البحوث والمقالات

(٦٥٥) ردُّ الاستدلال برواية الوصيَّة على دعوى المهدويَّة

ردُّ الاستدلال برواية الوصيَّة على دعوى المهدويَّة

الشيخ أبو محمد القره غولي

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله خالق الخلق أجمعين، والصلاة والسلام على خير الأنام نبيِّ الإسلام محمّد وآله السادة العظام.
وبعد.. فقد خلق اللهُ الإنسانَ ونفسه مجبولة على طلب الأشياء والقدرة على تسخيرها والانتفاع منها، فآدم أبو البشر (عليه السلام) حين دلَّه إبليس على شجرة الخلد وملك لا يُبلى تناول منها، مع أنَّ الله تعالى قد عهد إليه أن لا يقرب منها، ومخالفة ذلك العهد غير ممكنة له إذا لم يجد من نفسه منازعة لما وعدهم به إبليس اللعين وميلاً كبيراً نحوه، والحكمة في خلقة الإنسان مجبولاً على ذلك أنَّه سيكون سبباً للعمران والارتقاء والسعي للاستكشاف، والشارع المقدَّس لم يمنع من ذلك وإنَّما أراد تشذيبه، فوضع له مجموعة محدِّدات عامَّة لئلَّا يجعل البشـر منشغلاً بمقتضيات ذلك عن الغاية الأصلية لخلقته، ولئلَّا يتوجَّه بنو النوع إلى الإجحاف بحقِّ الآخرين وإيقاع الظلم عليهم، فيكون سلوك الطريق الذي لا شائبة فيه مرتبطاً باختيار الإنسان وفق ما اقتضته حكمة الله البالغة في خلقه.
وتوالت الأجيال ترث بعضها ليثرى النوع الإنساني فكرياً في جانب النظر، ويتمكَّن من قدرة عالية على تحديد قواعد السلوك العملي. لكن النوازع الجبلّية في خلقته باقية على حالها، لأنَّها مقتضـى إنسانيته، وعناصر التكوين في النوع معلولة لله تعالى لا دخالة لنا فيها في الإطار العامِّ.
ولكن هذه النزعات الجبلّية التي يمكن أن تصبح عناصر فاعلة في ارتقاء الفرد والمجتمع لم يستثمرها أكثر أبناء النوع.
﴿وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (يوسف: 103).
﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾ (المؤمنون: 70).
فوُجِّهت دفَّة مركب المسير الحياتي لأكثر الناس نحو ما يرون فيه مصالح ومرادات للنفوس، وحاولوا استثمار كلِّ ما من شأنه أن يوصلهم إلى ما يريدون، بالاحتيال مرَّة، وبالافتراء والدجل أُخرى، وبالقهر والقوَّة ثالثة، وبالمداراة رابعة، وبالمقايضة خامسة، وكلُّ شيء عند نسبة كبيرة من أبناء النوع قابل للمقايضة. والإسلام لم يمنع من ذلك، لكنَّه أرشد إلى الصفقات الرابحة وحذَّر من الخاسرة، فقَبِلَ أن يُعبَّر بالبيع والشـراء في التعاطي معه وهو ربُّ الأرباب وخالق الناس من تراب، فقال عزَّ من قائل: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الصفّ: 10 و11).
وعبَّر عن فعله بالشـراء: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: 111).
وغير ذلك.
ووفقاً لذلك تكرَّر في التاريخ استعمال مختلف الطرق الملتوية للوصول إلى المراد، ومن أهمّ الأشياء التي تسعى لها النفوس هو أن تكون لها سِمة القداسة والرمزية، وسقف الدعاوى لا يمنعه إلَّا المحال الواضح عند الناس، فحين كان يقبل الناس أن يكون الإله بشـراً نادى فرعون: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى﴾ (النازعات: 24)، وحين تحرَّكت أطماع أناس نحو ادِّعاء النبوَّة ادَّعتها أعداد، وحين عظم في نفوس الناس محلَّ الأئمَّة ادَّعى أُناس هذه الحيثية والمنزلة.
وحين تاقت أنفس الناس إلى الإمام الثاني عشـر (عليه السلام) ودولة الحقِّ التي ستنشأ على يديه تسارع طلّاب الدنيا إلى ادِّعاء الانتساب إلى الدائرة المقرَّبة منه، وإنَّما كثر ذلك لأنَّ مجتمعاتنا تولّي اهتماماً كبيراً بفرج الله الأعظم ومشـروعه الإصلاحي الكبير، وأعان على ذلك انتشار الجهل بالموروث الشـرعي وتكالب الدنيا على أتباعه، فتاقت أنفسهم إلى الفرج، وأرادوا أن لا يُحرَموا من أن يُحسَبوا عليه.
وزماننا ليس بدعاً من مقاطع الزمان، ولا الناس فيه مختلفة عن بقيَّة الناس في مختلف الأزمنة، فحاول أُناس أن يحسبوا أنفسهم على سفن النجاة، بل أرادوا أن يكونوا ملّاحيها، ووجدوا في جهّال الأُمَّة طلبتهم، فدلَّسوا عليهم واستغلّوا ضعف إدراكهم وتوق أنفسهم، فنعقوا مع ناعقين طلبوا الباطل بظاهر الحقِّ، فكان ما كان.
وكلُّ هؤلاء المدَّعين يتعكَّزون على تدليسٍ في بعض الموروث الشـرعي وحَرفٍ للكلام عن مواضعه.
ونحن ومن منطلق المسؤولية نحاول أن نقف على بعض ما استندوا إليه لإثبات صحَّة مدَّعياتهم ونقلّب أفهامنا فيه، ونشير إلى نقاط الوهن والضعف والتدليس على الناس، ليتذكَّر متذكِّر ويزدجر مزدجر، والله من وراء القصد.
أسأل الله أن يحلُلْ عقدة من لساني ليُفقَه قولي في أهمّ ما يستند إليه من ادَّعى أنَّه اليماني والمتمثِّل برواية الوصيَّة، إنَّه خير ناصر ومعين.
رواية الوصية:
أطال أحمد بن إسماعيل وبعض أتباعه الوقوف على رواية الوصيَّة بزعمه والتي رواها الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة، فلا بدَّ من نقلها بتمامها ثمّ الوقوف على مكان الخطأ في الاستدلال بها.
قال الشيخ: أخبرنا جماعة، عن أبي عبد الله الحسين بن عليِّ بن سفيان البزوفري، عن عليِّ بن سنان الموصلي العدل، عن عليِّ بن الحسين، عن أحمد بن محمّد بن الخليل، عن جعفر بن أحمد المصـري، عن عمِّه الحسن بن عليٍّ، عن أبيه، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد، عن أبيه الباقر، عن أبيه ذي الثفنات سيِّد العابدين، عن أبيه الحسين الزكي الشهيد، عن أبيه أمير المؤمنين (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الليلة التي كانت فيها وفاته لعليٍّ (عليه السلام): «يا أبا الحسن، أحضـر صحيفة ودواة»، فأملى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وصيَّته حتَّى انتهى إلى هذا الموضع، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم): «يا عليُّ، إنَّه سيكون بعدي اثنا عشـر إماماً، ومن بعدهم اثنا عشـر مهدياً، فأنت يا عليُّ أوَّل الاثني عشـر إماماً، سمّاك الله تعالى في سمائه عليّاً المرتضـى، وأمير المؤمنين، والصدّيق الأكبر، والفاروق الأعظم، والمأمون، والمهدي، فلا تصحُّ هذه الأسماء لأحد غيرك.
يا عليُّ، أنت وصيّي على أهل بيتي حيّهم وميّتهم، وعلى نسائي، فمن ثبَّتَّها لقيتني غداً، ومن طلَّقْتَها فأنا بريء منها، لم ترَني ولم أرَها في عرصة القيامة، وأنت خليفتي على أُمَّتي من بعدي، فإذا حضرتك الوفاة فسلِّمها إلى ابني الحسن البرِّ الوصول، فإذا حضـرته الوفاة فليُسلِّمها إلى ابني الحسين الشهيد الزكي المقتول، فإذا حضـرته الوفاة فليُسلِّمها إلى ابنه سيِّد العابدين ذي الثفنات عليٍّ، فإذا حضـرته الوفاة فليُسلِّمها إلى ابنه محمّد الباقر، فإذا حضـرته الوفاة فليُسلِّمها إلى ابنه جعفر الصادق، فإذا حضـرته الوفاة فليُسلِّمها إلى ابنه موسى الكاظم، فإذا حضـرته الوفاة فليُسلِّمها إلى ابنه عليٍّ الرضا، فإذا حضـرته الوفاة فليُسلِّمها إلى ابنه محمّد الثقة التقي، فإذا حضـرته الوفاة فليُسلِّمها إلى ابنه الحسن الفاضل، فإذا حضـرته الوفاة فليُسلِّمها إلى ابنه محمّد المستحفظ من آل محمّد، فذلك اثنا عشـر إماماً، ثمّ يكون من بعده اثنا عشـر مهدياً، (فإذا حضـرته الوفاة) فليُسلِّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين، له ثلاثة أسامي، اسم كاسمي واسم أبي وهو عبد الله، وأحمد، والاسم الثالث المهدي، هو أوَّل المؤمنين»(1).
المناقشة السندية:
* إنَّ أوَّل من صُـرَّح باسمه في سند هذه الرواية هو عليُّ بن سنان الموصلي العدل، وهو لم يُذكَر في كتب الرجال، وهذا يعني أنَّه مجهول الحال، ولا يُنتَفع هنا بوصف العدل، إذ يمكن أن يكون ذلك وصفاً لجدٍّ له، وهو لا ينفع أيضاً في توثيق من ثبت له الوصف، إذ المهمُّ أن تثبت عدالته لنا، وإطلاق وصف العدل غاية ما يدلُّ عليه أنَّه في نظر من أسماه بذلك عدل، بل قد يكون ذلك نحواً من التعريض كما أسموا أبا عبيدة الجرّاح أمين الأُمَّة مع أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) على ما روي أراد التعريض به وبدوره في السقيفة، فقال له: «أصبحت أمين هذه الأُمَّة»(2)، وإن كان هذا الاحتمال ضعيفاً هنا.
هذا مضافاً إلى أنَّ كلمة (العدل) كانت تُطلَق عادةً على الكُتّاب في القضاء والحكومات كما أشار إلى ذلك السيِّد الخوئي (رضوان الله عليه).
* وأمَّا عليُّ بن الحسين، فهو مشترك يُعرَف بالراوي والمروي عنه، ولم نقف على من يروي عن أحمد بن محمّد بن الخليل، ويروي عنه عليُّ بن سنان الموصلي فهو مجهولٌ أيضاً.
* وأمَّا أحمد بن محمّد بن الخليل فمجهول الحال أيضاً حيث لم يُذكَر بمدح ولا ذمٍّ في كتب الرجال، ولا يُعرَف من هو. والكلام نفسه جارٍ في جعفر بن أحمد المصـري، نعم قال ابن حجر العسقلاني في حقِّه: (وكان رافضياً)(3)، وذلك لا يدلُّ على وثاقته فضلاً عن تشيُّع الرجل، إذ لا نقبل شهادة ابن حجر. مضافاً إلى ذلك إنَّ ابن حجر نقل اتِّهامه بوضع الأحاديث، وثبوت تشيُّعه لا ينفع أيضاً ما لم يُوثَّق ليكون صحيح الرواية، أو يُمدَح من جهة أُخرى غير الوثاقة فتكون روايته حسنة.
وأمَّا الحسن بن عليٍّ عمُّ جعفر بن أحمد المصـري ووالد الحسن بن عليٍّ، وهو عليُّ بن بيان بن سيابة المصـري فمجهولا الحال، لم يذكر علماء الرجال أيّاً منهما بمدح أو ذمٍّ، ولم يبقَ إلَّا البزوفري الذي وُثِّق.
فكيف نقبل رواية رواها مجهول عن آخر مثله لنُؤسِّس عليها قضيَّة في المعتقد ويترتَّب عليها كفر من لم يعمل بها وفق ما يزعمون!؟ إنَّ مثل هذه الرواية غير قابلة للاعتماد عليها حتَّى في مسألة فرعية، فكيف يُعتَمد عليها لإثبات اثني عشر مهدياً بعد الإمام الحجَّة عليه السلام!؟
وعلى ما تقدَّم لا يمكن تطبيق كبرى حجّية خبر الثقة نظراً لانتفاء الموضوع، أو لا أقلَّ من عدم التحقُّق من ثبوت الموضوعات في جُلِّ الرواة في سندها.
وإذا كان الأمرُ كذلك فالاعتماد إمَّا على كشفها إذا كان قطعياً، وإمَّا على القرائن الخارجية، أمَّا نفس الرواية فاحتمال صدورها اعتماداً على هذا السند غاية في الضعف. فإذا فرضنا أنَّ الجماعة الذين نقل عنهم الشيخ الطوسي كان احتمال مطابقة نقلهم للواقع بمستوى (90%)، ونسبة الإصابة في إخبار البزوفري بنحو (90%) أيضاً نظراً لوثاقته، وتسامحنا وقلنا: إنَّ نسبة المطابقة في إخبار كلٍّ من عليِّ بن سنان وعليِّ بن الحسين وأحمد بن محمّد بن الخليل وجعفر بن أحمد المصـري والحسن بن عليٍّ وعليِّ بن بيان (70%)، فإنَّ احتمال صدور الرواية من الإمام الصادق (عليه السلام) سيكون حاصل ضرب:
(90% × 90% × 70% × 70% × 70% × 70% × 70% × 70%).
وحاصل ضرب هذه النسبة على التسامح في تقديرها يساوي (9.529569%).
ويأتيني عاقل ليقول: ابن مسلكك الاعتقادي في اثني عشـر مهدياً على رواية هذا مقدار احتمال صدورها.
وإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ دلالتها ليست قطعية، بل ظنّية بنحو الظهور لو تمَّ، ولنفرضه بنسبة (70%)، فالنتيجة (6.6706983%) هو احتمال إرادة هذا المعنى من المعصوم بواسطة الرواية، لأنَّه حاصل ضرب احتمال الصدور في احتمال إرادة ذلك المعنى.
فهل دُهيتُ لأقبل أنَّ هذا هو النظر الشرعي في هذه المسألة، ما لكم كيف تحكمون؟
ويمكن أن يكون الاحتمال أقلّ من ذلك كما لو كانت نسبة الإصابة في خبر هؤلاء الضعاف أقلّ من (70%) كما هو ليس ببعيد.
وإذا أضفنا إلى ذلك مضعِّفاً احتمالياً آخر، وهو احتمال الخطأ في التطبيق، إذ كلامنا السابق كان من جهة احتمال الصدور ومن جهة احتمال إرادة المعنى، وأمَّا أن يكون المقصود بالمهدي الذي عنته الرواية فعلى فرض أنَّها عنت مهدياً غير الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام)، فما الذي يُعيِّن أنَّ هذا المدَّعي أو ذاك هو المقصود؟ وهنا جهتان: الأُولى احتمال الخطأ في التطبيق، وهو وارد جدّاً من جهة أنَّ الحديث إن انصبَّ على قضيَّة خارجية فتشخيصها ستقوم به مشخِّصات عديدة، فالوجود الخارجي له آلاف المشخِّصات. وتحديده وإن كان لا يحتاج إلى استيعابها جميعاً بالذكر إلَّا أنَّه يحتاج إلى العديد منها عادةً، فليس من السهل الجزم بأنَّ فلاناً هو المراد، خصوصاً والروايات هنا -ومنها الرواية مورد النظر- لم تتعرَّض لأيَّة مشخِّصات إلَّا كونه ابن الإمام الثاني عشـر. ولا قيمة لذلك في عالم التشخيص، ولا أثر له في دفع الالتباس في تعيين المراد بذلك، خصوصاً وأن المدَّعي يقول: إنَّ الإمام (عليه السلام) جدُّه الرابع، وهذا يعني أنَّ المنتسبين له (عليه السلام) كثر، وإذا قبلنا احتمال إرادة حفيد من المرتبة الرابعة فلِمَ لا نقبل احتمال إرادة حفيد من المرتبة العاشرة، بل حتَّى العشـرين؟ وهذا يعني أنَّ من ينطبق عليه وصف البنوَّة قد يصل عددهم إلى مئات الآلاف. فأنّى لأحد أن يُشخِّص في ضمن دائرة الاحتمال هذه مع عدم وجود شخص في الرواية مع ملاحظة أنَّ هذا الخبر قد صدر قبل ما يقرب من ألف وثلاثمائة عام؟
وأمَّا الجهة الثانية، فهي احتمال تعمُّد الكذب. وفي محلِّ كلامنا فإن هذا الاحتمال كبير، لأنَّ المورد ليس مجرَّد إخبار عن قضيَّة خارجية أو تطبيق لخبر لا علاقة له بالمطبِّق، بل التطبيق هنا يتضمَّن دعوى كبيرة للمطبِّق لا يضاهي ما ادَّعاه من منزلة أيَّة منزلة أُخرى في زمن الغيبة. فأعظم ما ثبت لأحد من الناس في زمن الغيبة هو السفارة عن الإمام الحجَّة (عليه السلام). وهذا الرجل يدَّعي أنَّه ابن الإمام والخليفة من بعده، واليماني الممهِّد له، مع دعاوى أُخرى ليس هذا محلَّ التعرُّض لها.
