البحوث والمقالات

(٦٦٣) انتظار الفرج وأثره في الحدّ من الآفات الاجتماعية

انتظار الفرج وأثره في الحدّ من الآفات الاجتماعية

محمّد باقر آخوندي
ترجمة: حسن علي مطر

المقدَّمة:
مَنْ منّا لم يعتصر قلبه الألم وهو يشاهد أنواع الانحرافات والآفات الاجتماعية المتعدِّدة.
حيث إنَّ المرحلة الراهنة تشهد ما يلي:
- الضياع الأخلاقي وضعف العواطف والمشاعر الأُسرية بشكل يتجاوز حدود الوصف.
- لقد أدّى التزيّن الظاهري إلى تشبُّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال.
- تزايد حالات ومظاهر الفسق والفجور في المجتمع.
- تشهد أركان المجتمع حالة من الاضطراب والفوضى، وأصبح الهرج والمرج هو السائد.
- يقوم الأفراد بأكل أموال بعضهم، ويتربَّصون ببعضهم.
- لقد أحاطت نار الأحقاد بكلِّ شيء، واتَّسعت رقعة المذابح الوحشية.
- انتشر الكذب وأضحت شهادات الزور سيِّدة الموقف.
- تمَّ نسيان الفضائل الماضية، وحلَّت محلَّها البدع التي لا تستند إلى أساس صحيح.
- تشهد الحالة الاجتماعية ضعفاً في التمسّك بتعاليم الدين الإلهي(1).
من خلال التوصيف المتقدِّم للآفات الاجتماعية نجد أنَّه على الرغم من رفع مستوى الوعي لدى الناس، وتطوّر النظام السياسي للسيطرة والإشراف والرقابة على المجتمع، وتشديد العقوبات، لم تحدّ من تسارع وتيرة الانحرافات، بل إنَّها مع ذلك آخذة في الازدياد يوماً بعد يوم، ممَّا يُثبِت عدم جدوائية الأساليب المتقدِّمة.
والسؤال المطروح هنا:
ألَا يمكن العثور على حلٍّ للمشاكل الراهنة من خلال الرجوع إلى الدين حيث يُوفِّر الأرضية المناسبة للسيطرة على المشاكل والآفات الاجتماعية؟
في معرض الجواب عن هذا السؤال تقول الفرضية الرئيسة لهذا المقال: إنَّ (انتظار الفرج) يُمثِّل واحداً من الحلول الجوهرية للحدِّ من المشاكل والآفات الاجتماعية.
ومن الضـروري لتوضيح هذه الفرضية العمل على دراسة الانحرافات، وتحديد عللها وأسبابها، وبيان كيفية إيجاد الحلول لهذه المشاكل والانحرافات والآفات من خلال التدبُّر والتعمُّق في مفهوم (انتظار الفرج).
تعريف المفاهيم:
أ - الآفة الاجتماعية:

إذا كان المعيار قاعدة الفعل الاجتماعي، فإنَّ الآفة سوف تُعَدُّ نقضاً لهذه القاعدة. إنَّ قواعد الفعل تتحدَّد تارةً من خلال الدين والوحي الإلهي، وتارةً من خلال المجتمع واتِّفاق الأكثرية، والقانون تارةً أُخرى. كما يتمُّ تقسيم الانحرافات إلى الانحرافات الأوَّلية والثانوية، والانحرافات الفردية والجماعية، والانحرافات الواعية واللاواعية(2).
ب - الانتظار:
الانتظار لغةً: المكث، والرصد، والتوقّع، ونوع من التفاؤل بالمستقبل.
وأمَّا اصطلاحاً فيمكن أن يكون هناك مفهومان مستقلّان له:
فمن جهة تتمُّ ترجمة الانتظار إلى (الترصّد) حيث يستسلم الأفراد للواقع القائم، دون القيام بأيِّ عمل من شأنه إصلاح المستقبل. فهؤلاء يضعون يداً على يد منتظرين ظهور المنقذ، ليتولّى عملية الإصلاح بالنيابة عنهم، ثمّ يُسلِّم مقاليد الأُمور إليهم. وفي هذه الظروف تتعطَّل المسؤوليات الاجتماعية والفردية، وتكون الأجواء مفتوحة لإشاعة الفحشاء وانتشار الفساد. كما تترتَّب على الانتظار بهذا المعنى الكثير من التداعيات الخطيرة، من قبيل: تعطيل الكثير من الحدود والأوامر الإلهية التي تُعتَبر من المسؤوليات الاجتماعية والفردية لكلِّ مسلم ومسلمة.
وفي مثل هذه الظروف ليس هناك من شكٍّ في أنَّ مثل هذا المجتمع سيأخذ طريقه إلى الزوال والانقراض المحتوم طبقاً للسنن التاريخية حتَّى قبل أن يصل الأمر إلى ظهور المنقذ.
وعلى هذا الأساس يكون هذا النوع من الفهم للانتظار أفيوناً ومخدّراً، ولا شكَّ في أنَّ الروايات الشريفة لا تريد هذا النوع من الفهم؛ وذلك لأنَّ هذه الروايات تعتبر الانتظار من أفضل أعمال الأُمَّة الإسلاميَّة، وقد تمَّ رصد الكثير من الأجر والثواب على من يمارس مفهوم الانتظار بشكله الصحيح.
لقد شهد التاريخ على امتداده الكثير من التيّارات والجماعات والأفراد الذين عملوا على إلهاء أنفسهم ومن يحيط بهم من خلال التمسُّك بهذا الفهم الساذج والسطحي للانتظار لفترات من الزمن، ولكن أين هذا من أحكام الدين الحيوية والراقية(3)؟!
وعلى كلِّ حالٍ رغم اشتمال الانتظار على معنى الترقُّب والتفاؤل بالمستقبل، يمكن بيانه بشكل آخر.
وفي الفهم الثاني يكون الانتظار جزءاً من فطرة الإنسان(4)، حيث يخلق لديه حالة من عدم الرضا بالواقع الراهن، ويسعى إلى تغييره وإصلاحه.
والانتظار بهذا المعنى هو في حقيقته رفض للظلم والجور، وينطوي على عنصـر التحفيز والشعور بالمسؤولية والحيوية والبناء والوعي واليقظة. كما أنَّ الانتظار بهذا المعنى يعني العمل والنشاط والحيوية والحركة، وإعداد العُدَّة والأرضية، كما أنَّه يُمثِّل بالنسبة إلى الفرد المخطِّط وصاحب النظرة البعيدة منهجاً أساسياً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
إنَّ الانتظار طريق إلى المستقبل والوصول إلى الأهداف السامية في المستقبل.
لا بدَّ من الاعتراف بأنَّ كلَّ عمل عظيم للوصول إلى هدفٍ أسمى إذا لم يكن مسبوقاً بمرحلة من الانتظار والتمهيد والإعداد النفسـي، فهو أبتر، ولن يتمَّ تحقيقه بالنحو المطلوب. وكلَّما كان الهدف والغاية أعظم، كانت مرحلة الانتظار أوسع وأكبر أيضاً(5).
