(٦٥٧) عنصر الخفاء في القضية المهدوية
عنصر الخفاء في القضية المهدوية
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
المقدَّمة:
من المعلوم أنَّ لكلِّ علم من العلوم أسراره التي لا يعرفها إلَّا متخصِّصوه، وأنَّ لكلِّ نظرية من النظريات مبادئ لا يتقنها إلَّا منظِّروها، وبالتالي، فإنَّ الخفاء سيكون نصيب الخارجين عن حريم التخصّص في مجال ما من مجالات الحياة، والحيرة قد تضـرب أخبيتها عند البعيدين عن صياغة النظرية أو عن سبر معالمها.
من هنا، تأسَّست عند العقلاء عموماً ضرورة الرجوع إلى أهل الخبرة في أيِّ جانب من جوانب الحياة، ليحلّوا الغموض الذي قد يكون فيه، وليدفعوا الشبهات التي قد تُلقي بظلالها على ما يتعلَّق بذلك الجانب.
ومن هنا، نجد أنَّ الناس ساروا على طبيعتهم وفطرتهم وفق هذا التأسيس، وجاء القرآن الكريم ليرشدنا إلى تلك الضـرورة في واحد من جوانب الحياة المرتبطة بالجانب الأُخروي منها، فقال (عزَّ من قائل): ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (الأنبياء: 7).
والقضيَّة المهدوية حالها حال غيرها من القضايا الحياتية، لها نظرياتها الخاصَّة، ولها مصادرها المعتمدة، ولها متخصِّصوها، وبالتالي، فإنَّ عدم الاعتماد على هذه الأركان الثلاثة (النظرية، المصادر، المتخصِّص) فيها أدّى في كثير من الأحيان إلى الابتعاد عن الهدف الذي قامت من أجله، وإلى التخبّط خبط عشواء في ظلام الجهل والشبهات، وإلى استجداء حلول لا تشفي الغليل لمسائل مصيرية فيها، الأمر الذي أتاح للكثيرين ممَّن يتصيَّدون بالماء العكر أن يرموا شباكهم ليصطادوا بها بعضاً من البسطاء، وليبنوا مجدهم على أطلال سذاجتهم.
ومن هنا، نجد أنَّ البعض تاه في حيرة بعض الخفايا في القضيَّة المهدوية، فلماذا غاب المهدي؟ ولماذا الخوف؟ ولماذا خَفيت ولادته؟ ومن هو اليماني بالضبط؟ وكيف نُشخِّص شعيب بن صالح؟ الخ...
إنَّ الخفاء يكتنف هذه المفردات من عدَّة جوانب، وقد تبقى خفيَّة على البعض، الأمر الذي قد يُضعِف من إيمان الفرد بها، أو على الأقلّ، يبقى في النفس ما فيها من التردُّد والحيرة.
في هذا البحث، نحاول تسليط الضوء على بعضٍ مهمّ من المفردات المهدوية التي اكتنفها الخفاء، لمعرفة السبب الذي كان وراء هذا الغموض، بالاعتماد على الروايات الشـريفة، وعلى ما توصَّل إليه المتخصِّصون في القضيَّة المهدوية.
أصول موضوعية:
الأصل الأوَّل: إنَّ أهمّ مصادر البحث في القضيَّة المهدوية عموماً هي الروايات الشـريفة، ذلك لأنَّ المسألة تدور بين تاريخ مضـى، ومستقبل مرتقَب، ولا نملك وسائل مادّية تأخذنا إلى أعماق التاريخ، أو تُرسِلنا للمستقبل البعيد، فليس لدينا إلَّا الروايات الشـريفة، فلا مكان للتكهّنات ولا للآراء الشخصية إلَّا فيما تسمح له الأُصول العلمية من إبداء الاحتمالات اعتماداً على جمع القرائن وتتبّع الظروف المحيطة بتلك الروايات وما يمكن أن يُستشَفَّ من ألسنتها.
وبعبارة أُخرى: إنَّ الأصل الأوَّلي الذي نجده في القضيَّة المهدوية هو اكتنافها بالخفاء في الكثير من جوانبها، وأنَّ الوضوح والإعلان يُمثِّل استثناءً فيها، وبالتالي، يكون المرجع الأصيل فيها هو نفس الروايات الموضِّحة لمشتبهاتها.
الأصل الثاني: إنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) إمام معصوم، والعصمة تتجلّى بعلم لدنّي يكشف للمعصوم ما خفي علينا، وبحكمة تجعل من أفعاله كوحي يوحى.
نعم، قد نغضُّ الطرف عن هذا الأصل في بعض الأحيان خلال البحث، من باب مسايرة الطرف الآخر، وتوفير جواب عقلائي يتناسب حتَّى مع عدم العصمة.
الأصل الثالث: إنَّ التقيَّة مبدأ إسلامي أقرَّه القرآن الكريم، وأكَّدته السُّنَّة الشـريفة، وإنَّ سيرة المتشـرِّعة، بل والعقلاء قائمة على أنَّها مبدأ يعمل به العاقل إذا ما دعته الظروف الموضوعية لذلك، فسيرة العقلاء قائمة وبلا أدنى شكٍّ على أنَّه لو تزاحم مهمّ وأهمّ، فإنَّه يُقدَّم الأهمّ، فكلُّ عاقل يحكم ولو لم يكن مؤمناً بأيِّ شريعة، بلزوم حفظ دمه أو عرضه وتقديم ماله أو تقديم تنازل عن موقف معيَّن فيما لو هدَّده ظالم ودار الأمر بين ذينك الأمرين.
بل إنَّ المسألة فطرية عمَّت حتَّى الحيوانات، فعندما يداهمها خطر ما فإنَّها تبحث عن أقلّ الخسائر.
مع ملاحظة أنَّ المقصود من التقيَّة في هذا البحث ليس معناها الاصطلاحي فحسب، وإنَّما ما يشمل المعنى اللغوي الذي يعني فيما يعنيه تعمّد إخفاء شيء ما حمايةً له(1).
الأصل الرابع: إنَّنا لم نُكلَّف بمعرفة العلل والملاكات الواقعية للأحكام، لأنَّ معرفتها متعذِّرة علينا، ومعه، فإنَّنا لا نستطيع تقديم الفلسفة الواقعية وراء حكم معيَّن أو فعل جاء بأمر إلهي.
وهذا يعني أنَّ كثيراً ممَّا يُذكر في هذا البحث إنَّما يُساق لبيان الحكمة من التصـرّف الوقائي الذي يعمد إليه الإمام المهدي (عليه السلام) أو المعصومون من قبله.
وهذا يعني أنَّ باب الأخذ والردِّ لا ينغلق بهذا البحث، وإنَّما هي محاولة للتعرّف على بعض الحكمة في بعض التصرّفات الوقائية المذكورة في الروايات الشريفة.
الأصل الخامس: إنَّ الصبغة العامَّة لحركات الأنبياء عموماً وحركة الإمام المهدي (عليه السلام) خصوصاً هي صبغة القوانين الطبيعية، وأمَّا الاعتماد على عنصـر الإعجاز وخرق القانون الطبيعي فإنَّه لا يكون إلَّا عند الضرورة أو الحكمة البالغة التي تُحدِّدها الحكمة الإلهية.
ممَّا يعني أنَّنا سنأخذ بعين الاعتبار قدر الإمكان محاولة التوفيق بين القوانين الطبيعية ومفردات البحث.
مفردات البحث:
المفردة الأُولى: خفاء وقت الظهور.
المفردة الثانية: خفاء الإمام المهدي (عليه السلام)، أو قل: غيبته، كما عبَّرت الروايات الشريفة.
المفردة الثالثة: خفاء شخصيات الظهور الإيجابية.
المفردة الرابعة: خفاء ولادة الإمام المهدي (عليه السلام).
المفردة الأولى: خفاء وقت الظهور:
لقد أكَّدت الروايات مراراً وتكراراً على أنَّ الوقت المعيَّن للظهور (أو قل: ساعة الصفر للظهور) هو أمر مخفي، ولم يُكشَف لأيِّ إنسان ، بل إنَّ السيرة العملية للمعصومين (عليهم السلام) كانت على عدم الكشف عنه، بل والنهي عن (التوقيت) وجعله علامة الكذب وربَّما الهلاك.
إنَّ لازم خفاء الوقت المعيَّن، هو تكذيب من يدَّعي التوقيت، ذلك لأنَّ الأمر من هذه الناحية مستقبلي، فلا نملك فيه إلَّا الروايات - كما تقدَّم في الأصل الموضوعي الأوَّل -، والروايات لم تذكر أيَّ شيء فيه، فيكون التوقيت ضرباً على التخت.
إنَّ الروايات الدالّة على عدم التوقيت عديدة، ولسانها متَّفق على أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) أخذوا على أنفسهم عدم إعلان التوقيت وعلى تكذيب الموقِّت.
فقد ورد في التوقيع الشـريف، الذي نقله الشيخ الصدوق عن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (رضي الله عنه)، قال: سمعت أبا عليّ محمّد بن همّام يقول: ... وكتبت أسأله عن الفرج متى يكون؟ فخرج إليَّ: «كذب الوقّاتون»(2).
وعن محمّد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا محمّد، من أخبرك عنّا توقيتاً فلا تهابنَّ أن تُكذِّبه، فإنّا لا نُوقِّت لأحد وقتاً»(3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «إنّا لا نُوقِّت هذا الأمر»(4).
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: جُعلت فداك، متى خروج القائم (عليه السلام)؟ فقال: «يا أبا محمد، إنّا أهل بيت لا نُوقِّت، وقد قال محمّد (صلّى الله عليه وآله): كذب الوقّاتون»(5).
ويثار هنا سؤالان:
السؤال الأوَّل: هل يعني هذا أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) لم يكونوا على علم بوقت الظهور بالضبط؟
الجواب: بناءً على الأصل الموضوعي الثاني، فإنَّ الإمام حيث إنَّه معصوم، فهو إذن يعلم بساعة الظهور، إمَّا من باب أنَّ العصمة تعني فيما تعنيه علماً لدنّياً غيبياً بتعليم من الله تعالى، وإمَّا من باب أنَّ من خصائص الأئمَّة (عليهم السلام) أنَّهم إذا أرادوا أن يعلموا الشـيء، فإنَّ الله تعالى يُعلِّمهم ذلك الشيء بمجرَّد توجّه نفوسهم القدسية إلى معرفته، الأمر الذي صرَّحت به الروايات الشريفة.
فقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً علَّمه الله ذلك»(6).
فضلاً عن هذا فإنَّه يستفاد من بعض الروايات التي وردت في النهي عن التوقيت أنَّهم (عليهم السلام) كانوا على علم بالوقت المعيَّن، ولكنَّهم لحكمة ما تعمَّدوا إخفاءه.
فعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: ما لهذا الأمر أمد ينتهي إليه ويريح أبداننا؟ قال: «بلى، ولكنَّكم أذعتم فأخَّره الله»(7).
فهذه الرواية يظهر منها أنَّ الإمام (عليه السلام) كان يعلم بالأمد الذي ينتهي إليه هذا الأمر، ولكنَّه أخفاه لحكمة معيَّنة، أشار لها بقوله (عليه السلام): «ولكنَّكم أذعتم فأخَّره الله».
وعن إسحاق بن عمّار، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا أبا إسحاق، إنَّ هذا الأمر قد أُخِّر مرَّتين»(8).
فعلمُه (عليه السلام) بتأخير هذا الأمر مرَّتين يلزمه علمُه بنفس الوقت وبساعة الصفر.
وغيرها من الروايات التي يظهر منها أنَّ الأمر كان يعلم به أهل البيت (عليهم السلام)، ولكنَّهم أخفوه لحكمة معيَّنة، أو أنَّه تأخَّر بسبب معيَّن، وسنتعرَّف على بعضٍ آخر من هذه الروايات في مستقبل البحث إن شاء الله تعالى.
والخلاصة: أنَّ المعصوم كان عنده المعرفة بالوقت المعيَّن للظهور. وإنَّما خفي ذلك الوقت علينا.
السؤال الثاني: إذا كان المعصوم يعلم بالوقت المعيَّن، فلِمَ لَمْ يذكر الوقت للناس؟ أوَلم يكن من الأفضل للشيعة ولعامَّة الناس أن يعلموا بالوقت المحدَّد حتَّى تطمئنَّ نفوسهم وقلوبهم؟ وحتَّى يستعدَّ المؤمنون لساعة الصفر أتمّ الاستعداد؟
الجواب:
إنَّ هذا السؤال ينحلُّ إلى دعويين:
الدعوى الأُولى: أنَّ تحديد وقت الظهور يدفع اليأس عن المؤمنين.