ومع ملاحظة هاتين الجهتين تعرف كم نتسامح حين نقول: إنَّ نسبة صحَّة تطبيق (50%) مثلاً.
ولولا جزمنا من الخارج بالكذب في هذه الدعوى لقلنا: إنَّ نسبة صحَّة التطبيق في مثل هذا المورد لا تتجاوز الـ (10%).
فلو كان احتمال صحَّة تطبيقه في ذلك (50%) - ولا أظنُّه يكون، بل أجزم بعدمه -، فالاحتمال النهائي سيهبط إلى نصف ما وقفنا عليه من الاحتمال سابقاً، أي ما يزيد على (3%) بقليل، أي ما يقرب من (3.34%).
إنَّ الآلية التي أوصلتنا إلى حساب احتمالات الإصابة والموافقة للواقع من خلال ضرب احتمال الإصابة للواقع في كلِّ إخبار، هي المعتمدة في الإحصاء الرياضي الحديث والمنطق بعينها.
فلو أنَّ زيداً أخبر أنَّ بكراً أخبره أنَّ الحادثة الكذائية قد حدثت، وكانت نسبة المطابقة للواقع في إخبار بكر (70%)، ونسبة الإصابة للواقع في إخبار زيد (80%)، فهذا يعني بعد إخبار زيد أنَّه يوجد احتمال (80%) أنَّ بكراً قد أخبره، ولـمَّا كانت نسبة المطابقة في إخبار بكر هي (70%)، فهذا يعني أنَّ احتمال صحَّة الخبرين الذي يعني مطابقة الواقع هو (70%) من الـ (80%)، وهو حاصل ضرب الاحتمالين معاً، والذي يساوي (56%)، وهكذا إذا كان شخص ثالث أخبر عنهما، فرابع عن الثالث، فخامس عن الرابع.
وحين يُضاف لذلك كون الدلالة في اللفظ غير قطعية، فهذا يعني وفق مثالنا السابق الذي فيه (زيد وبكر) أنَّ احتمال صدور الرواية مثلاً من المعصوم (عليه السلام) هو (56%)، أي أنَّ احتمال صدور هذا اللفظ هو (56%)، فإذا كانت دلالة اللفظ على المعنى احتمالية كأن نحتمل أنَّ المتكلِّم على فرض صدور الكلام منه أراد هذا المعنى بنسبة (60%) مثلاً، فاحتمال إرادة المعنى المخصوص من الإمام هي (56%) من الـ 60%، وهو حاصل ضرب الاحتمالين، وهو (33.6%).
فإذا اجتمعت معها جهة احتمالية أُخرى، وهو أن يكون المراد من المعنى الذي حدَّدناه هذا الفرد بخصوصه اتَّبعنا نفس الطريقة.
فالعلاقة بين جميع هذه الكواشف الاحتمالية طولية، فتكون الآلية المتَّبعة في استخلاص الاحتمال النهائي هي ضرب احتمالات الموافقة للواقع في كلٍّ منها بالآخر.
وأيُّ عاقل يقدم على صفقة بمال زهيد ونسبة الربح فيها دون خمسة في المائة!؟ إنَّ ذلك غير معقول إلَّا في القمار ولعبة اليانصيب، ومن يخاطر فيهما بكلِّ رأس ماله معتوه بلا ريب.
فكيف إذا كان الثمن هو عمر الإنسان وحياته!؟
«إِنَّه لَيْسَ لأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا»(4).
وإنَّما هي نفس واحدة كما في رواية الأحول حين احتجَّ على زيد بن عليٍّ حين دعاه إلى الخروج معه(5)، وزيد زيد وأحمد أحمد.
مع ملاحظة أنَّ الخسارة فيها تؤدّي إلى أن يُحشَـر المرء خلف مفتر كذّاب
﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ﴾ (الإسراء: 71).
لا مجال لاحتمال الخطأ في الدين:
حين يستند أبان بن تغلب في حكم فرعي، وهو دية قطع أربعة أصابع من المرأة إلى القياس واستبعاد أن تكون دية أربعة أصابع أقلّ من ثلاثة مع أنَّها كالأولوية، لم يقبل الإمام (عليه السلام) منه ذلك، ويُشخِّص موطن الخلل في استناده، ثمّ يحيله على القاعدة. والرواية معروفة، وهي صحيحة أبان بن تغلب.
قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: «عشـر من الإبل»، قلت: قطع اثنين؟ قال: «عشـرون»، قلت: قطع ثلاثاً؟ قال: «ثلاثون»، قلت: قطع أربعاً؟ قال: «عشـرون»، قلت: سبحان الله، يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشـرون؟ إنَّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق ونبرأ ممَّن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان، فقال: «مهلاً يا أبان، هكذا حكم رسول الله، إنَّ المرأة تقابل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف، يا أبان إنَّك أخذتني بالقياس، والسُّنَّة إذا قيست مُحِقَ الدين»(6).
ومثل هذا الوضوح عند أبان حتَّى قال على من جاء بخلاف ما اعتقد أنَّه شيطان، وفي حكم فرعي في حقٍّ مالي، ومع ذلك يُبيِّن له الإمام (عليه السلام) الخطأ في مأخذ الحكم الذي بنى عليه. فكيف يُطلَب منّا أن نخضع لدعوى في أمر غاية في الأهمّية يزعم مدَّعيه أنَّ من لم يعمل به فهو خارج عن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنَّه ممَّن يستحقُّ النار وبئس المصير، وهذا مستوى الاحتمال في مطابقة مدَّعاه للواقع!؟
إنَّ الدين لا يقبل التفريط ولو كان بمستوى يقابله (99%) إلَّا أن يأذن الشارع بذلك، وقد أذن بالاعتماد على خبر الثقة أو الخبر الموثوق بصدوره، كما أذن بالرجوع إلى الظهور العرفي في تحديد معنى الألفاظ الواردة في الموروث الشـرعي، ولم يقبل الاعتماد على القياس إلَّا أن يورث القطع، أي لم يجز الاعتماد على القياس ولو كانت نسبة الإصابة للواقع (999) بالألف. فإنَّه حتَّى وإن أورث الاطمئنان ليس حجَّة وإن قبلنا الاعتماد على الاطمئنان في موارد أُخرى للسيرة العقلائية على العمل به وعدم ردع الشارع المقدَّس عنها. فهنا قد ردع الشارع عن العمل بالقياس، وهذا الردع يشمل الموارد التي يورث القياس فيها الاطمئنان.
فلا مجال للمسامحة في مسألة فرعية ولو كان الاحتمال المخالف (1%) إلَّا أن يأذن الشارع المقدَّس بذلك.
ولم يتحقَّق في هذه الرواية ما يوجب الاعتماد عليها من جهة سندها، وقد يكون موردها آبياً عن ذلك، على أنَّها لم ترد لتكون محلّاً للتعبُّد ولو في الدلالة - لو صحَّ صدورها -، لأنَّها بصدد الإخبار عمَّا سيكون في المستقبل.
فكيف أُجسِّد تمسّكي بديني من خلال العمل بما يقول القائل: إنَّه المصداق الأوحد لما عَنَته مع أن ثبوت ذلك دون (4%)!؟ اقض عجباً.
فإن قلت: وفق حساب الاحتمال المتقدِّم والطريقة الإحصائية المزبورة لا يبقى لنا خبر يسوغ عقلاً ولا عقلائياً الاعتماد عليه.
قلت: أوَّلاً: ليست كلُّ الروايات بهذا المستوى من السقوط السندي.
وثانياً: هناك روايات تجتمع معها بعض القرائن التي ترفع احتمال الصدور إلى مستوى الوثوق، وعلى مبنى المشهور الوثوق بالصدور يُحقِّق موضوع الحجّية للمروي، فيجري التعبُّد اعتماداً على مثل مفهوم قوله تعالى: ﴿إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6).
ومفهومها إن كان الجائي غير فاسق فلا تتبيَّنوا، وهو تعبير آخر عن الحجّية.
واعتماداً على إمضاء المعصومين (عليهم السلام) لهذه الطريقة من التعاطي والاعتماد على أخبار الثقات حيث لم يردعوا عن ذلك مع استحكام هذه السيرة وطريقة التعاطي ممَّا يعني ارتضاءها في التعاطي مع الأخبار، لأنَّه إن لم يرضَ الإمام بذلك ولم يردع لكان قد نقض غرضه، خصوصاً وإنَّ أكثر جزئيات الأحكام في الشريعة مستندها أخبار آحاد ليس إلَّا.
والاعتماد على سيرة المتشـرِّعة التي لا بدَّ أن تكون مأخوذة من المعصوم (عليه السلام) إن لم يكن ذلك انطلاقاً من عقلائيتهم، وإلَّا فإنَّها ستكون سيرة عقلائية، والمتشـرِّعة كان جلُّ اعتمادهم في معرفة أحكام الشريعة وجزئياتها على أخبار الثقات.
وثالثاً: قد يجري تطبيق حجّية خبر الواحد على كلِّ راوٍ في السند، فيكون نقل الآخر مثلاً والذي انتهى إليه النقل إذا أفاد وجداناً احتمال (80%) بصحَّة نقله، فإنَّ حكم الشارع المقدَّس بحجّية خبره يعني تنزيله منزلة العلم من حيث ترتيب الأثر، فكأنَّه (100%)، وهكذا بالنسبة للذي قبله حتَّى نصل إلى الراوي المباشر عن المعصوم (عليه السلام). فالمعتمد ليس الاحتمال الوجداني، بل أمر الشارع بالعمل، وهو موجود في أخبار الثقات دون غيرهم.
ولا نريد أن نطيل الوقوف عند بحث تخصُّصـي ليس هذا محلَّ التعرُّض له، فإن قيل: إنَّه بناءً على حجّية الظهور وحجّية خبر الثقة ينبغي أن نُنزِّل خبر الجماعة الذين أخبر عنهم الشيخ الطوسي منزلة العلم، وكذا خبر البزوفري، ولا نحتاج أن نضـرب حاصل ضرب احتمال صدق الخبر باحتمال إرادة المعنى الظاهر، لأنَّ حجّية الظهور تقول لي: نزِّل دلالته الظنّية منزلة العلم، فتكون النتيجة حاصل ضرب: (70%) في نفسها (6) مرّات. وهي تساوي (11.7649%) سوى احتمال الخطأ في التطبيق.
قلت: 1- إنَّ النسبة الضئيلة هذه قليلة جدّاً، خصوصاً إذا ضربناها باحتمال الصحَّة في التطبيق، إذ ستكون أقلّ من (6%).
2- بعد أن سقط الاستدلال بالرواية من جهة عدم الحجّية في سندها لا معنى للتعبُّد في بعض السند، وكذا الكلام في التعبُّد بالدلالة، فالتعبُّد من خلال الحكم بالحجّية لا أثر له إن لم يمكن تتميم الدليل من الجهات الأُخرى، لأنَّه سيكون بلا أثر.
لا يقال: إنَّ الأثر موجود، لأنَّ مستوى الكشف واحتمال مطابقة الواقع سيزداد وفق ما قدَّمنا.
فإنَّه يقال: إنَّ نفس الاحتمال والانكشاف غير قابل للزيادة حقيقةً، لأنَّ الاحتمال والانكشاف خاضع للأسباب التكوينية، ولا دخالة للشارع في ذلك بما هو شارع، وإنَّما ينزل منزلة العلم على فرض جريان دليل الحجّية في الأثر العملي المترتِّب على العلم، أي من الناحية العملية نُرتِّب ما نُرتِّبه لو كنّا عالمين.
وإذا لم تتمّ الجهات الأُخرى في الدليل بحيث يقال بالجملة هو حجَّة لا يمكن أن يقال: علينا ترتيب الأثر العملي، فلا يبقى في الرواية بعد سقوطها عن الحجّية إلَّا كشفها الحقيقي عن الواقع، ومقدارها وفق التمثيل المتقدِّم حوالي (3.5%).
هذا مضافاً إلى جملة من المضعِّفات الداخلية الأُخرى والخارجية.
ثمّ إنَّ هنا مسألة مهمَّة، وهي أنَّ احتمال مخالفة الواقع لا يقتصـر المنشأ فيه باحتمال تعمُّد الكذب، بل قد يكون لقلَّة الدقَّة والغفلة، ومثل هذا الاحتمال موجود في محلِّ كلامنا كما أشار إليه الحرُّ العاملي في كتاب الإيقاظ من الهجعة حيث قال:
(وما تضمَّنه الحديث المروي في كتاب الغيبة على تقدير تسليمه في خصوص الاثني عشـر بعد المهدي (عليه السلام) لا ينافي هذا الوجه، لاحتمال أن يكون لفظ ابنه تصحيفاً، وأصله أبيه بالياء آخر الحروف، ويُراد به الحسين (عليه السلام)، لما روي سابقاً في أحاديث كثيرة من رجعة الحسين (عليه السلام) عند وفاة المهدي (عليه السلام) ليُغسِّله).
واحتمال التصحيف الناشئ من الغفلة لا يقتصـر المنشأ فيه على الرواة، بل قد يكون من الشيخ الطوسي على فضله العظيم ومنزلته الكبيرة، فهو لم يصل إلى مرتبة استحالة حصول الخطأ في نقله، ولذا قال الفقهاء: (وإنَّه في صورة اختلاف نقل الرواية الواحدة ينقلها الشيخ الطوسي والشيخ الكليني يُقدَّم نقل الكليني لأنَّه أضبط).
وذلك أيضاً لا يُسقِط احتمال حدوث التصحيف حتَّى من الكليني الذي هو أضبط من الشيخ الطوسي.
بل قد يحصل التصحيف ممَّن نسخ كتاب الشيخ الطوسي مباشرةً أو ممن نسخ من نسخة غير أصلية، اللّهمّ إلَّا إذا وقفنا على النسخة الأصلية التي كتبها الشيخ بنفسه.
لكن هذا الاحتمال ليس أصلاً يُعتنى به، بل يُثار عند وجود معارضة مع نسخة أُخرى من الرواية، والمفروض أنَّه غير موجود في الرواية محلّ البحث، أو عند وجود معارضة من رواية أو روايات أُخرى، وحينها إذا أردنا أن نُوجِّه الاختلاف بين النقلين للرواية الواحدة أو اختلاف المضمون للروايات المتعدِّدة أو مخالفة الرواية لقواعد مسلَّمة يُثار احتمال وقوع التصحيف كتفسير لهذه المنافاة بحسب النقل مع أنَّ واقع ما صدر عنهم (عليهم السلام) لا يقبل التنافي فيما بين جزئياته ولا التخالف مع القواعد المسلَّمة عقلية كانت أو غيرها.
وكيف كان فهذا لا يُعَدُّ وجهاً مستقلّاً لردِّ الاستدلال بالرواية، نعم ينفعنا كمضعِّف احتمالي لها، ودور تأثير المضعِّف الاحتمالي بعد سقوط الرواية عن الحجّية، والمفروض أنَّها كذلك، هذا مضافاً إلى جملة من المضعِّفات الداخلية والخارجية.