جذور السلبيات والآفات الاجتماعية:
إنَّ الأسباب التي تُذكر لظاهرة الانحراف - بالالتفات إلى مختلف الاتِّجاهات - تتفاوت بشكل صريح، فبينما يذهب علماء الأحياء إلى القول بأنَّ ذلك يعود إلى نقص في العضو - على سبيل المثال - يذهب علماء النفس إلى القول بأنَّه يعود إلى المشاكل النفسية. ويذهب علماء الاجتماع إلى تفسير ثالث مغاير لهما مغايرة جوهرية؛ حيث يُرجِعون أسباب الانحراف إلى الحقائق الاجتماعية.
وفي هذا المقال نسعى إلى بيان بعض التفسيرات الاجتماعية في هذا المجال ضمن الأمثلة الثلاثة الآتية، وهي: (النظم الاجتماعي)، و(التضادّ الاجتماعي)، و(ردود الأفعال الاجتماعية المتبادلة). وعلى الرغم من التبويبات المختلفة والمناسبة المتحقِّقة حتَّى الآن في بيان الأسباب النظرية للانحراف، إلَّا أنَّ التبويب الآتي قد يفي بالإجابة المناسبة عن السؤال الأوَّل لهذا المقال.
أ - ضعف السيطرة والرقابة الاجتماعية:
تُثبِت الدراسات حدوث تغيّرات في ثلاثة أركان من المجتمع المعاصر، وهي: الأركان المتمثِّلة بالأُسرة، وظروف العمل، والمجتمعات المحلّية(6). فإنَّ الأُسرة - على سبيل المثال - التي كانت تلعب دوراً محورياً في تلبية الحاجات الجسدية والنفسية والروحية والعاطفية والاجتماعية للأولاد، والتي كانت تساعدهم في حقل بناء الشخصية وتكوين الهوية، وتمدُّ لهم يد العون في مجال النموِّ والازدهار وتطوير طاقاتهم، قد تعرَّضت هي الأُخرى للتغيّر الجوهري في الآليات والأدوات. حيث أخذ أفراد الأُسرة مؤخَّراً يقضون فترات طويلة من أوقاتهم خارج البيت، ويعودون أحياناً فرادى ليأخذ كلُّ واحد منهم طريقه إلى مخدع النوم ليستريح بعد يوم حافل بالعمل الشاقّ والمرهق.
ومن هنا فقد انخفض منسوب العلاقات الاجتماعية المتبادلة ضمن أفراد الأُسرة، وغابت المودَّة والتراحم فيما بينهم، وحلَّت محلَّها العلاقات الرسمية بالتدريج. فالأُسرة التي كانت حتَّى الأمس القريب تتكفَّل بجانب كبير من المسؤولية الاجتماعية حيث تضطلع بمهمَّة الإشراف والسيطرة على أفراد الأُسرة، وتعمل إلى حدٍّ كبير على إصلاح وتحسين سلوكهم، بدأت تأخذ طريقها نحو الضعف والانحسار.
ومن جهة أُخرى حيث لم يعد باستطاعة بعض أفراد الأُسرة القيام بدورهم على النحو المطلوب؛ فقد آلت الأُسرة إلى التفكّك والتصدّع(7).
وفيما يتعلَّق بالمجتمعات المناطقية والمحلّية يجب القول: إنَّ المجتمع المعاصر يشهد ضعفاً ملحوظاً في هذه الناحية أيضاً؛ حيث لا يحصل الأفراد على الحماية من قِبَل الأُسر المجاورة لهم. فبينما كانت فترة استقرار وإقامة الأفراد والأُسر في بيت ومكان واحد تمتدُّ لمدَّة طويلة، وكانت العلاقات بين الأفراد والأُسر والجيران وثيقة ومتينة، وكان مستوى الرقابة والإشراف في هذه التجمّعات المحلّية على الأفراد كبيراً، ويُشكِّل عقبة أمام انحرافهم، أخذت فترة الاستقرار والإقامة في مكان واحد تشهد في الآونة الأخيرة تراجعاً إلى حدٍّ كبير، حيث زاد حجم الانتقال من بيت إلى بيت، ومن منطقة إلى أُخرى.
ومن ناحية أُخرى ساعدت ظاهرة النزوح من الأرياف والقرى والمدن الأُخرى والتنوّع الثقافي والعرقي ولاسيّما في المدن الكبرى على ضعف الرقابة والسيطرة الاجتماعية المحلّية إلى حدٍّ كبير، وربَّما زال مفهوم المجتمعات المحلّية في الكثير من المدن الكبرى [حيث لا يعرف الجارُ جارَه]. ويمكن مشاهدة النموذج البارز لهذه الظاهرة في ضواحي المدن بوضوح، حيث تكثر هناك الجرائم بالقياس إلى المناطق الأُخرى إلى حدٍّ كبير(8).
كما شهدت ظروف العمل في المجتمع المعاصر تغيّراً جوهرياً أيضاً، حيث بدأت تأخذ طابعاً تعاقدياً ومؤقَّتاً. ومن هنا لم يعد الأفراد يحصلون في الغالب على هوية وطبيعة عمل ثابتة، ولم يعد بإمكان الوظائف والأشغال أن تسهم في السيطرة على الأفراد وبسط الرقابة عليهم كما كان الحال في السابق.
ومن هنا قلَّ منسوب الشعور بالأمن لدى المواطنين، وأخذ الأفراد يميلون إلى الانحراف والسقوط في شبكات الإدمان والتهريب والاتِّجار بالمخدّرات(9).
وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ المتغيّرات الاجتماعية والثقافية الراهنة تغلق الطريق أمام إمكانية العودة إلى طرق وأساليب تعزيز وتقوية الإشراف والرقابة(10) الاجتماعية القديمة. وعليه لا بدَّ من انتخاب طريق يجمع بين مزايا الأساليب القديمة والحيوية والقدرة على التناغم والتفاعل مع المتغيّرات والظروف الجديدة والراهنة.
يقوم الادِّعاء في هذا المقال على أنَّ هذا الطريق يتمُّ عبر (انتظار الفرج) على ما سيتمُّ بيانه لاحقاً.
ب - انخفاض مستوى الشعور بالتبعية والانتماء إلى المجتمع والقيَم:
إنَّ من بين أُسس تكوّن الجماعات، هو الشعور بالانتماء والتبعية للجماعة، ولذلك أربعة عناصر رئيسة، وهي كالآتي:
1 - التبعية: يذهب (ترافيس هيرشي) إلى الاعتقاد بأنَّ الانحراف ينشأ بالدرجة الأُولى من ضعف الشعور بالتبعية والانتماء إلى المجتمع(11). فلو أنَّ الفرد كان متعلّقاً بمجتمعه وجماعته لن يجد من نفسه ميلاً إلى انتهاك ونقض معاييره الاجتماعية أبداً. ولن يكتفي من نفسه بعدم نقض هذه المعايير الاجتماعية، بل سيقف بوجه كلِّ من يحاول نقض هذه المعايير أيضاً.