الدعوى الثانية: أنَّ تحديد الوقت ينفع في استعداد المؤمنين للظهور المقدَّس.
وكلتا الدعويين غير مقبولة.
أمَّا الدعوى الأُولى، فلأجل التالي:
أوَّلاً: أنَّ الأمر بالعكس تماماً، بمعنى أنَّ تحديد الوقت بالضبط هو ما يورث اليأس، فلنا أن نتصوَّر مقدار اليأس القاتل للنفوس إذا ما علمنا على وجه الجزم واليقين بأنَّ الظهور سيكون في عام (5000) للميلاد مثلاً، عندها، سنحسُّ بأنَّ أيَّ عمل نُقدِّمه تحت عنوان التمهيد للظهور سيكون هواءً في شبك، وبأنَّ أيَّ جهد نبذله للإصلاح فإنَّه سيكون هباءً منثوراً، وعندها سيكون الانتظار عنصـر تخدير وتسكين لا حركة وتغيير، وهو ما يحاول أن يُصوِّره المغرضون من أنَّ الدين أفيون الشعوب.
وهذا ما أشار له الإمام الكاظم (عليه السلام) بقوله: «... فلو قيل لنا: إنَّ هذا الأمر لا يكون إلَّا إلى مائتي سنة وثلاثمائة سنة لقست القلوب ولرجعت عامَّة الناس عن الإيمان إلى الإسلام»(9).
ثانياً: أنَّ تحديد وقت الظهور وساعة الصفر، يؤدّي إلى أن تفقد الثورة المهدوية عنصـراً مهمّاً من عناصر انتصارها، وهو عنصـر المباغتة ومفاجأة العدوّ، فإنَّه من الواضح جدّاً في السياسة العسكرية أنَّ العلم بساعة الصفر يؤدّي إلى أن يكون العدوّ متهيّأً تماماً، بل ويتحيَّن الفرصة بعين ثاقبة، بل ربَّما بادر العدوّ بالهجوم، ليجُهِض الحركة قبل أن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام، وحتَّى لو خَطَتْ، فإنَّها ستكون في موضع المدافع لا المهاجم، وستخسر تخطيطاً مهمّاً للانتصار.
وهذا الأمر هو أحد الأسباب المهمَّة التي أدَّت بزيد بن عليّ عليهما السلام أن يخسـر المعركة، حيث بادره العدوّ العبّاسي قبل أن تحين ساعة الصفر.
ومعه، فيكون من الحكمة العقلائية والحنكة السياسية أن يُخفى وقت الظهور عن الجميع، حتَّى عن الموالين، لأنَّهم وإن كان يُحتَمل فيهم حفظ السـرِّ، ولكن المحتمل خطر جدّاً، فإنَّ إظهاره سيؤدّي بثورة المهدي، وبالتالي، فالحكمة تقتضـي الإخفاء عن الجميع، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما سنذكره في ما يتعلَّق بغيبة المهدي (عليه السلام) عن شيعته ممَّا حصل من هتك السـرِّ ممَّا سبَّب تأخير الظهور عدَّة مرّات.
ثالثاً: أنَّ من أهمّ ما نؤمن به - تبعاً للنصوص الدينية - هو أنَّ الله تعالى - بحسب حكمته - قد يبدو له في بعض الأُمور، (والبداء هنا بمعنى الإبداء المسبوق بالعلم كما هو واضح)، وأنَّ مفردات القضيَّة المهدوية لم تُستثنَ من هذا المعنى، ولذلك ورد أنَّ حتَّى السفياني يمكن أن يناله البداء(10)، ومعه، فلو حُدِّد وقتٌ معيَّن للظهور، وبعدها بدا لله تعالى أن يُغيِّر من هذا الوقت، لحكمة ما، فربَّما سيفرز هذا البداء اتِّجاهات معاكسة للحالة الإيمانية، وربَّما يفرز حالة من الردَّة عن الدين، كما حصل لقوم موسى عندما تأخَّر موسى (عليه السلام) عنهم عشـرة أيّام فقط، حيث إنَّهم تركوا التوحيد وذهبوا ليعبدوا عجل السامري.
فقد روي أنَّ محمّداً بن الحنفية قال لمحمّد بن بشـر في حديث: (ويحك يا محمّد، إنَّ الله خالف علمه وقت الموقِّتين، إنَّ موسى (عليه السلام) وعد قومه ثلاثين يوماً، وكان في علم الله (عزَّ وجلَّ) زيادة عشرة أيّام لم يُخبِر بها موسى، فكفر قومه واتَّخذوا العجل من بعده لـمَّا جاز عنهم الوقت، وإنَّ يونس وعد قومه العذاب، وكان في علم الله أن يعفو عنهم، وكان من أمره ما قد علمت...)(11).
ومعه، فيمكن أن نستكشف بعض الحكمة من إخفاء الوقت المعيَّن للظهور.
رابعاً: أنَّ إخفاء التوقيت حيث إنَّه أمر مقصود من السماء، فلا شكَّ أنَّ فيه منفعة لا تُوصَف، وحكمة بالغة، سواء علمنا بها أم لم نعلم، وعلى الأقلّ يمكن القول: إنَّه لو علم الشخص بأنَّ وقت الظهور مثلاً هو في عام (3000) للميلاد، فإنَّ إمكانية انحرافه عن سبيل الشـريعة وارد جدّاً، وإذا دعوته إلى التوبة لأخبرك بأنَّه سيتوب قبيل الظهور! وهذا المعنى يكون أوضح إذا نظرنا إلى قضيَّة الموت، فإنَّ خفاء وقت الموت يستلزم أن يكون العاقل حذراً من مفاجأته له في أيِّ لحظة، وبالتالي فإنَّه سيكون على أهبة الاستعداد دوماً.
وأمَّا الدعوى الثانية، فيقال في ردِّها التالي:
أوَّلاً: أنَّ للاستعداد آلياته العديدة التي وفَّرتها الروايات الشـريفة، والتي لا تنحصـر بالتعيين الدقيق لوقت الظهور، بل ولا داعي معها للتحديد.
وتلك الآليات اختزلتها الروايات الشـريفة بالدعوة إلى (انتظار الفرج)، ذلك الانتظار الذي يعني باختصار: توطين النفس على توقع الظهور في أيِّ ساعة، والتهيّؤ التامّ للظهور المقدَّس، وعلى جميع المستويات العقائدية والفقهية والسلوكية واللوجستية(12).
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «... فتوقَّعوا الفرج صباحاً ومساءً...»(13).
ثانياً: بالإضافة إلى آلية انتظار الفرج، فإنَّ هناك آلية أكَّدت عليها الروايات كثيراً، وهي آلية (علامات الظهور الحتمية)، فإنَّ حدوثها يُوفِّر عنصـر التهيّؤ التامّ والاستعداد العالي للظهور المقدَّس، باعتبار:
1 - أنَّها علامات حتمية لا يقع الظهور إلَّا بعدها مالم يقع فيها البداء.
2 - أنَّها أُمور فارقة وعلامات واضحة لا تقبل التشكيك.
3 - أنَّها قريبة نسبياً من الظهور.
4 - أنَّ بعضاً منها يقوم على الإعجاز غير القابل للتشكيك - بشـرط المعرفة المسبقة(14) - (الصيحة والخسف).
إنَّ اتِّصاف العلامات بهذه الصفات سيكون له الأثر الفعّال في تنبيه الغافلين، وفي استعداد المؤمنين للظهور المقدَّس.
ومعه، فلا نحتاج بعد هذين الأمرين (انتظار الفرج وعلامات الظهور) إلى التحديد الزمني للظهور بدقَّة، بل ولا داعي له من هذه الناحية.
إثارة...:
تقدَّم في الجواب (ثانياً) عن الدعوى الأُولى أنَّ الإخفاء كان - فيما كان لأجله - من أجل الحفاظ على عنصر المباغتة، وهذا أمر لا شكَّ فيه، بل هو ما أكَّدته الروايات الشريفة كثيراً:
روي أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) قيل له: يا رسول الله، متى يخرج القائم من ذرّيتك؟ فقالصلى الله عليه وآله وسلم: «مثله مثل الساعة التي ﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾ [الأعراف: 187]»(15).
وقد روي أنَّه سُئِلَ الإمام الصادق (عليه السلام): يا بن رسول الله، فداك أبي وأُمّي، أيعلم أحد من أهل مكّة من أين يجيء قائمكم إليها؟ قال: «لا»، ثمّ قال: «لا يظهر إلَّا بغتة بين الركن والمقام»(16).
وعن أبي حمزة الثمالي أنَّه سأل الإمام الباقر (عليه السلام) عن قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 44]»(17).
وفي مكاتبة الإمام المهدي (عليه السلام) للشيخ المفيد قدس سره: «... فليعمل كلُّ امرئٍ منكم بما يقرب به من محبَّتنا، ويتجنَّب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإنَّ أمرنا بغتة فجاءة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة»(18).
هذا من جهة.
ومن جهة أُخرى فإنَّه قيل في ردِّ الدعوى الثانية: إنَّ العلامات ستُوفِّر أرضية مناسبة للاستعداد للظهور، خصوصاً وأنَّ علاميتها واضحة جدّاً، وقيام بعض منها على عنصر المعجزة.
وبالتالي قد يقال:
إنَّ هاهنا تهافتاً في الكلام، فكيف يمكن الحفاظ على عنصـر المباغتة مع كون العلامات منبِّهات عالية الصدى للظهور؟
إنَّ صدور العلامات، في الوقت الذي يدفع المؤمنين للتهيّؤ الإيجابي للظهور، هو يدفع الأعداء والمناوئين للتهيّؤ السلبي ضدّ الإمام المهدي (عليه السلام)، والتهيّؤ من الطرفين يتنافى مع كون الظهور سيتمُّ فجأة وبغتة!
فكيف يتمُّ التوفيق بين علامية العلامات ووضوحها، وبين فجائية الظهور؟
وهنا جوابان:
الجواب الأوَّل:
ينبغي الالتفات إلى التالي:
أوَّلاً: أنَّ المباغتة إنَّما تكون للعدوّ، أمَّا الموالي، فلا ضرورة لتحقّق المباغتة معه، بل الاستراتيجية الحربية تقتضي أن يكون الصديق والموالي على علم مسبق بساعة الصفر، حتَّى يكون له يد في إحداث المباغتة للعدوّ. بل تؤكّد الروايات على وضوح أمر أهل البيت (عليهم السلام) كوضوح الشمس.
ولذلك قال الإمام الصادق (عليه السلام) للمفضَّل بن عمر عندما بكى من اختلاف الرايات واشتباهها وخوفه من عدم معرفة الحقِّ: «أهذه الشمس مضيئة؟»، قال المفضَّل: نعم. فقال (عليه السلام): «والله لأمرنا أضوء منها»(19).
ثانياً: أنَّ الروايات وإن أشارت إلى علامات الظهور، إلَّا أنَّها في الوقت ذاته أكَّدت على أنَّ العلامات إنَّما تكون علامات ملفتة للنظر لمن كانت عنده معرفة مسبقة وإيمان مستقرّ بقضيَّة الإمام المهدي (عليه السلام)، وإلَّا، فمن دون معرفة مسبقة وإيمان مستقرّ، قد تحدث العلامات، وتحدث معها ردّات فعل لكنَّها مؤقَّتة، لا تدوم طويلاً، وما تفتؤ تحدث حتَّى تُنسى، وبالتالي، سيكون عنصـر المباغتة محفوظاً من جهة الأعداء والجهّال بالقضيَّة المهدوية.
عن عبد الرحمن بن مسلمة الجريري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنَّ الناس يُوبِّخونا ويقولون: من أين يُعرَف المحقُّ من المبطل إذا كانتا؟ فقال: «ما تردّون عليهم؟»، قلت: فما نردُّ عليهم شيئاً. قال: فقال: «قولوا لهم: يُصدِّق بها إذا كانت من كان مؤمناً يؤمن بها قبل أن تكون»، قال: «إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس: 35]»(20).