المؤشِّرات الداخلية:
هناك جملة من المؤشِّرات في الاستدلال بالرواية تجعلنا نتريَّث قبل تصديق مؤدّاها:
1- غرابة نفس الدعوى: إنَّ من الأُمور المضعِّفة لاحتمال صحَّة نقل قضيَّة ما أو ادِّعاء دعوى ما غرابة تلك القضيَّة وعدم مألوفيتها، وكلَّما ازدادت غرابة الدعوى احتاجت في مقام إثباتها إلى بيان أوضح ودليل أقوى.
حين تأتي السيِّدة العذراء عليها السلام بولد وتقول: إنَّه ليس من أبٍ، فإنَّ دعواها احتاجت إلى دليل يصدم الآخرين بوضوحه وقاطعيته للشكِّ، فكان أن نطق في المهد صبياً فأبكَتَهم، ولم يُبْقِ لهم طريقاً للردِّ. وحيث يقول شخص: أنا سفير السماء، فقولته غاية في الغرابة، فاحتاجوا إلى برهان قاطع للشكِّ، ولم يُكتفَ بمجرَّد إخبار الأنبياء السابقين عنهم، وتمثَّل البرهان بالإتيان بالأُمور الخارقة مع التحدّي المسبق، وهي المعجزات. ولا يُكتفى هنا بصحَّة المطالب التي يطرحها الفرد - غير البنوَّة أو السفارة -، فلو أنَّ شخصاً دعا إلى التوحيد وأتى بأحكام الشـريعة الحقَّة وادَّعى أنَّه نبيٌّ أو خليفة أو سفير للإمام (عليه السلام)، فإنَّه لا يُقبَل منه بمجرَّد صحَّة مبدأ التوحيد في كلماته وموافقة أحكامه التي تحدَّث بها لأحكام الشريعة.
حين يدَّعي اليهود أنَّ الله عهد إليهم عدم الإيمان برسول إلَّا أن يأتي ببيِّنة محدَّدة تتمثَّل بقربان تُرسَل عليه نار من السماء فتحرقه لم يُستَجب لهم، لا لأنَّ هذا الطلب غير مشـروع، بل لأنَّهم كاذبون في مقولتهم أنَّهم سيؤمنون عند تحقُّق ما طلبوا.
﴿الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ (آل عمران: 183).
بل نزعة الاستغراب قد تتملَّك الأولياء، بل والأنبياء إن أخبروا بقضيَّة غريبة، فعند إخبار الملك المقرَّب مريم العذراء عليها السلام بنبأ الولد من غير أبٍ كان ردُّها التلقائي: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَـرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ (مريم: 20).
أي كيف يكون الولد والأسباب المألوفة لا تقتضـي أن يكون لي ولد؟ مع علمها بأنَّ الذي يخاطبها ملك من الذين لا يعصون الله ما أمرهم وهم بأمره يعملون.
وعند بشارة زكريا (عليه السلام) بالولد كان ردُّه التلقائي: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ (مريم: 8).
وقريب من ذلك قول زوجة إبراهيم (عليه السلام) حيث تقول الآيات: ﴿قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّـرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ (الذاريات: 28 - 30).
إنَّ موسى (عليه السلام) كان نبيّاً عظيماً، وحين تحدّاه فرعون والملأ من قومه في مقارعة السحر وقبل الموعد في يوم الزينة، ويبدو أنَّه كان يوماً مهرجانياً يحضـره الكثير من الناس في مكانٍ خاصٍّ، ورأى سحر سحرة فرعون أوجس في نفسه خيفةً، وهو أمر طبيعي وفق النزعة الطبيعية للبشر.
﴿قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى * قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى * قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى﴾ (طه: 65 - 68).
وكيف كان فغرابة القضيَّة المدَّعاة أو المخبَر عنها تستدعي التريُّث في الإذعان بها، ولذا قال الملك لمريم عليها السلام ـ: ﴿قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا﴾ (مريم: 21).
وقال الله تعالى لزكريا (عليه السلام): ﴿قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ (مريم: 6).
فلم يكتفِ الله تعالى بتذكيره بأنَّه هيِّن عليه حتَّى أتاه بنظير، وهو خلقة زكريا التي كانت مسألة وجدانية عند زكريا (عليه السلام).
واحتاجت زوجة إبراهيم (عليه السلام) أن تُذكَّر بأنَّ هذا قول الله وهو الحكيم العليم.
في كلِّ هذه الموارد لم يُلَم أيٌّ من هؤلاء الأعاظم على الاستغراب أو على السؤال عن الكيفية، لأنَّ بنية البشر النفسية تقتضي هذا النوع من ردود الأفعال في مثل هذه المواقف.
ما تقدَّم يُبيِّن أنَّ من الطبيعي عدم قبول الادِّعاءات الغريبة إلَّا إن قام على ذلك دليل قطعي لا يقبل الشكَّ، ونحن أمام دعوى بمنتهى الغرابة من شخص معروف عن عائلته أنَّها ليست هاشمية النسب، ويدَّعي أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) جدُّه الرابع، وما يتضمَّنه ذلك من دعوى أنَّ الإمام متزوِّج وله ذرّية، وأنَّه قد اختير سفيراً للإمام (عليه السلام)، ونائباً خاصّاً له، مضافاً إلى جملة الموهنات الأُخرى.
2- إنَّه حين نُقِلَ عن بعض الأئمَّة (عليهم السلام) في السند، وصفهم ببعض الأوصاف التي لا نشكُّ في ثبوتها عندهم، لكن ليس من المألوف التعرُّض لهذه الأوصاف في الأسانيد للأئمَّة (عليهم السلام)، كوصف السجّاد (عليه السلام) بأنَّه ذو الثفنات، ووصف الحسين (عليه السلام) بأنَّه الزكي الشهيد، فالمقام مقام نقل يُكتفى فيه عادةً بتشخيص المنقول عنه.
وهذا المؤشِّر وإن كان ضعيفاً إلَّا أنَّه يُعطي احتمالاً ولو ضعيفاً أنَّ الراوي أراد أن يُسوِّق لهذه الرواية، وقد يكون ذلك لأجل وضعها، نعم وقد يكون للتأكيد على رقي سندها.
3- إنَّ من الأسماء التي ذكرت الرواية أنَّها خاصَّة بأمير المؤمنين (عليه السلام) وصف المهدي (عليه السلام)، وذكرت أنَّ هذه الأسماء لا تصحُّ لأحد غيرك، مع أنَّ الوصف قد ذُكِرَ لكلِّ الأئمَّة (عليهم السلام). والمدَّعي يقول: إنَّه ثابت لاثني عشـر شخصاً آخرين بعنوان الوصف، وله بعنوان الاسم.
4- ما هو الوجه في تخصيص الإمام الجواد (عليه السلام) بأنَّه ثقة؟ وما هو وجه تسمية الهادي (عليه السلام) بأنَّه الناصح؟ ولم يُعهَد أنَّهما قد اختصّا بالتسمية بذلك.
نعم قد اختصَّ الجواد (عليه السلام) فيما تداولته الألسن بوصف التقي.
ولإكمال الصورة التي رسمناها واتِّصافها بالإنصاف لا بدَّ من التعرُّض لبعض ما يمكن أن يُقوّي من الرواية.
ومنه أنَّها منقولة عن الصادق (عليه السلام)، ونُصَّ فيها على أسماء الأئمَّة (عليهم السلام)، وهذا المضمون صحيح بلا ريب، ومخالف لرأي الحكومات المتعاقبة، بل يمكن أن يكون منشأ لإيقاع عقوبة عليه.
ومنه أنَّه يلوح من وصف بعض رجالها أنَّه عامّي، ومضمون الرواية على خلاف ما تقول به العامَّة، ونقل الرجل مضموناً على خلاف معتقده يُعتَبر مؤشِّر صدق في نقله، ومن نقل عنه البزوفري هو عليُّ بن سنان المصـري العدل حيث لم يستبعد السيِّد الخوئي رحمه الله أن يكون من العامَّة بقرينة وصف العدل، وهو وصف يُوصَف به بعض علماء العامَّة، وقد ذكر في ترجمة الفقيه الدرامي العدل أنَّه: (لا يبعد أنَّ الرجل من العامَّة، وأنَّ كلمة العدل من ألقابه، وهذه الكلمة تُطلَق على الكُتّاب في القضاء والحكومات، فيقال: كاتب العدل)(7).
ولكن ذلك لا يُغيِّر في الصورة شيئاً، لأنَّه إنَّما يقوّي الصدور في ما كان مخالفاً لاعتقاد العامَّة وموافقاً لاعتقادنا، وهذا خاصٌّ بالقسم الأوَّل من الرواية، وأمَّا القسم الأخير من الرواية، والذي يبدأ من قوله: «ثمّ يكون من بعده اثنا عشـر مهدياً، فإذا حضـرته الوفاة فليُسلِّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين...»، فلا قرينية لما ذُكِرَ على صحَّته، والذي لا يكون ثقة ليس من الضـروري أن تكون كلُّ قصَّته الكذب وسمة كلِّ ما رواه المخالفة للواقع، بل الكذّاب بصيغة المبالغة لا يكون كذلك، بل لا يُؤمَن تعمُّد الكذب عنده، ولا أحد يلتزم أنَّ كلَّ كلامه كذب.
ولو تمَّت قرينية مثل هذه القرينة فهي لا تنفع أيضاً، لأنَّه بعد سقوط الرواية عن الحجّية في سندها أو بالمعارضة لما هو أقوى منها لو تمَّت سنداً، فلا تبقى فيها فائدة من جهة البناء على مضمونها إلَّا في حدود كشفها الاحتمالي، وما دام لم يصل إلى القطع أو الاطمئنان كحدٍّ أدنى فوجودها كعدمها، اللّهمّ إلَّا إذا وُجِدَت روايات وقرائن أُخرى يدعم بعضها البعض، وأوصلنا المجموع إلى الاطمئنان بصحَّة مضمون إن لم يكن علمٌ تحقَّق نوع استفادة منها، وأين ذلك البعض الذي يدعم مضموناً من الرواية المحتمل؟
القرائن الخارجية:
ثمّ إنَّ هناك جملة من القرائن الخارجية التي تمنع من الأخذ بهذا المضمون الوارد فيها، أو الذي يُدَّعى أنَّها تامَّة الدلالة عليه وأنَّ بالإمكان استفادته منها، ومن ذلك:
1 - أنَّها مخالفة للمشهور، كما نصَّ على ذلك صاحب البحار.
وذكر المفيد في الإرشاد أنَّ ذلك لم يرد على سبيل القطع والثبات، وأكثر الروايات أنَّه لن يمضـي مهدي الأُمَّة إلَّا قبل القيامة بأربعين يوماً يكون فيها الهرج وعلامة خروج الأموات وقيام الساعة للحساب والجزاء، والله أعلم(8).
وقريب من ذلك عبارة الشيخ الطبرسي حيث قال: (ولم ترد به الرواية على القطع والثبات، وأكثر الروايات أنَّه لن يمضـي من الدنيا إلَّا قبل القيامة بأربعين يوماً يكون فيها الهرج...) إلى آخر كلامه(9).
2 - المعارضة لما دلَّ على أنَّ خروج اليماني من اليمن.
ووجه المعارضة أنَّ صاحب هذه الدعوى لم يقتصـر على ادِّعاء بنوَّة المهدي (عليه السلام) وخلافته من بعده، بل ادَّعى أنَّه اليماني.
وكيف كان فقد روى الصدوق في إكمال الدين بسنده عن محمّد بن مسلم الثقفي، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر عليهما السلام يقول في حديث: ... قال: قلت: يا بن رسول الله، متى يخرج قائمكم؟ قال: «إذا تشبَّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال...، وخروج السفياني من الشام، واليماني من اليمن...» الخبر(10).
ورواية جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث عن السفياني واليماني، وأنَّه بعد ظهور السفياني «يسير إليهم منصور اليماني من صنعاء بجنوده وله فورة شديدة...» الخبر(11).
ورواية عبيد بن زرارة، قال: ذُكِرَ عند أبي عبد الله (عليه السلام) السفياني فقال: «أنّى يخرج ذلك ولما يخرج كاسر عينيه بصنعاء؟»(12).
3 - المعارضة مع الروايات التي أمرت بالسكون حتَّى يخرج السفياني.
وهنا طائفة أُخرى معارضة، وهي الروايات التي منعت من التحرُّك قبل ظهور السفياني، ومنها رواية الحضـرمي، وفيها: «فإذا ظهر - أي السفياني - على الأكوار الخمس - يعني كور الشام -، فانفروا إلى صاحبكم»(13).
ووجه المعارضة كما تقدَّم في النقطة الثانية، إذ بلحاظ دعوى كونه يمانياً كانت الروايات المزبورة معارضة.
والرواية التي رواها الكليني: «لا تبرح الأرض يا فضل حتَّى يخرج السفياني، فإذا خرج السفياني فأجيبوا إلينا»(14).
وفي رواية سدير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا سدير، الزم بيتك وكن حلساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أنَّ السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك»(15).
والرواية الأُولى قيَّدت النفر بظهور السفياني على الأكوار الخمس (مُدُن الشام).
4 - مخالفتها لروايات انقطاع السفارة.
دلَّت الروايات على انقطاع السفارة بعد عليِّ بن محمّد السمري (رضي الله عنه)، فقد روى في الاحتجاج:
خرج التوقيع إلى أبي الحسن السمري: «يا عليُّ بن محمّد السمري، اسمع أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميِّت ما بينك وبين ستَّة أيّام، فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامَّة، فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي من شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم»(16).
وهذه الرواية وإن خالفت ما اشتهر شهرة عظيمة من لقاء بعض الأفاضل به (عليه السلام)، إلَّا أنَّه يقوى في النفس أنَّها ناظرة إلى ادِّعاء المشاهدة مع دعوى السفارة، واتِّصال فقرة (فمن ادَّعى المشاهدة) بقرينة على خلاف عموم المشاهدة - أي ولو بدون دعوى السفارة - يمنع من انعقاد ظهور بالعموم، ولو لم يُمنَع من ذلك وانعقد الظهور ابتليت الرواية بالقطع بخلافها، فمن جزمنا بصدق دعواه المشاهدة خرج من عمومها، إذ لا تبقى مع القطع بالخلاف حجّية للظهور في مورد القطع. وهذا المدَّعي لا نجزم بصدق دعواه، هذا في مجرَّد المشاهدة.
وأمَّا ادِّعاء السفارة كما فعل فمخالف للرواية قطعاً.
ولا شكَّ أنَّ الحجَّة في زماننا هو الإمام الثاني عشـر (عليه السلام)، فخروج من تجب بيعته ومتابعته لا وجه له إلَّا أن يكون سفيراً عنه. وأمَّا ظرف إمامته المزعومة فهي بعد ظهور الإمام (عليه السلام) وانتهاء أيّامه. ولا شكَّ أنَّه لا يُراد بيعته باعتبار أنَّه إمام. فالإشكال على ما زعمه وطبَّقه من فهمه للرواية.
5- معارضتها برواية المنع من التوقيت.
لقد تكرَّر في الروايات النهي عن التوقيت، ونفي التوقيت عنهم والإخبار عن كذب الوقّاتين، فقد نقل في البحار في باب التمحيص والنهي عن التوقيت جملة من الروايات التي تعرَّضت لذلك، فبلفظ: (كذب الوقّاتون) أو (الموقِّتون) جاءت الأحاديث رقم:
(5) كذب الوقّاتون ثلاثاً.
(6) كذب المؤقِّتون.
(7) كذب الوقّاتون وهلك المستعجلون.
(44) كذب الوقّاتون.
(45) كذب الوقّاتون.
(48) كذب الوقّاتون.
وبلفظ (إنّا لا نُوقِّت) أو ما يقرب منه:
(6) ما وقَّتنا فيما مضى ولا نُوقِّت فيما يستقبل.
(8) فلسنا نُوقِّت لأحد.
(41) فإنّا لا نُوقِّت وقتاً.
(47) إنّا لا نُوقِّت لهذا الأمر.
(48) إنّا أهل بيت لا نُوقِّت.