2 - الشعور بالمسؤولية: تعني المسؤولية شعور الفرد بأنَّه مدين للمجتمع، ويمكن تصوّر ذلك على أربعة أشكال: المسؤولية القيَمية، والمسؤولية الاجتماعية، والمسؤولية تجاه الأهداف الجماعية، والمسؤولية تجاه المصادر الاقتصادية(12). وكلَّما كان شعور الفرد بكونه مديناً للمجتمع في هذه الحقول الأربعة قويّاً، كان احتمال تعرُّضه للانحراف أقلّ.
3 - المشاركة الاجتماعية: إنَّ هذا العنصـر من عناصر التبعية الأُخرى للمجتمع، حيث يشير إلى حجم ونوع الأنشطة الاجتماعية للإنسان. وكلَّما كانت هذه الأنشطة أوسع، كانت المخاطر التي تُهدِّد الأفراد وتدفعهم ناحية الانحراف أقلّ، بيد أنَّ العاطلين عن العمل والذين لا يسهمون في النشاط الاجتماعي هم أكثر عرضةً لخطر الانحراف.
4 - العقيدة والإيمان: يُعَدُّ الإيمان والاعتقاد بالقيم والتعاليم الدينية في المجتمع عنصـراً جوهرياً في حفظ وصيانة الأفراد. فكلَّما كان إيمان الفرد قويّاً، كلَّما كان أقلّ عرضةً للانحراف.
كما هو واضح فإنَّ هذه العناصر الأربعة للشعور بالتبعية والانتماء للمجتمع تُعتَبر أدوات للرقابة والسيطرة الاجتماعية، وتربط بها ارتباطاً وثيقاً.
من هنا لو انخفض مستوى شعور الأفراد بالانتماء والتبعية للمجتمع والثقافة، وانخفض مستوى إحساسهم بالمسؤولية تجاه المجتمع، وكان حجم مشاركتهم الاجتماعية متدنّياً، وكان مستوى الالتزام الديني والأخلاقي لديهم ضعيفاً، فإنَّه سيكون عرضةً للانحراف بشدَّة. وعليه لا بدَّ من العمل على رفع مستوى الشعور بالانتماء والتبعية للمجتمع لدى الأفراد، وأن يتمَّ تعزيز الشعور بالمسؤولية لديهم تجاه المعايير والقيم الاجتماعية، والعمل على توسيع رقعة مشاركتهم الاجتماعية، وتعميق التزامهم الديني والأخلاقي. وعلى الرغم من أنَّ الطرق والحلول الآنفة قد يكون لها تأثير ملحوظ في هذا الشأن، إلَّا أنَّ تأثير الدين ولاسيّما فيما يتعلَّق بالعنصـر الخاصّ والمتمثّل بانتظار الفرج واضح للغاية.
ج - انخفاض الرصيد الاجتماعي:
إنَّ من بين المفاهيم والعناصر التي أخذت بالتبلور في الآونة الأخيرة في علم الاجتماع وحتَّى في علم الإدارة، وأضحى لها وجود هو مفهوم (الرسمال الاجتماعي)(13). وأخذ هذا المفهوم يكتسب يوماً بعد يوم مزيداً من الأهمّية لعدَّة أسباب، وقد شغل اهتمام الكثير من الباحثين والمحقِّقين بشأنه.
إنَّ عناصر من قبيل: انفلات الوضع فيما يتعلَّق بالهجرة والنزوح إلى المدن الكبرى، واضمحلال المجتمعات التقليدية، وزوال القيم والمعايير المتعلّقة بها، وانهيار الأُسر وضعف أُسسها، وما إلى ذلك من الأُمور، قد فاقم من الظروف التي جعلت الأبحاث المرتبطة بالثروة الاجتماعية تحظى بالأولوية في جميع البلدان، ولاسيّما منها البلدان النامية. وفي تلك البلدان هناك الكثير من الشواهد الدالّة على ضرورة الاهتمام الجادِّ بمسألة (الرسمال الاجتماعي).
إنَّ الواضح الذي يمكن للشعور العامّ أن يُدركه هو انحسار الصدق والثقة المتبادلة والشعور بالانتماء والتبعية للمجتمع، يقابل ذلك ارتفاع مستوى الشعور بالقلق والخوف والاضطراب.
يذهب (بوتنام)(14) إلى القول بأنَّ الرسمال الاجتماعي عبارة عن: الخصائص المنظَّمة للمؤسَّسة الاجتماعية، من قبيل: الاعتماد والمعايير، وشبكة العلاقات، والتواصل الاجتماعي، ممَّا يرفع بأجمعه من مستوى فاعلية المجتمع من خلال إيجاد التسهيلات وتنسيق الأعمال(15).
إنَّ العناصر الرئيسة والأساسية في الرسمال الاجتماعي، عبارة عن: الاعتماد الاجتماعي، والمشاركة الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية المتبادلة، والالتزام الأخلاقي والديني، وعلاقات السلطة والهيمنة. فإذا انخفض مستوى الثقة الاجتماعية في مجتمع، سوف يرتفع مستوى سوء الظنِّ بين الأفراد، الأمر الذي يخلق البيئة الصالحة لانخفاض مستوى العلاقات الاجتماعية المتبادلة، وتدنّي مستوى المشاركة الاجتماعية، الأمر الذي يؤدّي بدوره إلى ضعف العلاقة مع السلطة في المجتمع.
وفي اعتقادي فإنَّ (انتظار الفرج) يُعَدُّ عنصـراً حيوياً ومحفِّزاً في ثقافة التشيّع، حيث يتمتَّع بالقدرة التامَّة على رفع الرسمال الاجتماعي بشكل كامل، على ما سيأتي شرحه وتوضيحه.
د - الافتقار إلى الإجماع الأخلاقي والمعياري في المجتمع:
حيث تُعتَبر المعايير الاجتماعية قواعد للسلوك الاجتماعي لدى الأفراد، وتُحدِّد الاتِّجاهات السلوكية للأفراد، فإنَّ أيَّ تصدّع أو شقاق في تلك المعايير الاجتماعية، سيؤدّي إلى فوضى وهرج ومرج اجتماعي. وفي ظلِّ هذه الظروف المضطربة لا يغدو بإمكان الأفراد أن يقيموا علاقةً وارتباطاً منطقياً بينهم وبين المجتمع، ولن يكون بإمكانهم تنظيم أهدافهم وتصـرّفاتهم لتنسجم مع مختلف الظروف؛ وذلك لاضطراب قواعد السلوك.
إنَّ هذه الشـرائط تُقوِّض الوحدة والانسجام الاجتماعي، وتفضـي إلى تسلّل الانحرافات والآفات إلى المجتمع(16). ومن جهة أُخرى فإنَّ عدم الوفاق الأخلاقي والمعياري في المجتمع يؤدّي إلى انهيار السلطة والقدرة الناشئة عن الاتِّحاد والانسجام الاجتماعي وعدم سيطرة ورقابة المجتمع على الأفراد(17).
