وقلَّة التدبّر.
2 - أنَّ هذا القول يلزم منه تأويل اكثر من مائتي حديث رواها مئات العلماء، فهو خلاف المتبادر من أحاديث الرجعة فضلاً عن عدم الدليل عليه، والتبادر علامة الحقيقة.
3 - أنَّ هذا التأويل خلاف تفسير علماء اللغة للفظ الرجعة، ونضمُّ إليه عدم إرادة الشارع المقدَّس لمعنى جديد غير المعنى اللغوي، وإلَّا فلو كان لبان.
4 - اعتراف القائل به بأنَّ هذا القول هو تأويل، وقد دلَّ الدليل على عدم جواز التأويل بغير نصٍّ ودليل، حيث لا يجوز التأويل ما دام الحمل على الظاهر ممكناً.
5 - أنَّه خلاف الإجماع.
فضلاً عن وجود أحاديث تدلُّ على بطلان هذا التأويل ذكرها صاحب الإيقاظ في (ص 387).
وأمَّا القسم الثالث وهو الرجعة المبدئية، فإنَّ القول بها باطل أيضاً لوجوه ذكرها العلماء (رضوان الله عليهم)، منها:
1 - أنَّ الروايات التي دلَّت على الرجعة ذكرت رجوع الأشخاص ولم تذكر رجوع المبادئ.
2 - لو قلنا بها للزم عدم جدوى التخصيص بآخر الزمان، لأنَّنا كثيراً ما نشهد رجوع مبادئ سامية بأشخاص على مرِّ العصور.
3 - يلزم من هذا القول التأويل والحمل على خلاف الظاهر، ومخالفة الإجماع، وأنَّه ناشئ عن ضيق الأُفق وقلَّة التدبّر بالأحاديث والتفسير المادّي للظواهر الدينية تأثّراً بالمذهب المادّي، وبطلان الجميع ظاهر.
4 - أنَّ هذا الإنكار ناشئ من عدم فهم الحكمة من الرجعة، وحمل الحكمة الظاهرية منها على الاستحسان والقياس المادّي. والحقُّ أنَّ المسألة مرتبطة بعالم الغيب، ولا سبيل لنا لمعرفتها إلَّا بالمعصوم (عليه السلام)، قال تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (الإسراء: 36).
وأمَّا القسم الثاني وهو الرجعة الروحية، فهي باطلة لوجوه كثيرة، وبما أنَّها محلّ الكلام فسنبسط القول فيها:
عرَّف صاحب الرجعة الروحية(33) هذه المقولة بأنَّها: (رجوع أرواح بعض الأنبياء للأئمَّة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، تقوم هذه الأرواح بتسديد أصحاب الإمام المهدي عجَّل الله فرجه من ممهِّدين وأنصار كلٌّ حسب رقيِّه...)، والمقصود من هذا المعنى أحد وجوه:
الوجه الأوَّل: أن يكون المقصود بها هو الرجعة المادّية (الجسمانية)، وهو بعيد، لقول صاحب المقولة: (ولكن من خلال هذا البحث... تثبت وجود رجعة روحية...)، ثمّ يقول: (والحقيقة أنَّ هذه الروايات المتقدِّمة والتي تُشير إلى أكثر من كرَّة ورجعة لا نستطيع حملها على الرجعة المادّية، ولا يمكن تفسيرها وقبولها إلَّا على القول بالرجعة الروحية).
الوجه الثاني: أن يكون المقصود بها أنَّ هناك روحاً تُسدِّد شخصاً آخر، وهو ما يُعبِّر عنه بالتسديد والتأييد. وهو أيضاً باطل وغير مراد من أحاديث الرجعة، ومن نفس معنى التسديد لغةً وشرعاً، كما سيأتي مفصَّلاً في بحث مستقلٍّ.
الوجه الثالث: أن يكون المراد بالرجعة الروحية هو التناسخ الباطل.
وبعد وضوح عدم إرادة المعنى الأوَّل (الرجعة المادّية) من مقولة الرجعة الروحية ينحصـر مرادهم إمَّا بالتناسخ أو التسديد، فإذا ما أثبتنا أنَّ معنى التسديد والتأييد يجانب تمام المجانبة معنى الرجعة التي نطقت بها الروايات انحصر مرادهم بالتناسخ.
فنقول: تقدَّم - إجمالاً - أنَّ معنى التسديد والتأييد هي التقوية، وهي موجودة في كلِّ وقت يحسن فيه العبد، وليست خاصَّة بزمن دون زمن ولا بفرد دون فرد، فكلُّ مؤمن مسدَّد ومؤيَّد بروح من الله تعالى، وهي روح الإيمان، وفي كلِّ وقت من الأوقات من زمن صدق الإيمان عليه إلى زوال هذا العنوان، سواء كان ذلك في عهد آدم (عليه السلام) أم موسى (عليه السلام) أم بقيَّة الأنبياء (عليهم السلام)، وسواء كان ذلك في عهد النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) أو في عهد الأئمَّة (عليهم السلام) أو في زمن الغيبة أو عند الظهور الشـريف، فلا خصوصية للمكان أو الزمان في مقولة التسديد والتأييد، فكلُّ فرد مؤمن كان مؤهَّلاً لذلك أفاض عليه تعالى تسديده وتأييده.
توضيح المطلب:
يقول صاحب مقولة الرجعة الروحية: (مبدأ التسديد والتأييد: يقوم هذا المبدأ على مفهوم التسديد والتأييد الروحي من المولى تبارك وتعالى، حيث يُسدِّد الله (عزَّ وجلَّ) ويؤيِّد عباده المخلصين من قبيل تسديدهم بروح القدس أو الملائكة أو أرواح طاهرة لتوفيقهم إلى ما فيه رضا الله (عزَّ وجلَّ) وإصلاح المجتمعات وإصلاح الكون بصورة عامَّة، قال تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ...﴾ [المجادلة: 22]، هذه الآية الشـريفة دليل واضح على مبدأ التسديد والتأييد للمؤمنين المخلصين)(34) انتهى كلامه.
وخير ما نرجع إليه في تفسير مقولة التسديد والتأييد هو:
1 - أقوال اللغويين.
2 - معنى التسديد في الروايات المفسِّرة للقرآن الكريم.
3 - معنى التسديد والتأييد في كلمات العلماء والمفسِّرين.
معنى التسديد عند علماء اللغة:
1 - قال الجوهري: (التسديد التوفيق للسداد، وهو الصواب، والمسدّد المقوّم، والسَّداد - بالفتح - الاستقامة والصواب)(35).
2 - قال الزبيدي: (سدَّده تسديداً أي الرمح: قوَّمه، كذا في الصحاح، وسدَّده وفَّقه للسَّداد - بالفتح -، أي للصواب من القول والفعل والعمل)(36).
3 - قال سعيد الخوري: (سدَّد الرمح قوَّمه، فلاناً وفَّقه وأرشده إلى السَّداد، أي الصواب من القول والعمل، وتسدَّد الشيء استقام)(37).
4 - وقال الراغب الأصفهاني: (قال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [المائدة: 110]، فعلت من الأيد أي القوَّة الشديدة، وقال تعالى: ﴿وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْـرِهِ مَنْ يَشاءُ﴾ [آل عمران: 13]، أي بكثير تأييده)(38)، وقال في (صفحة 403): (والسَّدد: الاستقامة).