وبلفظ تكذيب الموقِّتين وما يرجع إليه:
(8) من وقَّت لك من الناس شيئاً فلا تهابنَّ أن تُكذِّبه.
(41) من أخبرك عنّا توقيتاً فلا تهابنَّ أن تُكذِّبه.
والمجموعة الأُولى واضحة الدلالة على عدم الركون إلى مقولة الموقِّتين.
أمَّا المجموعة الثانية فقد يقال: إنَّها غير تامَّة الدلالة، لأنَّها إنَّما أخبرت عن أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) لا يُوقِّتون، وليس فيها دلالة واضحة على عدم إمكان معرفة الوقت، بل قد يكون العدول عن التعبير بعدم معرفة الوقت إلى نفي التوقيت مؤشِّراً على أنَّهم (عليهم السلام) يعرفونه ولكن لا يخبرون عنه.
وهذا يعني بحسب النظر البدوي إمكان أن يطَّلع غيرهم ولو في مستقبل الأيّام على وقت الظهور فيُخبِر عنه، وعلى هذا فليس في هذه الروايات دلالة على استحالة الوقوف على الوقت وتحديده.
فإذا قيل: لماذا لم يُخبِر الأئمَّة (عليهم السلام) بالوقت إذا أمكن لغيرهم أن يُخبِروا؟
قلنا: قد يكون عدم إخبار الأئمَّة (عليهم السلام) لوجود محذور بعد زمان ظهوره (عليه السلام) عن زمان الحضور وبداية الغيبة، فإذا أخبر الناس عن زمان ظهوره أشعر ذلك البعد التاريخي الأتباع باليأس، وقد جاء في الرواية التي رواها الشيخ الصدوق في علل الشـرائع عن الحميري بإسناده يرفعه إلى عليِّ بن يقطين، قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): ما بال ما روي فيكم من الملاحم ليس كما روي، وما روي في أعاديكم قد صح؟ فقال (عليه السلام): «إنَّ الذي خرج في أعدائنا كان من الحقِّ، فكان كما قيل، وأنتم علَّلتم بالأماني فخرج إليكم كما خرج»(17).
وقد استفاد عليُّ بن يقطين من هذا البيان في الجواب عن سؤال أبيه الذي كان عبّاسي الهوى والمسلك، إذ قال الأب:
ما بالنا قيل لنا فكان وقيل لكم فلم يكن؟ فقال له عليٌّ: إنَّ الذي قيل لنا ولكم من مخرج واحد، غير أنَّ أمركم حضركم فأعطيتم محضه وكان كما قيل لكم، وإنَّ أمرنا لم يحضـر فعلَّلنا بالأماني، فلو قيل لنا: إنَّ هذا الأمر لا يكون إلى مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة لقست القلوب ولرجع عامَّة الناس عن الإسلام، ولكن قالوا: ما أسرعه وما أقربه تألُّفاً لقلوب الناس وتقريباً للفرج(18).
ونحن لو قيل لنا: إنَّ هذا الأمر لا يكون إلى أكثر من ألف وأربعمائة سنة ماذا كان سيحصل؟ وطول الأمد يُقسي القلب، ﴿فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (الحديد: 16).
والتفريع بالفاء يُعطي أنَّ طول الأمد سبب لقسوة القلب.
وقريب منه في الدلالة قول موسى (عليه السلام) مخاطباً قومه: ﴿أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (طه: 86).
ومثل هذا المحذور لا يتحقَّق في من كان قريباً من زمن الظهور، ولذلك حدَّدت الروايات الفاصلة الزمانية بين العلائم القريبة دون غيرها كقتل النفس الزكيَّة الذي يفصله عن ظهور الإمام (عليه السلام) خمسة عشر يوماً، والسفياني الذي حدَّدت مدَّته بتفصيل واضح من ظهوره إلى بسط يده على كور الشام الخمسة إلى مدَّة حكمه بعدها، فقد انتفى المحذور بالقرب الزمني، ولكن التأمُّل قد يُعطي غير ذلك، إذ يمكن أن نسأل عن الكيفية التي يطَّلع بها غيرهم على وقت الظهور ما دام المعصومون (عليهم السلام) لم يخبروا بذلك.
إنّي لأجزم أنَّ الموروث الروائي لا يمكن أن يكون مستنداً لتحديد الوقت، إذ كيف يكون كذلك مع أنَّ في تحديد الوقت محاذير، منها مخالفة الحكمة والمصلحة، إذ إنَّه سيشعر الناس بالبعد فينفصلون عن الانتظار، بل والمشـروع المهدوي، كما أنَّ في ذلك مخالفة لطوائف من الروايات قد نتعرَّض إلى بعضها في الصفحات القادمة. ولو أمكن لمتأخِّر أن يُحدِّد الوقت من الروايات لأمكن لمتقدِّم في بدايات عصر الغيبة الكبرى أن يُحدِّده.
بل إنَّ الأئمَّة المتقدِّمين كأمير المؤمنين ومن بعده من ولده (عليهم السلام) وهم يعلمون علم اليقين أنَّه بعد زمان ولادته ستأتي غيبتان تطول إحداهما كثيراً ولم يستوضح الناس ذلك منهم (عليهم السلام)، وظلَّ الكثير من الأتباع مستحضـرين العدَّة للخروج، وهم يأملون ذلك في حياتهم، ولم يردعهم المعصوم عن ذلك، ومع ملاحظة هذا أترى المعصوم (عليه السلام) يترك في الأثر ما يمكن معه تحديد زمان الظهور!؟ تلك أمانيهم.
فكيف يأتي من يُخبِر بقرب ظهوره (عليه السلام)، وأنَّه سيُمهِّد له الآن!؟ أم ترى القائل يقول: أُمهِّد له الآن لكي يظهر ربما بعد ألف سنة!؟
وهذا ما يمكن أن نفهمه من بعض الروايات كالحديث (48) في الباب:
«كذب الوقّاتون، إنّا أهل بيت لا نُوقِّت».
فالربط بين الجزئين يكون مع انحصار مستند إخبار الموقِّت بالتوقيت الصادر من أهل البيت (عليهم السلام).
والحديث الثامن في الباب أوضح دلالةً على ذلك:
«من وقَّت لك من الناس شيئاً فلا تهابنَّ أن تُكذِّبه، فلسنا نُوقِّت لأحد».
ولو أمكن لمتأخِّر أن يُوقِّت لأمكن لمتقدِّم من العلماء أن يُحدِّد الوقت أيضاً.
والمسألة غيبية ليست ممَّا يتوقَّف على علوم طبيعية أو رياضية، ليمكن أن يصل إليها المتأخِّرون دون المتقدِّمين بملاحظة تقدُّم هذه العلوم كثيراً في زماننا، ولسان الأدلَّة بتعبير «كذب الوقّاتون»، و«لا تهابنَّ أن تُكذِّبه» واضح أنَّ المحذور ليس في الإخبار، بل في عدم تيسُّر طريق لمعرفة الوقت.
نعم يخرج من ذلك الإخبار بعد ملاحظة مجموعة من العلامات التي استوعبت الروايات ما يدفع الالتباس في مصداقها الواحد، وهي قريبة من الظهور جدّاً، كقتل النفس الزكية والسفياني واليماني والصيحة والخسف، إذ لا محذور في وقتها من التحديد، وهي غير قابلة للالتباس على الناس. فهل يمكن أن يتكرَّر خروج جيش من الشام يتَّجه باتِّجاه الأرض المقدَّسة ويعبر المدينة المنوَّرة ثمّ يخسف الله تعالى به الأرض؟
وكم مرَّة يُنادى في السماء: ألَا إنَّ عليّاً وشيعته هم الفائزون، أو ما يرجع إليه؟
ومن هنا فلا محذور في الإخبار بما أخبر به الأئمَّة (عليهم السلام) من قرب ظهوره (عليه السلام).
والمجموعة الثالثة واضحة الدلالة أيضاً.
والمحصَّل من هذه المجموعات الثلاث أنَّ الاطِّلاع على زمان الظهور لغير الأئمَّة وبالنحو الذي يمكن أن تتَّسع دائرة الاصطلاح عليه ممتنع، ولذا كَذَّبَ الأئمَّة (عليهم السلام) الموقِّتين في توقيتهم، ونهونا عن التردُّد في تكذيبهم، ممَّا يعني امتناع اطِّلاعهم على ذلك الأمر، لأنَّه غير قابل لكشف الستر عنه، وانتفاء إمكان اطِّلاع شخص عليه، ومن هنا قالوا عليهم السلام: «فلا تهابنَّ أن تُكذِّبه».
6 - المعارضة لاقتران خروج اليماني بخروج السفياني:
هناك جملة من الروايات التي حدَّدت المقارنة الزمانية بين ظهور اليماني وظهور السفياني، ومن خلالها نفهم أنَّ دعوى خروج اليماني قبل ظهور السفياني باطلة.
ومن هذه الروايات:
رواية أبي بصير، عن أبي جعفر محمّد بن عليٍّ (عليه السلام) أنَّه قال في رواية: «خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً، فيكون البأس من كلِّ وجه...» الخبر(19).
وفي سندها ابن البطائني، عن أبيه.
ورواية بكر بن محمّد الأزدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «خروج الثلاثة: الخراساني والسفياني واليماني في سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد، وليس فيها راية بأهدى من راية اليماني، يهدي إلى الحقِّ»(20).
وفي ثالثة عن عبيد بن زرارة، قال: ذُكِرَ عند أبي عبد الله (عليه السلام) السفياني، فقال: «أنّى يخرج ذلك ولما يخرج كاسر عينيه بصنعاء؟»(21).
والحقُّ أنَّ هذه الرواية الأخيرة غير ظاهرة في الاقتران بوقت الخروج، إذ يمكن أن يكون خروج اليماني قبله، فغاية ما تدلُّ عليه أنَّه لا يخرج السفياني إلَّا بخروج اليماني، وأمَّا الاقتران في وقت الخروج فلا دلالة للرواية عليه، بخلاف الروايتين السابقتين.
نعم تبقى في الرواية الأُولى وهي رواية أبي بصير مشكلة أنَّها بعد ذكر الاقتران الزماني لخروج اليماني والسفياني والخراساني في يوم واحد قالت: «نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً فيكون البأس من كلِّ وجه»، وهذا يقتضـي الاختلاف الزماني في هذه الأحداث. ولكن الأمر سهل، إذ ظهور الاتِّحاد في التاريخ لخروج الثلاثة لا غبار عليه، بل يمكن أن تكون الرواية نصّاً فيه، فيمكن أن يكون قوله (عليه السلام) إشارة إلى موقع خروج الثلاثة ضمن حوادث مختلفة تسبق الظهور، خصوصاً والرواية طويلة ذكرت فيها جملة من الحوادث.
وهناك رواية قد يقال: إنَّها معارضة لهذه الروايات، وهي موثَّقة محمّد بن مسلم، قال: «يخرج قبل السفياني مصري ويماني»(22).
لكنَّها ليست من كلام المعصوم، إذ لم يسندها محمّد بن مسلم إلى المعصوم، فشهادته ليست حسّية، بل حدسية، ولا حجّية لذلك. ويضاف إلى ذلك أنَّها تظهر في أنَّ المقصود هو اليماني المعهود، ولا يمنع وجود اليماني وظهور يماني آخر يخرج قبل السفياني، فلا تصلح مثل هذه الرواية لمعارضة ما سبقها من الروايات الثلاثة.
وهنا نسأل: هل ظهر السفياني؟ وهل ظهر الخراساني؟ خصوصاً مع التحديد بالأشهر لفترة خروج السفياني إلى نهاية حركته حيث لا تتجاوز (15) شهراً.
ولا أقول هنا: إنَّ هذه الروايات تعارض رواية الوصيَّة، إذ إنَّ رواية الوصيَّة لم تتعرَّض لليماني لا من بعيد ولا من قريب، بل نقول: إنَّ هذه الروايات تُكذِّب دعوى أنَّ اليماني يظهر قبل الإمام (عليه السلام)، وأنَّ فلاناً المدَّعي هو ابن الإمام المهدي (عليه السلام)، وهو اليماني.
فإن قيل: إنَّه يستند إلى هذه الرواية.
قلنا: إنَّه يضاف إلى الإشكالات السابقة أنَّها لو تمَّت دلالةً وسنداً كانت معارضة بمثل هذه الروايات.
لكن الحقَّ أنَّ أكثر هذه الروايات ضعيفة السند أيضاً، لكنَّها لم تجتمع عليها مضعِّفات داخلية أو خارجية كهذه، ولم تتحقَّق فيها مخالفة للمشهور. هذا مضافاً إلى أنَّ كلامنا في رواية الوصيَّة والاستدلال بها، وهو لم يستدلّ بها على كونه اليماني، فالمنطقية في الاستدلال تقتضـي عدم الاعتناء بهذه الروايات في هذا المجال بالخصوص. وأمَّا بقيَّة الدعاوى فما أكثرها وما أكثر الهنات فيها.
7 - الشبهة القويَّة في المورد:
إنَّ المورد من موارد الشبهة شديدة الالتباس وعظيمة الخطورة، ممَّا يستدعي الاحتياط والتريُّث ما أمكن وترك الاستعجال، خصوصاً والروايات قد نصَّت على كثرة الرايات التي ستُرفَع بزعم أنَّها راية الحقِّ التي وعد بها النبيُّ.
فقد روى الصدوق بسنده عن المفضَّل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال سمعته يقول: «إيّاكم والتنويه، أمَا والله ليغيبنَّ إمامكم سنيناً من دهركم، ولتمحصنَّ حتَّى يقال: مات، أو هلك، بأيِّ وادٍ سلك؟ ولتدمعنَّ عليه عيون المؤمنين، ولتكفأنَّ كما تكفأ السفن في أمواج البحر، ولا ينجو إلَّا من أخذ الله ميثاقه وكتب في قلبه الإيمان وأيَّده بروح منه، ولتُرفَعنَّ اثنتا عشـرة راية مشتبهة، لا يُدرى أيٌّ من أيٍّ»، قال: فبكيت، فقال لي: «ما يبكيك يا أبا عبد الله؟»، فقلت: وكيف لا أبكي وأنت تقول: «تُرفَع اثنتا عشـرة راية مشتبهة لا يُدرى أيٌّ من أيٍّ»!؟ فكيف نصنع؟ قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصفة، فقال: «يا أبا عبد الله، ترى هذه الشمس؟»، قلت: نعم، قال: «والله لأمرنا أبين من الشمس»(23).
ورواه الطوسي بسنده(24).
والنعماني بطريقين آخرين(25).
إلّا أنّ جميع هذه الطرق فيها محمّد بن مساور الذي لم يُنَصّ على توثيقه. لكن الرواية هنا للاستشهاد وليست للاستدلال. فالشبهة قويَّة والتاريخ حافل بمثل هذه الدعاوى.
وروى الشيخ الطوسي في الغيبة في حديث معتبر عن أبي خديجة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لا يخرج القائم حتَّى يخرج اثنا عشر من بني هاشم كلُّهم يدعو إلى نفسه»(26).
وروى النعماني في الغيبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «لا يقوم القائم حتَّى يقوم اثنا عشر رجلاً كلُّهم يجمع على قول: إنَّهم قد رأوه، فيُكذِّبهم»(27).
والمراد أنَّ الإمام (عليه السلام) يُكذِّبهم بعد ظهوره، ثمّ إنَّ التعبير بـ (يقوم) يُراد به النهوض بحركة إصلاحية يتقمَّص فيها دعوى النيابة الخاصَّة والارتباط معه (عليه السلام).
وروى النعماني بإسناده عن عمرو بن سعد، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا يقوم القائم حتَّى تفقأ عين الدنيا وتظهر الحمرة في السماء...، حتَّى يظهر فيهم عصابة لا خلاق لهم، يدعون لولدي وهم براء من ولدي، تلك عصابة رديئة لا خلاق لهم، على الأشرار مسلَّطة، وللجبابرة مفتنة، وللملوك مبيرة...» الخبر(28).
8 - كثرة الادِّعاءات الكاذبة من صاحب هذه الدعوى:
إنَّ من جملة ما يستدعي التوقُّف كثيراً قبل التفكير من معقولية هذه الدعوى هو نوع الدعاوى الأُخرى للمدَّعي في نفسه، ممَّا قد يُوحي بأفضليته حتَّى على بعض أعاظم الأولياء.