إنَّ هذه الحالة التي يتمُّ التعبير عنها بـ (الشذوذ المعياري) أيضاً، تُعبِّر عن حالة اجتماعية خاصَّة يُحشَر فيها الفرد ضمن شرائط معيَّنة تضطرّه إلى الانطواء على نفسه، ويدعوه سوء ظنِّه وسوداويته إلى إنكار جميع العلاقات الاجتماعية، وهكذا يتعرَّض الفرد إلى الانحراف، وحيث تقلُّ السيطرة والرقابة الاجتماعية عليه، ترتفع نسبة انحرافاته وآفاته الاجتماعية.
تقوم فرضية هذا المقال على أنَّ مفهوم (انتظار الفرج) يوجد من الوفاق في القيم والمعايير بحيث لا يعود المجتمع معه عرضة للشذوذ المعياري أبداً، ولن يكون هناك معه أيّ خوف أو خشية من انهيار القيم والمعايير.
هـ - عدم الاعتدال البنيوي:
إنَّ دراسة السياسات الاجتماعية في بعض المجتمعات تُثبِت أنَّ هناك شرخاً عميقاً بين الأهداف التي يتمُّ تسويقها وتعريفها للناس، وبين الفُرَص والآليات التي تُوضَع بين أيديهم للوصول إلى تحقيق تلك الأهداف.
فعلى سبيل المثال: عندما يتمُّ اعتبار المال والثروة فضيلة وقيمة اجتماعية في مجتمعٍ ما، وتتمُّ الدعاية لجمع الثروة بحيث يغدو ذلك غاية مطمح لكلِّ فردٍ من أفراد المجتمع، يجب أن تكون الفرص والإمكانات للوصول إلى هذه الغاية متكافئة وفي متناول الجميع.
في حين أنَّ الأمر على خلاف ذلك تماماً، حيث لا نجد على أرض الواقع سوى النزر القليل من الذين يمتلكون الفرص والأدوات الكفيلة بتحقيق هذه الغاية، أمَّا سائر الناس - وهم الأغلبية - فلا يمتلكون مثل هذه الفرص. وعلى حدِّ تعبير (مارتن): إنَّ هؤلاء يضطرّون من أجل تحقيق هذه الغاية إلى سلوك الطرق الملتوية وغير المشـروعة(18). في حين يقوم المدَّعى في هذا المقال على أنَّ ثقافة الانتظار تعمل على تعريف تلك الأهداف بشكل يُمكِّن جميع الأفراد من الوصول إليها، حيث يتمُّ وضع أدوات الوصول إلى تلك الأهداف في متناول الجميع بشكل متكافئ.
إنَّ الاتِّحاد والانسجام في ثقافة الانتظار من القوَّة بحيث يرى الجميع أنفسهم والآخرين كياناً واحداً حقيقةً، حيث ينشد الجميع هدفاً واحداً محدَّداً، ويسعى الجميع إلى تحقيقه بكلِّ ما أُوتي من قوَّة.
و - التضادّ والتعارض بين القيَم والمعايير:
في المجتمع المعاصر حيث تتنوَّع الأذواق والأمزجة، وحيث يبدو الشـرخ الواضح بين الأجيال والتنوّع الثقافي والعرفي واتِّساع رقعة وسائل التواصل الاجتماعي، تتمُّ الدعاية والإعلام لقيم مختلفة بل ومتعارضة في المجتمع أحياناً. فإنَّ النظرة التحقيقية إلى ما تُسوِّق له هذه الوسائل الإعلامية، تعكس الترويج إلى الحياة الباذخة واكتناز الأموال والحصول على السلطة والانغماس في الدنيا أحياناً، وأحياناً يتمُّ الترويج إلى الأهداف والقيم الدينية السامية، الأمر الذي يعكس عمق التضادّ القائم بين المفاهيم الراهنة. حيث تتمُّ أحياناً دعوة الناس إلى حبِّ الآخرين، ومدُّ يد العون إليهم والمبادرة إلى الإيثار والتضحية من أجلهم. وفي أحيان أُخرى - أو في الوقت نفسه - يتمُّ التسويق لقيم أُخرى تقف على الطرف النقيض من القيم الأُولى.
فعلى سبيل المثال: في التعاليم المذهبية والدينية يتمُّ تصنيف الانغماس في حبِّ الدنيا، وجمع الأموال على أنَّها أُمور مخالفة ومتنافية مع القيم، في حين أنَّ الواقع الاجتماعي - بعيداً عن الانغماس في الدنيا واكتناز الثروة - لا يُوفِّر إمكانية الحياة لجميع الأفراد على السواء. فلبس العباءة للمرأة يتمُّ الترويج له تارةً على أنَّه قيمة حضارية للمرأة، وفي الوقت نفسه يتمُّ تصويره في مقلب آخر على أنَّه مخالف للقيم.
إنَّ التعارض القائم بين القيم يؤدّي إلى تسلّل هذا التضادّ إلى المجتمع ويعمل على تقسيمه إلى قطبين متنافرين أو إلى عدَّة أقطاب متنافرة تماماً. كما أنَّ هذا التناقض في القيم والمعايير يُعرِّض النظم والتلاحم الاجتماعي لخطر الانهيار، حيث يتدنّى مستوى العلاقات الاجتماعية، ويخلق مرتعاً خصباً لانعدام الثقة الاجتماعية، ويحدُّ من العلاقات العاطفية الخاصَّة(19). إنَّ هذا الوضع يؤدّي بدوره إلى انتكاسة في الرسمال الاجتماعي، كما يُضعِف من الرقابة والسيطرة الاجتماعية في المجتمع، وبذلك يرتفع حجم الآفات والانحرافات الاجتماعية بشكل مخيف.
لا بدَّ من الالتفات إلى وجود نظريات أُخرى في بيان الانحراف.
وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ أسباب الانحراف من الكثرة والاتِّساع والتأثير، بحيث إذا أمكن العمل على إصلاحها عبر آلية محدَّدة وفاعلة ومجدية، سوف يمكن القضاء على الجزء الأعظم من الانحرافات الاجتماعية.
تقوم دعوى هذا المقال على إمكانية توفير الأرضية اللازمة لإصلاح الانحرافات والآفات عبر آلية (انتظار الفرج) والعمل على الحدِّ منها وتقليلها إلى حدٍّ كبير.
انتظار الفرج: آلية دينية لتطوير وبناء الإنسان وتكامله:
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَـى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (الشورى: 13).
لقد عدَّد الله في هذه الآية الكريمة جميع الشـرائع التي ظهرت على طول التاريخ، وكان بإمكانها إيصال الإنسان إلى كماله وسعادته الحقيقية، وقد تمَّ حصـر أنبياء هذه الشـرائع في خمسة، وهم: النبيُّ نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى (عليهم السلام)، والنبيُّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)؛ إذ لو كان هناك من شريعة أُخرى لذكرها تعالى؛ لكونه في مقام بيان جامعية الشرائع.