معنى الآية الكريمة: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُعند علماء التفسير:
1 - قال العلَّامة الطبرسي عند تفسير الآية: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾: (أي قوّاهم بنور الإيمان، ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلاَ الْإِيمانُ﴾ (الشورى: 52) عن الزجّاج. وقيل: معناه: وقوّاهم بنور الحجج والبراهين، حتَّى اهتدوا للحقِّ، وعملوا به. وقيل: قوّاهم بالقرآن الذي هو حياة القلوب من الجهل. وقيل: أيَّدهم بجبرائيل في كثير من المواطن)(39).
2 - قال محمّد بن جرير الطبري عند تفسير الآية: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾: (وقوّاهم ببرهان منه ونور وهدى)(40).
3 - قال الفخر الرازي عند تفسير الآية: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾: (فيه قولان: الأوَّل: قال ابن عبّاس: نصـرهم على عدوِّهم، وسمّى تلك النصـرة روحاً لأنَّ بها يحيا أمرهم. والثاني: قال السدي: الضمير في قوله: ﴿مِنْهُ﴾ عائد إلى الإيمان، والمعنى: أيَّدهم بروح من الإيمان، يدلُّ عليه قوله: ﴿وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا﴾ [الشورى: 52])(41).
4 - قال الالوسي في تفسير الآية: ﴿وَأَيَّدَهُمْ﴾ أي قوّاهم، ﴿بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ أي من عنده (عزَّ وجلَّ)، على أنَّ (مِنْ) ابتدائيَّة، والمراد بالروح نور القلب، وهو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده تحصل به الطمأنينة والعروج مع معارج التحقيق)(42).
5 - قال العلَّامة المحدِّث البحراني(43):
1) محمّد بن يعقوب...، عن أبي جعفر (عليه السلام)...، قال: وسألته عن قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾، قال (عليه السلام): «هو الإيمان».
2) وعنه...، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾، قال (عليه السلام): «هو الإيمان».
3) وعنه...، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «ما من مؤمن إلَّا ولقلبه أُذُنان في جوفه، إذا ينفث فيها الوسواس الخنّاس، وإذا ينفث فيها الملك، فيُؤيِّد الله المؤمن بالملك، فذلك قوله تعالى: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾».
4) وعنه...، قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام)، فقال لي: «إنَّ الله تبارك وتعالى أيَّد المؤمن بروح منه تحضـره في كلِّ وقت يحسن فيه ويتَّقي، وتغيب عنه في كلِّ وقت يذنب فيه ويعتدي، فهي معه تهتزُّ سروراً عند إحسانه، وتسيغ في الثرى عند إساءته، فتعاهدوا عباد الله نِعَمه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقيناً وتربحوا نفيساً ثميناً، رحم الله إمرءاً همَّ بخير فعمله، أو همَّ بشـرٍّ فارتدع عنه»، ثمّ قال: «نحن نزيد الروح بالطاعة لله والعمل له».
5) ابن بابويه...، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «﴿ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ أي قوّاهم»). انتهى كلام المحدِّث البحراني.
وبهذا التفسير يظهر معنى التسديد والتأييد في الروايات المارَّة الذكر.
6 - قال الشيخ مكارم الشيرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾: (هل هذه الروح الإلهية التي يُؤيِّد الله سبحانه المؤمنين بها هي تقوية الأُسس الإيمانية، أو أنَّها الدلائل العقلية، أو القرآن، أو أنَّها ملك إلهي عظيم يُسمّى بالروح؟ ذُكِرَت لذلك احتمالات وتفاسير مختلفة، إلَّا أنَّه يمكن الجمع بينهما)(44).
7 - قال العلَّامة الطباطبائي في تفسير الآية: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾: (التأييد التقوية، وضمير الفاعل في ﴿أَيَّدَهُمْ﴾ الله تعالى، وكذا ضمير﴿مِنْهُ﴾، و(مِنْ) ابتدائية، والمعنى: وقوّاهم الله بروح من عنده سبحانه وتعالى. وقيل: الضمير للإيمان، والمعنى: وقوّاهم الله بروح من جنس الإيمان يحيي بها قلوبهم، ولا بأس به. وقيل: المراد بالروح جبرائيل، وقيل: القرآن، وقيل: المراد بها الحجَّة والبرهان، وهذه وجوه ضعيفة لا شاهد لها من جهة اللفظ. ثمّ الروح - على المتبادر من معناها - هي مبدأ الحياة التي تترشَّح منها القدرة والشعور، فإبقاء قوله: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ على ظاهره يفيد أنَّ للمؤمنين وراء الروح البشـرية التي يشترك فيها المؤمن والكافر روحاً أُخرى تفيض عليهم حياة خاصَّة كريمة ملازمة لسعادة الإنسان الأبدية)(45) انتهى.
من خلال هذا العرض الموجز لبعض آراء اللغويين والمفسِّـرين وبعض من روايات أهل البيت (عليهم السلام) يظهر لنا جليّاً:
1 - أنَّ التسديد والتأييد هي التقوية لأجل الاستقامة.
2 - أنَّ مقولة التأييد والتسديد مقولة عامَّة لجميع المؤمنين، وأنَّها غير خاصَّة بزمان أو مكان معيَّنين.
3 - أنَّ روح الإيمان التي تُسدِّد المؤمن لها مراتب، وهي تقوى وتشتدُّ حسب الطاعة والقرب الإلهي. وبذلك يتَّضح أنَّ معنى الرجعة شيء ومعنى التسديد شيء آخر، ويتَّضح أنَّ المقصود بالرجعة الروحية هو التناسخ كما سنُثبِت ذلك مفصَّلاً في المباحث الآتية.
رجعتان أم رجعة واحدة؟
يقول صاحب المقولة في (ص 95): (إنَّ الرجعة تكون مادّية أي بالأجساد، وإنَّها تكون قبل قيام الساعة، وهذا ما أجمعت عليه الفرقة، وليس في ذلك خلاف. ولكن من خلال هذا البحث سوف نقوم بتقديم الأدلَّة التي تُثبِت وجود رجعة روحية تسبق قيام الإمام المهدي (عليه السلام) أو تكون مقارنة لقيامه المقدَّس صلوات الله عليه).
من خلال هذا المقطع يتَّضح لنا:
إنَّ صاحب المقولة يذهب إلى القول بوجود رجعتين:
1 - الرجعة المادّية (الجسدية)، وهي التي تكون بعد وفاة الإمام المهدي (عليه السلام).
2 - الرجعة الروحية (التسديد والتأييد)، وهي التي تكون قبل أو مع قيام الإمام المهدي (عليه السلام).
وهذا ما لم يسعفه به الدليل، بل نجد أنَّ نفس صاحب المقولة لم يلتزم بذلك في بعض موارد كلامه، وسوف نقف على ذلك في هذا البحث مفصَّلاً.
والذي ظهر لنا من خلال البحث السابق أنَّه لا توجد رجعة بمعنى الرجعة الروحية، أمَّا مبدأ التسديد والتأييد فهو مبدأ عامّ وليس مختصّاً بزمان قيام الإمام المهدي (عليه السلام) أو قبله بقليل.
