(٦٦١) الدعاء المهدوي وآثاره في بناء الفكر والعقيدة - البناء التوحيدي أنموذجاً
الدعاء المهدوي وآثاره في بناء الفكر والعقيدة - البناء التوحيدي أنموذجاً
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
مقدّمة:
يُعتَبر الدُّعاء من أهمّ الأركان التي يستند إليها الإنسان في مسيرته نحو الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً﴾ (الفرقان: 77)، وورد في الرواية: «إنَّ الدُّعاء مخُّ العبادة»(1)، وبعد هذا لا يمكن لنا بأيِّ حالٍ من الأحوال إغفال الدُّعاء أو القفز عليه رضوخاً لبعض الإشكالات التي تثار هنا أو هناك. إذ أنَّه ومع وضوح دعوة القرآن الكريم والروايات الشـريفة إلى التزام منهج الدعاء عنصـراً ثابتاً ويومياً في حياة الإنسان المؤمن ظهرت عندنا بعض النظريات التي ترفض هذا المنهج وقد تعتبر منه منهجاً مخالفاً حتَّى للتوحيد.
الدعاء سبيل الموحّدين:
تتعدَّد ألسنة الذاهبين إلى رفض الدُّعاء وأهمّيته في نظام الارتباط مع الله سبحانه وتعالى وتأثيره على الحياة الدنيويَّة والأُخرويَّة معاً أو أحدهما.
فطائفة من هؤلاء يذهبون إلى أنَّ الدعاء يصطدم مع نظام الأسباب والمسببات الذي خُلِقَ الكون على أساسه وجرت مقادير الأُمور على نظامه، فما دام لكلِّ شيء سبب وأنَّ هذا السبب لا يختلف ولا يتخلَّف، فالدعاء على هذا الأساس يكون من قبيل الأُمور العبثيَّة، فليس هو لا حاجة له وحسب، بل قد يستلزم التصـرّف العبثي، والذي قد يجرُّ في بعض الأحيان إلى الابتلاء بالمحذور الشـرعي ومخالفة الأحكام الإلهيَّة الموضَّحة في محلِّها.
والجواب عن هذه الإشكاليَّة يتَّضح من خلال عدَّة زوايا:
فمن زاوية نقول: إنَّ هذا النظام الأسبابي ليس حتمياً بمعنى أنَّه ليس بنحو لا يختلف ولا يتخلَّف، وإنَّما هو بنحو الاقتضاء، أي بمعنى أن لو جرت مقادير الأُمور دون دخول عناصر أُخرى لها التأثير في التغيير لكان الأمر مبرماً ويجري النظام كما هو.
ومن زاوية أُخرى فإنَّ هذا الكون الخاضع لنظام الأسباب والمسبَّبات هو بجملته مخلوق لله تعالى القادر الحكيم وهو الذي سنَّ أثر الدعاء في التغيير، كما دلَّت عليه الآيات، على ما يأتي، فالذي خلق الأشياء وأوجدها، وسنَّ نظام السببية، هو نفسه الذي أَمَرَ بالدعاء وحثَّ عليه وبيَّن من خلال جملة وافرة من آيات ذكره وأحاديث أوليائه أنَّ الدعاء يمتلك من القدرة الهائلة على تغيير وتبديل حتَّى ما أُبرم إبراماً، فمن يذعن أنَّ الخالق لنظام الأسباب والمسبَّبات هو الله لا بدَّ أن يذعن أنَّه هو بنفسه تعالى خالق لنظام الدعاء وآثاره وآمر به. وبعبارة واضحة: إنَّ الدعاء نفسه يُعبِّر عن مفردة من مفردات نظام الأسباب والمسبَّبات وليس هو مخالفاً لها أو خارقاً لنظامها.
هذا إذا كان حديثنا عن الأثر التكويني المترتّب على الأشياء وتغييرها بالدعاء، أمَّا إذا تحدَّثنا عن الآثار المترتّبة على الذنوب والمعاصي والتي هي بطبيعة الحال متأخِّرة زماناً عن فعل المعصية، فالذنب الصادر من العاصي في الدنيا يُعاقَب عليه في الآخرة وبعد صدور الذنب يكون هناك مجال واسع لأن يستغفر ويتوب ويدعو الله تعالى أن يمحو الآثار العقابية المترتّبة على معصيته، فهو وإن استحقَّ العقاب إلَّا أنَّ منجّزيته متأخِّرة، والدعاء يُحدِث أثره في الزمان الواقع بينهما، وهذه الصورة أوضح حالاً في كون الدعاء يُؤثِّر في رفع الأثر المترتّب وإن كان تكوينياً على المعصية من الصورة المتقدّمة.
وطائفة أُخرى تقول: إنَّ الدعاء لا أثر له، ليس لعدم المقتضـي فيه، كلَّا، بل الدعاء قادر على التغيير ولكن المؤمن الموحِّد الذي يؤمن بأنَّ كلَّ ما يقع عليه من ابتلاءات وامتحانات ومصائب هي لأجل رفع مرتبته وزيادة حظّه في القرب من الله تعالى، فيكون الدعاء بعد هذه المعرفة خدشاً في توحيد الموحِّد وهبوطاً في مرتبة إيمانه، فالله (عزَّ وجلَّ) العالم بحال المؤمنين يُغنيهم عن سؤاله ورفع ما وقع عليهم بسببهم أو بسبب غيرهم، فمن كان موحِّداً عالي الدرجة مؤمناً مكتمل الإيمان لا يدعو.
والجواب عن هذا الإشكال له عدَّة مقامات نقتصـر منها على واحد، وبيانه: أنَّ مرتبة التوحيد وسموّها وعلوّ الإيمان ودرجته نابع من أصل العبودية والخضوع فمتى ما تجلَّت العبودية بأبرز صورها ارتقى التوحيد وارتفع الإيمان إلى أعلى درجاته، وبعد أن أمر الله تعالى وحثَّ وأكَّد على الدعاء كان لزاماً على المؤمن أن يأخذ به سبيلاً ليرفع مرتبته وإن كان لا يرجو أثره المادّي - ولو تَنَزُّلاً -، فالمدار في كون الإيمان يسير في سُلَّم التكامل للوصول إلى أعلى درجة منه هو العبودية التي يُمثِّل الدعاء حجر الزاوية فيها.
هذا وهناك إشكالات أُخر وإن اختلفت حدودها الوسطى ككون الله عالماً بالغيب فإنَّه يقتضـي عدم الدعاء، وكونه تعالى قادراً يقتضي عدمه أيضاً، وهكذا.
إلَّا أنَّنا لا نخوض في تفصيلها فضلاً عن ردِّها بعد أن بيَّنّا فيما تقدَّم المفصل الأساس الذي يتَّكئ عليه الرافضون للدعاء وردِّه.
وفي قبال هذا الرفض المطلق تأتي مقولة أُخرى تتَّكئ على جملة من النصوص القرآنية في الالتجاء إلى الدعاء وقبوله بشكل مطلق بعيداً عن أيِّ أسباب ومقوّمات أُخرى، ومن بين ما يُعتَمد عليه من الآيات قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ (آل عمران: 37)، وقوله تعالى:﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ (الطلاق: 3)، وقوله تعالى: ﴿وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ (الشعراء: 80)، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق: 2 و3)، فهذه وغيرها من الآيات يُستَظهر منها - عند هؤلاء - التوجّه إلى الدعاء، والتفرّغ للعبادة، وترك السعي في تحصيل الكسب.
وهو قول لا يمكن المصير إليه.
لأنَّنا نعتقد أنَّ هناك نظاماً قائماً على أساس الأسباب والمسبَّبات، وأنَّ هذا النظام التكويني يتأثَّر بالدعاء بشكل واضح، حاله حال تأثير الأشياء الأُخرى في النُّظُم التكوينية، فلا يمكن أن نُلغي هذا النظام ونعتمد على الدعاء فقط. فكما أنَّ للدعاء قسطاً من التأثير في مجريات العالم كذلك لبقيَّة الأسباب أقساطها الوافرة في التأثير، والوسطية هي قوام الأشياء - فهي نظرية أهل البيت (عليهم السلام) في نظام الارتباط مع الذات والصفات والآثار المرتبطة بهما -، فالدعاء له أثره كما أنَّ العمل له أثره، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه العقلاء.
الدعاء لبُّ التوحيد:
التوحيد لله تعالى هو توحيده لصفاته العُلى وأسمائه الحسنى، وأنَّه إله واحد لا شريك له ولا شبيه، والموحِّد هو من أقرَّ بهذه الصفات وآمن بها على بصيرة ومعرفة ويقين وإخلاص، ومن لم يؤمن بذلك فهو ليس بموحِّد، وبين هذه وتلك رُتَبٌ لا يحصيها إلَّا الله تعالى.
وقد تحدَّث جملة من العلماء عن أقسام التوحيد وعن حالات وصفات وشرائط وأُسس ينتظم عليها توحيد الموحِّدين.
والذي نعتقده أنَّ المنظومة الدينية بأُصولها وفروعها وآدابها وسننها هي دائرة بين دفَّتي التوحيد، فكلُّ فعل أمر به الشارع المقدَّس يُمثِّل حلقة من حلقات التوحيد ومرقاة من مراقِ سُلَّمه إذا آمن بها وأدّاها المكلَّف، وفي نفس الوقت فإنَّ كلَّ نهيٍ يُرتَكب أو عمل يُؤتى به ممَّا نهى الشارع عنه ولم يُحبِّذ التلبُّس به فإنَّه يوجب نزول الفرد المكلَّف وخسرانه درجة من درجات التوحيد.
وممَّا تحدَّثت عنه الروايات الشـريفة أنَّ النبيَّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) بُعِثَ إلى الأنبياء (عليهم السلام) وهم في عالم الأرواح، ودعاهم هناك إلى توحيد الله وطاعته واتِّباع أمره(2).
فالطاعة قبل عالمنا تُمثِّل أمارة التوحيد وعلامته، فمن يرد أن يرقى في سُلَّم كمال التوحيد عليه أن يسير في سُلَّم العبودية، وأن يذوب بعد المعرفة في عالم الطاعة.
ويُمثِّل الإمام المهدي (عليه السلام) منتهى حلقات التوحيد، وعلى يديه تظهر للناس عياناً مراتب ما خفي عليهم من توحيد الله تعالى، قال تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (التوبة: 33).