ومن أقواله في ذلك:
1 - فجميع هذه الأسماء لي، فأنا سعد النجوم، ونجمة الصبح، ودرع داود، وأنا وعد الله غير مكذوب(29).
ثمّ يقول: مَنْ نجمة داود؟ أحمد الحسن(30).
وما قيمة حساب الجمل في سوق إثبات الحقائق وعند أهل العلم والاختصاص؟
2 - كون دماء الحسين (عليه السلام) سالت لأجله، قال: (وستشكوكم دماء الحسين (عليه السلام) التي سالت في كربلاء لله، ولأجل أبي (عليه السلام)، ولأجلي)(31).
3 - في بيان البراءة يقول: (لقد قامت عليكم الحجَّة البالغة التامَّة من الله سبحانه وتعالى بي بأنّي الصراط المستقيم إلى جنّات النعيم).
4 - إنَّ معه روح القُدُس الذي هو غير روح القُدُس الذي كان مع عيسى وغير الذي كان مع الأنبياء الآخرين.
قال: (وهذا هو الروح القُدُس الأعظم لم ينزل إلَّا مع محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، وانتقل بعد وفاته إلى عليٍّ (عليه السلام)، ثمّ إلى الأئمَّة (عليهم السلام)، ثمّ من بعدهم إلى المهديين الاثني عشر)(32).
5 - إنَّه الحجر الأسود: قال في كتابه الجواب المنير: (فالحجر الأسود الموضوع في ركن البيت، والذي هو تجلي ورمز للموكَّل بالعهد والميثاق، هو نفسه حجر الزاوية الذي ذكره داود وعيسى عليهما السلام، وهو نفسه الذي يهدم حكومة الطاغوت في سفر دانيال (عليه السلام)، وهو نفسه قائم آل محمّد أو المهدي الأوَّل الذي يأتي في آخر الزمان، كما روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) (33).
6 - إنَّه روضة من رياض الجنَّة أخبر عنها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): ذكر ذلك في كلمة مسجَّلة ذكر فيها معجزة معرفته بموضع قبر السيِّدة فاطمة.
7 - ادِّعاء أنَّ في ظهره ختم النبوَّة، لكنَّه ليس ظاهر الخلقة، ولكن يمكن أن يُظهِره الله لمن يشاء.
ولا أدري أيدَّعون أنَّ ختم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كذلك، مع أنَّ من كان يسعى لقتله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان يبحث عن هذا الختم ولم يكن يخفى على أحد؟
ومن أراد أن يجمع شيئاً من هذه المدَّعيات الغريبة عثر على الكثير.
إنَّ صدور كلِّ هذه الادِّعاءات من شخص واحد يضعه في دائرة الاتِّهام بالكذب، بل الجزم به لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهذا يستدعي أن يُتعامَل مع ما يقوله في موردٍ خاصٍّ بغاية الحذر والتشكيك، فإنَّ مجرَّد عدم ورود شيء يُثبِت وثاقة الرجل أو دينه - كأن ينصَّ على مدحه من غير جهة الوثاقة - مانع من قبول روايته، فكيف مع كلِّ هذا الجوّ من الدعاوى!؟
بدون تلك الدعاوى تقول رواية المفضَّل بن عمر، عن الصادق (عليه السلام): «إن ادَّعى مدَّعٍ فاسألوه عن تلك العظائم التي يجيب فيها مثله»(34).
ثمّ إنَّ هنا جملة من المؤشِّرات التي تمنعنا من قبول مثل هذه الدعوى أو الاستناد إلى هذه الرواية لترتيب هذا الأثر المهمّ.
1 - الفرق بين حجّية الظهور والواقع:
يتحرَّك الإنسان منطلقاً من علمه إن أمكنه حصول العلم، ولـمَّا كانت دائرة العلم فيما نحتاجه من تصديقات ضيِّقة إلى حدٍّ بعيد، دار الأمر بين أن نتوقَّف خارج دائرة العلم ونقتصـر في التحرُّك على العلم فقط، أو أن نُوسِّع دائرة التحرُّك لتشمل الموارد التي يحصل فيها ظنٌّ خاصٌّ أو مطلق الظنِّ، وربَّما وسَّعناها إلى بعض المحتملات ولو كانت ضعيفة، ومن يشترك في دائرة اليانصيب في المجتمعات الكبيرة قد يصل عددهم إلى عشـرات الملايين مع أنَّ فرصة الفوز للمشترك قد لا تصل إلى نسبة الواحد إلى عشرة ملايين.
والتوقُّف عند حدود دائرة العلم يعني بالضـرورة توقُّفاً شبه تامٍّ للحياة، فلا من يذهب إلى المدرسة يعلم أنَّ الظروف ستناسبه إن بقي حيّاً ليصل إلى ما خطَّط له، ولا يتحرَّك عالم لبحث أمر ما، ولا يسعى مخترع للوصول إلى مخترَع ما، ولا يدخل تاجر في التجارة، ولا يخوض مستكشف غمار تجربة الاكتشاف، وغير ذلك. ومن هنا قضت ضرورة الحياة أن تُوسَّع دائرة التحرُّك بما يتعدّى حالات العلم، وهناك مفردات لا يحصل العلم بها تبانى العقلاء على الاعتماد على الظنِّ فيها كما في الظنون الخاصَّة التي منها ظهورات اللفظ والظهور الحالي، ومنها خبر الثقة أو الخبر الموثوق المضمون.
وكيف كان فقد تبانت المجتمعات العقلائية على الاعتماد على الظهور في تحديد مراد المتكلِّم من كلامه، ولـمَّا لم يردعنا الشارع المقدَّس بردعٍ واضحٍ عن التعامل مع ما صدر منه بالظهور لتحديد مراده، استكشفنا بالقطع أنَّه يقبل بمرجعية الظهور لتحديد مراداته.
لكن دور الظهور إنَّما هو في حدود التحديد التعبّدي، وليس كلُّ الموارد يكفي فيها التحديد التعبّدي، ففي الفروع يكفينا التعبُّد في تحديد الأحكام الشـرعية، وأمَّا في الاعتقاد فالمسائل الأساسية لا يكفي فيها التعبُّد، وهذا يعني أنَّ مجرَّد ظهور الدليل على المعتقد الأساسي غير كافٍ في الاستناد إليه لبناء معتقد ولو كان صدوره قطعياً، وأمَّا في تفصيلات الاعتقاد - فيمكن على نظر مشهور - الاستناد إلى التعبُّد كالظهور في جهة الدلالة وخبر الثقة في جهة الصدور. ولكن مع ذلك فإنَّ دور الظهور هو بناء صورة المعتَقد، وفي بعض الموارد لا يكفي ذلك، بل نحتاج إلى قطع الشكِّ باليقين، ومن هنا احتاج الأنبياء في إثبات نبوّاتهم إلى المعجزة والسبل التي تورث القطع، ومثل هذا يجري في الأئمَّة (عليهم السلام). والرايات التي سترتفع وارتفعت في ما مضـى من الزمن لا يكفينا مجرَّد ظهور في رواية ولو كانت قطعية السند لتحديد أنَّها على حقٍّ، أو أنَّها المعنيَّة بتلك الرواية، إذ لا بدَّ من القطع في النتيجة وهو لا يحصل إلَّا إذا توفَّرت جهتان قطعيتان في الرواية: الأُولى جهة الصدور والثانية جهة الدلالة. وقطعية الدلالة لا تحصل في الدليل الذي يدلُّ على قضيَّة خارجية إلَّا إذا توفَّرت فيه حيثيات المقصود بالنحو الذي يمنع من احتمال انطباقه على فرد آخر، وأين هذا من لفظ (مهديين اثني عشـر) إذا كان المراد تحديد أشخاصهم؟
ولو سلَّمنا إمكان التعبُّد فإنَّما نُسلِّمه في مثل: «فأتوه ولو حبواً على الثلج»(35) التي لم ترد في اليماني، إذ وردت بصيغة الأمر، والأمر ظاهر في الوجوب، ويمكن الاكتفاء هنا بالظهور لإثبات الوجوب.
ولكن كلَّ حكم يحتاج إلى إثبات موضوعه، والرواية لم تتناول هذه الجهة بالإثبات، بل هي تقول: (عند ظهوره)، فإذا شككنا أنَّ الوجود الفلاني هو المعنيُّ والذي يجب الإتيان إليه ولو حبواً على الجليد، فإنَّ الرواية المزبورة ليست الحلَّ، لأنَّه قد ثبت في محلِّه أنَّه لا يجوز التمسُّك بالدليل في الشبهة الموضوعية له، فإنَّ دور الدليل هو إثبات الحكم للموضوع، ومتى ما ثبت الموضوع جاء دور الدليل ليقول: إنَّ الحكم الكذائي ثابت لهذا الموضوع.
فإن قيل: ما فائدة الأخبار الواردة في كلِّ هذه الموارد إن لم يُنتَفع بها على مستوى التعبُّد بعد عدم ارتقائها في الدلالة، بل والصدور إلى مستوى القطع؟
كان الجواب: أنَّها بصدد إعطاء تصوّرات كلّية عمَّا ستكون عليه الأحداث في مستقبل الأيّام، لتكون الناس على تصوّر إجمالي، فلا تصدمهم الأحداث ولا تفاجؤهم الدعاوى.
ويشهد لما أقول أنَّ أكابر المتخصِّصين والعلماء قد اختلفوا في تحديد المراد من الأحداث التي ورد التنبيه إليها في الروايات على أنَّها من العلائم.
بل يشهد أيضاً عدم توفُّر المشخِّصات التي تمنع من احتمال انطباقها على أكثر من فرد، ولو كان المراد معرفة تلك المفردات لتوفَّرت الروايات على ما يقطع الشكَّ باليقين من خلال استيعاب كلِّ ما يتوقَّف عليه قطع الشكِّ في المراد.
وهل تظنُّ من حكيم أن يجعل دينه منوطاً باتِّباع شخص ثمّ يقتصـر على رواية أو حتَّى روايات حوت وصفاً فضفاضاً يمكن أن يدَّعيه أيُّ ابن أُمِّ أو كلُّ من هبَّ ودبَّ؟
ويضاف إلى ذلك أنَّ الأوصاف التي تُذكَر لتحديد فرد ما أو قضيَّة خارجية ما لا بدَّ أن تكون قابلة للتحقُّق من وجودها من قِبَل الناس، أو لا أقلّ من أصحاب التخصُّص في ذلك المجال. ووصف المهديّين يحكي شيئاً باطنياً لا يمكن أن يقف عليه خواصُّ الناس فضلاً عن عوامِّهم، وكيف لنا أن نتحقَّق أنَّ فلاناً مهدي؟ وهل نكتفي بدعواه، ولا يوجد تاريخ قد يدعمه ولا واقع يُصدِّقه ولا معجزة تدلُّ عليه؟
ومثل الأنبياء الذين ارتقوا في مراتب الكمال حتَّى وصلوا إلى مرتبة حصل معها الانفتاح على الغيب والتواصل مع السماء، والذي يعني أنَّ الكثير من مؤشِّرات الاستقامة وارتقاء النفوس قد لاحت للناس فيهم لم يُكتفَ منهم بمجرَّد ذلك، وكان حقّاً للناس أن يطالبوهم بالمعجزة لإثبات صدق مدَّعياتهم، فكيف يُكتفى بدعوى مدَّعي أنَّه المهدي الأوَّل المعنيُّ بالرواية، ولم يُعرَف منه تقوى أو تاريخ استقامة، يتعكَّز على رؤيا أو منام قد تراه آحاد الناس؟ ومتى كان دين الله يُرى في المنام؟ والموروث الشـرعي على ضخامته لم يُحدِّثنا عن نبيٍّ من الأنبياء أنَّه احتجَّ على الناس برؤيا أو منام، ونحن وإن التزمنا بأنَّ ما يراه المعصوم في منامه كالذي يسمعه في يقظته، لكن ذلك خاصٌّ برؤيا المعصوم لا رؤيا أحد آخر، على أنَّ عالم اليقظة شهد دعوى المفترين أنَّ بعضهم آلهة وبعضهم أبناء آلهة أو رُسُل أو أنبياء أو أئمَّة مع الجزم بكذبهم، فلماذا نستبعد كذب الرؤيا من عوامِّ الناس وجُهّالهم؟
وأمَّا كيف كانت دلالة رواية الوصيَّة في حدود الظهور؟
فجوابه: أنَّ اللفظ إن احتَملَ أن ترتبط به قرينة على الخلاف دون حصول تناقض في دلالته، فدلالته في حدود الظهور وإلَّا فهو نصٌّ، ولو أنَّ الرواية جاء فيها بعد ذكر المهديّين الاثني عشـر فقرة (والمراد رجوع الأئمَّة (عليهم السلام) فيحكمون واحداً بعد الآخر) لما أحسسنا بالتنافي في متنها، إذن فدلالتها في حدود الظهور.
وكيف كان فالمفردة الاعتقادية التي تنعكس على واقع التحرُّك العملي - ولا يُراد منها مجرَّد سدّ ثغرة في صورة عن الواقع دون ترتُّب أثر عملي كتفاصيل البرزخ ويوم القيامة وما بعده - قد لا يكفي فيها دليل التعبُّد، إذ المطلوب هو إدراك الواقع لا التعبُّد بصورة حاكية عنه، قد تصيبه وقد تخطئه.
وهذا يعني الحاجة إلى دليل قطعي في جهتي السند والدلالة، وأنّى لهم التناوش من مكان بعيد، وإنَّما هي نفس واحدة وثمنها الجنَّة ليس إلَّا، فلا يقبل المنطق أن أبيعها استجابةً لناعق نعق هنا أو زاعق زعق هناك.
2 - الظهور حجَّة على صاحبه أو من ساغ له تقليده ومتابعته:
لو أغفلنا النظر عمَّا ذُكِرَ في المبحث السابق، والتزمنا بحجّية الظهور في مثل هذا المورد، ولم تقم قرينة على خلافه تُسقِط الحجّية عنه، ولم تعارضه دلالة دليل آخر بنحو مستقرٍّ بحيث يُسقِطه عن الحجّية ويُقدَّم عليه أو يسقط معه وفقاً لقواعد التعارض المنقَّحة في محلِّها في باب التعادل والتراجيح، فإنَّ الظهور إنَّما يكون حجَّة على من تحقَّق عنده دون غيره، وفي محلِّ الكلام نقول: إنَّ المورد ليس من الفروع العملية ليسوغ التقليد فيه، ولا أنَّ المقلَّد المزعوم قد توفَّرت فيه شرائط التقليد بنحو تحقَّق المكلَّف من ثبوتها، وأنّى له التثبُّت من وجودها فيمن احتجب عن الأنظار وغاب عن الأبصار؟ وفي المقابل ليس للمتابعين قابلية التحقُّق من الظهورات وإعمال قواعد الصناعة في استنطاق الأدلَّة والوقوف على مكنون معانيها وواقع مقاصدها. وملاحظة المعارض لها وما يمكن أن يُؤثِّر في المفهوم منها ممَّا يصلح لأن يكون قرينة على إرادة ما هو مخالف للظاهر أو ما يُؤثِّر على قبولها رغم تمام دلالتها - لو تمَّت -، وعلى هذا كيف يحلُّ الإشكال في المتابعة؟
ونحن حين نظرنا إلى هذه الرواية لم نجد فيها ما يصلح للدلالة على المدَّعى المزعوم ولا تشخيص الفرد المراد، إذ إنَّها تتحدَّث عن قضيَّة خارجية وليست بصدد بيان حكم كلّي ليقال: إنَّ الدلالات تتناول المفاهيم، وفي مقام تحديد المفاهيم يرجع إلى الفهم العرفي. مضافاً إلى كثرة الهنات في الاستفادة المزبورة من قرائن عقلية ورواية معارضة وقرائن منفصلة. فكيف يُراد إتمام الحجَّة علينا بدعوى تُسوّق على أنَّها مستندة إلى دليل صالح لتأسيس مثل هذا الأمر المهمّ؟
3 - تدبير الأُمور مقنَّن:
إنَّ الكون قائم بالله تعالى خالقه ومدبِّره، يحكم كلَّ صغيرة وكبيرة فيه بكلمة كن التكوينية ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ (البقرة: 255) وإدارته تعالى لعالم خلقه وفق ضوابط لا تتخلَّف، فلا مجال للانتقائية ولا للمواربة ولا للمحاباة، نعم تؤطِّر ذلك الحكمة والعدل واللطف.