وقفات تفصيلية مع مقولة الرجعة الروحية وردّها:
وفيه فصول ثمان:
الفصل الأوَّل: خالف تُعرَف:
قال صاحب مقولة الرجعة الروحية في (ص 98): (وهذا القول لم يسبق لأحد أن قال به، وأشار إليه، وإنَّ أوَّل من قال به هو سيِّدنا الأُستاذ أبو عبد الله الحسين القحطاني، حيث أثبت وجود هذا المبدأ من القرآن الكريم والسُّنَّة الشـريفة، فهو أوَّل من قال بالرجعة الروحية التي عدَّها أهل البيت صلوات الله عليهم من عظائم الأُمور التي ظلَّت خافية حتَّى زماننا هذا...).
اعلم أخي القارئ الكريم إنَّ أفتك مرض يمرُّ به الإنسان في مراحل حياته هو مرض الغرور والكبر، وإنَّ أوَّل معصية وقعت كان سببها الغرور، قال تعالى: ﴿قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ (الأعراف: 12).
والغرور هو: سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع، فمن اعتقد أنَّه خير إمَّا في العاجل أو في الآجل فهو مغرور.
قال تعالى: ﴿فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ﴾ (لقمان: 33).
يقول الشيخ النراقي عن الغرور: (اعلم أنَّ فِرَق المغترّين كثيرة، وجهات غرورهم ودرجاته مختلفة...، ثمّ قال: (أهل العلم فمنهم من اختصـر من العلم على علم الكلام والمجادلة ومعرفة آداب المناظرة ليتفاخر في أندية الرجال ويتوقَّف على الأقران والأمثال، من غير أن يكون له في العقائد قدم راسخ أو مذهب واحد، بل يختار تارةً ذلك وتارةً هذا، وتكون عقيدته كخيط مرسل في الهواء تفيئه الريح مرَّة هكذا ومرَّة هكذا، ومع ذلك يظنُّ بغروره أنَّه أعرف الناس وأعلمهم...)(46).
الفصل الثاني: تعريف البدن وتقسيمه:
عُرِّف البدن في اللغة بأنَّه: (بدن محرِّكه من الجسد)، وعُرِّف الجسد بأنَّه (جسم الإنسان والجنِّ والملائكة...)(47).
يُقسَّم البدن إلى: البدن الجمادي، والنباتي، والحيواني، والإنساني.
والبدن الإنساني إلى:
1 - البدن المادّي: وهو الهيكل الخارجي للإنسان، والمعبَّر عنه بصيصة الإنسان، أي شكل وجسم الإنسان الخارجي، وهو واضح لا يحتاج إلى توضيح.
2 - البدن المثالي: وهو شبيه بجسم الإنسان الذي انتهت دورة حياته.
3 - البدن التمثيلي: وهو تمثيل الروح بصورة كتمثل جبرئيل (عليه السلام) بصورة دحية الكلبي، وتمثل الملك لمريم بشراً سويّاً.
وسوف نقف مع هذه الأقسام الثلاثة مفصَّلا فيما يأتي من البحث.
وما نريد أن نقوله في هذا الفصل هو: إن كان مقصود صاحب مقولة (الرجعة الروحية) عن عودة أرواح الأئمَّة لتسديد أبدان المؤمنين هو البدن المثالي، بمعنى أنَّ الأرواح ترجع إلى بدنٍ ما غير البدن التي كانت فيه، فهو باطل فاسد لأوجه كثيرة، منها على نحو الإجمال وسيأتي تفصيلها:
1 - أنَّ القول بالرجعة الروحية بمعنى الرجوع إلى البدن المثالي ينتهي إلى التناسخ، وهو تعلّق الروح ببدن آخر في الدنيا، وقد دلَّت النصوص المتواترة والإجماع على بطلانه.
2 - للتصـريحات الكثيرة (التي سوف تأتي) بأنَّهم - الراجعين - يخرجون من قبورهم، وأنَّهم ينفضون التراب عن رؤوسهم وغير ذلك.
3 - أنَّه خلاف الظاهر، ولا موجب للعدول عنه.
4 - إذا كان الإنسان الثاني غير الأوَّل فيلزم عدم صدق أحاديث الرجعة.
5 - سوف يأتي أنَّه يكون في هذه الأُمَّة كلُّ ما كان في الأُمم السابقة، والرجعة التي وقعت سابقاً وقعت لأشخاص أبدانهم.
الفصل الثالث: الدافع وراء هذا القول:
الدافع وراء هذه المقولة أُمور، منها:
1 - حبُّ الظهور حسب مقولة (خالف تُعرَف)، وقد تحدَّثنا عنها.
2 - عدم التخصّص في هذا الفنّ، والذي نتج عنه عدم إمكان الجمع بين روايات باب الرجعة التي توحي ظاهراً بالتعارض البدوي. حيث إنَّنا نعلم أنَّ صاحب هذه المقولة ليس متخصِّصاً، وإنَّما يعتمد في تلقّي معلوماته على نظرية التأييد والتسديد، بمعنى أنَّ العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء دون الحاجة إلى الدرس والتعلّم. وهذا ما نُسلِّط الضوء عليه في الفصل الأخير إن شاء الله. وإنَّما نحاول هنا أن نُبيِّن أن جنوحه إلى هذه المقولة هو عجزه عن الجمع بين الروايات الشـريفة. وإليك جملة من نصوص كتابه:
يقول صاحب هذه المقولة في (ص 118): (ومن ذلك نفهم أن رجعة الحسين (عليه السلام) ليست رجعة مادّية، بل هي رجعة روحية، أي رجوع روحه الطاهرة لتُسدِّد وتُؤيِّد وزير الإمام المهدي (عليه السلام) السيِّد الحسين اليماني، لذلك ترد بعض الروايات بلفظ الحسين (عليه السلام)، وترد روايات أُخرى بلفظ متغيِّر).
ويقول في (ص 151): (فكما يتَّضح من هذين الحديثين أنَّ القحطاني هو من يلي المهدي ويخلفه، والقحطاني كما دلَّت عليه الأخبار هو اليماني...، لا بدَّ من القول بأنَّ عيسى هو نفسه الحسين، وهما نفسهما اليماني وزير المهدي الذي يكون مسدَّداً بروحيهما).
ويقول في (ص 163): (وبهذا يتَّضح لنا معنى الرواية المتقدمة «لامهدي إلَّا عيسى بن مريم»، أي إنَّ المهدي الحسين اليماني هو نفسه عيسى بن مريم في آخر الزمان على حسب مفهوم الرجعة الروحية).
ويقول في (ص 180): (إلَّا أنَّ الصحيح أنَّ خروج أمير المؤمنين سيكون على نحو الرجعة الروحية، أي رجوع روحه الطاهرة لتسديد المهدي (عليه السلام) وتُؤيِّده، وبذلك يكون المهدي (عليه السلام) هو دابَّة الأرض خاصَّة إذا ما تدبَّرنا وحاولنا فهم الروايات).
فأنت تلاحظ تخبّطه في الجمع لعدم فهمه لها، وعدم اعتماده على الموازين العلمية في الجمع بين المتعارضات من الأخبار.
الفصل الرابع: حقيقة تقسيم الرجعة إلى المادّية والروحية...:
يقول في (ص 95): (إنَّ الرجعة تكون مادّية، أي الأجساد، وإنَّها تكون قبل قيام الساعة، وهذا ما اجتمعت عليه الفرقة، وليس في ذلك خلاف. ولكن من خلال هذا البحث سوف نقوم بتقديم الأدلَّة التي تُثبِت وجود رجعة روحية تسبق قيام الإمام المهدي (عليه السلام).