ففي صحيح محمّد بن مسلم، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ﴾ (البقرة: 193)، فقال: «لم يجئ تأويل هذه الآية بعد، إنَّ رسول الله رخَّص لهم بحاجته وحاجة أصحابه، فلو قد جاء تأويلها لم يقبل منهم لكنَّهم يقتلون حتَّى يُوحَّد الله (عزَّ وجلَّ)، وحتَّى لا يكون شرك».
هذا النصُّ الشـريف يُبرز لنا أنَّ كمال التوحيد وتمامه وظهوره للعيان سيكون على يد الإمام المهدي (عليه السلام).
فالتوحيد الذي ينشده الكلُّ، والذي يعتمد على مؤشّرات عبادية وقُربية يُستكشف من خلالها - أي المقدّمات - مقامات الموحِّدين، إذ يُمثِّل الدعاء في هذه المنظومة التوحيدية اللُّبَّ.
إذ إنّ الدعاء يمثّل إشعار النفس الإنسانية بالافتقار، وضرورة اللجوء والالتجاء إلى الوجود الغنيِّ المفيض، وهذه الحقيقة عينها حقيقة التوحيد(3)، فيمكن أن نقول: إنَّ حقيقة الدعاء هو التوحيد بعينه، لأنَّ الدُّعاء(4) يُعبِّر عن حالة الانكسار والتذلّل واللجوء والعبوديَّة إلى ذلك الوجود الكريم المفيض الغنيّ القادر، وإذا دقَّقنا النظر في الآية الكريمة الآنفة الذكر نلاحظ أنَّها تلمح إلى هذا المعنى، إذ تُعبِّر أنَّ الله لا يعبأ بالعبد ما لم يكن صاحب دعاء، بينما الآيات القرآنية الكريمة الأُخرى تقول: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْـرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ﴾ (النساء: 48)، فبملاحظة الآيتين وإرخاء العنان لبصـر القلب ليجول في الأحاديث الشـريفة(5) يجد المرء هذه الحقيقة وهي أنَّ الدعاء لُبُّ التوحيد ماثلة أمام عينيه.
جاء في (أُصول الكافي/ كتاب الدُّعاء) عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال: «أفضل العبادة الدعاء»(6)، وفيه عن أبي عبد الله (عليه السلام): «الدُّعاء عمود الدين»(7).
وفي (الوسائل) عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): «الدُّعاء مخُّ العبادة»(8).
فهذه الأحاديث الشـريفة خصوصاً الأخير منها تُعبِّر عن هذه الحالة التي ذكرناها، فعمود الدين وأفضل العبادة، بل مخّها هو الدعاء، ونحن نعلم أنَّ المخَّ هو لبُّ العقل - ليس المراد به المادّي، بل ذاك الذي تُعبِّر عنه بعض الروايات بروح العقل وجوهره، فالدعاء على هذا المعنى يُمثِّل جوهر العبادة التي هي عمود الدين -.
فعلى هذا تكون حقيقة الدُّعاء في الشـريعة هي روح العبادة، وهو مخُّها، والعبادة بلا مخّ كإنسان من غير عقل.
فأرقى حالات الإنسان وهي العبودية التي تجمَّل بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم):ـ ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ﴾ (الحديد: 9)، لا تكون إلَّا بذلك المخّ، ولا تقف إلَّا على هذا العمود، وهو الدُّعاء.
فحقيقة الدُّعاء بكلمة واحدة أنَّه روح التوحيد، وحقيقة الإيمان، وقلب الإسلام.
فهل يمكن للإنسان أن يصل إلى الله سبحانه وتعالى دون هذه الحقيقة ودون الاعتماد عليها؟
وسائل الشريعة في التقرّب إلى الله تعالى:
أوجدت الشـريعة المقدَّسة جملة من الوسائل ليتقرَّب الإنسان من خلالها إلى الله سبحانه وتعالى، والمدار في كلِّ هذه الوسائل القرب منه سبحانه.
وقد تشكَّلت المنظومة الدينية على أساس مجموعة من العبادات والقوانين التي تُنظِّم الحياة بما يمكن للإنسان الوصول بها والتقرّب إلى ساحة القدس الإلهي، وبنظرة مجملة على المنظومة الدينية نجد أنَّ هناك أُصول الدِّين التي يجب الاعتقاد بها، وهي تُقرِّب إلى الله سبحانه وتعالى، إذ بها يثبت وجود الله تعالى وصفاته وحسن أفعاله. وبدون إثبات وجوده تعالى كيف يمكن التقرّب إليه؟!
ولنأخذ على كيفية تكوينها للتوحيد في ذات الفرد وتنميتها له نماذج عدِّة:
الصلاة وتنمية التوحيد:
إذا نظرنا إلى الصلاة كطقس عبادي وما أولت الشـريعة المقدَّسة لها من أهمّية، إذ جعلتها عمود الدِّين(9)، وهذا الجعل التشـريعي ذو الآثار التكوينية يكتنز في حقيقته جذوراً توحيديةً تُؤهِّل الفرد للرقيِّ في سُلَّم التوحيد بشكل تكاملي أسرع ممَّا في غيرها، إذ تبدأ الصلاة بأن يُؤهِّل الإنسان نفسه للقاء الله، وتصوَّر معي شخصاً يذهب للقاء ذاتٍ تملك جميع مقدَّراته، وقادرة على تغيير جميع شؤونه، فلو نُظِرَ إليها هكذا فكيف سيكون استعداد الفرد لها؟!
ولم تترك الشريعة المقدَّسة مكلَّفيها باختيار الطريقة التي تُنظِّم هذا اللقاء القدسي، والذي يمتلك القدرة على أن يَعرُج بأرواح المصلِّين - إذا كانت صلاتهم ضمن ما أوصت به الشـريعة المقدَّسة ظاهراً وباطناً - إلى الملكوت الأعلى ومحلِّ القدس.
فبدأت الشـريعة المقدَّسة من مقدّمات هذا اللقاء والاستعداد له، فبعد أن طوى المؤمن مراحل المعرفة النظرية والعملية من خلال العقيدة الحقَّة التي توصَّل إليها عن جهد ونظر وفكر، جاءت مرحلة التطبيق وبدأت هنا المقدّمات لأُولى مراحل الممارسة العملية في درب التوحيد.
إذ إنَّ أوَّل خطوةٍ يسير فيها العاشق لهذا اللقاء التوحيدي الفريد، والذي يمتلك قدرة إزالة جميع الأدران العالقة(10) هي أن يتَّجه صوب الطهارة الظاهرية لينسلَّ منها إلى الطهارة الباطنية، فيذهب إلى الوضوء ويلتمس الماء الذي وصفه القرآن بأنَّه مطهِّر الأشياء(11)، فيغترف من ماء يمتلك القدرة على إزالة الذنوب ومحوها إن كان قرين هذا الماء النازل - على وجهه ويديه والممسوح ببقيَّته رأسه وقدميه - الإخلاص والعبودية.
وما أن يتمَّ السائر في طريق لقاء العشق والتوحيد وضوءه هذا حتَّى تحيط به هالة النور(12) يحجبه عن كلِّ ظلمة، ليرقى به في سُلَّم الذوبان والعبودية، ليصعد مدارج التوحيد.
فيبدأ بمدارج الصلاة من التوجّه بعد أن نزَّه مكانه وملبسه عن كلِّ ما يمنعه ويُؤثِّر في عروجه، فيُطهِّر المكان والثوب والبدن، ثمّ يتوجَّه صوب قبلة التوحيد ووجهة العشق، ليرفع يديه مؤذِّناً، ويخاطب غيره: أنَّني سأتوجَّه في سفر التوحيد مبتدئاً هذا السفر بجملة (الله أكبر) التي تُمثِّل مفتاح(13) باب العروج، ليطوي بعد هذه المرقاة مراقِ هذا السُّلَّم من خلال تلك الأذكار التي يترنَّم بها، وكأنَّها لغة خاصَّة في هذا العالم لا يسمعها إلَّا من قصد أن يُوحِّد بها معبوده، تلك اللغة التي قضـى الله تعالى أن يجعلها خاصَّة بهذا الطريق، ليُجسِّد بعد هذا الخطاب لوناً من الخضوع وأيّ خضوع غاية التذلّل الذي فيه منتهى الرفعة من خلال الركوع والسجود، ليشهد بعدهما أنَّه يتشـرَّف بأن يحمل وسام العبودية، وما أن ينتهي من عروجه هذا حتَّى يُسلِّم على جميع من سار في هذا الدرب من أولياء وصلحاء وملائكة وأنبياء.
إنَّها حقيقة توحيدية قادرة على أن تُنمّي ذات الفرد، بل والمجتمع، وتُحصِّنهم في منزلقات الطرق المتعرِّجة، لأنَّها إن تمَّت على أُصولها وضبطها السائرون على نهجها كان أقلُّ مراتبها أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، والفحشاء والمنكر لغة من لغات التكبُّر والتغطرس وعبادة الذات وتفرّدها وفرعنتها الذي يقف بالضدِّ من طريق التوحيد ويُضعِفه.
وهناك المنظومة العملية كالتجارة والمعاملات وبناء الأُسرة وبناء المجتمع، فالتجارة مثلاً حركة تنموية للبناء الاقتصادي والتوسّع المالي، ولها شروطها وضوابطها العقلائية، فعندما يأتي الشارع بمقتضى سلطنته ويفرض لتقنينها شروطاً تنظيمية وأخلاقية، ويُلزم العباد بهذه المنظومة المعاملاتية على مختلف الأصعدة وفي جميع جوانب الحياة المختلفة، فإنَّ التوجّه التوحيدي من هؤلاء الأفراد والذي يُشكِّل نموذجاً حيّاً ومتجسِّداً يمكن لنا أن نُطلِق عليه بالتوحيد المعاملاتي، إذ أنَّ التاجر وصاحب المصنع، بل حتَّى العامل بمقتضـى التزامه بهذه الضوابط وآليات العمل وفق المنظومة الدينية فإنَّه يتحدَّث بلغة خاصَّة - لغة توحيدية - مفادها: إنّي أترك التشـريعات غير السماوية، وأترك كلَّ تشـريع لا يرتبط بالإله الواحد، وأتوجَّه إلى قوانين ونُظُم مشرَّعة من قِبَل إله واحد عالم وقادر وحكيم ومدبِّر.
فإنَّ هذه اللغة التي يتحدَّث بها هذا العبد هي لغة التوحيد في التشـريع في جانبه المعاملاتي، وهذا توحيد حسّاس ومهمّ، وينبغي أن نلاحظ صعوبة الالتفات إليه، وفي نفس الوقت أن لا نُهمِل رعايته وتنميته، فكما أنَّنا نداري ونتعب ونُطوِّر ونُنمّي توحيدنا في الأسماء والصفات وفي العبادة والتوجّه، فلا بدَّ أن نُنمّي توحيدنا المعاملاتي، إذ أنَّه لا يختلف عن أخواته وإخوانه من أصناف التوحيد من حيث الأثر الروحي وما يُرتِّبه من ثواب على هذا الاعتقاد.