إنَّ هذه الآية الكريمة وغيرها من الآيات القرآنية الأُخرى تُثبِت أنَّ أنبياء الله ينشدون هدفاً واحداً، ولا يوجد هناك أيُّ اختلاف بينهم؛ لأنَّهم أخذوا الوحي والإلهام من مصدر واحد(20).
وعلى هذا الأساس لا يوجد من الناحية العقلية ما يُبرِّر أن يوحي الله - وهو العالم الحكيم - إلى أنبيائه أحكاماً متعارضة ومتناقضة. وطبقاً للآيات الإلهية والعقل الإنساني حيث تكامل أجيال البشـر على طول التاريخ (من الناحية العقلية والقدرة على احتضان واستيعاب الوحي الإلهي) فإن: (أنبياء الله كالمعلِّمين، ربّى كلٌّ منهم البشـرية في فصل دراسي، وبعد انتهاء المرحلة الدراسية الخاصَّة به، يُسلِّم المجتمع البشري إلى معلِّم آخر؛ ليجتاز الأفراد مرحلة دراسية أعلى)(21). ومن هنا فإنَّ القرآن الكريم في هذه الآية: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسَـى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 136) يأمر المسلمين بتقديس جميع الأنبياء والمرسلين على السواء.
كان الله سبحانه وتعالى يُنزل في كلِّ عصـر جانباً من الشـريعة بما يتناسب مع مستوى ما توصَّلت إليه المجتمعات البشـرية من التقدُّم والتكامل، والفرق الوحيد بين الشـرائع المتعدِّدة يكمن في (الإجمال والتفصيل وحجم الفروع) وليس شيئاً آخر. حتَّى بلغ الإنسان بالتدريج - بعد فترة من الانتظار - مرحلة من البلوغ العقلي والفكري، جعلته أهلاً لتقبُّل المعارف والتعاليم الإلهية السامية.
في هذه الظروف يكون (الإنسان من حيث العلم والمعرفة قد وصل إلى أعلى المراتب)، وهذا التقدُّم والتكامل هو الذي أدّى إلى ختم رسالات السماء بالنبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء، الذي تمكَّن - بالإضافة إلى (تصديق ما جاء به الأنبياء السابقون) - من أن يأتي من عند الله بأكمل الشرائع المشتملة على جميع الشرائع السابقة، ولكلِّ البشر على طول التاريخ(22).
ومن الطبيعي أن تكون رسالة خاتم الأنبياء - الذي يكون أساسه هو نفس أساس شرائع الأنبياء السابقين وهدفه هدفها، وماهيَّة شريعته ذات ماهيَّة شرائع الأنبياء السابقين - هي (التسليم) أمام (الأُطروحة) الإلهية، يجب أن يتمَّ الإذعان لها بشكل صحيح من قِبَل الذين يدينون بدين الأنبياء السابقين، إذ طبقاً للماهيَّة المتدرِّجة للشـرائع الإلهية، لو تسنّى لكلِّ نبيٍّ من الأنبياء السابقين أن يشهد عصر النبيِّ الذي يليه لكان مذعناً له ولآمن بشريعته.
وكذلك لو تسنّى لجميع الأنبياء أن يشهدوا عصـر خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلم) لانضمّوا تحت لوائه وإمرته، وصاروا من أتباع شريعته.
ويبدو أنَّ السبب الوحيد الذي يدعو أتباع الأنبياء السابقين إلى الامتناع من اتِّباع أوامر وتعاليم النبيِّ اللاحق هو عدم إيمانهم الحقيقي بأنبيائهم وتعاليمهم، بالإضافة - كذلك - إلى وجود المنافع الشخصية والقومية والعرقية في شريعتهم الإلهية؛ وذلك لأنَّ كلَّ واحد من الأنبياء السابقين قد عرَّف أتباعه بالنبيِّ الذي يليه باسمه ومواصفاته وظروف عصـره وحتَّى مكان ظهوره، وإنَّ أتباع الأنبياء السابقين بدورهم كانوا يقضون فترة انتظار ظهور النبيِّ الذي وعد به نبيُّهم، وقد تمتدُّ فترة الانتظار أحياناً لمدَّة طويلة من الزمن.
وعلى سبيل المثال يمكن الإشارة إلى الآية الحادية والأربعين من سورة البقرة، إذ يقول الله تعالى: ﴿وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾.
إنَّ الله سبحانه وتعالى في صدر هذه الآية يأمر اليهود - الذين كانوا من أشدّ المخالفين للنبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) - أن يؤمنوا بالقرآن والنبيِّ؛ لأنَّ القرآن مصدِّق بالتوراة وشاهد عليه، وأنَّ التوراة قد ذكرت صفات نبيِّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلم) وتعاليمه الصحيحة. فلو أنَّكم قارنتم صفات نبيِّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلم) بما تجدوه في التوراة، ستُدركون أنَّ القرآن منزل من عند الله، وأنَّ من جاء به لا يمكن إلَّا أن يكون صادقاً. فالقرآن يُصدِّق الكتاب الذي بحوزتكم، والذي يحتوي على البشارة التي بشَّـر بها جميع الأنبياء السابقين أتباعهم، من أنَّ نبيّاً سيأتي يحمل هذه الصفات، وأنَّ القرآن يُصدِّق هذه البشارة الواردة في التوراة(23).
ورد في بيان شأن نزول القسم الأخير من هذه الآية الشـريفة، حيث يعكس سبب عدم إيمان اليهود بالنبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم)، عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام)، أنَّه قال:
«كان حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وآخرون من [أثرياء](24) اليهود لهم مأكلة على اليهود في كلِّ سنة، فكرهوا بطلانها بأمر النبيِّ؛ فحرَّفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره [ليواصلوا أخذ تلك المأكلة من الناس](25)»(26).
من هنا يمكن استنتاج الأُمور الآتية:
1 - إنَّ الأنبياء الذين كانت لهم شرائع سماوية، هم خمسة أنبياء لا أكثر، وهم: النبيُّ نوح، والنبيُّ إبراهيم، والنبيُّ موسى، والنبيُّ عيسى (عليهم السلام)، والنبيُّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأمَّا سائر الأنبياء الآخرين (البالغ عددهم 124 ألف نبيٍّ) فكانوا مجرَّد مبلِّغين وناشرين لتلك الشرائع.
2 - إنَّ كلَّ دين آخر غير هذه الأديان الخمسة، إنَّما هو من صنع البشـر، ولا يحظى بتأييد القرآن الكريم.
3 - إنَّ جميع الأنبياء قد تلقّوا الوحي من مصدر واحد، وينشدون غاية واحدة.
4 - إنَّ اختلاف الشرائع السماوية إنَّما يكمن في الإجمال والتفصيل، وفي حجم الفروع فيها.
5 - إنَّ جميع الأنبياء كانوا يُصدِّقون بمن سبقهم من الأنبياء، ويُبشِّـرون بالنبيِّ الذي سيأتي بعدهم.
6 - إنَّ انتظار ظهور المنجي كان موجوداً في جميع الشـرائع السماوية، وفي الفترة الواقعة بين ظهور شريعة وشريعة أُخرى، كان الناس يعيشون فترة من الانتظار.