ويقول في ص (118): (ومن ذلك نفهم أنَّ رجعة الحسين (عليه السلام) ليست رجعة مادّية، بل هي رجعة روحية).
ويرد عليه:
1 - إذا كان هناك نوعان من الرجعة - ولو تنزّلاً - حسب ما يدَّعي صاحب مقولة الرجعة الروحية، فما هو الدليل على وجود هذا التقسيم في الروايات؟ حيث إنَّه لم يذكر لنا ولا دليلاً واحداً يُصرِّح به الأئمَّة (عليهم السلام) على وجود قسمين من الرجعة.
هذا فضلاً عن رفض نفس صاحب المقولة لفكرة التقسيم حيث يقول: (والواقع أنَّ المقصود في الروايات المتقدِّمة هي الرجعة الروحية)، حيث إنَّه تحدَّث عن جميع روايات الرجعة ووصفها أنَّها تدلُّ على الرجعة الروحية فقط، راجع كتاب صاحب المقولة تجد ذلك واضحاً.
2 - لا يوجد نصٌّ معتبر من الروايات يظهر منه أنَّ روح عيسى سوف تُسدِّد أنصار الإمام المهدي (عليه السلام)، أو أنَّ الدابَّة معناها روح عليٍّ (عليه السلام) التي تُسدِّد الإمام المهدي (عليه السلام)، أو أنَّ روح الحسين وروح عيسى هي المقصود باليماني الموعود.
3 - تقدَّم أنَّ التسديد والتأييد - الذي هو روح الرجعة الروحية - غير خاصٍّ بفئة دون فئة ولا بزمان دون زمان، بل هو عامٌّ شامل لجميع الأزمان ولكلِّ المؤمنين.
4 - أنَّ أحاديث الرجعة - وكما سوف يتَّضح - صريحة في دلالتها على الرجعة المادّية دون غيرها.
5 - سوف يتَّضح أنَّ الرجعة الروحية تنتهي إلى التناسخ.
المعاد وإفادته الرجعة المادّية:
ينقسم القائلون بالمعاد إلى أقسام منها:
1 - المعاد الروحاني: وذلك لقولهم: إنَّ حقيقة الإنسان بالروح.
2 - المعاد جسماني وروحاني: وذلك ما نطقت به الأدلَّة الشـرعية بحسب تركيب الإنسان من البدن والنفس.
ويرجع النزاع والاختلاف في المعاد في كونه جسمانياً لا غير، أو روحانيا كذلك، أو هو جسماني وروحاني، إلى الاختلاف في حقيقة الإنسان في النشأة الأُولى، فالذي اعتقد بأنَّ هوية الإنسان وحقيقته بجسمه فالمعاد عنده جسماني، وأمَّا الذي حصـر هوية الإنسان بروحه فإنَّ المعاد عنده روحاني ليس إلَّا، إذ العود للشـيء وشيئية الشـيء بحقيقته وهويَّته، بينما الذي ذهب إلى أنَّ الإنسان في الدنيا حقيقة واحدة ذات بعدين، فالذي يعتقد بمعاد هذه الحقيقة لا بدَّ أن يقول بمعاد جسماني روحاني.
بعد وضوح أنَّ الحشر في يوم القيامة هو للروح وللبدن معاً نقول:
1 - إنَّه تواتر عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) ومن طرق الفريقين: (أنَّ هذه الأُمة ستتبع سنن من سبق من الأُمم شبراً بشبر...)(48).
2 - إنَّ ممَّا هو متيقَّن الحصول في تلك الأُمم هي الرجعة المادّية، فقد أرجع الله تعالى من أقوام من سبق بالأُلوف بأبدانهم التي أماتهم بها، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ﴾ (البقرة: 243)، فلا بدَّ أن تحصل (الرجعة الجسمانية الروحانية) بمقتضى الجمع بين الأمرين.
ثمّ إنَّ صاحب مقولة الرجعة الروحية استدلَّ على الرجعة بهذا الدليل كما جاء في (ص 53): (ممَّا جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُـرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً﴾ [النمل: 83]، قال (عليه السلام): «ما يقول الناس فيها؟»، قلت: يقولون: إنَّها في القيامة. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يحشـر الله في القيامة من كلِّ أُمَّة فوجاً ويترك الباقين؟ إنَّما ذلك في الرجعة، فأمَّا آية القيامة فهذه: ﴿وَحَشَـرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾ [الكهف: 47]»(49).
فالرواية صريحة في الدلالة على وقوع الرجعة قبل يوم القيامة كما هو واضح، فإنَّ الحشـر في يوم القيامة يشمل جميع الناس بدون استثناء، وليس البعض منهم كما دلَّت عليه الآية الشـريفة وأشار إليه الإمام الصادق (عليه السلام) انتهى كلام صاحب المقولة.
ونقول: بما أنَّك استدللت على الرجعة بآية: ﴿يَوْمَ نَحْشُـرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً﴾، فدلَّ ذلك على أنَّ الرجعة حشـر أصغر كما قالت به الروايات، وقد ثبت فيما تقدَّم أنَّ الحشـر الأكبر (المعاد) يقع على الروح والجسد معاً، فدلَّ ذلك على أنَّ الحشر الأصغر أيضاً يقع على الروح والجسد معاً دون استثناء.
ولو كان غير ذلك (أي لو كانت الرجعة للروح فقط) لكان على الإمام المعصوم أن يُبيِّن ذلك خصوصاً أنَّه في مقام بيان مراده، إذ لو كان المقصود من الحشـر الأصغر (الرجعة) هي الروحية فقط لكان هناك بيان زائد، وحيث إنَّه غير موجود دلَّ على أنَّه غير مقصود، بل القول به بدعة، فتأمَّل.
قال الحرُّ العاملي: (فأمَّا من تأوَّل الرجعة دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات...، هذا غير صحيح، لأنَّ الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فقط حتَّى يتطرَّق لها التأويل...، وإنَّما المقول في إثبات الرجعة على إجماع الإماميَّة على معناها، بأنَّ الله يحيي أمواتاً...، فكيف تطرَّق التأويل على ما هو معلوم...؟)، ثمّ قال: (فإنَّ ثبوت الرجعة من ضروريات مذهب الإماميَّة عند جميع العلماء المعروفين (المصنِّفين المشهورين)، وما كان هذا حاله في أصل ثبوته فالمراد منه لا يحتاج إلى دليل)(50).
بل إنَّ نفس معنى الرجعة المادّية قال به نفس صاحب مقولة الرجعة الروحية ناسباً له إلى الإماميَّة! حيث قال في (ص 15): (الرجعة في الاصطلاح: والمراد بها هي الرجوع إلى الحياة الدنيا بعد الممات...، وهي محلُّ بحثنا هذا، فالرجعة عند الشيعة الإماميَّة هي رجوع من محض الإيمان محضاً ومحض الكفر محضاً إلى الحياة الدنيا بعد الموت)!