وهذا يعني أنَّ إعمال عناية بأمر ما يحتاج إلى توفُّر ما يوجب تلك العناية فيه، وحين يُدَّعى أنَّ الله تعالى أعمل عناية تكوينية بأمر ما، ووظَّف الغيب وحرَّك يد الإعجاز لغرض ما، أو في مورد ما، فلا بدَّ أن تكون فيه بعض الخصوصيات التي استدعت ولو بنحو الاقتضاء ذلك التدخُّل الغيبي، وهذا يعني وجود المقتضي كذلك في كلِّ مورد توفَّرت فيه تلك الخصوصية بمستوى مماثل أو أعظم منه.
وحين نقف على دعوى تدخُّل الغيب وسلوك سبيل الإعجاز في حفظ وصيَّة ما عن أن يدَّعيها مفتر أو كذّاب، من حقِّنا أن نتساءل عن مستوى الأهمّية في تلك الوصيَّة الذي جعلها تحظى بهذا المستوى من الاهتمام.
وهل كانت عملية التمهيد لظهور الإمام (عليه السلام) وقيام دولة الحقِّ أهمّ من نفس قيام الإمام عليه السلام؟ والتاريخ حافل بمدَّعي المهدوية على مرور أيّامه وترامي سنيِّه. ألم يكن منع المدَّعين من ادِّعاء الإمامة بالإعجاز أولى من منع ادِّعاء من يقول بوجود وصيَّة بالممهِّد للإمام عليه السلام؟
ثمّ ألم يكن الأولى منهما معاً منع سبيل ادِّعاء النبوَّة؟ وما أكثر من ادَّعاها.
والقرآن يُبيِّن عظم هذه الفرية على الله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‏ءٌ﴾ (الأنعام: 93).
بل ألم يكن منع ادِّعاء ولد لله تعالى أولى بالمنع؟ والقرآن يؤرِّخ: ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (التوبة: 30).
على أنَّ في الآية دلالة واضحة على ادِّعاء البنوَّة للإله من أقوام قبل اليهود والنصارى، وما أعظم هذا الادِّعاء.
﴿وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا * تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً﴾ (مريم: 88 - 91).
وهذه الآيات تغنيك عن استبيان مستوى أهمّية المنع عن ادِّعاء ثبوت أُبوَّة الله لأحد، وما أعظم سورة التوحيد التي تعدل ثلث القرآن، وقد تعرَّض نصفها لنفي نسبة أحد إلى بنوَّة الربِّ.
﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ 3 وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ (الإخلاص: 3 و4).
فلو كان الله تبارك وتعالى قد جرى على الاستناد إلى التكوين في منع دعوى المدَّعين ألم يكن باب دعوى من ادَّعى البنوَّة له تعالى أولى من سدِّ باب دعوى من ادَّعى وصيَّة لممهِّد للإمام (عليه السلام) ولو كان ذلك في مشروع بشارة الأنبياء عليهم السلام؟
ثمّ ألم يكن منع ادِّعاء الربوبية أولى بالمنع تكويناً من وصيَّة لممهِّد؟ وما أكثر من ادَّعاها في مختلف مقاطع التاريخ البشري، وما فرعون ونمرود إلَّا مثالين من عشرات على مرِّ التاريخ.
وأنا أجزم بعدم المنع، وأنا أرى من يفتريها الآن، وستمرُّ الأيّام ويذهب الزبد جفاءً وتسقط كلُّ وليجة دون أمرهم (عليهم السلام). وقد أعجل التاريخ على الكثير ممَّن هُيِّئ لهم أنَّ الأُمور قد مُهِدَّت لهم حين قذف الله بالحقِّ على الباطل فدمغه، فإذا هو زاهق، ولهم الويل ممَّا يصفون.
4- التكتُّم على أسماء أصحاب المشاريع الإصلاحية الإلهية:
إنَّ المتتبِّع في مشاريع الإصلاح الإلهي التي يخبر عنها قبل زمانها يجد أنَّها يتمُّ التعمية عليها منعاً من الاطِّلاع التفصيلي على الشخصيات التي أُوكلت لهم قيادة تلك المشاريع، وفي ذلك سلوك سبيل الأسباب الطبيعية لحماية المشاريع وقادتها، فحين تقتضـي الحكمة أن يبعث نبيٌّ في بني إسرائيل وتأتي البشارة الإجمالية أنَّه من نسل عمران تنصـرف كلُّ الأذهان إلى أنَّه ابن مباشر له، وحين تكشف ولادة زوجته أنَّ الحمل لم يكن إلَّا أُنثى تصاب أُناس بالذهول، ثمّ يُعمى الأمر على الناس حتَّى تفاجأهم العابدة القدّيسة بصبي تحمله بين يديها، فما كان منهم إلَّا أن اتَّهموها بالمنكر، وحين تُسأل عن ذلك تشير إليه بما يُفهَم منه أنَّه هو الذي سيُجيب عن تساؤلاتكم، فيشاء الله تعالى أن يخرق نواميس الطبيعة فينطق الصبي حديث الولادة بأنَّه النبيُّ الذي كان في حمله وولادته ونطقه آية للناس ورحمة، فيبهت هذا الخروج الصارخ عن المألوف أنفسهم ويُخرس ألسنتهم.
وحين يقع في التقدير الإلهي أن يُبعَث النبيُّ الخاتم بالدين الخالد والمشـروع الإلهي الكبير، وتقتضـي الحكمة الإلهية التنويه عنه ينطق عيسى (عليه السلام) في دعوته لبني إسرائيل بقوله: ﴿مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّـراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ (الصفّ: 6).
لكنَّه لم يُبيَّن بالنحو الذي لا يقبل اللبس والاشتباه، فالناس لم تكن تعرفه (صلّى الله عليه وآله وسلم) باسم أحمد، بل هو محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، ولا شكَّ أنَّ تنويه عيسى (عليه السلام) بذلك الاسم لم يكن لأجل التعرُّف عليه، وإلَّا لكان المناسب أن يُسمّيه باسمه الذي كانت تعرفه الناس به، وبملاحظة أنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان يقول: «اسمي في السماء أحمد»(36) يتبيَّن أنَّ التعرُّض للتسمية كان للتنويه لا للتشخيص.
ولهذا لم يستعمل النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) ذكره باسمه في الإنجيل للاحتجاج على النصارى، بل كان عليه أن يدفع الاختلاف بين الاسمين ما تعرفه الناس به وما نصَّ عليه عيسى (عليه السلام)، ولم أقف على محاججة واحدة منه (صلّى الله عليه وآله وسلم) عليهم بذلك ليُثبِت أنَّه هو النبيُّ المبشَّر به.
بل سلك معهم سبيل المنطق والاستدلال، ودعم ذلك من خلال المعجزات إن كانت مؤثِّرة فيهم، وإن سُدَّت أبواب الاستجابة دعاهم إلى المباهلة كما حصل مع نصارى نجران.
حين ترسم البيانات خريطة مسلك الإمامة ومتسنّمي ذلك المنصب، وتشير إلى أنَّ آخرهم يُمثِّل بشارة الأنبياء ومفردة تحقُّق العدل الإلهي على الأرض، ليكون معلِّماً للحياة في الأرض بعد أن امتلأت ظلماً وجوراً يُعمى على الناس أمر ولادته، ويخفى حتَّى على الخواصِّ إلَّا في دائرة ضيِّقة جدّاً، بل ويحرم التصريح باسمه، وفي ذلك سدٌّ لباب تعرُّض أعداء المشـروع الإلهي لحياته بسوء، والروايات صريحة في أنَّ بعض حكم الغيبة ترجع إلى ذلك.
حتَّى إذا قضـى الله تعالى بقضائه أن يخرج (عليه السلام) كان خروجه بغتةً، فمثله كمثل الساعة ﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ﴾ (الأعراف: 187).
على أنَّ معرفتنا باسمه في زماننا لا تُشكِّل خطراً عليه، لأنَّ الغرض ليس تعيين شخصه من خلال الاسم، فهو غائب عن الأنظار ليس بإمكان شخص أن يُطبِّق الاسم على المسمّى دون الخروج عن الموضوعية، وحين يعلن عن نفسه في المسجد الحرام يكون الأمر التكويني بحفظه ونصـرة حركته قد صدر من الله تعالى، فيجيء دور الإعلان لا الكتمان، كما أعلن النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن دعوته، وأعلن عيسى (عليه السلام) عن نبوَّته.
فكيف والحال هذه أن يأتي من هو بزعمه قائد التحرُّك للتمهيد لدولة الحقِّ وبشارة الأنبياء (عليهم السلام)، ويقول: لقد أثبتت الروايات هذا الأمر لي، وأنا الذي أسمتني بأحمد، وأنّي من المدينة الكذائية؟ مع ملاحظة أنَّ حركته لو كانت حقَّة فإنَّ فيها تهديداً لكلِّ النُّظُم السياسية في العالم أجمع وكثير من النُّظُم الحالية قائمة على الظلم والاستبداد ومتَّخذة للكفر والإلحاد مسلكاً ومذهباً تدين به، ممَّا يعني أنَّ المبرِّرات للإيقاع به ووأد حركته ستكون على مستوى عالٍ من الشدَّة.
وهذا الوجه إن لم يكن دليلاً فلا أقلَّ من كونه مؤيِّداً يُنتَفع به في دعم بقيَّة الوجوه.
ولكن هذا الوجه يضعف من خلال وجود المعارض، فقد روى الصدوق بسندٍ تامٍّ عن أبيه وابن الوليد معاً، عن سعد والحميري ومحمّد العطّار وأحمد بن إدريس جميعاً، عن ابن عيسى، عن البزنطي، عن أبان بن عثمان، عن محمّد الحلبي - فالرواية موثَّقة لمكان أبان بن عثمان الذي هو من أصحاب الإجماع -، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّ يوسف بن يعقوب صلوات الله عليهما حين حضـرته الوفاة جمع آل يعقوب وهم ثمانون رجلاً، فقال: إنَّ هؤلاء القبط سيظهرون عليكم ويسومونكم سوء العذاب، وإنَّما ينجيكم الله من أيديهم برجل من ولد لاوي بن يعقوب اسمه موسى بن عمران، غلام طوال جعد آدم، فجعل الرجل من بني إسرائيل يُسمّي ابنه عمران ويُسمّي عمران ابنه موسى»(37).
فالرواية سمَّته وبيَّنت أنَّه صاحب مشـروع خلاص بني إسرائيل وأعطت صفاته الجسدية، لكنَّها إنَّما ذكرته لبني إسرائيل دون فرعون، ويبدو أنَّ فرعون لم يفهم تلك الأوصاف، لأنَّه بدأ بمراقبة كلِّ نساء بني إسرائيل.
ويمكن مناقشة هذا الجواب ببعض الوجوه التي أعرضت عن ذكرها والوقوف عندها حذراً من الإطالة، ولعدم ترتُّب فائدة كبيرة خصوصاً مع اتِّخاذه مؤيِّداً لا دليلاً.
5- المعجزة خيار الحالات الاستثنائية:
أجرى الله تعالى نظامه الكوني على قانون السببية، ولكن هناك بعض الحالات التي تقتضـي فيها الحكمة، وربَّما تدعو الضـرورة إلى أن تخرق فيها القوانين المألوفة بنحو من الإعجاز، أو ما يكون قريباً منه، ممَّا يُشكِّل خرقاً للنُّظُم المألوفة التي تجري عليها جزئيات هذا الكون، ولكن الأصل هو أن توجد الأشياء بأسبابها المألوفة.
حين يُبعَث نبيٌّ من الأنبياء لا يُكتفى بمجرَّد قول الحقِّ منه، فقول الحقِّ بمجرَّده لا يكفي لإثبات نبوَّته وسفارته عن السماء، وما من سبيل للتحقُّق من ذلك إلَّا أن يأتي بما لا يمكن أن يأتي به بشـر بما هو بشر، ولا يكفي أن يأتي بما يعجز عنه الآخرون، فالأبطال الخارقون وأصحاب الأرقام القياسية في مختلف مجالات الرياضة، والمكتشفون الأعاظم لا يكفي لهم ذلك لإثبات أنَّهم أنبياء لو ادَّعوا ذلك، ولا بدَّ من قطع الشكِّ باليقين لتتمَّ الحجَّة على العباد، والدور الحاسم هنا للمعجزة، وقد يسبقها تمهيد من نبيٍّ سابق ثبتت نبوَّته بطريق قطعي، ولكن لا يُستغنى أبداً عن المعجزة وخرق القوانين المعروفة للطبيعة، فإتمام الحجَّة على العباد يتوقَّف عليها في حالات. وفي أُخرى لطف الله تعالى يستدعيها، لأنَّها تُقرِّب الناس من الطاعة والاستجابة لدعوات الأنبياء، ومن هنا لم يقتصر نبيٌّ على معجزة واحدة.
فحين يُوضَع إبراهيم (عليه السلام) في المنجنيق ليُرمى في نار لعظمها لا يتمكَّنون من الاقتراب منها، وكلُّ الأسباب الطبيعية تشير إلى طيِّ صفحة وجود نبيٍّ عظيم، لكن الله ﴿بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ (الطلاق: 3)، فتتحوَّل أداة الإحراق إلى آلة برد وسلام عليه.
وحين اقتضت الحكمة أن يبعث الله تعالى موسى (عليه السلام) نبيّاً في وقت سُدَّت فيه الطرق الطبيعية لولادته، حيث كان جلاوزة فرعون يُفتِّشون نساء بني إسرائيل عن أيِّ علامة حمل جديد فتُبقَر بطون الأُمَّهات، تدخَّلت يد الغيب في التكوين لتتجاوز النواميس الطبيعية وتُعطِّل القوانين المعروفة منها، فيتوقَّف جسمه عن النموِّ إلى آخر ليلة في بطن أُمِّه، ثمّ يكبر في ساعة، فتلده دون أن يعرف بذلك جلاوزة فرعون، كما نصَّ على ذلك الطبرسي في تفسيره(38).
حين يستدعي فرعون قومه لينال من موسى وقومه وهم شرذمة قليلون، وكانوا له غائظين، تجتمع الآلاف لصيد سهل سمين، وينادي أصحاب موسى (عليه السلام):ـ ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ (الشعراء: 61)، حين استندوا في رؤيتهم إلى الأسباب الطبيعية، فيقول موسى (عليه السلام) الذي اعتقد بالغيب واطمأنَّت به نفسه: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ (الشعراء: 62)، تُضـرَب القوانين الطبيعية أيضاً، فينفلق الماء حتَّى أصبح كلُّ فرق كالطود العظيم، ليعبر موسى وقومه بسلام، ثمّ تطبق الموجات العظيمة على جيش فرعون، وهو في لحظات إحساسه بأنَّه أقرب ما يكون من التخلُّص من هذا النبيّ العبراني.
حين تقتضي الحكمة أن يُخلَق عيسى (عليه السلام) من غير أبٍ، وتتوقَّف قوانين الطبيعة عن أن تقنع الناس بذلك، ويتوقَّف قبول نبوَّته على دفع التهمة عن أُمِّه، تتدخَّل يد الغيب مرَّة أُخرى لتقطع ألسنة المشكِّكين، فينطق الصبي في يومه الأوَّل: ﴿فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ (مريم: 29 - 33).
فدُفِعَت التهمة بذلك عن أُمِّه، وأُقيمت الحجَّة القاطعة على نبوَّته.