وهنا يأتي التساؤل الجوهري، ما هي أكثر الوسائل تقريباً إلى الله سبحانه وتعالى؟
إذا رجعنا إلى القرآن وجدنا الله تعالى يقول فيه: ﴿وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ﴾ (البقرة: 186).
فنجد أنَّ تحصيل القرب من الله سبحانه يحصل بالدعاء، ويُؤكِّد ذلك ما روي عن أبي عبدالله (عليه السلام) حيث قال: «عليكم بالدُّعاء فإنَّكم لا تقربون بمثله»(14).
فالآية والرواية تدلّان على حقيقة كون الدعاء هو الطريق الأقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا جعلنا المنظومة الدينية هو البدن فإنَّ روح ذلك البدن هو الدعاء، ولا حياة للبدن بلا روح، وإذا جعلنا المنظومة الدينية هي روح الإنسان فإنَّ مخَّ ذلك الروح ولبَّه هو الدعاء، ولا روح بلا مخّ.
إلى هنا توصَّلنا إلى حقيقة الدعاء وأهمّيته في المنظومة الإسلاميَّة بشكل مجمل، وفي الحقيقة هذه مقدّمة للدخول في الموضوع.
كيف يقوم الدعاء بعملية التنمية للفرد والمجتمع؟
إنَّ لكلِّ ظاهرة من ظواهر الوجود مجموعة من القوانين تحكمها، وظاهرة الدعاء من بين هذه الظواهر، وقد مرَّ بنا أنَّ الدعاء لُبُّ العبادة ومخُّ الدين، ولكي يأخذ الدعاء بأيدينا ليوصلنا إلى الله سبحانه وتعالى لا بدَّ أن تكون هناك مجموعة من القواعد تضبط هذه الحقيقة وتجعلها مؤثِّرة وفاعلة.
وإذا رجعنا إلى الروايات الشـريفة وجدنا أنَّها تُعطي للدعاء خصائص لا تُعطيها لغيره من وسائل القرب الإلهي، فتصفه بعض الروايات(15) بأنَّه مفاتيح النجاة، وأنَّه نور السماوات والأرضين، وأنَّه سلاح الأنبياء. وهذه الأوصاف وغيرها من الأوصاف الروائية إنَّما تريد أن تُعبِّر عن حالة يتمتَّع بها الدعاء وعن خصوصية يمتاز بها، وهي أنَّ له قدرة وفاعلية، على حدِّ تعبير بعض الروايات إنَّه يرد القضاء(16) المبرم، فهذه المعاني الروائية تريد أن تفتح لنا ولأبصارنا نافذة نطلُّ من خلالها على تلك الحقيقة النورانية التي يمتلكها الإنسان، والتي لها القدرة على تغيير كلِّ شيء والتأثير في كلِّ شيء إلى حدٍّ أنَّها تُغيِّر ما قُدِّر وأُبرم، وهذه الخصوصيات لا يمكن أن تكون إلَّا من إنسان عارف بها أوَّلاً ملتفت إلى تأثيرها ثانياً، يحمل أهدافاً تجعل منه إنساناً كالأنبياء في نظرته إلى تحقيق الأهداف، لأنَّ الأنبياء كانوا يملكون(17) هذا السلاح الذي له القدرة على التغيير والتأثير إلَّا أنَّهم لم يُفعِّلوه إلَّا لصالح المجتمع، وصالح ما يأخذ بالمجتمع إلى القرب إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا يعني أنَّه لا بدَّ من الإخلاص(18) بالدعاء، وأنَّ القلب الساهي والمشغول لا يُقبَل منه الدعاء(19).
فعملية تنمية الدعاء للفرد والمجتمع أسماها وأجلَّها لا تكون إلَّا من العارف الملتفت، صاحب الأُفق الواسع.
وهنا يأتي تساؤل: هل يمكن أن نضيف عنصـراً ذا تأثير أكبر في فاعلية الدُّعاء وقدرته على تنمية الفرد والمجتمع أو لا؟
نرجع إلى القرآن ونستفتيه في ذلك، فإنَّنا نجده يقول: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ (النساء: 65)، فنجده ينهانا في قوله تعالى: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾ (النور: 63)، عن جعل دعائنا كدعائه إذ هذه الآية تُعطي معنىً عاماً بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا يساوى مع غيره في كل شيء بما فيه الدعاء(20)، وحيث إنَّ حديث الثقلين(21) فضلاً عن كثير من الروايات تجعل ذلك في الأئمَّة عليهم السلام(22) وفي الإمام المهدي عليه السلام(23) خصوصاً، فهو إمام الزمان.
وهذا يقتضـي بطبعه وجود خصوصية زائدة مميّزة له (عليه السلام) فضلاً عن آبائه (عليهم السلام) في كلِّ شيء، ومن تلك الأشياء التي لهم فيها خصوصية هو خصوصية دعائهم وتميّزه عن دعائنا، وهذا ما نصَّت عليه الآية المتقدِّمة بتحذير المؤمنين من أن يجعلوا دعاء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) - أي دعاء إمامهم - كدعاء بعضهم لبعض، فالآية تُحذِّر المؤمنين من مغبَّة الوقوع في محذور مساواة دعائهم لدعاء إمامهم.
فلا بدَّ أن نلتفت إليها ونجعلها من ضمن محاسبات تنمية الدعاء للذات والمجتمع حيث إنَّها تعني الخصوصية(24) في المعصوم، وأنَّ لديه حالة الارتباط المباشر(25) مع الله سبحانه وتعالى ومن دون وسائط، ويكون كلامه مع الله تعالى من خلال الدعاء مستجاباً بلا إشكال.
نماذج توحيديَّة في الدُّعاء المهدوي:
وينبغي أن يلتفت قبل الخوض في غمار هذا البحث أنّ للدعاء المهدوي نماذج ثلاثة تجدها مبثوثة في طيَّات البحث وهي:
1 - الدعاء من الإمام (عليه السلام) للناس أو عليهم.
2 - الدعاء من المؤمنين للإمام (عليه السلام).
3 - الدعاء من المؤمنين لحوائجهم بالإمام (عليه السلام)، سواءً كان ذلك بأدعية واردة عنه أو بغيرها.
يُمثِّل الدعاء المهدوي نموذجاً من أرقى النماذج الارتباطية التي تُهيّئ الأرضية الخصبة للبناء التوحيدي لدى الأفراد والمجتمعات، فالمطالعات للمخزون الدعائي المرتبط بالإمام المهدي (عليه السلام) يوقف القارئ على كنوز وجدانية توحيدية مختزنة فيه قلَّ نظيرها في مكامن رفد وجداني آخر.
إنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يُشكِّل للداعي من خلال منظومة الدعاء المهدوي في بعدها التوحيدي عنصـراً إلهياً تجسَّدت فيه إرادة السماء في بناء الكون توحيدياً، فهو عصارة تجارب الأنبياء التوحيدية ووريث علمهم اللَّدنّي.
فالارتباط به على هذا النحو يُوفِّر للأفراد، بل والمجتمعات حالة التنامي الدائم والتصاعد الروحي واكتشاف الذوات.
فالدّاعي للإمام المهدي (عليه السلام) يُخاطِب الشخص الأوَّل في الوجود، صاحب القدرة المطلقة والخُلُق السامي، لكي يُهيِّئ له فُرَص ممارسة دوره في بناء نفسه وتجلية روحه للوقوف على جادَّة طريق التوحيد.
ومن جهة الإمام فهو الشخص الوحيد المخوَّل من قِبَل الله تعالى، والذي يملك الصلاحيات التامَّة في إعانة الأشخاص على تخطّي الصعاب في هذا المضمار.
فالقضيَّة متحقِّقة من جميع اتِّجاهاتها.
ولم يبقَ فيها إلَّا أن نتوجَّه بالدعاء بأرضية الإخلاص لنيل المطلوب.
وفيما يلي نماذج من النصوص الشـريفة التي تحدَّثت عن أثر الإمام المهدي (عليه السلام) في التنمية التوحيدية، وكيف يكون الدعاء له أو مقروناً به موجباً للآثار العظيمة.
النموذج الأوَّل: الآثار التكوينية للإيمان المهدوي:
النصوص التي تتحدَّث عن الآثار التكوينية والكبيرة لمن يؤمن بالإمام المهدي (عليه السلام)، وأنَّ هذا الإيمان من هؤلاء الأفراد بإمامهم الغائب له حالة لا يراها الناس، بل قد لا يؤمنون بها ولا يُصدِّقونها، إذا لم يستهزؤوا بها ويصفوا من يؤمن بها بالخرافي أو الرجعي الباطني.
فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فيا طوبى للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان، إنَّ أدنى ما يكون لهم من الثواب أن يناديهم الباري (جلَّ جلاله) فيقول: عبادي - عبيدي - وإمائي آمنتم بسـرّي وصدَّقتم بغيبتي فأبشـروا بحسن الثواب منّي، فأنتم عبادي وإمائي حقّاً منكم أتقبَّل وعنكم أعفوا ولكم أغفر وبكم أسقي عبادي الغيث وأدفع عنهم البلاء ولولاكم لأنزلت عليهم عذابي...»(26).
ويُستفاد من الحديث عدَّة أُمور:
الأوَّل: تقسيم العباد على قسمين: الأوَّل صاحب كمالات وملكات ومؤهّلات عالية جدّاً تكون سبباً في بقاء القسم الثاني وغفران ذنبه وديمومة الحياة له، ولولا القسم الأوَّل لما كان للقسم الثاني كرامة في الحياة وفوز في المعاد.
الثاني: أنَّ القسم الأوَّل من العباد - الحقيقيين الموحِّدين العارفين حقّ المعرفة - ملاكهم في تحصيل هذه المرتبة من القرب الإلهي وامتلاك المؤهّلات العليا هو الثبات على إمامة الإمام المهدي (عليه السلام) في زمان غيبته.
وهذا العنصـر - الإيمان بالإمام المهدي في زمان غيبته - حسب هذا النصّ له قدرات تكوينية خفيَّة لا يعرفها فضلاً عن أن يراها إلَّا من تأهَّل لمراتب إيمانية عالية.