7 - إنَّ شرائع الأنبياء إنَّما هي في الواقع عبارة عن خمسة شؤون لحقيقة واحدة تُعبِّر عن مسار وهدف واحد متدرِّج.
8 - إنَّ شريعة خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلم) تُمثِّل المرحلة الأخيرة من مراحل ودرجات سُلَّم تكامل الدين الإلهي، حيث تُلبّي جميع ما يحتاج إليه الإنسان، وتشتمل على جميع الشرائع السابقة.
9 - إنَّ شرائع الأنبياء حقيقة واحدة، وهي عبارة عن (تسليم) الإنسان أمام (المشـروع) الإلهي(27).
يُعتَبر (انتظار الفرج) في المسار التكاملي للدين من وجهة نظر القرآن، هو الطريق الرئيس للتكامل الفكري والعقائدي للبشر.
يُعرَفون على أساس الآية السابعة والستّين من سورة آل عمران باسم واحد فقط، هم (المسلمون)(28).
إنَّ ما تقدَّم يُثبِت أنَّ كلَّ واحد من الشـرائع السماوية كانت مقرونة بمرحلة من الانتظار، وما لم تتصرَّم تلك المرحلة وتبلغ نهايتها فلن تصل المرحلة إلى ظهور الشـريعة اللاحقة؛ لأنَّ التكامل الفكري للبشرية في كلِّ مرحلة يقتضـي مقداراً من التعاليم والأحكام الإلهية، ولم يكن بوسع الإنسان في حينها أن يتقبَّل ما يزيد عليها.
ونتيجة لذلك فقد تعاقبت البشـرية على أربع مراحل تكاملية من الانتظار، حتَّى بلغت مرحلة من التقدُّم نحو التكامل؛ حتَّى تمكَّن الإنسان من تحمُّل المعارف والأحكام الإلهية بشكل تامٍّ وكامل.
طبقاً لما تقدَّم نُدرك أنَّ جهود جميع الأنبياء والشـرائع السماوية إنَّما كانت من أجل بلورة آخر الشـرائع السماوية وأكملها (حيث يشتمل عليها بأجمعها)، وذلك إثر تكوّن المجتمع المهدوي بعد انقضاء مرحلة من الانتظار.
وعلى هذا الأساس يمكن القول: إنَّ ثمرة ونتيجة جهود جميع الأنبياء هو الوصول إلى بناء المجتمع المهدوي عبر اجتياز مراحل من الانتظار على طول التاريخ.
وقد بدأت هذه الجهود منذ نزول شريعة نوح (عليه السلام) واستمرَّت إلى هذه اللحظة بشكل متسلسل للوصول إلى هدف واحد، إذ تقدَّم أن قلنا: إنَّ الدين الإلهي حقيقة واحدة ذات شؤون مختلفة ولكنَّها في طول بعضها، وإنَّ كلَّ واحد من هذه الشؤون تولّى فيها نبيٌّ من أنبياء الله مهمَّة التأسيس لها، وإنَّ الأنبياء يُصدِّقون بعضهم بعضاً، وكلُّ لاحق منهم يُكمِل مسيرة السابق.
إنَّ المجتمع المهدوي الذي هو نتيجة جميع الشـرائع السماوية لا يختصُّ بقوم أو مجتمع أو ثقافة محدَّدة، وإنَّه سوف يتبلور عبر مراحل مختلفة من النموِّ والازدهار الفكري والاعتقادي للبشـر على طول تاريخ ما بعد بعثة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وفي هذه المرحلة لا يمكن الوصول إلى التكامل الفكري والاعتقادي للناس إلَّا من خلال انتظار الفرج، كما كان الأمر كذلك في الأزمنة الغابرة، حيث جاء الازدهار الفكري والعقائدي للناس عبر آلية الانتظار أيضاً، ويمكن لنا أن نرى نماذج لذلك في مختلف المحطّات التاريخية(29).
ومن دون سلوك مثل هذا المسار لا يمكن أن يبلغ الإنسان مرحلة النموِّ والتكامل، ومن هنا نجد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الأحاديث الواردة بشأن المهدويَّة هو أوَّل من بشَّـر بهذه الحقيقة، وأمر الأجيال القادمة بذلك، حتَّى ورد في الكثير من الروايات وصف (انتظار الفرج) بأنَّه من أفضل أعمال الأُمَّة الإسلاميَّة، حتَّى نجد الإمام أبا عبد الله الحسين والإمام الصادق عليهما السلام يتمنّيان لو يكونان في ركاب المنجي(30).
كما تُثبِت الدراسات التاريخية أنَّ هذا المسار هو الذي حفظ للتشيّع حيويَّته وحركته المتنامية والمزدهرة، وعدم تأثّره بالمتغيّرات الاجتماعية - الثقافية المتسارعة، بل كان يُضاف إلى حيويَّته حيويَّة أُخرى على مدار الأيّام.
ومن ناحية أُخرى فإنَّ سبب الجمود والشلل الذي أصاب سائر الفِرَق الإسلاميَّة الأُخرى يعود إلى افتقارها إلى هذا المسار أو قلَّة اهتمامهم به في عقائدهم؛ إذ لا مجال للنموِّ والتكامل من دونه.
وبطبيعة الحال فإنَّ المسيحية واليهودية من خلال إدراكهما لهذا الأمر تمكَّنا من الوصول إلى نتائج عجيبة جدّاً، ومن خلال التلفيق بين هذين الأمرين ظهرت فرقة باسم (الصهيونية المسيحية)، تنتهج في الأساس مفهوم (انتظار الفرج)(31)، والملفت أنَّ هذه الفرقة تُمسِك بالأنظمة السياسية في أغلب الدول الغربية بما فيها الولايات المتَّحدة الأمريكية، ويبدو أنَّ جميع الممارسات السياسية والعسكرية يتمُّ تبريرها والدفع بها في ضوء هذا المسار(32).
وعليه فإنَّ الادِّعاء القائم هنا يقول: ألَا يستحق هذا الموضوع - الذي يشتمل على كلِّ هذه الفاعلية والذي حظي بكلِّ هذا الاهتمام من قِبَل الله سبحانه وتعالى - أن تكون له مكانة في حلولنا الاجتماعية والثقافية؟ فإذا كان لمفهوم (انتظار الفرج) مثل هذا الدور في تكامل الإنسان طوال تاريخ ظهور الأديان السماوية، لا شكَّ في إمكان أن يكون له دور مماثل حتماً في إصلاح المشاكل الاجتماعية والثقافية.
انتظار الفرج: طريق لبعث الأمل والقضاء على الآفات والانحرافات:
ربَّما أمكن القول بأنَّ التفاؤل بالمستقبل من أهمّ العوامل في تحريك وحيوية وازدهار المجتمع والأفراد على مستوى الثقافة والاقتصاد والسياسة.
إنَّ التفاؤل بالمستقبل يسدُّ الطريق على الكثير من الانحرافات والآفات، ويعمل في مختلف جوانب الحياة على تحريك الفرد لبذل المزيد من الجهود.