فالجواب الأوَّل هو التالي:
إنَّ العلامات وإن كانت ملفتة للنظر، لكن هذا لا ينافي مباغتة العدوّ والجاهل، فإنَّه سيكون في غفلة عنها رغم رؤيته لها، لأنَّ العلامات إنَّما تكون ملفتة لأنظار من كانوا على معرفة مسبقة بها، وأمَّا مع الجهل بها أو عدم الإيمان بها، فإنَّها ستمرُّ عليهم مرور السحاب.
الجواب الثاني:
إنَّ العلامات وإن كانت ملفتة للنظر، ولكن عنصـر المباغتة سيبقى محافظاً على وجوده، باعتبار أنَّ هناك ظروفاً موضوعية ستؤدّي إلى اختلال أفكار الناس، بحيث يحارون في أمرهم، وقد يصل الأمر بهم إلى تناسي تلك العلامات والانشغال بتلك الظروف.
وتلك الظروف تتمثَّل في كثرة الفتن والاختبارات والمحن، إلى الحدِّ الذي يصل الأمر بالحكيم إلى أن يتيه فكره ويحار لبُّه، بالإضافة إلى تتابع دعاوى المهدوية الباطلة، ممَّا يُقلِّل من أثر تلك العلامات لانشغال الناس بتلك الظروف.
قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لا يخرج القائم حتَّى يخرج اثنا عشـر من بني هاشم كلّهم يدعو إلى نفسه»(21).
وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «لا تقوم الساعة حتَّى يخرج نحو من ستّين كذّاباً كلّهم يقول: أنا نبيٌّ»(22).
وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) - في حديث له طويل - أنَّه قال: «لا بدَّ من فتنة صمّاء صيلم(23)، يسقط فيها كلُّ بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي، يبكي عليه أهل السماء وأهل الأرض، وكم من مؤمن متأسِّف حرّان(24) حزين عند فقد الماء المعين...»(25).
وهكذا ما ورد من إحداث إبليس لصيحة أُخرى - غير صيحة الحقِّ - يُضلِّل بها غير المؤمنين ومن لم يكن على اطِّلاع كافٍ بالعلامات وبفتن زمن الظهور، فقد ورد عن زرارة بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ينادي منادٍ من السماء: إنَّ فلاناً هو الأمير، وينادي منادٍ: إنَّ عليّاً وشيعته هم الفائزون»، قلت: فمن يقاتل المهدي بعد هذا؟ فقال: «إنَّ الشيطان ينادي: إنَّ فلاناً وشيعته هم الفائزون - لرجل من بني أُميَّة -». قلت: فمن يعرف الصادق من الكاذب؟ قال: «يعرفه الذين كانوا يروون حديثنا، ويقولون: إنَّه يكون قبل أن يكون، ويعلمون أنَّهم هم المحقّون الصادقون»(26).
فتلك الظروف التي تزلزل الناس ستؤدّي إلى تقلّبات عقائدية سريعة جدّاً، إلى الحدِّ الذي ذكرت الروايات الشريفة أنَّ البعض يتقلَّب بين الإيمان والكفر بين عشيَّة وضحاها، مثل تلك الظروف من الممكن أن تُنسي الكثير من الناس ما تريد العلامات أن تشير إليه، وبالتالي، فعنصـر المباغتة ما زال يمكن تصوّره.
روي عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «كيف بكم إذا التفتّم يميناً فلم تروا أحداً، والتفتّم شمالاً فلم تروا أحداً...، ورجع عن هذا الأمر كثير ممَّن يعتقده، يُمسـي أحدكم مؤمناً ويُصبح كافراً، فالله الله في أديانكم هنالك فانتظروا الفرج»(27).
وتلك الروايات كما تصدق على زمن الغيبة الكبرى، يمكن أن يستمرَّ حدوثها وصدقها حتَّى في الزمن القريب من الظهور وبعد حدوث العلامات.
المفردة الثانية: خفاء أو غيبة الإمام المهدي (عليه السلام):
إنَّ من المفاصل الأساسية في مسألة الاعتقاد بالإمام المهدي (عليه السلام) هو الاعتقاد بأنَّه (عليه السلام) وبعد استشهاد أبيه العسكري عليه السلام(28) قد غاب عن الجميع، وبالتالي، فقد انقطع التواصل المباشر معه.
عن المفضَّل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: إحداهما تطول حتَّى يقول بعضهم: مات، وبعضهم يقول: قُتِلَ، وبعضهم يقول: ذهب، فلا يبقى على أمره من أصحابه إلَّا نفر يسير، لا يطَّلع على موضعه أحد من وليٍّ ولا غيره، إلَّا المولى الذي يلي أمره»(29).
وفي مقام السؤال عن سبب الغيبة، فقد تنوَّعت إجابة الروايات الشـريفة في ذلك، فبعض الروايات اكتفت بالإشارة الإجمالية لتلك الأسباب، وأنَّها سرٌّ من الأسرار الإلهيَّة التي لا تنكشف إلَّا بعد الظهور، وشبَّهتها في ذلك بما فعله الخضر مع النبيِّ موسى (عليهما السلام).
فقد ورد عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة لا بدَّ منها، يرتاب فيها كلُّ مبطل»، فقلت له: ولِـمَ جُعلت فداك؟ قال: «لأمر لم يُؤذَن لنا في كشفه لكم»، قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ فقال: «وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدَّمه من حجج الله تعالى ذكره، إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلَّا بعد ظهوره كما لا ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضـر من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، لموسىإلَّا وقت افتراقهما. يا ابن الفضل، إنَّ هذا الأمر أمر من أمر الله تعالى، وسرٌّ من سرِّ الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنَّه (عزَّ وجلَّ) حكيم، صدَّقنا بأنَّ أفعاله كلّها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف»(30).
وبعض الروايات فصَّلت الأسباب أو المقتضيات أو الحِكَم من تلك الغيبة، وهي باختصار على النحو التالي:
أ) الخوف من القتل:
عن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «إنَّ للغلام غيبة قبل أن يقوم، وهو المطلوب تراثه»، قلت: ولِـمَ ذلك؟ قال: «يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه، يعني القتل -»(31).
ب) التمييز والتمحيص:
عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «مع القائم من العرب شيء يسير»، فقيل له: إنَّ من يصف هذا الأمر منهم لكثير، قال: «لا بدَّ للناس من أن يُمحَّصوا ويُميَّزوا ويُغربَلوا، وسيخرج من الغربال خلق كثير»(32).
ج) حتَّى لا يبايع ظالماً:
ورد في جواب الإمام المهدي (عليه السلام) لمسائل إسحاق بن يعقوب: «وأمَّا علَّة ما وقع من الغيبة فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: ١٠١]، إنَّه لم يكن أحد من آبائي إلَّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي...»(33).
د) السنن التاريخية:
عن سدير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّ للقائم منّا غيبة يطول أمدها»، فقلت له: يا ابن رسول الله، ولِـمَ ذلك؟ قال: «لأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) أبى إلَّا أن تجري فيه سنن الأنبياء في غيباتهم، وإنَّه لا بدَّ له يا سدير من استيفاء مدد غيباتهم)، قال الله تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾ [الانشقاق: ١٩]، أي سنن من كان قبلكم»(34).
هـ) أن لا تضيع ودائع الله (عزَّ وجلَّ):
أي المؤمنين الذين يظهرون من أصلاب الكافرين، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث ابن أبي عمير، عمَّن ذكره، قال: قلت له - يعني أبا عبد الله (عليه السلام) -: ما بال أمير المؤمنين لم يقاتل مخالفيه في الأوَّل؟ قال: «لآية في كتاب الله تعالى: ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً﴾ [الفتح: ٢٥]»، قال: قلت: وما يعني بتزايلهم؟ قال: «ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين، فكذلك القائم لم يظهر أبداً، حتَّى تخرج ودائع الله (عزَّ وجلَّ)، فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله (عزَّ وجلَّ) فقتلهم»(35).
و) قبائح أعمال العباد، وفضائح أفعالهم، ممَّا يُسبِّب قلَّة العدد المطلوب من الأنصار:
فإنَّها المانعة عن ظهوره (عليه السلام) عقوبةً علينا كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «واعلموا أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة لله (عزَّ وجلَّ)، ولكنَّ الله سيُعمي خلقه عنها، بظلمهم وجورهم وإسرافهم على أنفسهم...» الخبر(36).
ز) إظهار عجز من يسعى للإصلاح الكامل من غير أهل البيت (عليهم السلام) وإن كان محقّاً:
عن أبي صادق، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «دولتنا آخر الدول، ولن يبقَ أهل بيت لهم دولة إلَّا ملكوا قبلنا، لئلَّا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله (عزَّ وجلَّ: ﴿وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٨]»(37).
هذا هو إجمال أسباب الغيبة التي ذكرتها الروايات الشـريفة. وفي المقام تساؤلان يرتبطان بعنوان البحث، وهما:
السؤال الأوَّل: لماذا غاب المهدي (عليه السلام) عن أعدائه خوفاً؟
عندما نطالع روايات الغيبة، نجد أنَّ من الأسباب التي أكَّدت عليها هو سبب (الخوف)، وقد تكرَّر هذا السبب في العديد من الروايات(38).
وهنا يتسائل البعض: إذا كان المهدي معصوماً، أي إنَّه كامل من جميع الجهات، وهو المنقذ الذي سيطيح بعروش الظلمة، وهو البطل الهمام الذي لو صاح بجبل لتدكدك، فكيف يخاف من أعدائه القتل؟ لماذا يخاف الذبح؟
ألَا يستطيع بإشارة واحدة من عينيه أن يُهلِك من يقصده بسوء؟
فلماذا اختفى عن الأنظار بهذه الطريقة التي منعتنا من الحصول حتَّى على صورة شخصية له؟!
والجواب:
أوَّلاً: أنَّ هذا السؤال يستلزم القول بأنَّه ما دام المهدي (عليه السلام) هو المنقذ، فعليه أن يقوم بالثورة من أوَّل الأمر، بلا حاجة إلى الغيبة.
وهذا خلاف الحكمة التي أكَّدت عليها الروايات الشـريفة من أصل ظاهرة الغيبة (كما في رواية عبد الله بن الفضل الهاشمي)، فإنَّ الحكمة الإلهيَّة قد شاءت أن يكون للظهور وقت يعلمه هو (جلَّ وعلا)، الأمر الذي يستلزم حصول ظاهرة الغيبة إلى أن يحين الوقت المعلوم عنده (جلَّ وعلا).
أمَّا ما هي تلك الحكمة؟ وما هو المبرِّر لكلِّ هذه الغيبة؟ وهل الحكمة هي وصول المجتمع إلى مستوى فكري لائق بيوم الظهور، أو أنَّها مجهولة لدينا كما صرَّحت بذلك رواية الهاشمي، فهذا أمر آخر لا دخل له بموضوعنا الآن.
وبهذا يمكن الجواب عن تساؤل عند البعض، وأنَّه لماذا كان الذي يملؤ الأرض بالعدل والقسط وينشر الإسلام في ربوع الأرض هو الإمام المهدي (عليه السلام) ولم يكن هو الرسول الأعظم (صلّى الله عليه واله) أو أمير المؤمنين (عليه السلام) أو أحد الأئمَّة عليهم السلام؟
بل إنَّ هذا التساؤل يجري حتَّى في رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلم)، فلماذا كان الخاتم هو محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وليس عيسى (عليه السلام) مثلاً، وهكذا...
والجواب في الجميع هو:
1 - أنَّ مسألة اختيار النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) ليست بيد البشـر، إنَّما هي بالجعل الإلهي، ﴿وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا﴾ [السجدة 24].
وحيث إنَّ أفعال الله تعالى حكيمة لا عبث فيها، فهذا يعني أنَّه (عزَّ وجلَّ) عندما يختار إماماً لمهمَّة، فهذا يعني أنَّه تبارك وتعالى قد رأى المصلحة والحكمة المناسبة لذلك.
وليس مهمّاً - بعد هذا - أن نعلم بتلك الحكمة والمصلحة ما دمنا نؤمن بأنَّ الفعل موافق للحكمة.