الثالث: أنَّ أدنى مرتبة يملكها المؤمنون بغيبة الإمام المهدي (عليه السلام) هي:
1 - أنَّ الله تعالى يُكلِّمهم - يناديهم الباري -، فلهم بهذا الإيمان صفة الحديث من قِبَل الله تعالى.
2 - أنَّ الله تعالى يُبشِّرهم بحسن الثواب منه، وهذا بعد أُخروي.
3 - أنَّهم عباد الله تعالى الحقيقيون سواء من كان منهم ذكراً أم أُنثى.
4 - أنَّ أعمالهم وأفعالهم ودعاءهم وكلَّ ما يصدر منهم فهو مقبول عند الله تعالى.
5 - أنَّ عفو الله تعالى وغفرانه ثابت لهم.
6 - أنَّ الأرزاق - نزول الغيث - للعباد الآخرين إنَّما يكون بسببهم.
7 - أنَّهم يُشكِّلون المانع من نزول العذاب على المؤمنين والعباد الآخرين.
8 - أنَّ البلاء يندفع بهؤلاء المؤمنين الحقيقيين عنهم وعن غيرهم.
هذه هي أدنى مرتبة وآثارها التي يملكها المؤمنون بغيبة الإمام (عليه السلام)، والتي هي أقلّ ما لهؤلاء، إنَّما جاءت بسبب إيمانهم بالغيبة، فكيف هي الآثار في المراتب المتوسّطة أو العليا؟
وما هي يا ترى الآثار التي لمرتبة الإمام عليه السلام؟ وكيف سيكون دعاؤه للمؤمنين به وآثار تنميته لتوحيد المؤمنين؟
هذا إن قصـرنا نظرنا بمقتضـى النصّ المتقدِّم على الآثار التكوينية المترتّبة على الدعاء، ولاحظنا كيف أنَّ أدنى مراتبه هي في نظرنا القاصر عالية جدّاً، وإذا لاحظنا نصوصاً أُخرى كدعاء الافتتاح الذي كان يدعو به السفير الثاني (رضي الله عنه) والذي جاء فيه بعد حمد الله وذكر الأئمَّة (عليهم السلام) وآثارهم الاعتقادية على الدعاء واستجابته ذكر القائم (عليه السلام) في عدَّة مقاطع منها: «اللَّـهُمَّ أَعِزَّهُ وَاعْزِزْ بِهِ، وَانْصُرْهُ وَانْتَصِـرْ بِهِ...، اللَّـهُمَّ أَظْهِرْ بِهِ دينَكَ...، اللَّهُمَّ المُمْ بِهِ شَعَثَنا، وَاشْعَبْ بِهِ صَدْعَنا، وَارْتُقْ بِهِ فَتْقَنا، وَكَثِّرْبِهِ قِلَّتَنا، وَأَعْزِزْ بِهِ ذِلَّتَنا، وَاغْنِ بِهِ عائِلَنا، وَاقْضِ بِهِ عَنْ مَغْرَمِنا، وَاجْبُرْ بِهِ فَقْرَنا، وَسُدَّ بِهِ خَلَّتَنا، وَيَسِّـرْ بِهِ عُسْـرَنا، وَبَيِّضْ بِهِ وُجُوهَنا، وَفُكَّ بِهِ أَسْرَنا، وَأَنْجِحْ بِهِ طَلِبَتَنا، وَأَنْجِزْ بِهِ مَواعيدَنا، وَاسْتَجِبْ بِهِ دَعْوَتَنا، وَأَعْطِنا بِهِ سُؤْلَنا، وَبَلِّغْنا بِهِ مِنَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ آمالَنا، وَأَعْطِنا بِهِ فَوْقَ رَغْبَتِنا، يا خَيْرَ المَسْؤولينَ وَأَوْسَعَ المُعْطينَ، اشْفِ بِهِ صُدُورَنا، وَأَذْهِبْ بِهِ غَيْظَ قُلُوبِنا، وَاهْدِنا بِهِ لِمَا اخْتُلِفَ فيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدي مَنْ تَشاءُ إِلى صِراط مُسْتَقيم، وَانْصُـرْنا بِهِ عَلى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّنا إلـهَ الْحَقِّ آمينَ».
فهذه النصوص القدسية يُعبِّر كلُّ فقرة من فقراتها عن دعاء مهدوي يُنمّي الذات التوحيدية من خلال عقيدة الارتباط المهدوي، وأنَّ لولاها لما أمكن تحصيل هذه القضايا والطلبات والمنايا.
وبهذه المقاطع تستجلى أكثر عقيدة التنمية التوحيدية للإمام (عليه السلام).
النموذج الثاني: المعرفة للإمام موجبة لدعاء غير محجوب:
ذكرت جملة من الأحاديث أنَّ المعرفة والإيمان لا يكونان في فرد ما لم يؤمن بالإمام (عليه السلام)، وأنَّ ادِّعاء الإيمان لا يصحُّ من شخص ما لم يكن هذا الادِّعاء مقروناً منه بالاعتقاد والإيمان به (عليه السلام) على حدِّ تعبير الآية: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات: 14).
فتكون معرفة الإمام والإيمان به هي الأرضية الأُولى التي ينطلق منها الفرد لتنمية إيمانه، إذ بدونهما لا إيمان أصلاً - لا يوجد مقتضٍ لكي يُبحَث عن وجود مانع من عدمه -.
ومن بين تلك النصوص:
عن ابن أذينه، عن أحدهما عليهما السلام أنَّه قال: «لا يكون العبد مؤمناً حتَّى يعرف الله ورسوله والأئمَّة كلهم وإمام زمانه، ويردّ إليه ويُسلِّم له...»(27).
وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «إنَّما يعرف الله ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت، ومن لا يعرف الله (عزَّ وجلَّ) ولا يعرف الإمام منّا أهل البيت فإنَّما يعرف ويعبد غير الله، هكذا والله ضلالاً»(28).
فالإيمان بمقتضـى هذه النصوص الشـريفة مرهون بالإمام المهدي (عليه السلام)، لأنَّ الإمام هو السالك بالعباد في طرق الدنيا، بل عن طرق الأرض فضلاً عن طرق السماء، فمن يرد أن يثبت إيمانه ويعظم وينمي لا بدَّ له من قائد يقود إيمانه للرقّي والتنمية، ولا بدَّ أن يكون هذا القائد عارفاً بتلك الطرق ومنعرجاتها، وأن تكون معرفته تلك لدُّنّية، ليأمن السالكون خلفه الوقوع في منزلقات الطريق، وقد أشار الإمام الباقر (عليه السلام) إلى هذا بحديثه إلى أبي حمزة قائلاً له: «يخرج أحدكم فراسخ فيطلب لنفسه دليلاً وأنت بطرق السماء أجهل منك بطرق الأرض، فاطلب لنفسك دليلاً»(29).
والدعاء لتنمية الإيمان سفر في طرق السماء، فلا بدَّ أن نطلب له دليلاً.
فمن هو الدليل؟
دعاء الإمام (عليه السلام) هو الدليل:
يجيب الإمام الرضا (عليه السلام) بقوله: «الإمام الدليل على المسالك، من فارقه هالك...، الإمام أمين الله في أرضه، وحجَّته على عباده، وخليفته في بلاده، الداعي إلى الله»(30).
وفي حديث للإمام الصادق (عليه السلام) يروي فيه خطبة للنبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) جاء فيها: «والنصيحة لأئمَّة المسلمين واللزوم لجماعتهم، فإنَّ دعوتهم محيطة من ورائهم...»(31).
فإنَّ دعاء الأئمَّة (عليهم السلام) للمؤمنين يكفيهم ويحيط بهم من جوانبهم ويحفظهم، بل إنَّ الإمام (عليه السلام) يُصـرِّح بذلك في توقيعه المروي في (الاحتجاج)(32): «لأنَّنا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يُحجَب عن ملك الأرض والسماء، فليطمئنَّ بذلك من أوليائنا القلوب...».
فالإمام من خلال هذا النصّ الشـريف ضمن الدعاء لأوليائه الذين تحدَّثت النصوص عنهم في الأمر الأوَّل، وأنَّ هذا الدعاء منه (عليه السلام) موجب لاطمئنان نفوسهم - إن كانوا أولياء حقّاً -، وهذا الدعاء سمته أنَّه لا يُحتَجب عن ملك الأرض والسماء.
فممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الدعاء الصادر من الإمام (عليه السلام) يكون موجباً لتنمية إيمان الأفراد والمجتمعات.
ولم يكتفِ الأئمَّة (عليهم السلام) بهذه المرتبة لتقوية إيمان المؤمنين بهم بتعقّب دعائهم وتنمية إيمانهم، بل تجاوز الأمر إلى متابعة شؤونهم الشخصية والشعور بما ينالهم من همٍّ وحزن، فقد ورد أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) خاطب أحد أصحابه قائلاً له: «يا رميلة، ليس من مؤمن يمرض إلَّا مرضنا بمرضه، ولا يحزن إلَّا حزناً بحزنه، ولا يدعو إلَّا أمنّا لدعائه، ولا يسكت إلَّا دعونا له...»، ثمّ قال له: «يا رميلة، ليس يغيب عنّا مؤمن في شرق الأرض ولا في غربها»(33).
والنصُّ واضح الدلالة في أنَّ الإمام (عليه السلام) يسعى إلى تقوية دعاء الداعي، فإن لم يكن في البين دعاء تصدّى هو بنفسه للدعاء عنه. نعم لا بدَّ أن يكون المؤمن بتلك المرتبة التي تؤهّله لذلك، إذ المقتضي لا بدَّ أن يكون منه.
هذا وقد سجَّلت بعض الروايات الشـريفة للإمام المهدي (عليه السلام) كما لآبائه (عليهم السلام) أثراً وجودياً يرتبط بالدعاء حاصله: أنَّ محض وجوده المبارك هو دافع للبلاء عن شيعته وأهله كما في النصِّ الوارد عن طريق أبي نصـر، قال: دخلت على صاحب الزمان (عليه السلام) فقال: «... أنا خاتم الأوصياء، وبي يدفع الله (عزَّ وجلَّ) البلاء عن أهلي وشيعتي».
فمن مجموع النصوص المتقدِّمة يمكن أن يُستفاد التالي:
1 - أنَّ الإيمان مقرون بالإمام (عليه السلام).
2 - أنَّ تنمية الإيمان لا يكون إلَّا من خلال دلالة الإمام (عليه السلام).