الفصل الخامس:
هل أنَّ مقولة الرجعة الروحية (التسديد والتأييد) خاصَّة فقط بمن يكونون مع الإمام المهدي (عليه السلام) أم أنَّها عامَّة؟ وهل هي خاصَّة برجوع أرواح الأئمَّة والأنبياء (عليهم السلام) أم تعمُّ أرواح المؤمنين؟
إذن في هذا الفصل سؤالان:
السؤال الأوَّل: هل مقولة التسديد والتأييد خاصَّة بزمن - أو قبل - خروج الإمام المهدي (عليه السلام) أم هي تعمُّ جميع الأزمان؟
السؤال الثاني: هل أنَّ الأرواح التي ترجع لتُسدِّد وتُؤيِّد المؤمنين فقط هي أرواح الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام) أم هي عامَّة؟
الجواب عن السؤال الأوَّل: لقد تقدَّم منّا مفصَّلاً أنَّ معنى التسديد والتأييد هي التقوية، واستشهدنا بأقوال الأئمَّة (عليهم السلام)، وأقوال علماء التفسير لتوضيح معنى الآية: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ (المجادلة: 22). واتَّضح أنَّ هذا التسديد والتأييد (الرجعة الروحية) غير خاصٍّ بفترة زمنية معيَّنة، ولا قيد له سوى قيد الإيمان، فهو غير محدَّد الزمان والمكان، ونستذكر معاً ما يُؤيِّد هذا القول بالرواية التي رواها أبو الحسن (عليه السلام)، والتي نقلناها فيما سبق، حيث قال فيها (عليه السلام): «إنَّ الله تبارك وتعالى أيَّد المؤمنين بروح منه تحضـره في كلِّ وقت يحسن فيه ويتَّقي، وتغيب عنه في كلِّ وقت يذنب فيه ويعتدي»(51)، وأنت عزيزي القارئ تلاحظ أنَّ الإمام المعصوم (عليه السلام) وفي معرض تفسيره لهذه الآية يُفسِّـر التأييد بالتقوية، وأنَّه غير خاصٍّ بزمان معيَّن ولا مكان معيَّن، بل هو عامٌّ وشامل لكلِّ من يتَّقي وينطبق عليه وصف الإيمان.
وبذلك يتَّضح أنَّ مقولة التسديد والتأييد ليست هي الرجعة، لأنَّ الرجعة وكما يعرف الجميع خاصَّة بزمن خاصٍّ وأشخاص خاصّين، فهي لها وضع خاصٌّ لا تحصل إلَّا به.
الجواب عن السؤال الثاني: إنَّ الذي تقدَّم منّا في تفسير معنى التسديد والتأييد أنَّ الروح التي تُسدِّد وتُؤيِّد ليست خاصَّة بالأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام)، بل هي عامَّة.
وبذلك يتَّضح جليّاً أنَّه لا موضوعية لأحاديث الرجعة بناءً على تفسيرها بالرجعة الروحية، فتأمَّل.
يقول صاحب الرجعة الروحية في (ص 904): (فهذا لا يمكن قبوله مطلقاً، ولكن الأولى والأصحّ أن يكون المقصود من اتِّباع محمّد وعليّ عليهما السلام للمهدي (عليه السلام) بالرجعة الروحية، فإنَّ روح النبيِّ المصطفى تكون مع الإمام المهدي (عليه السلام) مسدِّدة ومؤيِّدة، وإنَّ روح الإمام عليّ (عليه السلام) تكون مسدِّدة ومؤيِّدة لوزير المهدي (عليه السلام)، وهذا شاهد ودليل آخر على الرجعة الروحية).
لاحظ عزيزي القارئ هذه المقولة، ثمّ لاحظ المقولة الأُخرى التي يقول بها في (ص 186): (وهو المهدي (عليه السلام) الذي يكون مسدَّداً ومؤيَّداً بروح جدِّه أمير المؤمنين (عليه السلام)).
ويقول في (ص 185): (إنَّ دابَّة الأرض هي المهدي المسدَّد بروح الإمام عليّ (عليه السلام).
ويقول في (ص 118): (ومن ذلك نفهم أنَّ رجعة الحسين (عليه السلام) ليست رجعة مادّية، بل هي رجعة روحية، أي رجوع روحه الطاهرة لتُسدِّد وتُؤيِّد وزير الإمام المهدي (عليه السلام)).
ويقول في (ص 151): (وهنا لا بدَّ من القول بأنَّ عيسى هو نفسه الحسين، وهما نفسهما اليماني وزير المهدي (عليه السلام)).
فأيُّ تناقض عجيب هذا؟! روح الإمام عليّ (عليه السلام) تُسدِّد المهدي وتُسدِّد اليماني، وروح الحسين (عليه السلام) تُسدِّد اليماني، وروح عيسى (عليه السلام) تُسدِّد اليماني، فاليماني على ذلك له أربعة أرواح: روحه التي كان بها يمانياً، وروح عيسى (عليه السلام)، وروح الحسين (عليه السلام)، وروح الإمام عليّ عليه السلام! فقل لي بربِّك من الأفضل الآن اليماني أم المهدي؟! أيُّ عقيدة يدعو هؤلاء الناس للاعتقاد بها؟!
وهنا يحسن أن نردَّ على صاحب هذه المقولة بقوله الذي قال به ردّاً على الرجعة المبدئية، حيث قال في (ص 89): (كما يرد عليه عدَّة إشكالات، منها: أنَّ الروايات دلَّت على رجوع أشخاص! ولم تشر إلى رجوع مبادئ أو ما شابه ذلك؟! ثمّ لو كان الرجوع هو رجوع المبدأ فلِمَ حُدِّدت الرجعة بآخر الزمان؟ فإنَّ من الممكن أن يظهر أشخاص قبل آخر الزمان يحملون مبادئ عظيمة...).
ونفس هذا الكلام بعينه يرد على الرجعة الروحية، فتأمَّل عزيزي القارئ.
في كيفية التسديد والتأييد:
يُعرِّف لنا صاحب المقولة كيفية حصول التأييد بقوله في (ص 92): (ويكون ذلك، أي تأييد الروح للمؤمن، بخمول روحه الأصلية وهيمنة الروح الراجعة، بحيث تكون فوق المؤمن تُسدِّده وتُؤيِّده).
ويرد عليه:
1 - أنَّ العمل إلى من يُنسَب، إلى الروح الأوَّل أم إلى الثاني؟ ولا يخفى ما فيه من محاذير مانعة عن الالتزام به.
2 - أنَّك قلت: إنَّ اليماني يُسدِّده ثلاثة أرواح، وهي: أرواح الحسين وعيسى وعليّ (عليهم السلام) مضافاً إلى روحه التي كان بها، فإلى من يُنسَب الفعل؟
3 - أنَّ أرواح الأنبياء والأئمَّة معصومة، فهل يصبح الرجل المسدَّد معصوماً أو لا؟
4 - أنَّ هذا عين التناسخ، حيث عرَّفت التناسخ في (ص 93) بأنَّه (انتقال النفس بعد المفارقة إلى جسم إنساني)، ومعلوم أنَّ روح الحسين (عليه السلام) هي روح مفارق لجسده الطاهر، وأنَّ جسم اليماني هو جسم إنساني آخر، فثبت أنَّك تقول بالتناسخ.