2 - على أنَّه يمكن القول: إنَّ المانع من اختيار غيره (عليه السلام) من الأئمَّة (عليهم السلام) لمهامّ آخر الزمان ليس في الأئمَّة أنفسهم، وإنَّما المانع كان هو عدم وصول المجتمع آنذاك للنضج الملائم لقيام دولة الحقِّ؛ فإنَّ تطبيق قانون الإسلام وإقامة الحقِّ يحتاج فيما يحتاج إليه إلى مجتمع واعٍ تمام الوعي لهذا القانون، ومستعد تمام الاستعداد للتضحية من أجل المبادئ، ومتفهِّم تماماً لما سيقوم به المشـرِّع والإمام من أفعال ربَّما تكون غير مفهومة الملاكات، أو قد تكون غير موافقة للفهم العامّ، وغيرها من الحيثيات التي افتقدها المجتمع الذي عاصره الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمَّة (عليهم السلام).
وبعبارة مختصرة، وكما قالوا في الفلسفة: إنَّ المانع في القابل لا في الفاعل...
ثانياً: أنَّ ذلك التساؤل يوحي بأنَّ السبب الرئيسـي للغيبة هو الخوف، وبالتالي، فحيث إنَّ المفروض في المهدي (عليه السلام) أن لا يخاف، فعليه أن يظهر.
ولكن الواقع غير ذلك، فإنَّه وبمطالعة الروايات الواردة في بيان أسباب الغيبة - والتي تقدَّم بعضها - يتبيَّن لنا جليّاً أنَّ الخوف هو مقتضٍ من مقتضيات الغيبة، وجزء علَّة لها، وليس العلَّة التامَّة لها، وبالتالي، فلا يصلح (انتفاء الخوف) لأن يكون مقدَّماً لشـرطية جزاؤها (ضرورة الظهور)، فلا يقال: حيث إنَّه لا يخاف فعليه أن يظهر.
ثالثاً: إنَّ الخوف يُعتَبر في الإنسان أمراً طبيعياً، وقد تقدَّم في الأصل الموضوعي الخامس أنَّ الصبغة العامَّة للحركات السماوية هي الحركة الخالية من الإعجاز إلَّا في الحالات الاستثنائية، وبالتالي، صحَّ لنبيٍّ من الأنبياء أن تمرَّ عليه تلك الحالة الطبيعية، ولذا خرج موسى من المدينة خائفاً يترقَّب، وخرج النبيُّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) من مكّة بعد أن مات حاميه أبو طالب.
والشاهد على هذا، أنَّ المتلقّي المباشر للخطاب من المعصوم، وعندما كان يسمع أنَّ واحداً من أسباب الغيبة هو الخوف، لم يكن يعترض على هذا الأمر بأنَّه خلاف العصمة أو أنَّه يتنافى مع المهدوية، الأمر الذي يكشف عن وجود ارتكاز في النفوس بعقلانية الخوف والابتعاد عن العدوِّ في الظروف التي تقتضي ذلك.
خصوصاً إذا عرفنا أنَّ الخوف الحاصل من النبيِّ أو الإمام ليس من الموت بما هو موت، كيف وهم أشوق إلى الجنَّة من أيِّ شخص آخر، وإنَّما هو خوف على الرسالة الإلهيَّة والأمانة الملقاة على النبيِّ أو الإمام من أن ينقطع الطريق أمامه قبل أن يؤدّي الأمانة ويصل إلى الهدف.
وبهذا الجواب، يجاب عن التساؤل الذي يطرحه البعض عن خروج المهدي خائفاً من المدينة المنوَّرة، فقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال في حديث: «... ويبعث السفياني بعثاً إلى المدينة فينفر المهدي منها إلى مكّة، فيبلغ أمير جيش السفياني أنَّ المهدي قد خرج إلى مكّة، فيبعث جيشاً على أثره فلا يُدركه حتَّى يدخل مكّة خائفاً يترقَّب على سُنَّة موسى بن عمران»(39).
فإنَّ الرواية قد شبَّهت خروجه هذا بخروج النبيِّ موسى (عليه السلام) في إشارة إلى جواب نقضي، وأنَّ على المعترض أن يجيب أوَّلاً عن خوف النبيِّ موسى (عليه السلام) في خروجه من مدينته، وهو القويُّ الذي قضى على رجل بوكزة واحدة بيده، فبأيِّ جواب أجاب عن هذا الخوف، نجيب نحن عن الخوف المذكور في قضيَّة الإمام المهدي (عليه السلام).
السؤال الثاني: لماذا غاب عن شيعته ومحبّيه؟
لو وجدنا المبرِّر العقلائي لغيبة الإمام المهدي (عليه السلام) عن أعدائه، فلربَّما يقال بصعوبة إيجاد مثله في غيبته عن شيعته!
لماذا غاب المهدي عن محبّيه، وشيعته، وهم ينتظرونه بفارغ الصبر، وكلُّهم شوق للقائه؟
لماذا لا يلتقي بهم، ليقضي حوائجهم، وليُخفِّف عنهم ما هم فيه من الهمِّ والحزن والألم؟
والجواب:
أوَّلاً: صحيح أنَّ شيعته يُحِبُّونه وينتظرون ظهوره كلَّ حين، لكن هذا لا يعني ضرورة أن يظهر لهم علانية، ذلك لأنَّ الحكمة الإلهيَّة قد اقتضت أن يغيب الإمام (عليه السلام) - كما تقدَّم في رواية الهاشمي وغيرها -، فظهوره علناً ولو لشيعته خلاف مفهوم الغيبة.
ثانياً: ولو تنزَّلنا، وقلنا: إنَّ أسباب الغيبة لا تجري في الشيعة، فيمكن القول: إنَّ الواقع والوجدان حاكمان على أنَّ الشيعة ليسوا على درجة واحدة من الوثاقة وحفظ السـرِّ، وبالتالي فاحتمال الدلالة عليه وكشف ستره وارد جدّاً، ولأنَّ المحتمل خطر جدّاً - حيث إنَّه يعني كشف المهدي (عليه السلام) أمام أعدائه المتربّصين به - فيحكم العقل آنذاك بضـرورة دفع الضـرر المحتمل عن المهدي (عليه السلام).
وهذا الأمر هو ما أجاب به الشيخ النوبختي عمَّن سأله عن سبب تقديم الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح عليه في السفارة عن المهدي (عليه السلام)، حيث ورد أنَّ أبا سهل النوبختي سُئِلَ فقيل له: كيف صار هذا الأمر إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ فقال: هم أعلم وما اختاروه، ولكن أنا رجل ألقي الخصوم وأُناظرهم، ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجَّة (على مكانه) لعلّي كنت أدلُّ على مكانه، وأبو القاسم فلو كانت الحجَّة تحت ذيله وقُرِّض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه(40).
وبهذا يمكن أن نفهم بعض الوجوه من الروايات التي دلَّت على أنَّ هذا الأمر قد حضـر غير مرَّة، ولكنَّه بسبب البوح به وعدم حفظ السرِّ فيه فقد تأجَّل إلى وقت غير معلوم.
فعن إسحاق بن عمّار الصيرفي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «قد كان لهذا الأمر وقت وكان في سنة أربعين ومائة، فحدَّثتم به وأذعتموه فأخَّره الله (عزَّ وجلَّ) ولم يجعل الله له بعد ذلك عندنا وقتاً»(41).
وفي رواية أُخرى عن إسحاق بن عمّار، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا أبا إسحاق، إنَّ هذا الأمر قد أُخِّر مرَّتين»(42).
وفي ثالثة: عن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) يقول: «يا ثابت، إنَّ الله تعالى قد كان وقَّت هذا الأمر في سنة السبعين، فلمَّا قُتِلَ الحسين (عليه السلام) اشتدَّ غضب الله فأخَّره إلى أربعين ومائة، فحدَّثناكم بذلك فأذعتم وكشفتم قناع الستر فلم يجعل الله لهذا الأمر بعد ذلك وقتاً عندنا، ﴿يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ﴾ [الرعد: 39]»، قال أبو حمزة: فحدَّثت بذلك أبا عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: «قد كان ذلك»(43).
فهذه الروايات تؤكّد الفكرة التي تقدَّمت، من أنَّ خطورة المحتمل وحكم العقل بلزوم دفع الضرر يؤدّي إلى الحكم بضرورة الغيبة حتَّى عن الشيعة.
ثالثاً: وبناءً على هذا، يمكن أن نُعطي جواباً ثالثاً، حاصله: أنَّه مع توفّر الوثاقة التامَّة، والتي يتمُّ معها الحفاظ على السـرِّ، والتأمين التامّ على حياة الإمام المهدي (عليه السلام) - طبعاً مع وجود المصلحة التي يُحدِّدها الإمام (عليه السلام) نفسه -، فإنَّ اللقاء به (عليه السلام) سيكون ممكناً، وسيكون الكشف عن هوية المهدي الحقيقية وارداً، وهذا لا يتنافى مع الغيبة، لأنَّه من الندرة بحيث يبقى معها مفهوم الغيبة محفوظاً.
ولذلك، وردت عدَّة روايات تشير إلى هذا الإمكان، بل ووقوعه في الموثوقين بدرجة عالية من الوثاقة.
وتشير إلى هذا الجواب الرواية التي وردت عن إسحاق بن عمّار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «للقائم غيبتان: إحداهما قصيرة، والأُخرى طويلة، الغيبة الأُولى لا يعلم بمكانه فيها إلَّا خاصَّة شيعته، والأُخرى لا يعلم بمكانه فيها إلَّا خاصَّة مواليه»(44).
ففي كلٍّ من غيبتيه (عليه السلام) هناك من يعلم بمكانه، وبالتالي يمكن أن يلتقي به ويتعرَّف عليه، أي يمكن أن لا يكون الإمام المهدي (عليه السلام) غائباً بالنسبة له، ولكن هذا الأمر لا يُتاح إلَّا لخاصَّة الشيعة ولخاصَّة مواليه (عليه السلام).
ويمكن أن نعتبر هذه الرواية قاعدة عامَّة في الخروج عن أُسلوب الغيبة في حياة الإمام المهدي (عليه السلام)، وقد نُقلت عدَّة روايات تُمثِّل تطبيقاً لهذه القاعدة.
ومن أمثلة ذلك الروايات التالية:
الرواية الأُولى: ما ورد من أنَّ أحمد بن إسحاق سأل السفير الثاني محمّد بن عثمان فقال له: أنت رأيت الخلف من أبي محمّد عليه السلام؟ فقال: (إي والله، ورقبته مثل هذا - وأومأ بيده -)(45).
وعن عبد الله بن جعفر الحميري، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه)، فقلت له: أرأيت صاحب هذا الأمر؟ فقال: (نعم، وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول: «اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني»)(46).
فهاتان الروايتان الواردتان عن السفير الثاني تُصـرِّحان بأنَّه قد رأى الإمام (عليه السلام)، والخصوصية للسفير وإن كانت واردة جدّاً، ولكن ملاكها لا يخرج عن الوثاقة التامَّة، كما صرَّح به الشيخ النوبختي في الرواية المتقدِّمة.
الرواية الثانية: عن الحسن بن عليِّ بن فضّال، قال: سمعت أبا الحسن عليَّ بن موسى الرضا عليهما السلام يقول: «إنَّ الخضـر (عليه السلام) شرب من ماء الحياة، فهو حيٌّ لا يموت حتَّى يُنفَخ في الصور، وإنَّه ليأتينا فيُسلِّم، فنسمع صوته ولا نرى شخصه، وإنَّه ليحضـر حيث ما ذُكِرَ، فمن ذكره منكم فليُسلِّم عليه، وإنَّه ليحضر الموسم كلَّ سنة فيقضـي جميع المناسك، ويقف بعرفة فيُؤمِّن على دعاء المؤمنين، وسيؤنس الله به وحشة قائمنا في غيبته ويصل به وحدته»(47).
فهذه الرواية واضحة في أنَّ الخضـر (عليه السلام) سيكون مؤنساً لوحشة الإمام المهديعليه السلام في غيبته، وهذا يستلزم الكشف عن شخصيته أمامه، لأنَّ ذلك لا يتنافى مع الغيبة، ولا يُخاف معه على الإمام (عليه السلام).
الرواية الثالثة: ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «لا بدَّ لصاحب هذا الأمر من عزلة، ولا بدَّ في عزلته من قوَّة، وما بثلاثين من وحشة»(48).
وروى أحمد بن حنبل في مسنده عن عبادة بن الصامت، عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، قال: «الأبدال في هذه الأُمَّة ثلاثون، مثل إبراهيم خليل الرحمن، كلَّما مات رجل أبدل الله تبارك وتعالى مكانه رجلاً»(49).