3 - أنَّ الإمام (عليه السلام) يباشر هذه المهمَّة من خلال عدَّة تدبيرات، ويقوم بخطوات متعدِّدة في سبيل تكميل إيمان الأفراد المؤمنين به، ومن بين تلك الخطوات التي يقوم بها (عليه السلام) الدعاء، حيث نصَّت بعض الأخبار المتقدِّمة أنَّ التأمين على دعاء المؤمنين حالة ثابتة من الإمام (عليه السلام) لمن كان منهم في مشـرق الأرض أو غربها، فإن لم يكن منهم دعاء تبرَّع الإمام (عليه السلام) بالدعاء لهم.
4 - أنَّ دعاء الإمام (عليه السلام) يتمتَّع بخصوصية أنَّه لا يُحجَب عن الله تعالى. وإنَّ أقلّ مراتب وجوده المبارك في هذا الزمان هو دفع البلاء، لكي تتهيَّأ الأرضية وترتفع الموانع عن المؤمنين لاستكمال إيمانهم وتنمية ذواتهم.
وأثناء التتبّع في النصوص الشريفة التي تدور رحاها حول هذا الموضوع وجدت رواية شريفة لها مفاد عالٍ جدّاً ومضمون راقٍ يتحدَّث عن حقيقة المؤمن ومكانته لدى إمامه حيث كتب السيِّد ابن طاووس في كتاب الحجَّة في وصيَّته لولده في ما يحفظ فيه للإمام (عليه السلام) من حقٍّ وأن يعرض حوائجه عليه جاء فيه: (وممَّا أقول لك يا ولدي محمّد ملأ الله (جلَّ جلاله) عقلك وقلبك من التصديق لأهل الصدق والتوفيق في معرفة الحقِّ: إنَّ طريق تعريف الله (جلَّ جلاله) لك بجواب مولانا (المهدي) صلوات الله وسلامه على قدرته (جلَّ جلاله) ورحمته، فمن ذلك ما رواه محمّد بن يعقوب الكليني في كتاب (الوسائل) عمَّن سمّاه، قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أنَّ الرجل يجب أن يُفضـي إلى إمامه ما يجب أن يُفضـي به إلى ربِّه؟ قال: فكتب: «إن كانت لك حاجة فحرِّك شفتيك فإنَّ الجواب يأتيك...»)(34).
ولا يهمّنا التعرّض لسند الحديث باعتبار أنَّه حسب الظاهر موافق للمبادئ العامَّة التي عليها النصوص العقائدية. والملاحَظ فيه أنَّ الحديث عن السرعة في الإجابة بمجرَّد تحريك الشفتين.
ثمّ إنَّ حديثنا في إطار النماذج المتقدِّمة كان حديثاً عامّاً وليس لخصوص فردٍ بعينه، وعن آثار الدعاء في تنمية التوحيد وكيف يُؤثِّر ذلك في عملية توحيده، وهذه قضيَّة استجلب خيرَها الكثيرُ ممَّن عمل بها، وينبغي أن تخرج عن إطارها الفكري التنظيري لتلبس ثوباً تجريبياً، إذ أنَّ الكثير من القضايا الاعتقادية وآثارها على الفكر والسلوك يدخل في إطار التجربة بمعنى أنَّ هناك مقولات تصل إلينا عن آثار قضايا غير مرئية لنا، ونحن نؤمن تبعاً للعقيدة الإيمانية بالله تعالى والأئمَّة (عليهم السلام)، ولكي نُخرج هذه العقيدة من حالة المعرفة النظرية إلى حالة الممارسة العملية يمكن لأيِّ فردٍ منّا أن يأخذ نموذجاً من هذه النماذج ويداوم عليه فترة من الزمن بقصد استجلاب آثاره التكوينية، إذ أنَّ الكثير من الروايات تحدَّثت عن أنَّ هناك آثاراً للتوحيد على نفسية المؤمن، وأنَّ هناك آثاراً للصلاة والصوم مثلاً على نفسية المؤمن وسلوكه، بل إنَّ جملة من الدراسات أكَّدت ما قرَّره الشارع المقدَّس على لسان الوحي قبل مئات من السنين بأنَّ النفسية الكلّية والرعاية الأبوية للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام (عليه السلام) في أُمَّته تُؤثِّر أثرها وإن لم نتمكَّن من الشعور بذلك الأثر كما في حديث المعراج عن أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) لو فعل فعالاً معيَّنة لتأثَّرت الأُمَّة بتلك الفعال(35)، وهذا النموذج التجريبي - الذي يُجسِّد التنظير الفكري العقدي لأُمَّهات العقائد الإسلاميَّة ومنها الدعاء خصوصاً المختصّ منه بالإمام المهدي (عليه السلام) وأثره في تنمية التوحيد - يمكن أن يُعَدَّ منهجاً تربوياً يختلف عن كثير من المناهج التي يُراد لها أن تكون ميزاناً للتربية وانعكاساً لأخلاق أفراد الأُمَّة.
والآن نتحدَّث عن نماذج أثَّر الدعاء في تنميتها وثبات أصحابها على الاستقامة والتوحيد فضلاً عن تحصيل آثار دنيوية أُخرى:
الأوّل: أحمد بن إبراهيم يُكنّى أبا حامد المراغي، وهو من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام)، وقد خرج فيه من صاحب الأمر (عليه السلام) توقيع على يد محمّد بن أحمد بن جعفر القمّي العطّار: «وقفت على ما وصفت به أبا حامد أعزَّه الله بطاعته، وفهمت ما هو عليه تمَّم الله ذلك له بأحسنه، ولا أخلاه من تفضُّله عليه، وكان الله وليَّه أكثر السلام وأخصه...»(36).
والتوقيع واضح في الدعاء بأحسن ما يمكن أن يتفضَّل الله على عبده المؤمن، وأن يتولّاه، وأن لا يخليه ممَّا تفضَّل به عليه.
الثاني: توقيعه (عليه السلام) في الدعاء لعثمان بن سعيد العمري رحمه الله عند تعزيته لولده محمد حيث جاء فيها: «نضَّر الله وجهه وأقاله عثرته»(37). وكذا ما ورد في الابن من قوله (عليه السلام): «أرشدك الله وثبَّتك»(38).
ومما ورد كذلك في دعاءه (عليه السلام) للحسين بن روح رحمه الله السفير الثالث في توقيع لمن سأل عن حاله رحمه الله حيث جاء فيه: «زاد الله في إحسانه إليه...»(39).
الثالث: وهو ما خرج للقاسم بن العلاء حيث نُعيت فيه إليه نفسه وكان ابنه يرتكب المعاصي، فورد الدعاء له: «ألهمك الله طاعته وجنَّب معصيته... قد جعلنا أباك إماماً لك وفعاله لك مثالاً»(40).
وأثر الدعاء في استقامة الابن واضح.
الرابع: ما ورد لإسحاق بن يعقوب رحمه الله والحميري رحمه الله في جملة تواقيعٍ حيث ورد للأول: «أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبَّتك...»(41).
وأمّا محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري رحمه الله فقد سأل الإمام (عليه السلام) الدعاء له ولإخوانه فخرج التوقيع: «جمع الله لك ولإخوانك خير الدنيا والآخرة»(42).
وفي توقيع آخر للحميري رحمه الله أيضاً سأله الدعاء فخرج الجواب منه (عليه السلام): «جاد الله عليه بما هو جلَّ وعلا أهله، إيجابنا لحقِّه، ورعايتنا لأبيه رحمه الله وقرَّبه منّا بما علمناه من جميل نيَّته ووقفنا عليه من مخالطته المقرِّبة له من الله التي ترضي الله عزَّ وجلَّ ورسوله وأولياءه... وأن يصلح له من أمر دينه ودنياه ما يحبُّ صلاحه إنه وليٌّ قدير»(43).
النموذج الثالث: الدعاء بتعجيل الفرج:
فقد ذُكِرَ في النصوص الشـريفة أنَّه (عليه السلام) خاطب أتباعه ومريديه بالإكثار من دعاء الفرج له، فقد روى الشيخ الطوسي بسنده عن جعفر بن محمّد بن قولويه وأبي غالب الرازي وغيرهم، عن محمّد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمّد بن عثمان العمريرحمه الله أن يوصل إليَّ كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أُشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخطِّ مولانا صاحب الدار (عليه السلام): «أمَّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبَّتك من المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمّنا، فأعلم أنَّه ليس بين الله (عزَّ وجلَّ) قرابة، ومن أنكرني فليس منّي...، وإنّي لأمان أهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء، فأغلق السؤال عمَّا لا يعنيكم، ولا تتكلَّفوا على ما قد كفيتم، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فإنَّ ذلك فرجكم»(44).
فإنَّ الغوص في أعماق هذا الدعاء يُري أنَّ فيه نموذجاً توحيدياً وانتماءً عقائدياً كبيراً حيث إنَّ ثمرات هذا الدعاء والتوجُّه إلى الإمام (عليه السلام) من خلال الدعاء له والطلب من الله سبحانه وتعالى بتعجيل فرجه فإنَّ الدعاء بهذا المعنى يوجب حصول التنمية والزيادة كلَّما حصل الإكثار.
فالأمر به في النصِّ الشـريف له أثره الكبير في القرب من الإمام من جهة، والتلبُّس بصفة الإكثار بالدعاء من جهة أُخرى، والتي حثَّ عليه نصوص شريفة(45)، كما أنَّه - هذا الإكثار - موجب لقرب الفرج لنفس الدّاعي، إذ بظهور الإمام (عليه السلام) سيحصل الفرج للجميع دون استثناء.
ولا بدَّ للوقوف حول هذه المفردة التوحيدية في الدعاء من أن نتحدَّث عن الفرج الفكري، وكيف أنَّ الظهور الشـريف للمولى صاحب العصـر والزمان (عليه السلام) يُشكِّل للمؤمنين به فرجاً على صعيدهم الفكري، كما أنَّه وفي نفس الوقت يُشكِّل فرجاً لهم على صعيد الاعتقاد والعبادة والاجتماع والاقتصاد وغيرها من المناحي، كما أنَّه ينبغي أن لا يُغفَل حصول الفرج النفسـي والأخلاقي والتربوي، بل وغيرها ممَّا يخفى علينا ولا نعلمه وسيُظهِره (عليه السلام) إذا ما أكثرنا من الدعاء له، وكان دعاؤنا موجباً للتفريج عنه. وهذا نموذج توحيدي راقٍ.