5 - أنَّ هذا القول يستلزم التناسخ النزولي، لأنَّ روح الحسين (عليه السلام) روح كاملة، وبلغت كمالها من خلال بدنها، فيستحيل رجوعها إلى بدن آخر أقلّ تكاملاً من بدنها الأصلي. وهذا ما يُعرَف عندهم بالحركة الرجعية، التي سوف يأتي الحديث عنها مفصَّلاً.
6 - أنَّ لازم الكلام الذي يقول به صاحب المقولة (خمول روحه الأصلية وهيمنة الروح الراجعة) - حيث يعترف بوجود روحين تُدبِّران بدناً واحداً - تعلّق نفسين (روحين) ببدن واحد، أحدهما النفس المفاضة على البدن لأجل صلاحيته للإفاضة (النفس الأصلية)، والنفس الأُخرى هي النفس القويَّة المهيمنة التي تُدبِّر البدن، ومن المعلوم بطلان ذلك، لأنَّ تشخّص كلّ فرد بروحه ونفسه، وفرض نفسين وروحين صادق لفرض ذاتين وشخصين ووجودين لوجود واحد وذات واحدة وهو محال، وسوف يأتي توضيح الحال في الفصل القادم.
7 - ثمّ إنَّنا سنسأل: ما هي الفائدة من أن تُسدِّد ثلاثة أرواح معصومة شخصاً واحداً ألَا يكفي أن يُسدِّد اليمانيَ روحُ الإمام عليّ عليه السلام؟
ثمّ على من يقع العقاب إن فُرِضَ تحقّقه من بدن الروح الأصلية؟
ثمّ إنَّه إن قيل: هذا المسدَّد معصوم لأنَّ المهيمن معصوم، قلنا: لا دليل على ذلك.
وإن قيل: إنَّ هذا المسدَّد غير معصوم، قلنا: هذا ينافي كون الروح المهيمنة هي روح المعصوم، بل هي نفس روح ذلك الشخص، بل لازم ذلك كلّه (الهيمنة من قِبَل روح المُسدَد) أن يكون للشخص حقيقتان، وهو محال.
تعريف التناسخ:
قد بيَّنّا مجموعة من التعريفات للتناسخ في المحور الخاصّ، ونكتفي هنا بذكر واحد من هذه التعاريف يكون وجهاً لنا في تحديد المصاديق وانطباق المفهوم عليها، وهو (تعلّق الروح (النفس) ببدن آخر في الدنيا).
فكلُّ تعلّق لروح (نفس) بغير بدنها في الحياة الدنيا فهو تناسخ، أمَّا تعلّق الروح ببدن آخر في غير هذه الحياة وتحوّل البدن من بدن إلى آخر (مسخ) في هذه الحياة فليس محلّ بحثنا، ومن أراد الوقوف على تفصيل الحال عليه بالرجوع إلى الأسفار(52).
والتناسخ على ثلاثة أقسام:
1 - تناسخ مطلق.
2 - تناسخ نزولي.
3 - تناسخ صعودي.
ونشرع الآن ببيان دليل بطلان التناسخ، فنقول: التناسخ يلزم منه:
1 - لزوم اجتماع نفسين على بدن واحد، وهو محال.
2 - عود النفس بعد تكاملها إلى نقطة البداية، وهو محال.
بيان الدليل الأوَّل:
أنَّ القول بالتناسخ (الرجعة الروحية) يؤدّي إلى القول بأنَّ لكلِّ شخص نفسين (روحين) أحدهما خاصَّة والأُخرى مهيمنة، وهذا ما لا يجده الواحد منّا إن أصغى إلى عقله وفطرته السليمة، بل الواحد منّا يجد بين جنبيه نفساً وروحاً وقلباً واحداً يسند إليها كلَّ الأفعال على اختلافها فيقول: أكلت وشربت وهكذا. وممَّا دلَّ على ذلك من الذكر الحكيم قوله تعالى: ﴿ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ (الأحزاب: 4)، يقول العلَّامة الطباطبائي رحمه الله عن تفسير هذه الآية: (إنَّ القلب هو كناية عن النفس، والآيات الكثيرة التي تذكر القلب وتريد به النفس في القرآن غير خافية على أدنى من له بصيرة به).
وشاهد ذلك من الذكر الحكيم (أي إنَّ القلوب أُريد بها النفس) قوله تعالى: ﴿قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا﴾ (المائدة: 113)، وقوله تعالى: ﴿يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ (الفجر: 27)، فالاطمئنان نزل على النفس، وفي الآية الأُخرى على القلب الذي هو النفس.
والواضح لا يحتاج إلى توضيح.
بيان الدليل الثاني:
1 - أنَّ تعلّق النفس بالبدن ذاتي، بمعنى أنَّه مأخوذ في حقيقتها، فلا تكون النفس نفساً بدون تعلّقها بالبدن.
2 - لقد ثبت في الفلسفة أنَّ التركيب بين النفس والبدن من نوع التركيب الاتِّحادي البسيط.
3 - أنَّ ما يتولَّد من ذلك الاتِّحاد هي المواكبة بين النفس والبدن في حركتهما الجوهرية في الخروج من القوَّة إلى الفعل.
النتيجة: فلو أنَّ النفس خرجت من البدن بعد تحقّق فعليتها ثمّ تعلَّقت ببدن آخر لا فعلية له للزم تعلّق بين شيئين لا إمكانية للاتِّحاد بينهما، ويلزم منه عودة النفس التي بالفعل إلى الصفر بسبب تعلّقها بالبدن.
إنَّ تعلّق النفس بالبدن ذاتي، بمعنى أنَّ النفس مأخوذ في حقيقتها تعلّقها ببدن تقوم بتدبيره، وهذا يعني:
أ - أنَّ تعلّق النفس بأكثر من بدن يعني أنَّ لها أكثر من حقيقة، وهو محال كما تقدَّم في الدليل الأوَّل.
ب - أنَّ هذا القول يلزم منه التناسخ حيث عرَّفناه أنَّه تعلّق نفس واحدة بأكثر من بدن.
توضيح ذلك:
إنَّ حقيقة النفس هي بالبدن الذي تعلَّقت به، وحيث إنَّ النفس في بادئ الأمر تعلَّقت به ثمّ فارقته، وحسب القول بالرجعة الروحية عادت لتدبِّر بدناً آخر أو أكثر من بدن، دلَّ ذلك على أنَّها تنتقل من بدن إلى بدن في الحياة الدنيا، وهو عين التناسخ.
وبعبارة أُخرى: القول بالرجعة الروحية التي تعني انتقال أو تسديد أكثر من روح لبدن واحد، بمعنى أنَّ هناك أكثر من روح تقوم بتدبير بدن واحد، يلزم منه اجتماع أكثر من نفسين على بدن واحد، وهو محال، ويلزم منه التناسخ، حيث تنتقل روح عيسى والحسين والإمام عليّ (عليهم السلام) لتُدبِّر وتهيمن على بدن وروح اليماني، وهو محال أيضاً.
إذن بعد اتِّضاح بطلان تصوير الرجعة الروحية بالتسديد والتأييد المصطلح لأنَّه معنى عامّ والرجعة معنى خاصّ، انحصر تفسيرها بالتناسخ، وهو محال.
أقسام التناسخ:
قسَّم العلماء التناسخ إلى أقسام:
النسخ: ومعناه: انتقال النفس إلى بدن آخر إنساني.