حين يتسلَّل أربعون رجلاً لقتل النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ليضيع دمه بين القبائل، فلا تقدر هاشم أن تأخذ بثأره، وتُعلِن الأسباب الطبيعية عجزها عن أن تُهيِّئ سبيلاً للمراد الإلهي بحفظ النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وإعلاء دينه، يقول الغيب كلمته، وتُعطَّل قوانين الطبيعة بقوانين الأمر الإلهي الذي إذا أراد شيئاً يقول له: كن فيكون، وتفعل حاكمية الله ما يلائم المراد الإلهي، فيمرُّ عليهم دون أن يشعروا به، ويرمي على رؤوسهم التراب، فتبدأ الهجرة. وحين يكاد يُدركه القوم وهو في الغار بعد أن استعانوا بخبرة متتبِّعي الأثر في الصحراء، يتوقَّف إنجاؤه على خرق قوانين الطبيعة، فتُساق الحمامة لتصنع عشّاً، وتُقيَّض عنكبوت لتصنع بيتاً يسدُّ فوهة الغار، فينصـرف عنه أعداؤه وقد كادوا أن يمسكوا به.
حين يحين وقت ولادة الإمام الثاني عشـر (عليه السلام)، والقوم قد جعلوا بيت والده تحت مراقبة شديدة ينتظرون قدومه ليفتكوا به فيقطعوا بذلك هواجس الخوف على ملكهم، وتعجز أسباب الطبيعة عن أن تجد مخرجاً لتلك المشكلة، يكشف الغيب عن مكنون قدرته، ويُعطِّل بعض قوانين الطبيعة بحاكميته عليها، فتنتفي آثار الحمل عن أُمِّه حتَّى على الخواصِّ.
فالسيِّدة حكيمة عمَّة أبيه، والتي أُرسل إليها لتشهد تشـرُّف العالم بقدوم مصلحه وناشر راية الهدى ومحطِّم أعلام الضلال، تستغرب من الخبر، مع أنَّ الذي أخبرها إمام زمانها، إذ صدمها أنَّها في ليلة الولادة لا ترى آثار حمل فضلاً عن مقدَّمات ولادة عند أُمِّه.
ولمثل ذلك نقول: إنَّ خرق قوانين الطبيعة تُمثِّل حالة استثناء يُصار إليها عندما تُعلِن قوانين الطبيعة عجزها عن توفير وتحقيق المراد الإلهي، أو أنَّ المعجزة تكون ساندة للأسباب الطبيعية عندما يترتَّب على المعجزة الإلهية أثر لا يكاد يترتَّب بدونها، وأَمَّا أن تُترَك المسألة كاملة للغيب دون أن تُحرِّك الأسباب الطبيعية ساكناً مع إمكان الاستفادة منها، فهذا من زخرف القول.
أليس من الممكن أن يُخبِر عن الوصيَّة بخبر تامِّ السند تامِّ الدلالة وهي بهذا المستوى من الأهمّية بزعم مدَّعيها؟ بل ألم يكن متيسَّـراً أن تأتي عشـرات الروايات في ذلك، ثمّ لو احتاج الأمر إلى تدخُّل يد الغيب في صرف المفترين عن ادِّعائها لتمَّ اللجوء إليه؟
وله أن يقول: إنَّ صرف الناس الذي تحدَّثنا عنه واستعمال المعجزة ليس في إثبات أصل الوصيَّة ليرد ما تقدَّم، بل إنَّ الله قد صرف الناس عن ادِّعائها، وأين هذا من أصل ثبوتها؟
قلنا: الكلام هو الكلام، فهل سُدَّ الطريق عن أن تأتي روايات واضحة دلالة وقويَّة سنداً لتُحدِّد لنا سمات هذا الممهِّد الخلف! الذي يسبق الإمام (عليه السلام) بالتمهيد له ثمّ يخلفه في حكمه، فإذا لم يكن ذلك كافياً استعين بالمعجزة؟
ولكن إذا كان المقصود من الكلام سُذَّج الناس وبسطاءهم، فما الحاجة إلى المنطق والدقَّة العقلية خصوصاً والمنطق على خلاف ما يريده المتكلِّم؟
6- تناسب الاهتمام مع مستوى الأهمّية:
كلُّ عاقل ملتفت له مرادات يسعى للحصول عليها وتحقيقها، ولا بدَّ أن يكون مستوى اهتمامه بها متناسباً مع مستوى أهمّيتها، والشارع المقدَّس لا يخرج عن هذه القاعدة، فحين تُشكِّل الصلاة عموداً للدين، فإنَّ ذلك يستدعي إبراز اهتمام بها يتناسب مع مستوى أهمّيتها، ومن هنا أتانا سيل من البيانات في الكتاب والسُّنَّة، مع أنَّ مؤشِّرات زيادة الاهتمام بها لم تقتصـر على مثل هذه الآيات، فرُبِطَ قبول الأعمال بقبولها «إن قُبِلَت قُبِلَ ما سواها وإن رُدَّت رُدَّ ما سواها»(39)، وكونها «خير موضوع، فمن شاء استقلَّ ومن شاء استكثر»(40)، وكونها أوَّل ما يُسأل عنها يوم القيامة(41)، وتصدر تعليل أهل سقر لمآلهم بأنَّهم لم يكونوا من المصلّين(42)، وأوَّل وصيَّة تحدَّث عنها عيسى (عليه السلام) من ربِّه قوله: ﴿وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ﴾ (مريم: 31)، ومدى امتداد مدَّة الصلاة في عمر الإنسان بما في ذلك النوافل منها، وكونها كالنهر الذي يذهب درن الذنوب في الرواية: «يا عليُّ، إنَّما منزلة الصلوات الخمس لأُمَّتي كنهر جارٍ على باب أحدكم، فما يظنُّ أحدكم لو كان في جسده درن ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات في اليوم، أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله صلوات الخمس لأُمَّتي»(43)، وغير ذلك كلُّها قنوات تُبيِّن أهمّيتها.
وعندما يتعرَّض الكتاب الكريم لبرِّ الوالدين يذكره في خمسة موارد تالياً للتوحيد: (النساء: 36، الأنعام: 151، البقرة: 83، لقمان: 13 و14، الإسراء: 23)، ومع كون العطف بالواو وهي لا تفيد الترتيب إلَّا أنَّ هذا الاقتران وتُلُوَّ التوحيد لم يكن من قبيل الصدفة، مع أنَّ المؤشِّرات الأُخرى على أهمّيته ليست بالقليلة.
والأمثلة لذلك كثيرة جدّاً.
وبالعودة إلى محلِّ بحثنا وما يرتبط بمقدَّمات ظهور الإمام (عليه السلام)، فإنَّ مسألة بهذا المستوى من الأهمّية المزعومة ومن تركها كان من أهل النار لا يشار إليها في الكتاب ولا في السُّنَّة إلَّا برواية واحدة سندها غاية في السقوط، اقض عجباً.
إنَّ قتل النفس الزكية ليست إلَّا مفردة من الحوادث التي تسبق الظهور بخمسة عشـر يوماً يتكرَّر ذكرها في الروايات، فقد نقل المجلسـي في البحار جملة من الروايات في ذلك في الباب (25) من علامات ظهوره (عليه السلام)، وهي الأحاديث: 29 و30 و34 و40 و49 و78 و82 و98 و100(44).
مع أنَّها لا أهمّية لها إلَّا العلامية مع قربها من زمان ظهوره، فليس هناك أمر بالاتِّباع أو الانتصار له أو أيُّ شيء آخر إلَّا أنَّها علامة من العلامات المحتومة التي تسبق ظهوره (عليه السلام) بقليل.
إنَّ التكليف للإنسان منطلقه محبَّة الله لخلقه، الله الذي يقول عن الذين يستهزؤون بأنبيائه عليهم السلام:ـ ﴿يا حَسْـرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ﴾ (يس: 30).
الذي يخاطب الموغلين في ارتكاب الذنوب بأدفأ خطاب من خلال نسبتهم إليه: ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ (الزمر: 53).
الله الذي يضع نفسه في مقارنة مع إبليس وتاريخه ليكون مقدَّمة للومهم على اتِّخاذه وليّاً من دون الله: ﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ (الكهف: 50).
حين تتجلّى في إبراهيم (عليه السلام) الرحمة على الخلق ويجادل الملائكة الموكلين بإهلاك قوم لوط (عليه السلام) يذكر الله ذلك، ثمّ يمدحه بثلاثة أوصاف في ذيل الآية التي بعدها وليس فيها إلَّا تمجيده (عليه السلام).
﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْـرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ (هود: 74 و75).
حين تتجسَّد الرحمة في النبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) تنهاه الآيات عن أن يبلغ تأسُّفه على الكفّار حدّاً تذهب به نفسه ولا تنهاه عن أصل التأسف: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَـراتٍ﴾ (فاطر: 8).
﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾ (الكهف: 6).
﴿لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء: 3).
و﴿باخِعٌ نَفْسَكَ﴾ أي قاتلها أسفاً.
الله الذي يقول عن نفسه في الحديث القدسي: «من تقرَّب إليّ شبراً تقرَّبتُ إليه ذراعاً، ومن تقرَّب إلي ذراعاً تقرَّبت إليه باعاً، ومن أتاني مشياً أتيته هرولة»(45).
وماذا عسى المرء أن يقول عن عظمة الله وعظمة رفقه بالمؤمنين، ثمّ تتوقَّع بعد ذلك أن يأمر النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالإيصاء لأمر غاية في الأهمّية حتَّى إنَّ من لا يبادر إلى إعلان الولاء للموصى له، فإنَّ له نار جهنَّم دون أن يُحدِّد رسماً ويُعيِّن اسماً؟ إذ المفروض أنَّ الرواية ذكرت له ثلاثة أسماء، ولم تُزوِّده بما يقطع الشكَّ ويرفع الريب، أنقبل ذلك من رجل فيه شيء من الرأفة؟ فكيف نقبله من الله تعالى!؟
إنّا لا نتحدَّث عن رجل أمن في زمن النظام البعثي مثلاً قد تمكَّن الحقد على البشـرية من روحه وملأ نفسه فيحاول أن يوقع الناس في موجبات العذاب.
صحيح أنَّه تعالى يريد أن يتمَّ الحجَّة على الناس ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ (النساء: 165)، لكنَّه تعالى لم يقف عند ذلك، بل أعمل غاية اللطف، وتجلَّت في أفعاله الرحمة التي لا يمكن أن توجد عند مخلوق، وما ادَّخره للآخرة يُمثِّل تسعة وتسعين جزءاً، ولم يظهر في الدنيا إلَّا جزء واحد.
حين يُصوِّر الإمام (عليه السلام) رحمته بعبادته وفرحته تعالى - على ضيق التعبير - بتوبته، فإنَّك تسمع عجباً.
حين يذكر الإمام (عليه السلام) رجلاً بالحال التي يكون عليها عندما يعثر على دابَّته في أرض مهلكة بعد فقدها ثمّ يقول: «الله أشدُّ فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها»(46).
مع ملاحظة أنَّ العثور على الدابَّة في مثل هذه الظروف فرحة بالنجاة بالحياة، وحينئذٍ تريد منّي مع معرفتي اليسيرة برحمة الخالق بخلقه، أن أقبل أنَّه كمن نصب فخّاً لعباده من خلال عدم تزويد العبد بالمعرفة اللازمة بأمر وعدم إمكانها لعدم توفُّر أدواتها، إذ المفروض أنَّه ليس إلَّا دعوة مدَّعٍ لا يؤيِّدها منطق ولا يدعمها دليل ولا يوافقها عقل، ثمّ يعاقب المخالف بالنار، تالله ما هذه طريقة الله تعالى مع خلقه ولا المعروف من فضله وإحسانه، بل هي أكثر ما تناسب عقدة الذنب عند القسِّ گريگورد(47).
نعم إنَّه يتحدث عن ربٍّ آخر لا نعرفه، فنعم الربُّ ربُّنا وبئس المتحدِّث عن ربِّه هو وأمثاله.
7 - عاصمية رواية الوصيَّة من الضلال:
من النقاط الجديرة بالتوقُّف والمناقشة دعوى أنَّ هذه الرواية عاصمة من الضلال أبداً بنصِّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، ثمّ يقول صاحب الدعوى: (فلا تشكّوا بأنَّه عاصم لكم من الانحراف والضلال عند ساعة القيامة الصغرى)، وقال أيضاً: (وكتاب رسول الله عند الاحتضار أمر عظيم أعظم من الصوم والصلاة فرضه الله على الرسول بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ﴾ و﴿حَقًّا عَلَى﴾ (البقرة: 180) ووصفه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بأنَّه يعصم الأُمَّة من الضلال إلى يوم القيامة...).
وإنّا إذ نسمع هذا أوَّلاً نتعجَّب من الجرأة على الله بالافتراء على نبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، إذ ليس في الرواية أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال عن هذا الأمر: إنَّه عاصم من الضلال.
وثانياً: أنَّ العاصم للأُمَّة من الضلال إنَّما يُتصوَّر في أمر يبقى ما بقي الليل والنهار كما ورد في الكتاب والعترة في حديث الثقلين: «ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً»(48) الذي يرجع إلى العصمة من الضلال بشرط التمسُّك، وبشرط أن يكون بهما معاً، أي بشرط الجمع.
وبما أنَّ الكتاب والعترة باقيان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فنتعقَّل فيهما ذلك، ثمّ نُصدِّقه، إذ نطق بذلك من لا ينطق عن الهوى إن هو إلَّا وحي يوحى.
وأمَّا أن يقال عن كلام ليس بعنوان وصيَّة للأُمَّة، بل وصيَّة للإمام الثاني عشـر (عليه السلام) بأن يُسلِّمها إلى ابنه، بأنَّها وصيَّة عاصمة من الضلال فلا وجه لقوله، فهل منعت بيعة الغدير أمام عشرات الآلاف من المهاجرين والأنصار من الانحراف والزيغ؟ فحبرها لم يجف بعد والقوم قد انقلبوا عليه حتَّى إنَّه لم يثبت معه إلَّا أربعة وبعض منهم حاص حيصة.
أم يُراد أنَّ ذات الوصيَّة عاصمة؟ فيرد عليه مع ملاحظة قوله: إنَّه يعصم الأُمَّة من الضلال إلى يوم القيامة، أنَّ هذا غير معقول، إذ أثر الوصيَّة بزعم مدَّعيها إنَّما يكون في مقطع زماني لا يُشكِّل شيئاً أمام امتداد عمود الزمان من رحلة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى جوار ربِّه إلى يوم القيامة.
وثالثاً: لا بدَّ أن يثبت في رتبة سابقة صدور الوصيَّة منه (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، ودون ذلك خرط القتاد، فالطريق في غاية السقوط، وقد بيَّنّا ذلك في محلِّه.
ورابعاً: إنَّ ما أراده من التفريع على وصفها بأنَّها عاصمة من الضلال - وهو استحالة أن يدَّعيها أحد من المبطلين، لأنَّ ذلك يلزم منه اتِّهام الله تعالى بالكذب أو العجز عن حفظ كتاب وُصِفَ بأنَّه عاصم من الضلال - أوهن من بيت العنكبوت.
فهل كان هذا الكتاب أهمّ من التوراة والإنجيل وقد نصَّت الآيات على أنَّ أهل الكتاب يُحرِّفون الكلم عن مواضعه، مع أنَّ التوراة والإنجيل كتابا هداية لنبيَّين عظيمين من أُولي العزم من الرسل؟ وهل أنَّ هذا الكتاب أهمّ من القرآن، وقد نصَّت آية فيه على أنَّه محفوظ من الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ (الحجر: 9)؟
مع أنَّه في كتابه (العجل) يقول: (وردت روايات كثيرة عن أهل بيت النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) دالّة على التحريف، كما وردت روايات عن صحابة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن طريق السُّنَّة في كتبهم دالّة على وقوع التحريف)، وهذا وفق قاعدة الإلزام، وهل عجز الله تعالى عن حفظ كتبه السماوية أو أنَّ رواية الوصيَّة كانت أهمّ من تلك الكتب السماوية، خصوصاً مع نصِّه في القرآن على وصفه بأنَّه: ﴿لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ (فُصِّلت: 42)؟
وأقول هذا وأنا ملتفت أنَّ كلامي المتقدِّم كان في حفظ النصِّ لا منع الادِّعاء، ولكنَّه نصَّ هو على أنَّه (لا بدَّ أن يحفظ العالم القادر الصادق الحكيم المطلق سبحانه النصَّ الذي وصفه بأنَّه عاصم من الضلال لمن تمسك به - من المبطلين له حتَّى يدَّعيه صاحبه ويتحقَّق الغرض منه).