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «لا بدَّ لصاحب هذا الأمر من غيبة، ولا بدَّ له في غيبته من عزلة، ونعم المنزل طيبة، وما بثلاثين من وحشة»(50).
الأبدال حسب هذه الروايات: مجموعة من الشيعة المخلصين يرافقون الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى، كلَّما مات واحد منهم أبدله الله تعالى بآخر، وهؤلاء سيردّون الوحشة عن الإمام (عليه السلام) في غيبته. ممَّا يعني أنَّ الإمام (عليه السلام) كان قد كشف شخصيته أمامهم، للسبب المتقدِّم.
إشارة: على المؤمن أن لا يتوقَّف عن طلب أن يكون من الأنصار للإمام المهدي (عليه السلام) ومن الأبدال أُولئك، فعلى كلِّ واحد أن يعمل على أن يكون منهم، بعمله، وليتذكَّر أنَّه بعين إمامه، رغم كونه في مكانه النائي عنّا حسب الذي أراه الله تعالى له من الصلاح.
الرواية الرابعة: عن المفضَّل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: إحداهما تطول حتَّى يقول بعضهم: مات، وبعضهم يقول: قُتِلَ، وبعضهم يقول: ذهب، فلا يبقى على أمره من أصحابه إلَّا نفر يسير، لا يطَّلع على موضعه أحد من وليٍّ ولا غيره، إلَّا المولى الذي يلي أمره»(51).
وهذه أيضاً صريحة في أنَّ هناك مولى له (عليه السلام) مطَّلعاً عليه في غيبته.
سؤال: هذه الرواية جاءت بأُسلوب الحصـر «إلَّا المولى الذي يلي أمره»، فهل يتنافى هذا الأمر مع الروايتين السابقتين اللتين ذكرتا الخضر وثلاثين من الأبدال؟
الجواب: كلَّا، لا تنافي، لأنَّه يمكن القول: إنَّ المقصود من (المولى) الجنس، فيصدق على المفرد وعلى الجمع - طبعاً بالشـرط المتقدِّم -، أي بشـرط أن لا يصل إلى الحدِّ الذي ينتفي معه مفهوم الغيبة، ومعه، فيمكن أن يكون المقصود من (المولى) هو الخضـر، أو الأبدال، أو شخصاً آخر غير الخضـر والأبدال.
وبهذا الاعتبار (الوثاقة التامَّة) يمكن القول بإمكان ما نُقِلَ عن جمٍّ غفير من علمائنا الأعلام من أنَّهم التقوا بالإمام المهدي (عليه السلام) وكانوا يعرفونه بحقيقته.
المفردة الثالثة: خفاء شخصيات الظهور الإيجابية:
عادةً ما يعمد القائد إلى التعريف التامِّ بقوّاد جيشه، وكشف منجزاتهم على مختلف المستويات، لما في ذلك من تقوية لعزيمة الجنود، وفي نفس الوقت إلقاء للرعب في قلوب الأعداء.
إلَّا أنَّنا نواجه أمراً عكسياً في شخصيات الظهور، فبينما يتمُّ التعريف بالسفياني بصورة تصل إلى حدِّ ذكر اسمه وصفته ونسبه وبيان الكثير من أفعاله ومناطق تواجده وبدايات تحرّكه والمعارك التي يخوضها...، نجد أنَّ هناك إشارات خفيفة حول شخصيات الظهور الإيجابية، كاليماني والخراساني والحسني وشعيب بن صالح و(المنصور) الذي يرافق المهدي من المدينة إلى مكّة...
فما هو السرُّ في ذلك؟
الجواب: أنَّ هذا الأمر تابع للظروف الموضوعية الحاكمة في وقت الظهور، والتفصيل أن يقال:
أوَّلاً: ما هو سبب التعريف بالشخصيات السلبية؟
الجواب: ربَّما لا نجد صعوبة في تبرير إبراز الكثير من معالم السفياني وأمثاله، باعتبار أنَّ الأمر يرجع إلى أنَّ تعريفهم بصورة واضحة ينتج عدم الاشتباه بغيرهم، وهذا ينتج التالي:
1 - الابتعاد عن الانخراط في صفوفهم، وعن تأييدهم ولو باللسان.
2 - عدم الانخداع بمظاهرهم التي تتلبَّس بلباس الإسلام أو بلباس الواعظ الناصح.
3 - العمل على التصدّي لهم وردعهم لو حاولوا النيل من المقدَّسات أو النفوس.
وبالتالي لا يكون هناك عذر لمن يُؤيِّدهم.
وهذا الأمر في الحقيقة سيُوفِّر حصانة تامَّة للمؤمنين إبان الظهور من أن ينخرطوا في الصفوف المعادية للإمام المهدي (عليه السلام).
ثانياً: ما هو سبب إخفاء الكثير من معالم الشخصيات الإيجابية؟
وهذا يمكن أن يجاب عنه بالتالي:
أوَّلاً: أنَّ الأعداء دائماً يتربَّصون الدوائر بالحقِّ وأنصاره، وبالتالي، فلو تمَّ التعريف الواضح بالشخصيات المناصرة والممهِّدة للإمام (عليه السلام) لأمكن تصفيتها قبيل ساعة الصفر، فتخسـر المعركة جنوداً ذوي أهمّية قصوى فيها.
ثانياً: أنَّ وجود إشارات خفيفة حول تلك الشخصيات يدفع بالمؤمنين إلى التروّي في اتِّباع من يدَّعي أنَّه واحد من تلك الشخصيات، إلى أن يدرس الدعوى جيِّداً ليصل إلى اليقين من حقّانيتها أو بطلانها، ذلك لأنَّ تلك الشخصيات تُمثِّل مقامات سامية في نفوس المؤمنين، وبالتالي يمكن لضعيفي النفوس أن يدَّعوا مقاماتهم زوراً وبهتاناً، كما حصل بالفعل حيث ادَّعى البعض - ومنهم ابن گاطع - أنَّه اليماني الموعود، وقد انخدع به من لا نصيب له من العلم والمعرفة.
ثالثاً: أنَّ ذلك يدفع بالمؤمنين إلى زيادة البحث والتنقيب حول القضيَّة المهدوية عموماً، وبالتالي الرجوع إلى المتخصِّصين في فهم الروايات، ممَّا يعني الإبقاء على ربط المؤمنين بالفقهاء المؤتمنين، الأمر الذي ينتج الحفاظ على الثلَّة المؤمنة من أن تقع فريسة للمخادعين.
رابعاً: فضلاً عمَّا تقدَّم، يمكن القول: إنَّ ما ذُكِرَ من إشارات آنية - إذا صحَّ التعبير - حول تلك الشخصيات كافٍ في مقام تشخيصهم الواقعي ساعة ظهورهم، بمعنى أنَّ هناك مشخَّصات تحصل عند ظهورهم وبداية إعلان تحرّكهم، تكفي المؤمنين ومن كان على اطِّلاع مسبق بروايات الظهور في أن يعرفوهم ولا يشتبهوا بغيرهم، وبالتالي نضمن على الأقلِّ عدم معارضة المؤمنين وعدم الالتواء على تلك الحركات إن لم نقل نضمن مناصرتها، وذلك ببيان:
إنَّ الروايات الشـريفة، في الوقت الذي أخفت الكثير من معالم شخصيات الظهور الإيجابية، إلَّا أنَّها ذكرت مشخَّصات موضوعية يمكن أن يلتفت إليها المؤمن، وبالتالي لا يحصل عنده الاشتباه، وطبعاً ليس مهمّاً أن ينتبه الأعداء لتلك المشخَّصات، فالمهمُّ هو التفات المؤمنين حتَّى تحصل فائدة العلامات، والتي هي تنبيه المؤمنين على قرب الظهور، وبالتالي ليزيدوا وليُفعِّلوا انتظارهم العملي. وهذا ما عبَّر عنه الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: «يعرفها من كان سمع بها قبل أن تكون»(52)، وفي رواية أُخرى قال (عليه السلام): «يُصدِّق بها إذا كانت من كان مؤمناً يؤمن بها قبل أن تكون»(53).
بل يمكن القول: إنَّه لولا هذه المشخِّصات الآنية لفقدت العلامات علاميتها، فإنَّه لولا وضوح العلامة لانتفى كونها علامة كما هو واضح، نعم، ذلك الوضوح مختصٌّ بالمؤمنين، وهذا لا ضير فيه في المقام.
ما هي تلك المشخصات؟
والمشخِّصات المومى إليها هي التالي:
أوَّلاً: اليماني:
مشخِّصاته هي التالي:
1 - خروجه من اليمن.
كما تدلُّ عليه النسبة، وما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «... وخروج السفياني من الشام واليماني من اليمن...»(54).
وعن هشام، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: لـمَّا خرج طالب الحقِّ، قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): نرجو أن يكون هذا اليماني؟ فقال: «لا، اليماني يوالي عليّاً وهذا يبرأ»(55).
فتجد الإمام الصادق (عليه السلام) قد نفى يمانية هذا (الطالب للحقِّ) من جهة عدم موالاته لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ولو كان ثَمَّة جهة أُخرى لكان مناسباً للإمام (عليه السلام) أن يُبيِّنها. فيظهر منه أنَّ كون اليماني من اليمن هو من الواضحات في الذهنية الشيعية عموماً آنذاك، أي في عصـر الإمام (عليه السلام)، وسكوت الإمام (عليه السلام) عن ذلك إقرار منه بصحَّة هذا الفهم في الذهنية العامَّة.
2 - خروجه مع السفياني والخراساني في يوم واحد من شهر رجب.
روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): «خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً...»(56).
وأمَّا كون الخروج هذا في شهر رجب فلما ورد من أنَّ السفياني يخرج في هذا الشهر، فعن معلّى بن خنيس، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «من الأمر محتوم، ومنه ما ليس بمحتوم، ومن المحتوم خروج السفياني في رجب»(57).
3 - إعلانه دعوته الخالصة للإمام المهدي (عليه السلام).
في رواية الإمام الباقر (عليه السلام) المتقدِّمة ورد: «وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني، هي راية هدى، لأنَّه يدعو إلى صاحبكم...، لأنَّه يدعو إلى الحقِّ وإلى طريق مستقيم»(58).
4 - مقاتلته للسفياني، فهو من أعداء السفياني الذي ذكرت الروايات له مشخَّصات عديدة.
روي عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إذا ظهر الأبقع مع قوم ذوي أجسام فتكون بينهم ملحمة عظيمة، ثمّ يظهر الأخوص السفياني الملعون فيقاتلها جميعاً فيظهر عليهما جميعاً، ثمّ يسير إليهم منصور اليماني من صنعاء بجنوده وله فورة شديدة يستقتل الناس قتل الجاهلية فيلتقي هو والأخوص وراياتهم صفر وثيابهم ملوَّنة فيكون بينهما قتال شديد...»(59).
ثانياً: الخراساني:
1 - إنَّه من بني هاشم، وهو فتى صبيح الوجه.
روي عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «يخرج شاب من بني هاشم بكفِّه اليمنى خال، من خراسان، برايات سود، بين يديه شعيب بن صالح يقاتل أصحاب السفياني فيهزمهم»(60).
2 - خروجه من خراسان.
كما تدلُّ عليه النسبة، وكما وصفت الروايات خروجه من جهة المشـرق الذي يُطلَق على بلاد فارس، لأنَّها تقع بالشـرق من المدينة أو مكّة أو العراق (والإمام لم يكن إلَّا في واحدة من هذه المدن، فيكون الشرق بالنسبة إليه هو بلاد إيران).
عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنَّه سمعه يقول: «لا بدَّ أن يملك بنو العبّاس، فإذا ملكوا واختلفوا وتشتَّت أمرهم خرج عليهم الخراساني والسفياني، هذا من المشـرق، وهذا من المغرب، يستبقان إلى الكوفة كفرسي رهان، هذا من هاهنا، وهذا من هاهنا...»(61).
3 - خروجه مع اليماني والسفياني في يوم واحد من شهر رجب كما تقدَّم.
4 - توجّهه نحو الكوفة لردِّ كيد السفياني، كما دلَّت عليه الرواية المتقدِّمة.
ثالثاً: النفس الزكية:
1 - دعوته للإمام المهدي (عليه السلام) أمام الملأ في مكّة المكرَّمة وعند البيت المعظَّم.