إنَّ الذين يفقدون الأمل هم في العادة يعيشون حالة من العزلة والانطوائية، أو السكون في الحدِّ الأدنى، أمَّا الذين يتمتَّعون بالأمل فلا يكتفون بعدم الخضوع للمخاطر والسلبيات المختلفة، ولا يستسلمون للضغوط والأحوال القاسية، بل ويعتبرونها فرصاً مناسبة ومؤاتية لتحسين الأداء ومواصلة الطريق.
وفي المقابل نجد الأفراد المحبطين يستسلمون لطوفان الحوادث دون أن يُبدوا أيَّة مقاومة تجاه المُتغيّرات الحاصلة ناسين قدراتهم وطاقاتهم وكلّ إمكاناتهم في هذا المجال، بل قد يجدون نفسهم منهارين ومتهاوين أمامها. وعليه فإنَّ وجود الأمل يمنح المجتمع نشاطاً وحركةً وحيويةً، ويُمهِّد الأرضية لازدهار وانتعاش الطاقات والكفاءات. إنَّ انقراض واضمحلال المجتمع الفاقد للأمل إذا لم يكن حتمياً، فهو وشيك لا محالة.
إنَّ تأثير الأمل على النظام الاقتصادي والسياسي في المجتمع عميق جدّاً، إلَّا أنَّ تأثيره على الثقافة والعناصر الثقافية يحظى بأهمّية أكبر؛ وذلك لأنَّ التفاؤل والأمل إذا لم يتمّ التعامل معه بوصفه أصلاً وأساساً في الثقافة، فإنَّه سوف يُبتلى بالموت والفناء، كما سيترك تأثيراً سلبياً للغاية على سائر الأنظمة الاجتماعية وسيُعرِّض النظام الشخصي للأفراد للفناء أيضاً.
وربَّما لهذا السبب يُعَدُّ اليأس والقنوط في الثقافة الإسلاميَّة من بين الذنوب الكبيرة (الكبائر).
من هنا يشتمل نظام الثقافة الدينية (التشيّع) على عناصر ثقافية كبيرة للغاية، من أجل بثِّ الأمل وتزريقه في المجتمع على المستويات، والتي سيؤدّي توظيفها (بالإضافة إلى التخطيط) إلى إحداث نقلة نوعية وعميقة في المجتمع.
ومن بين تلك العناصر التي تُزوِّد الأنظمة الجزئية في المجتمع، ويبعث روح التفاؤل لدى الأفراد بالمستقبل، ويحول دون تسلّل العناصر الثقافية الأجنبية، هو انتظار الفرج. للأسف الشديد فإنَّ النتائج التي نحصل عليها من خلال الدراسات الإجمالية بشأن المسارات الثقافية السائدة والآخذة في الاتِّساع، تشير إلى انخفاض حجم استفادة النظام السياسي والمخطِّطين لثقافتنا واستثمارهم لهذه الثروة العظيمة.
في حين أنَّ هذه الدراسات نفسها تُشير - كما سبق أن ذكرنا - إلى التوظيف الكبير والمفرط أحياناً لهذه العقيدة من قِبَل سائر الأديان (ولاسيّما المسيحية منها)، حتَّى في المجالات العسكرية واجتياح البلدان، وإنَّ هذه الغفلة قد تبلغ في بعض الأحيان حدّاً يؤدّي ببعض المسلمين إلى الركون والاستسلام لليأس رغم امتلاكهم لكلِّ مقوّمات التمسّك بروح التفاؤل والأمل.
ربَّما كان أحد الأدوار الهامَّة والجوهرية لكلِّ نظام سياسي، بعث روح الأمل والتفاؤل في نفوس أفراد المجتمع؛ وذلك لأنَّ الحيوية والخطوات المتطلّعة بالأفراد والمجتمع إلى الأمام، تُشكِّل أرضية لثبات واستقرار النظام السياسي وتعزيز دعائمه.
وعلى هذا الأساس كلَّما كان قلق النظام السياسي على بقائه أكبر، كلَّما وجب عليه حثّ أعضاء المجتمع على التفاؤل.
ولا يخفى أنَّ اليأس والقنوط وتعميمه على مستوى المجتمع، يمكنه أن يؤدّي إلى تغيير النظام السياسي.
إنَّ انتظار الفرج يمنح الحياة الاجتماعية نشاطاً وأملاً، ويجعل النظام الثقافي متعالياً وراقياً، ويحفظ النظام السياسي من الحوادث والعقبات من خلال بثّ روح الأمل في أفراد المجتمع.
ومن خلال روح الأمل التي يتمُّ تزويد الكيان الاجتماعي بها من خلال مفهوم الانتظار، يحصل الأفراد على مناعة في مواجهة أمواج الفساد والانحراف، فلا يصابون باليأس عند اتِّساع رقعة الانحراف، بل بحكم القول القائل (كلَّما اشتدَّت حلقاتها فُرِجَت) يرون بلوغ الهدف قريباً جدّاً، وكأنَّه ماثل بين أعينهم، فيزدادون حماسةً في محاربة الفساد أو الدفاع عن وجودهم بكلِّ يقين وثقة(33).
إنَّ طبيعة الإنسان بحيث إذا انتشـر الفساد بعد اليأس وانعدم الأمل بإمكان إصلاح الوضع، يستولي عليه التصوّر القاضي بفوات الأوان، وأنَّه لم يعد بالإمكان التمسّك بحبال الأمل لإصلاح الأُمور.
وعلى هذا الأساس فإنَّه سينساق وراء تصوّره، فيرى في كلِّ جهد لإصلاح الأُمور مجهوداً عبثياً(34). أمَّا الأمل الذي يتمُّ تزريقه في البنية الاجتماعية والثقافية عن طريق (انتظار الفرج)، فهو الأمل بالإصلاح النهائي وتكوين المجتمع المتمحور حول العدالة والمجتمع المثالي الذي يطمح له الدين، حيث يرى كلّ جهد في إطار تحقيقه يُمثِّل انتصاراً.
وبعبارة أوضح: إنَّ الجهد المبذول من أجل تحقيق المجتمع المهدوي لا يمكن أن يقترن بأيِّ خسارة أو اندحار؛ إذ حتَّى القتل في هذا السبيل يُعتَبر فوزاً عظيماً وغاية مطمح وأُمنية لكلِّ حرٍّ. وربَّما لهذا السبب لا يتطرَّق اليأس والقنوط أبداً إلى نفوس المنتظرين للمنجي، وحيث يبلغ التفاؤل عندهم ذروته، فإنَّهم لا ينجذبون إلى الفساد والفحشاء والانحراف، بل ويسعون إلى إصلاح هذه الأُمور.
إنَّ آلية انتظار الفرج من خلال بعث الأمل المقرون بالمحبَّة والتفاني يستطيع السيطرة على السلبيات والآفات الاجتماعية.