خاتمة: الدعاء من الإمام (عليه السلام) على الأشخاص وأثره في الخسران:
تقدَّمت أهمّية الدعاء ودوره في بناء المنظومة التوحيديَّة، وأنَّ الدُّعاء المهدوي إذا ما تحقَّق من أيِّ فردٍ من أفراد الأُمَّة فإنَّه سيكون مورداً لاستجلاب التنمية التوحيديَّة وأثرها في بناء الشخصية المؤمنة، وبالتالي فإنَّ الدُّعاء سينتج أشخاصاً يحملون عقيدة توحيدية رصينة يجابهون بها مخاطر الانحرافات والانزلاقات التي تحصل للأفراد أثناء مسيرتهم التكاملية في السلوك إلى الله سبحانه وتعالى، فالمنظومة الدُّعائية - ذلك المخزن الكبير الذي رفدت السماء به أبناء العقيدة المحقَّة - تمتلك وكما سلف الآثار التكوينيَّة التي يتأهَّل بها أصحاب العقيدة لنيل الغايات الكُبرى، ولا يخفى أنَّ لهذه المنظومة العملاقة أساسيات وضوابط لا تنتج الثمار إلَّا من خلالها.
وعلى العكس من هذا يقف الدعاء على الأشخاص موقف المانع من تحصيل الكمالات، بل وفي بعض الأحيان موقف سَلب المقتضـي، وقد انعكس من خلال الموارد التي سجَّلتها كُتب التراجم والمعاجم حيث ورد فيها أنَّ هناك أشخاصاً كانت لهم مميّزات خاصَّة، ولكن ورغم المميّزات الفريدة التي تمتَّعوا بها ولفترات طويلة وأهَّلتهم أن يكون الواحد منهم مشاراً إليه ورئيساً في قومه وشاخصاً يلتجأ إليه عند حلول النوائب الفكرية أو الاجتماعية فإنَّه وبسبب اختلال المنظومة الدعائية لديه سُلِبَ منه ما كان يتمتَّع به، ومن النماذج التي بَرزت في التاريخ والتي سُجِّلت عليها هذه الملاحظة من قِبَل الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام) هو عُروة بِن يحيى النَّخاس الدهقان.
حيث روى الكشّـي رحمه الله في رجاله على ما نقله الشيخ الطوسي رحمه الله عنه في اختيار معرفة الرجال(46) حيث قال: حدَّثني محمّد بن قولويه الجمّال، عن محمّد بن موسى الهمداني: أنَّ عروة بن يحيى البغدادي المعروف بالدهقان لعنه الله وكان يكذب على أبي الحسن عليِّ بن محمّد بن الرضا (عليهم السلام) وعلى أبي محمّد الحسن بن عليٍّ عليهما السلام بعده، وكان يقطع أمواله لنفسه دونه ويكذب عليه، حتَّى لعنه أبو محمّد (عليه السلام) وأمر شيعته بلعنه، والدعاء عليه لقطع الأموال، لعنه الله. قال عليُّ بن سلمان بن رشيد العطّار البغدادي: فلعنه أبو محمّد (عليه السلام)، وذلك أنَّه كانت لأبي محمّد (عليه السلام) خزانة، وكان يليها أبو عليّ بن راشد رحمه الله، فسُلِّمت إلى عروة، فأخذ منها لنفسه ثمّ أحرق باقي ما فيها، يغايظ بذلك أبا محمّد (عليه السلام)، فلعنه وبَرئ منه ودعا عليه، فما أمهل يومه ذلك وليلته حتَّى قبضه الله إلى النار. فقال (عليه السلام): «جلست لربّي ليلتي هذه كذا وكذا جلسة، فما انفجر عمود الصبح ولا انطفى ذلك النار حتَّى قتل الله عدوَّه لعنه الله».
فأنت تلاحظ النصَّ وشدَّة الألم الذي أُصيب به الإمام العسكري (عليه السلام) من هذا الوكيل الذي كان يرعى شؤوناً للإمام ولكنَّه ومع شديد الأسف انحرف، وأيَّ انحراف إنَّه الذي يجعله يقوم بأعمال ليس الهدف منها إلَّا أن يغيض الإمام، فأيّ قلب مريض يمتلك هذا الدهقان حتَّى إنَّ خوف الإمام على شيعته من أمره استدعى منه أن يجلس عدَّة جلسات للدعاء، فلاحظ النصَّ كيف يقول: «جلست لربّي ليلتي هذه كذا وكذا جلسة...».
فالإمام المعصوم الذي مهمَّته هداية الناس والأخذ بأيديهم إلى الاستقامة بعد يأسه من هذا الرجل والذي كان من المقرَّبين اضطرَّ إلى أن يُكرِّر جلسات الدُّعاء ليتخلَّص من شرِّه.
وأنت تلاحظ جليّاً أثر دعاء الإمام فإنَّه ما إن طلع الصباح حتَّى سَلَّط الله تعالى على هذا الرجل من يقتله بسبب دعاء الإمام (عليه السلام) عليه، وبقي ذكره السيِّئ إلى يومنا هذا.
أملي أن لا تغادر هذه الصفحة وترجع إلى الرواية وتقرأها في عدَّة جلسات وتتأمَّل فيها لترى حال أشخاص كانوا بحسب الظاهر يُحسَبون على الأئمَّة ولكن ومع شديد الأسف خسـروا أنفسهم ولاحقتهم اللعنة على مرِّ التأريخ، هذا نموذج.
والنموذج الآخر هو أحمد بن هلال العبرتائي الذي دعا عليه الإمام عدَّة مرّات ولعنه وبرأ منه، وذكر أنَّ ما أوجب حصول ما حصل لابن هلال هو «لم يدعُ المرء ربَّه بأن لا يزيغ قلبه بعد أن هداه، وأن يجعل ما منَّ به عليه مستقرّاً ولا يجعله مستودعاً. وقد علمتم ما كان من أمر الدهقان عليه لعنة الله وخدمته وطول صحبته، فأبدله الله بالإيمان كفراً حين فعل ما فعل، فعاجله الله بالنقمة ولا يمهله»(47).
وإليك النصُّ الكامل الذي رواه الشيخ الطوسيرحمه الله في اختيار معرفة الرجال عن أحمد بن هلال: عليُّ بن محمّد بن قتيبة، قال: حدَّثني أبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، قال: ورد على القاسم بن العلاء نسخة ما خرج من لعن ابن هلال، وكان ابتداء ذلك أن كتب (عليه السلام) إلى قوامه بالعراق: «احذروا الصوفي المتصنِّع»، قال: وكان من شأن أحمد بن هلال أنَّه قد كان حجَّ أربعاً وخمسين حجَّة، عشـرون منها على قدميه. قال: وكان رواة أصحابنا بالعراق لقوه وكتبوا منه، وأنكروا ما ورد في مذمَّته، فحملوا القاسم بن العلا على أن يراجع في أمره. فخرج إليه: «قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنِّع ابن هلال لا رحمه الله بما قد علمت، لم يزل لا غفر الله له ذنبه ولا أقاله عثرته يداخل في أمرنا بلا إذن منّا ولا رضى يستبدُّ برأيه، فيتحامي من ديوننا، لا يُمضـي من أمرنا إلَّا بما يهواه ويريد، أرداه الله بذلك في نار جهنَّم، فصبرنا عليه حتَّى تبر الله بدعوتنا عمره. وكنّا قد عرَّفنا خبره قوماً من موالينا في أيّامه لا رحمه الله، وأمرناهم بإلقاء ذلك إلى الخاصّ من موالينا، ونحن نبرأ إلى الله من ابن هلال لا رحمه الله، وممَّن لا يبرء منه. وأعلم الإسحاقي سلَّمه الله وأهل بيته ممَّا أعلمناك من حال هذا الفاجر، وجميع من كان سألك ويسألك عنه من أهل بلده والخارجين ومن كان يستحقُّ أن يطَّلع على ذلك، فإنَّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يؤدِّيه عنّا ثقاتنا، قد عرفوا بأنَّنا نفاوضهم سرّنا، ونحمله إيّاه إليهم، وعرفنا ما يكون من ذلك إن شاء الله تعالى». وقال أبو حامد: فثبت قوم على إنكار ما خرج فيه، فعاودوه فيه فخرج: «لا شكر الله قدره لم يدعُ المرء ربَّه بأن لا يزيغ قلبه بعد أن هداه، وأن يجعل ما من به عليه مستقرّاً ولا يجعله مستودعاً. وقد علمتم ما كان من أمر الدهقان عليه لعنة الله وخدمته وطول صحبته، فأبدله الله بالإيمان كفراً حين فعل ما فعل، فعاجله الله بالنقمة ولا يمهله، والحمد لله لا شريك له، وصلّى الله على محمّد وآله وسلَّم»(48).
وبمراجعة النصِّ مرَّة أُخرى - الذي تحدَّث عن قضيَّة أحمد بن هلال -، نجد أنَّ هذا الرجل لشدَّة ما كان ظاهره مقبولاً لدى العامَّة من الناس كان هناك تشكيك في صدور تلك التوقيعات الذامَّة له عن المعصوم (عليه السلام)، وأنَّها بقصد ذمِّه وبيان حقيقة الحال فيه حتَّى استدعى الأمر أن يصدر في حقِّه وبيان حاله أكثر من مكاتبة مع الأئمَّة (عليهم السلام)، وهذا الأمر لا يهمُّ كثيراً في محلِّ بحثنا وإنَّما أردنا الإشارة إليه لغرض أن نلتفت إلى بعض الأشخاص وخطرهم على المذهب والدين.
والذي يهمّنا في محلِّ بحثنا إذا رجعنا إلى روايتنا آنفة الذكر أنَّنا نجد في كلام الإمام (عليه السلام) هذه المقاطع، ونجعلها ضمن نقاط، ليسهل علينا استفادة مداليلها:
1 - قوله (عليه السلام): «قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنِّع ابن هلال لا رحمه الله».
2 - قوله (عليه السلام): «بما قد علمت لم يزل لا غفر الله له ذنبه».
3 - قوله (عليه السلام): «ولا أقال عثرته يداخل في أمرنا بلا إذن منّا».
4 - قوله (عليه السلام): «لا يُمضي من أمرنا إلَّا بما يهواه ويريده أرداه الله بذلك في نار جهنَّم».
5 - قوله (عليه السلام): «فصبرنا عليه حتَّى تبر الله بدعوتنا عمره».
6 - قوله (عليه السلام): «وكنّا قد عرَّفنا خبره قوماً من موالينا في أيّامه لا رحمه الله».
7 - قوله (عليه السلام): «وأمرناهم بإلقاء ذلك إلى الخاصّ من موالينا ونحن نبرأ إلى الله من ابن هلال».