2 - إنَّ تلك الدعوة تحصل يوم (24) أو (25) ذي الحجَّة في السنة التي تقع فيها العلامات الواضحة كالصيحة والخسف وغيرها. لأنَّ قتله يكون قبل الظهور بخمس عشـرة ليلة، والظهور يكون في العاشر من محرَّم(62).
3 - إنَّ أهل مكّة يقتلون ذلك الشاب في مكان إعلان دعوته، ولا شكَّ أنَّ قتل شاب في هذا المكان سيكون ملفتاً للنظر جدّاً، فإنَّه حرم الله الآمن، والحجّاج ما زال الكثير منهم لم يخرجوا عن مكّة.
عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل إلى أن قال: «يقول القائم لأصحابه: يا قوم، إنَّ أهل مكّة لا يريدونني، ولكنّي مرسل إليهم لاحتجَّ عليهم بما ينبغي لمثلي أن يحتجَّ عليهم. فيدعو رجلاً من أصحابه، فيقول له: امض إلى أهل مكّة، فقل: يا أهل مكّة، أنا رسول فلان إليكم وهو يقول لكم: إنّا أهل بيت الرحمة، ومعدن الرسالة والخلافة، ونحن ذرّية محمّد وسلالة النبيّين، وإنّا قد ظُلمنا واضطُهدنا وقُهرنا وابتُزَّ منّا حقّنا منذ قُبِضَ نبيُّنا إلى يومنا هذا، فنحن نستنصـركم فانصـرونا. فإذا تكلَّم هذا الفتى بهذا الكلام، أتوا إليه فذبحوه بين الركن والمقام، وهي النفس الزكيَّة...»(63).
وعن صالح مولى بني العذراء، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول: «ليس بين قيام قائم آل محمّد وبين قتل النفس الزكيَّة إلَّا خمسة عشر ليلة»(64).
رابعاً: الحسني:
1 - قدومه من الشـرق (ولذلك احتمل البعض اتِّحاده مع الخراساني، وبناءً عليه ستتحدُّ مشخَّصاتهما). وقد عبَّرت الرواية عن خروجه ذلك بأنَّه يخرج من الديلم.
2 - قيادته لجيش عظيم يقاتل به المخالفين للحقِّ.
3 - لقاؤه بالمهدي (عليه السلام) وطلبه منه المعجزة، فيقيمها له المهدي (عليه السلام)، وبعدها سينضمُّ مع جيشه إليه.
فقد روي: «ويلحقه الحسني في اثني عشـر ألفاً، فيقول له: أنا أحقُّ منك بهذا الأمر، فيقول له: هات علامة، هات دلالة، فيومئ إلى الطير فيسقط على كتفه، ويغرس القضيب الذي بيده فيخضـرُّ ويعشوشب، فيُسلِّم إليه الحسني الجيش، ويكون الحسني على مقدَّمته...»(65).
وفي رواية أُخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ثمّ يخرج الحسني الفتى الصبيح من نحو الديلم...، ويتَّصل به وبأصحابه خبر المهدي، فيقولون: يا ابن رسول الله، من هذا الذي نزل بساحتنا؟ فيقول: اُخرجوا بنا إليه حتَّى ننظره من هو، وما يريد، والله ويعلم أنَّه المهدي، وإنَّه يعرفه وإنَّه لم يرد بذلك الأمر إلَّا له...، فيقبل الحسني حتَّى ينزل بالقرب من المهدي...، فيقول له أصحاب المهدي: هذا وليُّ الله مهدي آل محمّد...، فيخرج الحسني من عسكره ويخرج المهدي ويقفان بين العسكرين فيقول له الحسني: ... وأنا أسألك أن تغرس هراوة جدِّك رسول الله في هذا الحجر الصفا، وتسأل الله أن ينبتها فيها وهو لا يريد بذلك إلَّا أن يرى أصحابه فضل المهدي إليه التسليم حتَّى يطيعوه ويبايعوه، فيأخذ المهدي الهراوة بيده ويغرسها في الحجر فتنبت فيه وتعلو وتفرغ وتورق حتَّى تظلَّ عسكر المهدي والحسني، فيقول الحسني: الله أكبر، مُدَّ يدك يا ابن رسول الله حتَّى أُبايعك، فيمدُّ يده فيبايعه ويبايعه سائر عسكر الحسني...»(66).
خامساً: شعيب بن صالح:
1 - خروجه من الريِّ.
2 - إنَّه يكون واحداً من قيادات جيش الخراساني، فمشخَّصات الخراساني تنفع في تشخيصه أيضاً.
3 - إنَّه قائد عسكري محنَّك، يتغلَّب على كلِّ أعدائه.
4 - إنَّه سيكون صاحب لواء المهدي (عليه السلام) بعد ظهوره.
روي عن جابر، عن أبي جعفر، قال: «يخرج شاب من بني هاشم بكفِّه اليمنى خال، من خراسان برايات سود بين يديه شعيب بن صالح، يقاتل أصحاب السفياني فيهزمهم»(67).
وروى السيِّد ابن طاووس قال: حدَّثنا نعيم، حدَّثنا عبد الله بن إسماعيل البصـري، عن أبيه، عن الحسن، قال: «يخرج بالريِّ رجل ربعة(68) أسمر مولى لبني تميم، كوسج(69) يقال له: شعيب بن صالح، في أربعة آلاف، ثيابهم بيض، وراياتهم سود، يكون مقدَّمة للمهدي لا يلقاه أحد إلَّا فلَّه(70)»(71).
وروي عن عمّار بن ياسر في حديث له: (يخرج المهدي على لوائه شعيب بن صالح)(72).
وهذه الرواية وإن لم تُروَ عن المعصوم، ولكنَّها بالتالي تحكي عن أمر محتمل، بل قد تساعد عليه الظروف الموضوعية آنذاك، فإنَّ قائداً محنَّكاً كشعيب لا شكَّ أنَّه يصلح لأن يكون على لواء المهدي (عليه السلام).
سادساً: المنصور:
لعلَّ أخفى شخصية إيجابية وردت في الروايات الشـريفة هي شخصية (المنصور)، فإنَّه لا نجد له أيَّ مشخَّص في الروايات، وقد روى العيّاشي في تفسيره عن الإمام الباقر (عليه السلام) رواية يقول فيها: «... ويبعث [أي السفياني] بعثاً إلى المدينة فيقتل بها رجلاً، ويهرب المهدي والمنصور منها»(73).
فمن هو هذا (المنصور)؟
يظهر أنَّه واحد من مرافقي الإمام المخلصين جدّاً، وأنَّه عندما يخرج المهدي (عليه السلام) من المدينة إلى مكّة، فإنَّه سيكون رفيق دربه، ولكن هل له رفقة معه قبل هذا الطريق، أو أنَّه كان موجوداً في المدينة حينما يصل إليها المهدي (عليه السلام) ثمّ يرافق الإمام في سفره إلى مكّة؟ لم تُبيِّن الرواية أيَّ شيء عن هذا.
ولعلَّ إخفاء معالمه تماماً كان لأجل أنَّه لا دور له في أحداث الظهور سوى مرافقة الإمام (عليه السلام) في سفره هذا، ومرافقة الإمام لا تنحصـر به كما تقدَّم، فإنَّ هناك العديد من الأفراد اللذين لهم الشأنية لتلك المرافقة وأكثر، كالخضـر والأبدال وما شابه. ومعه، فلا داعي لتفصيل أمر لا أهمّية كثيرة له في أحداث الظهور.
وهنا عدَّة إثارات في تشخيص هذا المنصور:
الإثارة الأُولى: أنَّ هذا المنصور هو المولى الذي يلي أمر الإمام في غيبته كما ذكرت الرواية ذلك.
ولكنَّه مجرَّد احتمال لا شاهد عليه.
الإثارة الثانية: أنَّ هذا المنصور هو نفسه المهدي (عليه السلام) لا غير.
فإنَّ من أسماء المهدي (عليه السلام) هو المنصور(74)، وحينئذٍ تكون الواو (الواردة في الرواية) تفسيرية لا عاطفة لتدلَّ على المغايرة.
ولكنَّه يجاب: أنَّ ظاهر الواو هو العطف والمغايرة، ومجرَّد أنَّ واحداً من أسماء المهدي (عليه السلام) هو المنصور لا يعني حصـره به. فلا تكفي هذه التسمية لتكون قرينة على التفسيرية وعدم المغايرة، أو لتكون صارفة عن ظاهر الرواية في المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.
الإثارة الثالثة: أنَّ (المنصور) هو قائد الملائكة التي ستنزل لنصرة الإمام (عليه السلام).
تذكر بعض الروايات الشـريفة أنَّ مجموعة من الملائكة نزلوا لنصـرة الإمام الحسين (عليه السلام)، ولكنَّهم لم يؤذَن لهم، وكان رئيسهم اسمه (منصور)، وأنَّهم ينتظرون قيام القائم (عليه السلام) لينصروه وليكونوا معه.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «... وأربعة آلاف هبطوا يريدون القتال مع الحسين لم يؤذَن لهم، فرجعوا في الاستيمار فهبطوا وقد قُتِلَ الحسين، فهم عند قبره شعث غبر يبكونه إلى يوم القيامة، ورئيسهم ملك يقال له: منصور، فلا يزوره زائر إلَّا استقبلوه، ولا يُودِّعه مودِّع إلَّا شيَّعوه، ولا مريض إلَّا عادوه، ولا يموت ميِّت إلَّا صلّوا عليه واستغفروا له بعد موته، فكلُّ هؤلاء ينتظرون قيام القائم...»(75).
ولعلَّ (منصور) هذا هو المعنيُّ بشعار المسلمين يوم بدر: (يا منصور أمت)(76)، أي اُقتل الكافرين، وكذلك كان هو شعار مسلم بن عقيل في الكوفة(77).
وقد ورد أنَّ واحداً من شعارات أصحاب الإمام المهدي (عليه السلام) هو: (أمت أمت)(78)، ولعلَّ المقصود هو نفس شعار المسلمين يوم بدر.
فقد يقال: إنَّ (المنصور) الذي سيرافق الإمام (عليه السلام) في سفره من المدينة إلى مكّة، هو هذا الملك.
ولكنَّه واضح الضعف، فإنَّ ظاهر الرواية أنَّ المنصور بشـر لا ملك، ثمّ إنَّ هذا الملك وحسبما ذكرت الرواية سينزل مع أربعة آلاف ملك لينصـروا الإمام الحجَّة (عليه السلام) عند ظهوره، والحال أنَّ الإمام في رواية الخروج إلى مكّة لم يظهر بعد، وعلى الأقلّ هو لم يُعلِن ظهوره للملأ.
الإثارة الرابعة: إنَّ هذا المنصور هو (اليماني).
اليماني هو أحد شخصيات الظهور الإيجابية، وقد اعتبرته الروايات الشـريفة من علامات الظهور الحتمية، وقد وصفته بعض الروايات بالمنصور.
عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: وفد على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أهل اليمن، فقال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): «... قوم رقيقة قلوبهم راسخ إيمانهم، ومنهم المنصور يخرج في سبعين ألفاً ينصر خلفي وخلف وصيّي...»(79).
وقد تقدَّمت رواية جابر عن أبي جعفر (عليه السلام)، والتي سمَّته أيضاً بمنصور اليماني(80).
فحيث إنَّ المتبادر من الشخص الذي سيخرج من اليمن والذي سينصـر الإمام المهدي (عليه السلام) هو اليماني لا غير، فيمكن القول: إنَّ المنصور المذكور في هذه الرواية هو اليماني لا غير.
ومعه قد يقال: إنَّ المنصور الذي سيخرج مع الإمام المهدي (عليه السلام) من المدينة إلى مكّة سيكون هو نفسه اليماني...
وقد يجاب عن هذا: بأنَّ اليماني - وحسب هذه الرواية التي سمَّته بالمنصور - سيكون قائد جيش جرّار، بل ذكرت بعض الروايات أنَّه سوف يتسابق مع السفياني كفرسي رهان(81)، فإنَّ المعروف أنَّ السفياني صاحب جيش كبير، وعنده توجّهات توسعية طامعة، فلا يجاريه ولا يتسابق معه إلَّا من عنده قوَّة توازيه، فلا يُعقَل أن يبقى لوحده، وأن يتجرَّد من قيادته لذلك الجيش ليرافق الإمام المهدي (عليه السلام) في سفره ذاك.