المسخ: ومعناه: انتقال النفس إلى بدن آخر حيواني.
الفسخ: ومعناه: انتقال النفس إلى بدن آخر نباتي.
الرسخ: ومعناه: انتقال النفس إلى بدن آخر جمادي.
ولكلِّ واحدة من هذه الأقسام الأربعة انقسام إلى الصعودي والنزولي، وهما إمَّا ملكي أو ملكوتي، وهما أيضاً إمَّا وصل أو فعل، وكلُّ واحد منهما إمَّا بروز أو نقل أو تمثيل.
معنى النزولي: وقد عرَّفناه فيما سبق.
معنى الصعودي: وقد عرَّفناه فيما سبق أيضاً.
معنى ملكي: وهو انتقال النفس المفارقة إلى بدن آخر، وهو ما تقول به التناسخية.
معنى الملكوتي: فهو عبارة عن تصوّر النفس بالصورة الأُخروية المناسبة لأعمالها.
معنى الوصل: وهو الانتقال من شيء لآخر في مادَّة واحدة، كانتقال الجماد بالحركة الجوهرية إلى جسم نام ثمّ إلى حيوان ثمّ إلى الإنسان، مثل هذا الانتقال لا محذور فيه، بل هو ممكن وواقع لا ريب فيه فيما إذا كان صعودياً لا نزولياً، حيث يستحيل، لأنَّه عودة من الفعل إلى القوَّة.
معنى الانفصال: وهو الانتقال من شيء لآخر في مواد مختلفة، وهو محال مطلقاً، لأنَّه عودة من الفعل إلى القوَّة(53).
والمهمّ الذي نريد الوقوف عنده هو الأقسام الثلاثة الآتية: النقل، والبروز، والتمثيل.
1 - النقل: وهو أن تتعلَّق النفس بعد المفارقة بالموادِّ المستعدَّة للحياة والقابلة لها، كتعلّق النفس بالنطفة، وهذا لون من ألوان التناسخ المحال الذي يُسمّى بالانفصالي تارةً وبالملكي أُخرى.
2 - التمثيل: وهو تمثّل الروح بصورة كتمثّل جبرائيل (عليه السلام) بصورة دحية الكلبي، ومحلُّ تفصيله علم الفلسفة.
3 - البروز: وهو عبارة عن ظهور الروح في البدن الحيِّ، فالبدن الذي تظهر فيه النفس هو بدن كامل بالفعل، ولا يلزم من البروز اجتماع نفسين في بدن واحد، بل الروح الواردة على البدن الحيّ تزيد في روحه الخاصَّة شدّةً وقوّةً.
ويتَّضح من خلال هذا البيان: أنَّ المقصود من الرجعة الروحية هو مقولة ملفَّقة بين التناسخ بمعنى النقل، من جهة أنَّ البدن الذي تُرَدُّ عليه الروح ليس متكاملاً وإن كان بالفعل بدن إنسان وليس بالقوَّة. وبين التناسخ بمعنى البروز بصورة أوضح وأجلى، من حيث إنَّ الروح الواردة على البدن الحيِّ تزيد في روحه الخاصَّة شدّةً وضعفاً.
ثمّ اعلم أنَّ كلَّ هذه الأقسام من التناسخ باطلة جملةً وتفصيلاً.
من أدلة بطلان التناسخ إجمالاً كما بيَّنّا:
1 - لزوم اجتماع نفسين على بدن واحد، وهو محال.
2 - عودة النفس بعد تكاملها إلى نقطة البداية، وهو محال.
3 - تعدّد الحقيقة تبعاً لتعدّد النفوس، وهو محال.
4 - أنَّ من أهمّ لوازم القول بالتناسخ هو إنكار المعاد، وبثبوت المعاد يبطل التناسخ.
ومن خلال ما تقدَّم يتَّضح لنا أنَّ مقوِّم التناسخ أمران:
1 - تعدّد البدن، فإنَّ في التناسخ بدنين: أحدهما البدن الذي انسلخت عنه الروح عند موتها (البدن الأوَّل)، والثاني البدن الذي تعلَّقت به الروح وصارت مهيمنة عليه حسب مقولة الرجعة الروحية.
2 - تراجع النفس الإنسانية من كمالها إلى الحدِّ الذي يناسب بدنها المتعلّق به والمهيمنة عليه(54).
وكلا الأمرين موجودان في مقولة الرجعة الروحية، فثبت أنَّها مقولة تناسخ.
هذا ويلزم من القول بهذه المقولة القول بالجبر، حيث تكون الروح المهيمنة سالبة لحقيقة الروح الخاملة ومتصرِّفة فيها، فتأمَّل وتدبَّر.
توضيح وتشييد:
قبل الدخول في ردِّ دعاوى مقولة الرجعة الروحية بالتفصيل نودُّ أن نُذكِّر الإخوة القرّاء الكرام بدليل قدَّمناه يُعتَبر من أفضل الأدلَّة على ردِّ مقولة الرجعة الروحية، ولكن سوف نُشيِّد هذا الدليل هنا بمزيد من البيان والتوضيح، فنقول: هنا مقدَّمتان:
المقدَّمة الأُولى:
إنَّه ثبت بما لا يدع للشكِّ مجالاً وقوع الرجعة المادّية (عودة الروح إلى نفس البدن الذي خرجت منه) في كثير من الأُمم السابقة، ومن مصاديق هذه الرجعة المادّية:
أ - قوله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ (البقرة: 259)، والآية واضحة جدّاً في أنَّ الرجعة وقعت على نفس الشخص الذي وقعت عليه الإماتة وأنَّه رجع بروحه وبدنه، ولنفس البدن الذي فارقته الروح.
ب - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 55 و56)، والآية واضحة في وقوع الموت والبعث عليهم بأشخاصهم وبنفس أبدانهم ثمّ عودتهم كذلك.
ج - قوله تعالى: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾ (الكهف: 25)، ﴿وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ﴾ (الكهف: 19)، فالآية تقول: بعثناهم أي أنفسهم بأبدانهم.
المقدَّمة الثانية:
ما رواه نفس صاحب مقولة الرجعة الروحية في (ص 50)، حيث قال: (روى الزمخشـري في الكشّاف عن حذيفة: أنتم أشبه الأُمم سمتاً ببني إسرائيل، لتركبنَّ طريقهم حذو النعل بالنعل، والقذَّة بالقذَّة...)(55)، وهذه الأحاديث كثيرة ومعروفة عند المسلمين.
وبعد أن ثبت لنا وقوع الرجعة في الأُمم السابقة فلا بدَّ أن تقع في أُمَّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم).
ثمّ إنَّنا مسلمون نؤمن بأنَّ القرآن متجدِّد لا يختصُّ بزمان دون آخر...، فلو قلنا: إنَّ الرجعة لا تكون في أُمَّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) لكان معنى ذلك أنَّ الآيات التي تحدَّثت عن رجعة الأموات إلى الحياة الدنيا بعد الموت قد تعطَّلت...) انتهى كلامه.
النتيجة: حيث إنَّه ثبت من خلال المقدَّمة الأُولى وقوع الرجعة المادّية في الأُمم السابقة، فلا بدَّ أن يثبت من خلال ضمّها إلى المقدَّمة الثانية وقوع نفس الرجعة (المادّية) في هذه الأُمَّة.