8 - قوله (عليه السلام): «من ابن هلال لا رحمه الله وممَّن لا يبرأ منه».
مع ذلك كلّه وهذا التشديد والتعدُّد في الدُّعاء والطَّرد من الرحمة الإلهيَّة ولزوم الحذر من هذا الشخص إلَّا أنَّ جماعة أنكروا أن يكون مثل هذا النمط حديث الأئمَّة (عليهم السلام) في حقِّ الرجل، فخرج توقيع آخر من الإمام (عليه السلام) يدعو فيه عليه، ويُؤكِّد ما خرج فيه من الأئمَّة، وهو النصُّ التالي:
قوله (عليه السلام): «لا شكر الله قدره لم يدعُ المرء ربَّه بأن لا يزيغ قلبه».
لاحظ معي هذه المقاطع المتعدِّدة من دعاء الإمام (عليه السلام) على هذا الرجل الذي كان من أصحاب الإمام الهادي والعسكري عليهما السلام، والذي عاش عمراً قارب التسعين سنة حيث وُلِدَ (180هـ) وتوفّي (267هـ) فيكون عمره (87) سنة تقريباً، ولم ينحرف إلَّا أواخر عمره حيث إنَّه كان يرى إمامة الإمام المهدي (عليه السلام)، وأنَّ السفير الأوَّل عثمان بن سعيد العمري (رضي الله عنه) هو وكيل للإمام المهدي (عليه السلام)، وكان يرى نفسه المؤهَّل للوكالة بعد السفير الأوَّل، ولـمَّا عيَّن الإمام المهدي (عليه السلام) السفير الثاني وهو ابن العمري أي محمّد بن عثمان الخلّاني توقَّف ولم يقل بنيابته عن الإمام، فقال له جماعة من الشيعة: ألَا تقبل أمر أبي جعفر محمّد بن عثمان وقد نصَّ عليه الإمام المفترض الطاعة؟ فقال لهم: لم أسمعه بنفسـي ينصُّ عليه بالوكالة، وأنا لم أُنكر أباه عثمان بن سعيد، أمَّا أن أقول بأنَّ ابنه هو وكيل صاحب الزمان فلا أجسُـر على ذلك. فقال له الشيعة: قد سمعه غيرك من العلماء وكبراء الشيعة، فأجابهم قائلاً: أنتم وما سمعتم. فلعنوه وتبرَّأوا منه. وقد خرجت توقيعات بالبراءة منه نقلنا إليك نصوص بعضها، فلاحظ وأنت تقرأ النصَّ الآنف الذكر كيف أنَّ الإمام (عليه السلام) أكثَرَ من الدعاء على هذا الرجل حيث قال (عليه السلام): «لا رحمه الله...، لا غفر الله له...، لا أقال عثرته...، أرداه الله بذلك في النار...، تبر الله بدعوتنا عمره...، لا رحمه الله...، نبرأ إلى الله...، لا رحمه الله...، لا شكر الله قدره...»، هذه أدعية من إمام مفترض الطاعة وهو الإمام المهدي (عليه السلام)، بل إنَّ الإمام في التوقيع الآنف الذكر يبرأُ إلى الله ممَّن لا يبرأ منه، فأيّ فعل شنيع قام به هذا ليقع فيما وقع فيه ويصدر ما صدر عن إمام الزمان (عليه السلام) عليه؟!
أتعلم أيُّها القارئ العزيز أنَّ هذا الرجل عاش ثمانين سنة من عمره على ظاهر الاستقامة، وأنَّه إنَّما انحرف في (السبع) سنين الأخيرة من عمره؟!
وهل تعلم أنَّ أثر الدعاء الذي صدر عليه من الإمام (عليه السلام) ماذا صنع به؟ وماذا غيَّر من أحواله.
دقِّق معي فيما سأنقل لك، ولاحظ أثر دعاء الإمام (عليه السلام) على الإنسان وما يجلبه من شقاء وهلاك أبدي حيث ينقل الصدوق رحمه الله على ما نقله السيِّد الخوئي قدس سره(49) في معجم رجال الحديث قال: قال الصدوق (رحمه الله): (... حدَّثنا شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه)، قال: سمعت سعد بن عبد الله يقول: ما رأينا ولا سمعنا بمتشيّع رجع عن تشيّعه إلى النصب إلَّا أحمد بن هلال).
تأمَّل أيُّها العزيز في كلام محدِّث الطائفة الفقيه الصدوقرحمه الله وهو ينقل عن أُستاذه هذه المقالة، وتدبَّر آثار دعاء الإمام (عليه السلام) وما يجلبه من شقاء على الإنسان، ولا شكَّ أنَّ هذا الشخص لولا الاستعداد الذاتي في داخله واقتضاء الانحراف في قلبه لما آلت أُموره إلى ذلك، فكان ما يحمل من علم ومكانة في المجتمع وبالاً عليه وحسـرةً يوم القيامة.
الهوامش:
(1) الوسائل: ج7 ص27، وفي بحار الأنوار: العلامة المجلسي: ج90، ص302.
(2) علل الشرائع للشيخ الصدوق 1: 162.
(3) في بحار الأنوار 3: 329: «... إنَّ موسى بن عمران (عليه السلام) لـمَّا ناجى ربَّه (عزَّ وجلَّ) قال: يا ربِّ، أبعيد أنت منّي فأُناديك أم قريب فأُناجيك؟ فأوحى الله (جلَّ جلاله) إليه: أنا جليس من ذكرني...»، وأيُّ توحيد أعلى من أن يكون العبد جليساً مع الله تعالى؟
(4) لـمَّا كان الله تعالى مالكاً حقيقياً للأشياء المخلوقة ومنها الإنسان، وأنَّه تعالى أقرب إلى هذا الإنسان من نفسه ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ (الأنفال: 24)، وليس المراد بالقلب هنا الجسم المادّي، بل هو حقيقة الإنسان ونفس وجوده، فبمقتضـى هذه الملكية صارت عبوديتهم له تعالى عبودية حقيقية أيضاً.
حصل بذلك أنَّ له تعالى القدرة الحقيقية على الحيلولة بينهم وبين أيِّ شيء آخر وإن قرب منهم وأُبرم إبراماً، فكانت إجابة الدعوة منه تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر: 60) لا يمنعها، ويمنع تحقّقها إلَّا ما يجعله العبد مانعاً.
والإذعان بهذه الحقيقة ذات البعدين، بعد الملكية الحقيقية من جهة الله تعالى، وبعد المملوكية والعبودية الحقيقة من جهة العبد، هو التوحيد.
فما يشاؤه الله تعالى في ملكه سيقع وما لم يشأ لا يقع، ﴿يا أَيـُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (فاطر: 15).
فإذا عرفنا هذه الحقيقة عرفنا بمقتضاها مفاد الآيات الكريمة التي تحدَّثت بقوله تعالى: ﴿وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186).
لذلك نجد الكثير من الآيات فرَّعت الدعاء على الإيمان كما مرَّت في ما سطرناه من نصوص قرآنية تقدَّمت. لاحظ: الميزان 2: 30 - 35.
لذلك قسَّم بعض العلماء الدعاء لله تعالى إلى ثلاثة وجوه:
ضرب منها: توحيده...، مثل قوله تعالى: ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ﴾ (غافر: 60).
والضرب الثاني: مسألة العفو والرحمة وما يقرب منها، كقولهم: (اللَّهُمَّ اغفر لنا).
والضرب الثالث: مسألة الحظِّ في الدنيا، كقولهم: (اللَّهُمَّ ارزقني مالاً وولداً).
أضواء على دعاء كميل لعزِّ الدين بحر العلوم: 14.
(5) ففي الوسائل 7: 21/ أبواب الدعاء: باب 1/ ح 1: عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ﴾ [غافر: 60]»، قال: «هو الدعاء».
فالإمام هنا يُعبِّر عن العبادة بأنَّها الدعاء وأنَّ التكبُّر عنها يوجب دخول جهنَّم. وفي نصٍّ آخر في نفس المصدر (ج 2) يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «إنَّ الدعاء هو العبادة»، وهو مطلق يشمل العبادات الجوارحية أو الجوانحية.
وفي البحار 90: 294: عن أبي عبد الله (عليه السلام): «... عليكم بالدعاء فإنَّكم لا تتقرَّبون بمثله...».
في بحار الأنوار 3: 8: سأل بعض أصحابنا الصادق (عليه السلام) فقال له: أخبرني أيّ الأعمال أفضل؟ قال (عليه السلام): «توحيدك لربِّك».
وفي الوسائل 7: 27: عن الإمام عليٍّ (عليه السلام): «الدعاءُ مخُّ العبادة».
وفيه 7: 30: عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «أفضل العبادة الدعاء».
وبملاحظة حديث «توحيدك لربِّك» وهذا الحديث يظهر أنَّ الدعاء أفضل أنماط التوحيد التي يحثُّ عليها الشارع المقدَّس.
بل في الوسائل 7: 30: سُئِلَ الباقر (عليه السلام): أيُّ العبادة أفضل؟ فقال (عليه السلام): «ما من شيء أفضل عند الله (عزَّ وجلَّ من أن يسأل له ويُطلَب ممَّا عنده».
(6) الكافي 2: 466.
(7) الكافي 2: 466؛ وفي فلاح السائل للسيِّد ابن طاووس: 28؛ والمجازات النبويَّة للشريف الرضي: 210.
(8) الوسائل 7: 27؛ وفي بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي 90: 302.
(9) عن أبي جعفر (عليه السلام): «الصلاة عمود الدين»، بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي 79: 218.
(10) عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه)، قال: خطبنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «أيّها الناس - بعد كلام تكلَّم به - عليكم بالصلاة عليكم بالصلاة، فإنَّها عمود دينكم، كابدوا الليل بالصلاة، واذكروا الله كثيراً يُكفِّر سيِّئاتكم. إنَّما مثل هذه الصلوات الخمس مثل نهرٍ جارٍ بين يدي باب أحدكم يغتسل منه في اليوم خمس اغتسالات، فكما ينقى بدنه من الدرن بتواتر الغسل فكذا ينقى من الذنوب مع مداومته الصلاة، فلا يبقى من ذنوبه شيء». (بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي 79: 223).
(11) قال تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ (الأنفال: 11).
(12) عن أبي عبد الله (عليه السلام): «الوضوء على الوضوء نور على نور». (وسائل الشيعة للحرِّ العاملي 1: 377).
(13) عن أبي عبد الله (عليه السلام): «إنَّ مفتاح الصلاة التكبير». (وسائل الشيعة للحرِّ العاملي 4: 714).