وقد يُوجَّه هذا: بأنَّ بعض الروايات ذكرت أنَّ السفياني سيخوض حرباً ضدّ (المنصور اليماني) وسيقضـي عليه، ففي كتاب الفتن عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إذ ظهر السفياني على الأبقع وعلى المنصور والكندي والترك والروم خرج وصار إلى العراق...»(82).
فإنَّ التعبير بـ (ظهر على) يدلُّ على غلبة السفياني على اليماني، وبالتالي يمكن تصوّر انحلال جيش اليماني بعد هذه الحادثة، وأنَّه سيتوجَّه لوحده لمرافقة الإمام المهدي (عليه السلام) وليبقى معه إلى حين الظهور الرسمي.
لكن مع ذلك يبقى هذا الاحتمال بلا شاهد قويّ، فتبقى شخصية (المنصور) المرافق للإمام (عليه السلام) قيد الخفاء حسب ما بين أيدينا من معطيات.
المفردة الرابعة: خفاء الولادة:
بمراجعة سريعة لولادة الإمام المهدي (عليه السلام) نجد أنَّها قد أُحيطت بالسـرّية التامَّة التي وصلت إلى حدٍّ بعيد.
إنَّ الروايات الواردة في هذا المعنى على صنفين:
الصنف الأوَّل: الروايات التي أخبرت بخفاء ولادته قبل ولادته من آبائه المعصومين (عليهم السلام)، ومن أمثلة تلك الروايات التالي:
الرواية الأُولى: عن عبد الله بن عطاء، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إنَّ شيعتك بالعراق كثيرون، فوَالله ما في أهل بيتك مثلك، فكيف لا تخرج؟ فقال: «يا عبد الله بن عطاء، قد أمكنت الحشو من أُذُنيك، والله ما أنا بصاحبكم»، قلت: فمن صاحبنا؟ قال: «اُنظروا من تخفى على الناس ولادته فهو صاحبكم»(83).
فهذه الرواية تُصرِّح بأنَّ (صاحبنا) أي المهدي (عليه السلام) يتميَّز عن غيره من الأئمَّة (عليهم السلام) بخفاء ولادته.
وقوله: «قد أمكنت الحشو من أُذُنيك» بمعنى أنَّه سمح للزائد من الكلام وما لا نفع فيه وما لا دليل عليه أن يدخل أُذُنه وأن يُصدِّق به، ولعلَّ فيه إشارة إلى أنَّه كان البعض في ذلك الوقت يعمل على الترويج لمهدوية الإمام الباقر (عليه السلام)، ولعلَّهم هم من تسمّوا بعد ذلك بالباقرية.
الرواية الثانية: ما ورد من تشبيه الإمام المهدي (عليه السلام) بالنبيِّ موسى (عليه السلام) من حيث خفاء المولد، فقد ورد عن محمّد بن مسلم الثقفي الطحّان، قال: دخلت على أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليهما السلام وأنا أُريد أن أسأله عن القائم من آل محمّد (صلّى الله عليه وعليهم)، فقال لي مبتدئاً: «يا محمّد بن مسلم، إنَّ في القائم من آل محمّد شبهاً من خمسة من الرسل: يونس بن متّى، ويوسف بن يعقوب، وموسى، وعيسى، ومحمّد، صلوات الله عليهم...، وأمَّا شبهه من موسى فدوام خوفه، وطول غيبته، وخفاء ولادته»(84).
الرواية الثالثة: عن أيّوب بن نوح، قال: قلت للرضا (عليه السلام): إنّا لنرجو أن تكون صاحب هذا الأمر...، فقال: «ما منّا أحد اختلفت إليه الكتب، وسُئِلَ عن المسائل، وأشارت إليه الأصابع، وحُمِلَت إليه الأموال إلَّا اغتيل أو مات على فراشه حتَّى يبعث الله (عزَّ وجلَّ) لهذا الأمر رجلاً خفي المولد والمنشأ غير خفي في نسبه»(85).
وهذه الرواية في الوقت الذي تُصـرِّح بأنَّ المهدي خفي المولد، كأنَّها تُعطي السبب في خفاء مولده، بأنَّ ظهوره واشتهاره سيُسبِّب قتله، لذلك فإنَّ كلَّ من ذاع اسمه من الأئمَّة قد قُتِلَ، وإن لم يُقتَل فإنَّه سيموت من دون تحقيق العدل والقسط على الأرض كلّ الأرض، وبالتالي، فإنَّ ميزة المهدي عن آبائه (صلوات الله عليهم أجمعين) هو خفاء المولد، وبالتالي فإنَّه لا تختلف إليه الكتب ولا يُشار له بالأصابع - طبعاً إلى أن يظهر حيث ترتفع التقيَّة عن أصحابه فضلاً عنه -.
هذا، ومن الطبيعي جدّاً أنَّ خفاء الولادة سيُسبِّب اختباراً صعباً يمرُّ به الناس، وفي نفس الوقت سيفتح باباً لمن يريد التشكيك في أن يُشكِّك في الولادة، وهذا ما صرَّحت به الروايات الشـريفة التي وردت وكأنَّها تشير إلى نتيجة خفاء الولادة، حيث ورد عن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ للقائم غيبة قبل أن يقوم»، فقلت: ولِـمَ؟ قال: «يخاف - وأومى بيده إلى بطنه -»، ثمّ قال: «يا زرارة، وهو المنتظر، وهو الذي يُشَكُّ في ولادته، فمنهم من يقول: مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: غائب، ومنهم من يقول: وُلِدَ قبل وفاة أبيه بسنين...»(86).
وكذلك ما ورد عن الإمام عليِّ بن موسى الرضا عليهما السلام من أنَّه قيل له: ... يا ابن رسول الله، ومن القائم منكم أهل البيت؟ قال: «... الذي يشكُّ الناس في ولادته...»(87).
الصنف الثاني: الروايات التاريخية التي ذكرت أحوال الحمل به ولحظات ولادته في ليلة الخامس عشر من شعبان المعظم.
حيث تذكر هذه الروايات أنَّ الخفاء الذي أحاط بولادة الإمام المهدي (عليه السلام) كان على أشدّه، بحيث لم يكن يعلم بالحمل به إلَّا أبوه الإمام العسكري (عليه السلام)، ولم تُصـرِّح الروايات بعلم غيره بالحمل(88)، بحيث إنَّ السيِّدة حكيمة استعلمت من الإمام (عليه السلام) لتعرف من هي أُمُّ المولود الموعود(89).
ومن هنا، يتَّجه السؤال عن سبب هذا الخفاء المطبق والتقيَّة المشدَّدة في ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)، خصوصاً وأنَّ هذا الخفاء قد سبَّب التشكيك بأصل الولادة!
والجواب:
أنَّ متابعة الظروف الموضوعية التي كانت تحيط ببيت الإمام العسكري (عليه السلام) كانت تفرض هذه الإجراءات الوقائية عالية الشدَّة، ممَّا يعني أنَّ اللطف الإلهي والحكمة الإلهية يتَّجهان بالضرورة إلى حفظ المولود الموعود ولو بإحاطته بهذه السرّية التامَّة والخفاء المدقع.
إنَّ هناك عدَّة معطيات تُوضِّح تلك الظروف المحيطة، خلاصتها التالي:
1 - أحاديث أنَّ الأئمَّة اثنا عشر(90).
2 - أحاديث أنَّ المهدي الذي يزيل الطواغيت عن عروشهم هو الإمام الثاني عشر.
3 - أنَّ الإمام العسكري (عليه السلام) هو الإمام الحادي عشـر، وبالتالي فلا بدَّ أن يكون ولده هو المهدي (عليه السلام).
4 - أنَّ هذه الأحاديث ليست خافية على السلطة العبّاسية آنذاك، بل هي مشهورة ويحفظها الصغير قبل الكبير.
وكردَّة فعل طبيعية لهذه المعطيات فإنَّ السلطة لا بدَّ أن تعمل على وأد هذا المولود في مهده، لذلك اتَّخذت إجراءات عديدة منها التالي:
1 - المراقبة الشديدة لبيت الإمام العسكري (عليه السلام).
2 - مراقبة نساء الإمام وجواريه.
3 - محاولة اقتناص أيّ خبر عن مولود للإمام.
ولذلك تذكر بعض الروايات أنَّهم وبعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) وعندما أسقط بأيديهم في الظفر بالمولود الموعود، فإنَّهم عمدوا إلى كبس دار الإمام وتفتيشه بدقَّة، حتَّى إنَّ بعض الروايات تذكر أنَّهم كادوا أن يظفروا بالإمامعليه السلام لولا أنَّه كان صغيراً - وقد يكونون يعتقدون بأنَّه رجل كبير لأنَّه خليفة أبيه والمهدي المنتظر -، ولولا انشغالهم بنهب بيت الإمام (عليه السلام)، ممَّا أتاح للإمام المهدي (عليه السلام) أن يخرج من بين أيديهم من دون أن ينتبهوا عليه، بل تذكر بعض الروايات أنَّ الإمام مرَّ عليهم من دون أن يراه قائدهم، وأنَّ جنوده استغربوا من عدم رؤيته له بعد أن عاتبهم على عدم الإمساك به(91).
فإذا عرفنا أنَّ اللطف الإلهي، بل والوعد الإلهي اقتضيا حفظ ذلك الولد ليكون هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً في وقت لا يعلمه إلَّا الله تعالى، عرفنا أنَّ الحكمة الإلهيَّة حينئذٍ تقتضـي إحاطة هذا المولود بسرّية تامَّة تبدأ من حين الحمل به ثمّ ولادته، وانتهاءً بغيبته (عليه السلام).
نماذج تاريخية:
إنَّ خفاء ولادة الأولياء وإحاطتها بالسـرّية العالية ليست جديدة في الواقع، بمعنى أنَّ الظرف الموضوعي هو من يتحكَّم في الإجراء المناسب، فإذا توفَّرت الظروف الأمنية المناسبة لإظهار الولادة، فلا داعي حينئذٍ للإخفاء من هذه الجهة، أمَّا إذا كان الظرف الأمني خطراً على المولود الموعود بالقيام بمهمَّة إلهية معنية، اقتضى اللطف الإلهي أن تجري الحكمة وفق إخفاء وستر المولود بطريقة وبأُخرى.
فالنبيُّ إبراهيم (عليه السلام) كان ممَّن أُخفيت ولادته خوفاً عليه، فقد نُقِلَ أنَّ ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبَّرها المعبِّرون بأنَّه يولد غلام ينازعه في ملكه، فأمر ذلك الملك بذبح كلّ غلام يُولَد فحبلت أُمُّ إبراهيم به وما أظهرت حبلها للناس، فلمَّا جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدَّت الباب بحجر، فجاء جبريل (عليه السلام) ووضع إصبعه في فمه فمصَّه فخرج منه رزقه، وكان يتعَّهده جبريل (عليه السلام)، فكانت الأُمُّ تأتيه أحياناً وتُرضِعه...(92).
وقصَّة النبيِّ موسى (عليه السلام) واضحة مشهورة في إخفاء ولادته وإبعاده عن أُمِّه وعيشه في بيت عدوِّه، ليتمَّ الحفاظ عليه من بطش فرعون الذي أمر بقتل كلّ مولود ذكر يُولَد لبني إسرائيل، وكان اللطف الإلهي واضحاً جدّاً، حيث ألقى الله تعالى المحبَّة منه على موسى(93)، بحيث كان كلُّ من يراه يُحِبُّه.
روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): «... فلمَّا وضعت أُمُّ موسى بموسى نظرت وحزنت واغتمَّت وبكت وقالت: يُذبَح الساعة، فعطف الله قلب الموكَّلة بها عليه، فقالت لأُمِّ موسى: ما لكِ قد اصفرَّ لونكِ؟ فقالت: أخاف أن يُذبَح ولدي، فقالت: لا تخافي، وكان موسى لا يراه أحد إلَّا أحبَّه وهو قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ [طه: 39]، فأحبَّته القبطية الموكَّلة به...، وكان لفرعون قصر على شطِّ النيل متنزَّه، فنظر من قصـره - ومعه آسية امرأته - إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج وتضـربه الرياح حتَّى جاءت به على باب قصـر فرعون، فأمر فرعون بأخذه، فأخذ التابوت ورُفِعَ إليه، فلمَّا فتحه وجد فيه صبياً، فقال: هذا إسرائيلي، فألقى الله في قلب فرعون لموسى محبَّة شديدة وكذلك في قلب آسية، وأراد أن يقتله فقالت آسية: ﴿لا تَقْتُلُوهُ عَسَـى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ [القصص: 9] أنَّه موسى، ولم يكن لفرعون ولد، فقال: التمسوا له ظئرا تُربّيه...»(94).