قد يقول صاحب مقولة الرجعة الروحية: إنَّ هناك نوعين من الرجعة: مادّية وروحية، والذي تحدَّث عنه الدليل هو الأُولى دون الثانية.
فإنَّنا نقول له: قد تقدَّم منّا سابقاً الجواب على هذا الإشكال، حيث قلنا: إنَّ أحكام الله توقيفية، والرجعة منها، ولا يوجد هذا التقسيم في النصوص الشـرعية، فلا دليل عليه. فضلاً عن أنَّ الظهور والإجماع قائم على القول بالرجعة المادّية، وتفسير الروايات بغير ما هو ظاهر منها دون دليل مرفوض، بل إنَّه بدعة كما تقدَّم.
بقي هنا أن نُشيِّد بناء هذا القول (الرجعة المادّية) بدليل آخر يُؤكِّد المدَّعى ويهدم دعوى الخصم، فنقول:
الدليل الثاني على عدم وجود الرجعة الروحية:
وهو يتركَّب من مقدَّمتين:
المقدَّمة الأُولى:
إنَّ من أهمّ الأدلَّة على الرجعية، والتي ذكرها صاحب دعوى الرجعة الروحية، هو ما ذكره في (ص 45) حيث قال: (نستعرض مجموعة من الآيات التي تدلُّ على وقوع الرجعية في المستقبل:
1 - قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُـرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ [النمل: 83].
إنَّ الحشـر في يوم القيامة كما هو معروف يكون لكلِّ الأُمم والأقوام من دون استثناء، إلَّا أنَّ هذا الحشـر الذي تتحدَّث عنه الآية يشير إلى حشـر فوج من كلِّ أُمَّة وليس الجميع، فإنَّ حرف (من) للتبعيض أي يُحشَـر البعض من كلِّ أُمَّة وليس كلُّ الأُمَّة، وذلك في الرجعة. وممَّا يُؤكِّد ذلك ما جاء في الروايات الواردة عن أهل بيت النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) انتهى كلامه، ثمّ ذكر مجموعة من الروايات.
المقدَّمة الثانية:
الثابت بلا شكٍّ أنَّ الحشـر في يوم القيامة هو حشـر مادّي (المعاد الجسماني والروحاني)، وذلك بملاك التركيب الاتِّحادي بين البدن والروح، وهذا ما اتَّفق عليه أهل الحقِّ من المحقِّقين، وأصبح من ضروريات الدين، والآيات والروايات الكثيرة دالَّة على ذلك، منها:
1 - قوله تعالى: ﴿وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ﴾ (محمّد: 15).
2 - قوله تعالى: ﴿كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها﴾ (النساء: 56).
3 - قوله تعالى: ﴿وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (يس: 65).
4 - قوله تعالى: ﴿أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ (الحجّ: 7).
5 - قوله تعالى: ﴿قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ﴾ (الأعراف: 25).
6 - قوله تعالى: ﴿مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى﴾ (طه: 55).
وغيرها من الدلائل الواضحة على كون المعاد جسمانياً روحانياً وليس واحداً منهما.
النتيجة: بما أنَّ خير دليل على وقوع الرجعة هو آية الحشـر التي تقدَّمت في المقدَّمة الأُولى، وأنَّ الحشـر هذا جزء من الحشـر الأكبر، وأنَّ الحشـر الأكبر هو مادّي (معاد جسماني روحاني)، دلَّ ذلك بما لا يدع للشكِّ مجالاً أنَّ الحشـر الأصغر (الرجعة) هي مادّية لا روحانية، إذ لو كان غير ذلك لبان، وإلَّا لزم الإخلال من قِبَل الهادي ونقض الغرض، وهو محال، فتأمَّل.
إذن ثبت من كلِّ ما تقدَّم:
1 - أنَّ مقولة التسديد لا تنطبق على مقولة الرجعة الروحية، بل تنافيها.
2 - أنَّ الرجعة قسم واحد، وهو مادّي فقط.
3 - أنَّ مقولة الرجعة الروحية هي عودة لمقولة التناسخ بلباس جديد.
4 - أنَّ مقولة الرجعة الروحية مخالفة للقرآن والسُّنَّة القطعية، فهي زخرف ودعوة انحراف.

الهوامش:
(1) كمال الدين للصدوق: 484/ باب 45/ ح 4.
(2) الاحتجاج للطبرسي 2: 263.
(3) بحار الأنوار للمجلسي 2: 250.
(4) الكافي للكليني 1: 69.
(5) تفسير الميزان 1: 106، بتصرّف.
(6) تاج العروس للراغب الأصفهاني/ ج 11/ مادَّة (رجع).
(7) الإيقاظ من الهجعة: 61.
(8) عقائد الإماميَّة/ عقيدتنا بالرجعة.
(9) أوائل المقالات: 95.
(10) مجمع الشتات 7: 133.
(11) مجمع الشتات 7: 131.
(12) علم اليقين 2: 1001.
(13) علم اليقين 2: 1005.
(14) بحار الأنوار للمجلسي/ ج 53.
(15) تفسير الميزان 2: 109.
(16) مفردات الراغب/ مادَّة (نسخ).
(17) الإلهيات 4: 299.
(18) الملل والنحل 2: 59.
(19) الأسفار 9: 4.
(20) الإيقاظ من الهجعة: 387.
(21) تاج العروس/ ج 4/ مادَّة (أيد).
(22) اُنظر: تفسير الميزان 19: 197 - 199.
(23) تاج العروس 5: 9.
(24) تفسير الميزان 14: 285.
(25) الكافي 1: 272/ كتاب الحجَّة/ ح 3.
(26) تفسير الميزان، بتصرّف.
(27) الكافي 1: كتاب الحجَّة.
(28) بحار الأنوار للمجلسي 2: 251.
(29) الكافي 1: 335/ كتاب الحجَّة/ باب الغيبة/ ح 1.
(30) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام):301.
(31) الاحتجاج للطبرسي 1: 5.
(32) الكافي 1: 528.
(33) كتاب الرجعة الروحية للقحطاني.
(34) الرجعة الروحية للقحطاني: 121.
(35) الصحاح 7: 485.
(36) تاج العروس 5: 9 - 13.
(37) أقرب الموارد/ ج 2.
(38) المفردات: 97.
(39) مجمع البيان 9: 422.
(40) تفسير الطبري 28: 18.
(41) تفسير الرازي 29: 276.
(42) روح المعاني/ المجلَّد التاسع/ ج 14/ ص 230.
(43) تفسير البرهان/ ج 28/ المجلَّد السابع/ ص 488.
(44) تفسير الأمثل 18: 113.
(45) تفسير الميزان 19: 204.
(46) جامع السعادات 2: 165.
(47) القاموس المحيط 1: 202.
(48) بحار الأنوار للمجلسي 53: 140.
(49) بحار الأنوار للمجلسي 53: 51.
(50) الإيقاظ من الهجعة: 81.
(51) الكافي للكليني 2: 268.
(52) الأسفار لصدر المتألِّهين/ ج 9.
(53) بحوث في علم النفس الفلسفي: 221.
(54) الإلهيات 4: 309، بتصرّف.
(55) تفسير الكشّاف 1: شرح ص 618.

البحوث والمقالات : ٢٠٢١/٠٣/١٢ : ٥.٣ K : ٠
: الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.