وأمَّا على ما تقدَّم أنَّ هذا الوصف لهذا الكتاب أو الوصيَّة المزعومة لو كانت قد صدرت من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) بهذا اللفظ - و(لو) حرف امتناع لامتناع -، فإنَّ من المستحيل أن يكون المقصود منع أحد تكويناً من ادِّعائها إلى أن يأتي صاحبها، مع ملاحظة أنَّ هذا المنع لو كان فهو بطريق الإعجاز لا بالأسباب الطبيعية، وهذا له مقام آخر تعرَّضنا له بما يناسبه في طيّات هذا البحث، فلا حاجة إلى التكرار.
8 - توعُّد مخالفه بالنار:
ولعلَّ من أسوأ ما رتَّبه على الوصيَّة المزعومة، أنَّ من لم يسـر معه هاوٍ وهالك، وأنَّ عاقبته جهنَّم، وهو خارج عن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بريء منه، فقد ذكر في بيان البراءة في (13/6/1425هـ):
(لقد قامت عليكم الحجَّة البالغة التامَّة من الله سبحانه وتعالى بي بأنّي الصـراط المستقيم إلى جنّات النعيم، فمن سار معي نجا ومن تخلَّف عنّي هلك وهوى، وهذا هو الإنذار الأخير لكم من الله ومن الإمام المهدي (عليه السلام) وما بعده إلَّا آية العذاب والخزي، وفي الآخرة جهنَّم يصلونها وبئس المهاد لمن لم يلتحق بهذه الدعوة).
إلى أن يقول: (وأُعلن باسم الإمام محمّد بن الحسن المهدي (عليه السلام) أنَّ كلَّ من لم يلتحق بهذه الدعوة ويُعلِن البيعة لوصيِّ الإمام المهدي (عليه السلام) بعد (13/ رجب/ 1425هـ) فهو:
1 - خارج من ولاية عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو بهذا إلى جهنَّم وبئس الورد المورود، وكلُّ أعماله العبادية باطلة جملةً وتفصيلاً، فلا حجَّ ولا صلاة ولا صوم ولا زكاة بلا ولاية.
2 - أنَّ رسول الله محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بريء من كلِّ من ينتسب إليه ولم يدخل في هذه الدعوة ويُعلِن البيعة.
ونحن نتساءل أين هي الحجَّة البالغة؟ أبرواية غاية في السقوط السندي وغموض في الدلالة؟ وإن تجاوزنا ذلك، فمن يثبت أنَّه هو الذي أشارت له الرواية؟ على أنَّ المورد لا يخلو من غرابة تمنع المنصف من الاطمئنان لها بل من تعقُّلها، فكيف أتعقَّل أنَّ جدَّ فلان الرابع هو الإمام المهدي (عليه السلام) وأنا لم يثبت عندي أنَّه (عليه السلام) متزوّج وله ذرّية؟ ومجرَّد الإمكان مع الادِّعاء لا يُعَدُّ حجَّةً فضلاً عن أن تكون حجَّة بالغة، نعم هي بالغة في الزيغ والاستخفاف بالعقول والضحك على أذقان بسطاء الأذهان.
ثمّ ها هي ثلاث عشرة سنة مرَّت ولم نرَ العذاب والخزي بعد إنذاره الأخير، ثمّ أين التخويل من الإمام المهدي (عليه السلام) لشخص يتحدَّث باسمه؟
﴿ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ (الأحقاف: 4).
وعظم المدَّعى لا قيمة له إن لم يستند إلى دليل، وقد ادَّعى فرعون أنَّه إله ونمرود وغيره، وقد ادَّعى مسيلمة أنَّه نبيٌّ مرسَل وغيره الكثير، وقد ادَّعى الكثيرون أنَّهم أئمَّة، نعم لم يكونوا إلَّا زبداً فذهبوا جفاءً.
﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرضِ﴾ (الرعد: 17).
وأمَّا دعوى أنَّ من لم يسر معه فإلى جهنَّم، فهذا ما يُكذِّبه المنطق القرآني، فإنّا إذا توقَّفنا عند بعض آيات سورة البقرة فسنجزم من خلال الأولوية كذب هذه الدعوى، فالله تعالى يقول:
1 - ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 62).
2 - ﴿وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ 80 بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ (البقرة: 80 - 82).
والحديث عن أهل الكتاب.
3 - ﴿وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 111 و112).
فالآيات المتقدِّمة كالصـريحة في أنَّ المدار في النجاة على الإيمان والعمل الصالح أو الإحسان كما عبَّر الشاهد الثالث.
وهذا لا يعني أنَّ لهم أن يرفضوا دعوة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) عندما تتمُّ الحجَّة عليهم، ثمّ يتوقَّعوا أن يكون مآلهم الجنَّة، بل من لم تتمّ عليه الحجَّة وآمن وعمل صالحاً فإنَّه من أصحاب الجنَّة ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فإذا كان نظر القرآن لأهل الكتاب بهذا النحو، فكيف لمؤمن شيعي اثني عشـري أن يكون من أهل النار لمجرَّد أنَّه لم ينعق مع كلِّ ناعق ولم يرد أن يكون ريشة تُحرِّكها أيَّة نسمة؟
وأمَّا قوله: إنَّ من لم يلتحق بالدعوة، بل الدعوى المزبورة فهو خارج عن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو بهذا إلى جهنَّم وكلُّ أعماله باطلة، فلا أعجب منه.
ونحن لا ننكر وجود روايات في أنَّ من جاء الله تعالى بلا ولاية لعليٍّ (عليه السلام) فأعماله غير مقبولة، لكنَّما لا يُراد منها بطلان العمل، ولذا لا يجب عليه القضاء إلَّا في الزكاة. وليس ذلك لأنَّ زكاته غير صحيحة أو لا يمكن أن تكون كذلك، بل لأنَّه أعطاها لغير مستحقِّها، بل المراد عدم القبول الذي يعني عدم استحقاق الثواب عليها، وأين هذا من بطلان العمل؟
ثمّ ما الدليل على براءة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) من المنتسبين إليه إذا لم يدخلوا في هذه الدعوة؟
﴿قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ (البقرة: 111).
﴿إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا﴾ (يونس: 68).
9- ظرف تسليم الوصيَّة المزعومة بعد ظهور الإمام (عليه السلام):
إنَّ الذي ذكرته الرواية في آخرها: «فإذا حضـرته - أي الحسن العسكري - الوفاة فليُسلِّمها إلى ابنه محمّد المستحفظ من آل محمّد، فذلك اثنا عشـر إماماً، ثمّ يكون من بعده اثنا عشر مهدياً، فإذا حضرته الوفاة فليُسلِّمها إلى ابنه أوَّل المقربين...» الخبر.
ومثل هذا الخبر - على فرض إغماض النظر عن كلِّ الإشكالات التي ذكرت على التمسُّك به من قِبَل هذا المدَّعي - غير قابل لإثبات شيء ممَّا رامه، إذ لا مشكلة عندنا أنَّ الإمام (عليه السلام) حين يخرج بعد أن يأذن الله تعالى له بذلك ويقيم دولة الحق وتنقاد له الناس ويُسلِّم الوصية لأحد فلا مشكلة عندنا، وحينها لا حاجة إلى الاستظهار ولا ضرورة للتعبُّد بالصدور، بل سيكون المعصوم هو الذي يُسلِّم الأمر، وأيَّة مشكلة لنا في ذلك لو فعلها الإمام عليه السلام؟
فالرواية لا علاقة لها من بعيد ولا من قريب بمهدي ممهِّد للإمام الثاني عشـر (عليه السلام)، وأنَّه من ولده، وأن من لم يبايعه إلى النار.
﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ (الأعراف: 71).
فلو ظهر الإمام وأشار لمن يدَّعي ما يدَّعيه بصدق دعواه لم يكن علينا إلَّا الطاعة، ولكن حينها تسقط كلُّ وليجة دونهم، ويسقط حتَّى من كان يشقُّ الشعر بشعرتين، وتُزال الأقنعة.
وإطاعتها ليست حينئذٍ من جهة مجرَّد التعبُّد، بل من جهة اليقين، فإنَّه (عليه السلام) ما ينطق عن الهوى، وكلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فلماذا نعجل على الناس استناداً لمثل هذا المقطع من الرواية، ونلزمهم بالبيعة والمتابعة، ونتوعَّد تاركها بالنار وبئس المصير على أمر سيحسمه المعصوم (عليه السلام) بعد أن تخضع له الرقاب وتنقاد له النفوس وتطمئنُّ له القلوب؟
وعلى هذا، فوجود هذه الرواية وعدمها من هذه الناحية على حدٍّ سواء، إذ دورها للمكلَّفين دور الإخبار لأمر سيحصل في مستقبل الأيّام وستقوم عليه الحجَّة البالغة حينها.
فيكون دور الرواية دور ما أخبر به عيسى (عليه السلام) من بعث نبيٍّ في المستقبل اسمه أحمد بالنسبة للأجيال قبل أن يُبعَث النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) .
نعم قد يقال: إنَّ ذلك يقتضـي توطين النفس على الانصياع له والاعتقاد به عند مجيئه، ونحن نُوطِّن نفسنا الآن على أنَّ الإمام (عليه السلام) إذا أسَّس دولته على تقوى الله ثمّ حانت لحظة انتقاله إلى الدار الأُخرى وألزمنا بمتابعة شخص فإنّا سنتابعه، ومن لم يفعل يكون قد خالف أمر المعصوم (عليه السلام).
وتستطيع أن تقول: إنَّ حال هذه الرواية على فرض صدورها وتمامية دلالتها وسلامتها من الإشكالات كدور الروايات التي تحدَّثت عن أسماء الأئمَّة (عليهم السلام) وعددهم بالنسبة لمن لم يدرك الأئمَّة من الناس، فالروايات التي نصَّت على أنَّهم اثنا عشـر إماماً بالنسبة لمثل عمّار وسلمان لا أثر كبير لها في الأئمَّة المتأخِّرين، لأنَّهم ليسوا أئمَّة زمان عمّار وسلمان مثلاً، ولا انعكاس لها في وجوب الإطاعة والمتابعة، إذ لم تحصل المعاصرة وفعلية وجود الإمام لتجب الإطاعة، نعم هي تكمل الصورة لخريطة الإمامة، لكن ذلك لا علاقة له بالسلوك العملي فيما يرتبط بالمتأخِّرين من الأئمَّة (عليهم السلام) هذا أوَّلاً، وثانياً لا يقاس بالأئمَّة (عليهم السلام) غيرهم، ولو كان من أبنائهم وإن أسمى نفسه مهديّاً.
هذا آخر ما أردنا تحريره في هذه الصفحات، أسأل الله تعالى أن ينظر إليه بعين القبول، إنَّه خير مسؤول.

الهوامش:
(1) الغيبة للطوسي: 150 و151/ ح 111.
(2) الإرشاد للديلمي 2: 336.
(3) لسان الميزان 2: 108/ الرقم 442.
(4) نهج البلاغة: 556/ ح 456.
(5) رواها في البحار 46: 180، عن الاحتجاج: 204.
(6) الكافي 7: 299 و300/ باب الرجل يقتل المرأة.../ ح 6.
(7) معجم رجال الحديث 6: 210/ الرقم 3302.
(8) الإرشاد 2: 378.
(9) إعلام الورى 2: 295.
(10) كمال الدين: 331/ باب 32/ ح 16.
(11) الفتن للمروزي: 174.
(12) الغيبة للنعماني: 286/ باب 14/ ح 60.
(13) بحار الأنوار: 52: 272/ ح 166.
(14) الكافي: 8: 274/ 412.
(15) الكافي 8: 264 و265/ ح 383.
(16) الاحتجاج 2: 349.
(17) علل الشرائع 2: 581/ باب 385/ ح 16.
(18) الكافي 1: 369/ باب كراهية التوقيت/ ح 6.
(19) الغيبة للنعماني: 264/ باب 14/ ح 13.
(20) الغيبة للطوسي: 446 و447/ ح 443.
(21) الغيبة للنعماني: 286/ باب 14/ ح 60.
(22) الغيبة للطوسي: 447/ ح 444.
(23) كمال الدين: 347/ باب 33/ ح 35.
(24) الغيبة للطوسي: 337 و338/ ح 285.
(25) الغيبة للنعماني:153 و154/ باب 10/ ح 9 و10.
(26) الغيبة للطوسي: 437/ ح 428.
(27) الغيبة للنعماني: 285/ باب 14/ ح 58.
(28) الغيبة للنعماني: 149/ باب 10/ ح 5.
(29) بيان الحقِّ والسداد: من الأعداد 1 و2: 38.
(30) ص 44.
(31) الجواب المنير عبر الأثير.
(32) الجواب المنير عبر الأثير.
(33) الجواب المنير عبر الأثير: 4 - 6: 74.
(34) الغيبة للنعماني: 178/ باب 10/ فصل 4/ ح 9.
(35) كمال الدين: 326/ باب 32/ ح 5.
(36) راجع: تفسير القمّي 2: 365.
(37) كمال الدين: 147/ باب 6/ ح 13.
(38) راجع: تفسير مجمع البيان 7: 416.
(39) عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أوَّل ما يحاسب عليه العبد الصلاة، فإذا قُبِلَت قُبِلَ سائر عمله، وإذا رُدَّت رُدَّ عليه سائر عمله». (الأُصول الستَّة عشر: 322/ ح 512/22).
(40) الألفية والنفلية للشهيد الأوَّل: 83؛ بحار الأنوار 82: 307 و308/ ح 3.
(41) عن الرضا (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إذا كان يوم القيامة يُدعى بالعبد، فأوَّل شيء يُسئل عنه الصلاة، فإن جاء بها تامَّة، وإلَّا زُخَّ في النار». (بحار الأنوار 82: 207 و208/ ح 15).
(42) المدَّثِّر: 42 و43.
(43) عوالي اللئالي 2: 24/ ح 54؛ قريب منها رواية جابر الجعفي بحار الأنوار 82: 236/ ح 66.
(44) بحار الأنوار 52: يبدأ الباب من (ص 181) وينتهي (ص 278).
(45) جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي: ج15، ص368.
(46) الكافي 2: 435/ باب التوبة/ ح 8.
(47) كان والد القسِّ گريگورد وهو ميخائيل گريگورد يرعى الخراف في الأراضي المجدبة في إقليم جزتلند الغربي، وهو في الثانية عشرة من عمره، وهو يعاني آلاماً مبرحة من الجوع والبرد والوحدة، صعد على صخرة وأخذ يسبُّ هذا الإله الذي يترك طفلاً في العذاب دون أن ينجده. ولكن سرعان ما وافته النجدة من خالٍ ثري يتَّجر في الأقمشة في كوبنهاگن، فتغيَّر حاله عند ذهابه مع خاله، لكنَّه لم ينسَ أبداً أنَّه يئس من رحمة الله وأنكر دينه وربَّه، لقد نسـي الفقر والجوع ولكنَّه لم ينس خطيئته، ولبث يعيش في خشية وارتعاد منتظراً العقاب الإلهي، ذلك القلق الذي عبَّر عنه دوستوفسكي في إحدى رواياته القلق الناجم عن ارتكاب جريمة فيخشى العقاب حتَّى يكاد يستدره، ثمّ أدّى به ذلك إلى أن يترك عمله ليفوت على الله تعالى المكر به، وترسَّب جنون الخطيئة هذا داخل الابن، وقد كان الحبُّ يملأ قلبه لكنَّه كان مقروناً بالجنون والخطيئة، وقد كان يقول: كلُّ لون من ألوان الوجود يخيفني من أصغر ذبابة حتَّى سرّ التجسيد.
(48) راجع: بصائر الدرجات: 432/ الجزء 8/ باب في قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي».

البحوث والمقالات : ٢٠٢١/٠٣/١٢ : ٤.٤ K : ١
: الشيخ أبو محمد القره غولي
التعليقات:
: عباس
: العراق
: شكرا لكم على الجهد المبذول فقد ازلتم كلام طالما يتمنطق فيه المتمنطقين
: ٢٠١٥/٠٢/٠٣