(14) الكافي للشيخ الكليني 2: 467.
(15) وسائل الشيعة للحرِّ العاملي 7: 27/ باب 2/ الحديث رقم 7 و15، وأيضاً 7: 38/ باب 8/ ح 3.
حيث ورد فيها: عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «ما فُتِحَ لأحد باب دعاء إلَّا فتح الله له فيه باب إجابة، فإذا فُتِحَ لأحدكم باب فليجهد، فإنَّ الله لا يملُّ حتَّى تملّوا».
وعن الصادق (عليه السلام): «الدعاء يرد القضاء بعد ما أُبرم إبراماً، فأكثر من الدعاء، فإنَّه مفتاح كلِّ رحمة، ونجاح كلِّ حاجة، ولا ينال ما عند الله (عزَّ وجلَّ) إلَّا بالدعاء، وإنَّه ليس باب يكثر قرعه إلَّا يوشك أن يُفتَح لصاحبه».
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): «... الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض».
(16) وسائل الشيعة 7: 36/ باب 7/ ح 4، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «إنَّ الدعاء يردُّ القضاء، ينقضه كما يُنقَض السلك وقد أُبرم إبراماً».
(17) في الكافي 2: 469: عن الرضا (عليه السلام) أنَّه كان يقول لأصحابه: «عليكم بسلاح الأنبياء»، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال (عليه السلام): «الدعاء».
(18) للدعاء جملة وافرة من الآداب والشـروط ذكرتها الكتب المختصَّة بالدعاء كاليقين بالدعاء، وتسمية الحاجة، والهام الدعاء والتقدّم فيه، كما أنَّ له أوقاتاً خاصَّة وأزمنة معيَّنة ذُكِرَت في محلِّها.
راجع لذلك كتاب الكافي 2: 469/ كتاب الدعاء، وكذلك بحار الأنوار (ج 90/ كتاب الدعاء)، وكتاب وسائل الشيعة (ج 7/ باب الدعاء). وسنذكر بعض الآداب المختصَّة بالدعاء للإمام المهدي (عليه السلام).
(19) في الكافي 2: 473: عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) لا يستجيب دعاء بظهر قلبٍ ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك».
(20) إنَّ دعاء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) لأحد يتمتَّع بعدَّة مميِّزات، فهو الوحيد العارف بالله تعالى حقَّ معرفته، وهذه المعرفة تجعل من الدعاء الصادر منه محلّ قبول عند الله تعالى إذا تقدَّم فيه، فضلاً عن معرفة النبيِّ الأكرم بمقتضـى عصمته وعلمه الحضوري بوقائع الأشياء وموارد استجلاب الخير واستدراره وساعات ذلك وأزمانه، فلا يكون منه خلاف الواقع ونفس الأمر، وأين هذا من دعاء شخص مهما ازداد رقيّه المعنوي وكملت نفسه بالطاعة فهو في حضيض العلم الحصولي وتخبّط الظنون و... التي لا يجزم بظروف مطابقتها للواقع ومن عدمه؟!
فكيف يُقاس هذان النحوان من الدعاء بعضهم ببعض؟!
(21) عن الصادق (عليه السلام): «سُئِلَ أمير المؤمنين (عليه السلام) عن معنى قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): إنّي مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، من العترة؟ فقال (عليه السلام): أنا والحسن والحسين والأئمَّة التسعة من ولد الحسين تاسعهم مهديهم وخاتمهم، لا يفارقون كتاب الله ولا يفارقهم حتَّى يردوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حوضه». (كمال الدين للصدوق: 240).
(22) في الكافي 2: 278/ باب أنَّ للأئمَّة عهد من الله (عزَّ وجلَّ): عن عمرو بن الأشعث، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «أترون الموصي منّا يوصي إلى من يريد؟ لا والله ولكن عهد من الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لرجل فرجل حتَّى ينتهي الأمر إلى صاحبه».
وفي الكافي 1: 275: عن الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال سمعته يقول: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): نحن في الأمر والفهم والحلال والحرام نجري مجرى واحد، فأمَّا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعليٌّ (عليه السلام) فلهما فضلهما».
وفي كمال الدين للشيخ الصدوق: 381: عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) يقول: «الخلف من بعدي ابني الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟»، فقلت: ولِـمَ جعلني الله فداك؟ فقال: «لأنَّكم لا ترون شخصه، ولا يحلُّ لكم ذكره باسمه»، قلت: فكيف نذكره؟ فقال: «قولوا: الحجَّة من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم».
(23) في علل الشـرائع للصدوق 1: 208: عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «... الأئمَّة من ولدك بهم تُسقى أُمَّتي الغيث وبهم يُستجاب دعاؤهم...».
(24) في الكافي 1: 193: عن عليِّ بن جعفر، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام)، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إنَّ الله (عزَّ وجلَّ خلقنا...، وبعبادتنا عُبِدَ الله (عزَّ وجلَّ)، ولولانا ما عُبِدَ الله».
(25) في تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي 4: 144: عن أبي سيار، عن أبي عبد الله في حديث طويل جاء فيه: «... يا أبا سيار، الأرض كلُّها لنا، فما أخرج الله منها شيء فهو لنا...».
(26) كمال الدين للشيخ الصدوق: 330/ باب 32/ رقم الحديث 15.
(27) الكافي 1: 181/ باب معرفة الإمام والردّ إليه/ الحديث 2.
(28) الكافي 1: 181/ باب معرفة الإمام والردّ إليه/ الحديث 4.
(29) الكافي 1: 185.
(30) الاحتجاج للشيخ الطبرسي 2: 228.
(31) أمالي الشيخ المفيد: 187.
(32) الاحتجاج للشيخ الطبرسي 2: 325.
(33) بصائر الدرجات لمحمّد الحسن الصفّار: 280.
(34) كشف المحجَّة لثمرة المهجة للسيِّد ابن طاووس: 153. وهذا الحديث المنقول على لسان السيِّد من كتاب الوسائل الذي نسبه إلى الشيخ الكليني وإن كان ليس بأيدينا مصدره إلَّا أنَّ نقله على لسانه وإرساله بهذا الشكل يكشف عن كون تلك النسخة كانت بيده أو قُرِأت عليه، هذا فضلاً عن كونه موافق للأصل، وليس فيه مخالفة، وإنَّما أوردناه كشاهد في بيان المطلوب على لسان الأئمَّة (عليهم السلام).
(35) بحار الأنوار 18: 319: تفسير عليّ بن إبراهيم: أبي، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «جاء جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بالبراق إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ... فوجدنا إبراهيم وموسى وعيسى فيمن شاء الله من أنبياء الله (عليهم السلام) قد جمعوا إليَّ، وأُقيمت الصلاة، ولا أشكُّ إلَّا وجبرئيل سيتقدَّمنا، فلمَّا استووا أخذ جبرئيل بعضدي فقدَّمني وأممتهم ولا فخر، ثمّ أتاني الخازن بثلاثة أوان: إناء فيه لبن، وإناء فيه ماء، وإناء فيه خمر، وسمعت قائلاً يقول: إن أخذ الماء غرق وغرقت أُمَّته، وإن أخذ الخمر غوي وغويت أُمَّته، وإن أخذ اللبن هدي وهديت أُمَّته، قال: فأخذت اللبن وشربت منه، فقال لي جبرئيل: هديت وهديت أُمَّتك، ثمّ قال لي: ماذا رأيت في مسيرك؟ فقلت: ناداني منادٍ عن يميني، فقال لي: أوَأجبته؟ فقلت: لا ولم ألتفت إليه، فقال: ذلك داعي اليهود، لو أجبته لتهوَّدت أُمَّتك من بعدك، ثمّ قال: ماذا رأيت؟ فقلت: ناداني منادٍ عن يساري، فقال لي: أوَأجبته؟ فقلت: لا ولم ألتفت إليه، فقال: ذاك داعي النصارى لو أجبته لتنصَّـرت أُمَّتك من بعدك، ثمّ قال: ماذا استقبلك؟ فقلت: لقيت امرأة كاشفة عن ذراعيها، عليها من كلِّ زينة الدنيا، فقالت: يا محمّد، اُنظرني حتَّى أُكلِّمك، فقال لي: أفكلَّمتها؟ فقلت: لا كلَّمتها ولم ألتفت إليها، فقال: تلك الدنيا، ولو كلَّمتها لاختارت أُمَّتك الدنيا على الآخرة، ثمّ سمعت صوتاً أفزعني، فقال لي جبرئيل: أتسمع يا محمّد؟ قلت: نعم، قال: هذه صخرة قذفتها عن شفير جهنَّم منذ سبعين عاماً، فهذا حين استقرَّت».
(36) معجم رجال الحديث للسيِّد الخوئي/ الرقم 383.
(37) الغيبة للطوسي: ص161.
(38) الاحتجاج: ج2، ص469.
(39) غيبة الطوسي: ص367.
(40) الغيبة للطوسي: ص308.
(41) بحار الأنوار: ج53، ب31.
(42) الغيبة للطوسي: ص374.
(43) بحار الأنوار: ج53، ب31.
(44) الغيبة للشيخ الطوسي: 292.
(45) فقد ورد في رسالة الإمام الصادق (عليه السلام): «أكثروا من أن تدعوا الله، فإنَّ الله يُحِبُّ من عباده المؤمنين أن يدعوه، وقد وعد الله عباده المؤمنين بالاستجابة، والله مصيِّر دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم عملاً يزيدهم به في الجنَّة، فأكثروا ذكر الله ما استطعتم في كلِّ ساعة من ساعات الليل والنهار، فإنَّ الله أمر بكثرة الذكر له، والله ذاكر لمن ذكره من المؤمنين، واعلموا أنَّ الله لم يذكره أحد من عباده المؤمنين إلَّا ذكره بخير، فأعطوا الله من أنفسكم الاجتهاد في طاعته، فإنَّ الله لا يُدرَك شيء من الخير عنده إلَّا بطاعته واجتناب محارمه التي حرَّم الله في ظاهر القرآن وباطنه، فإنَّ الله تبارك وتعالى قال في كتابه وقوله الحقُّ: ﴿وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ﴾ [الأنعام: 120]». (الكافي للشيخ الكليني 8: 7).
(46) اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي 2: 842.
(47) اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي 2: 817؛ وفي البحار 50: 319: (لم يدع المرزئة بأن لا يزيغ قلبه)، ولم يظهر لي ذلك.
(48) اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي 2: 816 و817.
(49) معجم رجال الحديث للسيِّد الخوئي 3: 149.