استخلاص النتائج:
أوَّلاً: أنَّ الصبغة العامَّة لحركة الإمام المهدي (عليه السلام) هي كونها وفق القوانين الطبيعية، لذلك سيكون هناك بعض الأفعال التي تتناسب مع هذه القوانين، كالابتعاد عن الظالمين الذين يريدون بالمهدي سوءاً.
ثانياً: لا يمكن أن يُنظَر إلى القضايا المهدوية كلّاً على حِدَة، بل لا بدَّ من الربط بينها وأخذها ككلٍّ مجموعي، مع ملاحظة الظروف الموضوعية المحيطة بكلِّ قضيَّة، وهذه النظرة ستحلُّ لنا الكثير من الإشكاليات في هذه القضايا.
ثالثاً: لا محيص من الرجوع إلى الروايات المفسِّـرة لبعض القضايا، لأنَّها تُوفِّر لنا كمّاً جيِّداً من المعلومات التي تنفع الباحث والمنتظِر، وبالتالي لا بدَّ من الرجوع إلى المتخصِّصين في مجال الروايات عموماً والروايات المهدوية خصوصاً، للوصول إلى نتائج سليمة قدر الإمكان من الأخطاء، ومن معارضة الأُصول العامَّة للمذهب وثوابته.
الهوامش:
(1) في تاج العروس للزبيدي (ج 20/ ص 304/ مادَّة وقى): وقاه يقيه وقياً - بالفتح -، ووقايةً - بالكسـر -، وواقيةً، على فاعلة: صانه وستره عن الأذى وحماه وحفظه، فهو واق؛ ومنه قوله تعالى: fما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍY [الرعد: 34]؛ أي من دافع.
(2)كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 483/ الباب 45/ الحديث 3.
(3) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 300 و301/ الباب 16/ الحديث 3.
(4) نفس المصدر/ الحديث 5.
(5) نفس المصدر/ الحديث 6.
(6) بصائر الدرجات لمحمّد بن الحسن الصفّار: 335.
(7) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 298 و299/ باب 16/ الحديث 1.
(8) نفس المصدر/ الحديث 9.
(9) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 299 و306/ الباب 16/ ح 14.
(10) في كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 314 و315 / الباب 18/ الحديث 10: عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كنّا عند أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الرضا (عليه السلام) فجرى ذكر السفياني، وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: «نعم»، قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم، فقال: «إنَّ القائم من الميعاد، والله لا يُخلِف الميعاد».
(11) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 302 - 306 / الباب 16/ الحديث 7.
(12) في كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 335/ الباب 21/ الحديث 10: عن أبي بصير ، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «ليعدنَّ أحدكم لخروج القائم ولو سهماً، فإنَّ الله تعالى إذا علم ذلك من نيَّته رجوت لأن يُنسئ في عمره حتَّى يُدركه فيكون من أعوانه وأنصاره».
(13) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 337 و338/ الباب 33/ الحديث 10.
(14) في كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 272 و273/ الباب 14/ الحديث 28: عن زرارة بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : «ينادي منادٍ من السماء: إنَّ فلاناً هو الأمير، وينادي منادٍ: إنَّ عليّاً وشيعته هم الفائزون». قلت: فمن يقاتل المهدي بعد هذا؟ فقال: «إنَّ الشيطان ينادي: إنَّ فلاناً وشيعته هم الفائزون - لرجل من بني أُميَّة -». قلت: فمن يعرف الصادق من الكاذب؟ قال: «يعرفه الذين كانوا يروون حديثنا، ويقولون: إنَّه يكون قبل أن يكون، ويعلمون أنَّهم هم المحقّون الصادقون».
(15) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 373.
(16) معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام) للشيخ عليّ الكوراني العاملي 3: 491، نقله عن كشف النوري: 222 كما في أربعين الخاتون آبادي مختصـراً، عن الفضل بن شاذان من كتابه في الغيبة. وعن: منتخب الأثر: 464 و465/ ف 6/ ب 9/ ح 5، عن أربعين الخاتون آبادي، وأشار إليه في كشف الأستار.
(17) بصائر الدرجات لمحمّد بن الحسن الصفّار: 98.
(18) الاحتجاج للشيخ الطبرسي 2: 323 و324.
(19) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 153 و154/ الباب 10/ الحديث 9.
(20) نفس المصدر/ الحديث 32.
(21) الغيبة للشيخ الطوسي: 437/ الحديث 428.
(22) الغيبة للشيخ الطوسي: 434/ الحديث 424.
(23) الفتنة الصمّاء العمياء هي التي لا سبيل إلى تسكينها لتناهيها في دهائها، لأنَّ الأصمَّ لا يسمع الاستغاثة، فلا يقلع عمَّا يفعله. وقيل: هي كالحيَّة الصمّاء التي لا تقبل الرقي. والصيلم: الداهية. (هامش المصدر).
(24)حرن بالمكان حرونة: إذا لزمه فلم يفارقه (لسان العرب). وفي نسخة: ... حيران بدل حرّان. (هامش المصدر).
(25)الغيبة للشيخ الطوسي: 438 و439/ الحديث 431.
(26)كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 273/ الباب 14/ الحديث 28.
(27) رسائل في الغيبة للشيخ المفيد 2: 13.
(28) على أنَّ البعض يبني على أنَّ الغيبة الصغرى بدأت منذ ولاته، وهذا الخلاف لا دخل له الآن في ما نحن بصدده.
(29) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 176/ الباب 10.
(30) كمال الدين: ٤٨١ و٤٨٢/ باب ٤٥/ ح ١١.
(31) الغيبة للنعماني: ١٨٢ و١٨٣/ باب ١٠/ فصل ٤/ ح ٢٠.
(32)الغيبة للنعماني: ٢١٢/ باب ١٢/ ح ٦.
(33) كمال الدين: ٤٨٥/ باب ٤٥/ ح ٤.
(34) كمال الدين: ٤٨٠ و٤٨١/ باب ٤٤/ ح ٦.
(35) كمال الدين: ٦٤١/ باب ٥٤.
(36) الغيبة للنعماني: ١٤٤/ باب ١٠/ ح ٢.
(37) الغيبة للطوسي: ٤٧٢ و٤٧٣/ ح ٤٩٣.
(38) الغيبة للنعماني: 170/ الباب 10 الحديث 6، و182/ الباب 10/ ح 18 و19، و183/ ح 20 و21؛ والغيبة للطوسي: 332/ ح 274، و334/ ح 279؛ وكمال الدين: 342/ الباب 33/ ح 24، و346/ الباب 33/ ح 32، و481/ الباب 44/ ح 7 - 10. مع الالتفات إلى أنَّ بعض هذه الروايات قد تكرَّرت في المصادر.
(39) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 289/ الباب 14/ ح 67.
(40) الغيبة للشيخ الطوسي: 391/ ح 358.
(41) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 303 و304/ الباب 16/ ح 8.
(42) نفس المصدر/ ح 9.
(43) نفس المصدر/ ح 10.
(44) الكافي للشيخ الكليني 1: 340/ باب في الغيبة/ ح 19.
(45) الغيبة للشيخ الطوسي: 243 و244/ ح 209.
(46) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 440/ الباب 43/ ح 9.
(47) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 390 و391/ الباب 38/ الحديث 4.
(48) الغيبة للنعماني: 194/ ب 10/ ح 41.
(49) مسند أحمد 5: 322.
(50) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 194.
(51) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 176/ الباب 10.
(52) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 274/ الباب 14/ ح 31.
(53) المصدر السابق/ ح 32.
(54) كمال الدين للشيخ الصدوق: 330/ ح 16.
(55) أمالي الشيخ الصدوق: 661/ رقم (1375/19).
(56) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 264/ الباب 14/ ح 13.
(57) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 310 و311/ الباب 18/ ح 2.
(58) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 264/ الباب 14/ ح 13.
(59) كتاب الفتن لنعيم بن حمّاد المروزي: 174.
(60) كتاب الفتن لنعيم بن حمّاد المروزي: 189.
(61) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 267/ الباب 14/ ح 18.
(62) ورد عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «يقوم القائم يوم عاشوراء» (كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 291/ الباب 14/ ح 68).
(63) بحار الأنوار ٥٢: ٣٠٧/ ح ٨١.
(64) كمال الدين: ٦٤٩/ باب ٥٧/ ح ٢.
(65) الملاحم والفتن لابن طاووس: ٢٩٥ و٢٩٦.
(66) الهداية الكبرى للحسين بن حمدان الخصيبي: 403 و404.
(67) الملاحم والفتن للسيِّد ابن طاووس: 120.
(68) في هامش المصدر: رجل ربعة: أي مربوع الخلق لا بالطويل ولا بالقصير. لسان العرب 5: 119/ مادَّة (ربع).
(69) في هامش المصدر: الكوسج: الذي لا شعر على عارضيه. لسان العرب 12: 88/ مادَّة (كسج).
(70) في هامش المصدر: فله: أي هزمه. النهاية لابن الأثير 3: 473.
(71) الملاحم والفتن للسيِّد ابن طاووس: 119.
(72) الغيبة للشيخ الطوسي: 464/ ح 479.
(73) تفسير العيّاشي لمحمّد بن مسعود العيّاشي 1: 64.
(74) في تفسير فرات الكوفي لفرات بن إبراهيم الكوفي: 240، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً﴾، قال: «الحسين عليه السلامـ»، ﴿فَلا يُسْـرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً﴾ [الإسراء: 33]، قال: «سمّى الله المهدي منصوراً كما سمّى أحمد ومحمّد محموداً، وكما سمّى عيسى المسيح».
(75) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 323.
(76) الكافي للشيخ الكليني 5: 47.
(77) الإرشاد للشيخ المفيد 2: 52.
(78) الملاحم والفتن للسيِّد ابن طاووس: 138.
(79) غاية المرام للسيِّد هاشم البحراني 4: 358.
(80) كتاب الفتن لنعيم بن حمّاد المروزي: 174.
(81) في كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 316 و317/ الباب 18/ الحديث 15: عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «اليماني والسفياني كفرسي رهان».
(82) كتاب الفتن لنعيم بن حمّاد المروزي: 184.
(83) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 325/ الباب 32/ ح 2.
(84) نفس المصدر/ ح 7.
(85) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 370/ الباب 35/ ح 1.
(86) كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النعماني: 170.
(87) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 371 و372/ الباب 35/ ح 5.
(88) ولعلَّها سكتت إمَّا لأنَّ غيره لم يعلم فعلاً بالحمل، وإمَّا لأنَّ الذين علموا به فقط أهل بيت الإمام (عليه السلام)، وحيث إنَّ العلم بالحمل أمر طبيعي فلا حاجة لتصريح الروايات به.
(89) الغيبة للشيخ الطوسي: 234 و235.
(90) قال الشيخ الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة: 68: ... ونقل مخالفونا من أصحاب الحديث نقلاً ظاهراً مستفيضاً من حديث جابر بن سمرة ما حدَّثنا به أحمد بن محمّد بن إسحاق الدينوري، وكان من أصحاب الحديث، قال: حدَّثني أبو بكر بن أبي داود، عن إسحاق بن إبراهيم بن شاذان، عن الوليد بن هشام، عن محمّد بن ذكوان، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن ابن سيرين، عن جابر بن سمرة السوائي، قال: كنّا عند النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال: «يلي هذه الأُمَّة اثنا عشـر»، قال: فصـرخ الناس فلم أسمع ما قال، فقلت لأبي - وكان أقرب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) منّي -: ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: قال: «كلُّهم من قريش».
(91) بحار الأنوار 52: 52 و53.
(92) تفسير الرازي 13: 47؛ وقال ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق 6: 164: كانت تخبئه في كهف في جبل بقرية برزة في الموضع الذي يُعرَف بمقام إبراهيم اليوم.
(93) قال تعالى: ﴿إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ (طه: 38 و39).
(94) بحار الأنوار 13: 25 و26/ ح 2، عن تفسير القمّي 2: 36.