وكما هو واضح فإنَّ هذا النوع من الأمل يرفع من مستوى تعلّق الأفراد وشعورهم بالانتماء إلى المجتمع والدين، ويضاعف من شعورهم بالمسؤولية، والأهمّ من كلِّ ذلك حيث يشعر جميع الأفراد بالمسؤولية تجاه بعضهم، فإنَّ مستوى الرقابة والسيطرة الاجتماعية سيتضاعف إلى حدٍّ كبير.
انتظار الفرج: طريق إلى إصلاح شخصيَّة الأفراد:
إنَّ من بين الأسباب الرئيسة في ظهور الانحراف، عدم تبلور الشخصية المنسجمة والمتناغمة مع القيم والتعاليم الدينية والاجتماعية.
إنَّ انتظار الفرج يُمهِّد الأرضية بحيث يعمل المنتظرون على توظيف القيم والتعاليم الدينية في بناء أنفسهم بما يجعلهم في المستقبل أهلاً للانخراط في صفِّ الثوريين. فهم يؤمنون بأنَّ التحلّي بالطهر والروح الشفّافة والتمتّع بالصدق والوعي هو وحده الذي يُخوِّلهم انتظار مجتمع يُمثِّل ثمرة ونتيجة جهود جميع الأنبياء.
إنَّهم يُدركون أنَّهم إذا أصبحوا فاسدين ومنحرفين، لا يستطيعون أن ينتظروا نظاماً يكافح المنحرفين والفاسدين، ولا يمكن أن يكون هناك أيّ دور للفاسدين والمنحرفين في مثل هذا النظام(35). وعلى هذا الأساس يجب على الذين ينتظرون هذا النظام السياسي أن يعكسوا المعتقدات والتعاليم الدينية على أنفسهم وأن يجعلوا من الدين جزءاً من ذواتهم، وأن يتمتَّعوا بتوجّهات لا تحيد عن أهداف الدين أبداً.
إنَّهم وطبقاً للآية رقم مائتين من سورة آل عمران (يرتبطون) بإمامهم ارتباطاً وثيقاً، وعلى أساس ذلك يبلغون مرتبة ﴿أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ﴾ (البقرة: 165) حتَّى ينسوا كلَّ شيء سواه.
إنَّ المنتظرين حيث يعتقدون أنَّهم في عين إمامهم لحظة بلحظة، يرون أنفسهم مرتبطين به دائماً، ويسعون إلى تنظيم أفعالهم ومواقفهم الاجتماعية بحيث لا يسقطون من عين إمامهم.
إنَّ طبيعة مثل هذه الحالات المقرونة بالصبر والمراقبة الشديدة تؤدّي إلى تبلور شخصيَّة مقاومة وثابتة وقويَّة تتمتَّع بالاعتدال والحيوية اللازمة والكافية.
إنَّ مثل هذه الشخصية لا تصاب بالانحراف أبداً، حيث يرى أتباع الإمام أنفسهم على الدوام عرضة للأحكام القضائية الصادرة عن إمامهم الحيّ، ولذلك يرون الأخطار محدقة بهم على الدوام، وتراهم يرفعون من مستوى مراقبتهم لأنفسهم لحظة بلحظة، وإنَّ هذه المراقبة المتزايدة ترفع من مستوى القوَّة والثبات في شخصياتهم. قال الله تعالى في هذا الشأن: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِـرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فُصِّلت: 30).
إنَّ إدخال المعتقدات البديهية في الإطار الذاتي ينطوي على الكثير من الأهمّية في بناء الانتظار، بيد أنَّ الذي يجعل من شخصية الفرد - طبقاً لهذه الآية الكريمة - شخصيَّة قويَّة وراسخة، وتجري منها عيون المعرفة والعرفان، هي الاستقامة والصبر والثبات على المبادئ.
وعلى هذا الأساس فإنَّ انتظار الفرج إذا اقترن بالاستقامة والصبر والثبات، سوف يُعَدُّ طريقاً رئيساً وأساسياً في بناء شخصيَّة الأفراد(36). ولا بدَّ من الالتفات - بطبيعة الحال - إلى أنَّ الأمل والتفاؤل على أساس انتظار الفرج إذا بلغ الذروة، فإنَّ الاستقامة والصبر والثبات في مرحلة الانتظار لن يكون مشكلاً أبداً(37).
إنَّ للأمل دوراً أساسياً في الاستقامة والصبر والثبات، وبالتالي في بناء شخصيَّة الأفراد، وطبقاً لما تقدَّم فإنَّ انتظار الفرج يبلغ بالأمل والتفاؤل مرحلة لا يتسلَّل إليها أيُّ نوع من أنواع اليأس والقنوط أبداً.
انتظار الفرج: آلية لرفع مستوى الرقابة والسيطرة الاجتماعية:
كما تقدَّم أن ذكرنا فإنَّ الرقابة والسيطرة الاجتماعية تنقسم إلى قسمين: داخلي وخارجي. وإنَّ الرقابة والسيطرة الداخلية إنَّما تكون مجدية وفاعلة إذا كانت شخصية الأفراد قد تبلورت بحيث تقوى فيها السيطرة الذاتية، وكان لكلِّ شخص فيها واعظ من نفسه.
وبعبارة أُخرى: أن تتحوَّل المعتقدات والقيم والمعايير بشكل تُعَدُّ معه جزءاً من ذات الفرد، بحيث تتغيَّر الشخصية الفردية وتغدو حيوية بفعل المتغيّرات الاجتماعية والثقافية.
وكما تقدَّم أن ذكرنا في العنوان السابق فإنَّ انتظار الفرج يؤدّي بشخصية الأفراد إلى التحوّل بحيث يكون الاستحكام والثبات والتقدّم فيها من خصائصها الأوَّلية والبديهية. وحيث تكون خصوصية الانتظار مقرونة دوماً بالاستقامة والصبر والمراقبة، فإنَّ الحيوية والحركة في الشخصية تكون بحيث لا تقترن بالتخلّف والرجعية أبداً.
إنَّ السيطرة الداخلية لدى هذا النوع من الأشخاص تكون قد بلغت طورها الأتمّ والأكمل، وتغدو مراقبتهم الذاتية من خصائصهم الذاتية على كافَّة الجهات.
أمَّا السيطرات الخارجية، فتتمُّ عبر المجتمع والمراكز الرسمية. فإذا كان أفراد المجتمع يهتمّون ببعضهم، ويشعرون بالمسؤولية تجاه بعضهم، وكان اهتمامهم بمصير المجتمع والطبقة التي ينتسبون إليها قويّاً، فإنَّ الرقابة والسيطرة الخارجية في ذلك المجتمع سوف تكون قويَّة أيضاً؛ لأنَّهم سوف يرصدون كلّ نوع من أنواع الانحراف ويقفون أمامه ويواجهونه بالشكل المنطقي اللائق.
إنَّ هؤلاء لا ينتظرون أيَّ سيطرة رسمية أو إجراءات من قِبَل المنظَّمات المسؤولة، رغم أنَّ السيطرة الخارجية تشمل الرقابة والسيطرة القانونية أيضاً.
إنَّ الأشخاص في المجتمع الذي يُعَدُّ فيه (الانتظار) المنهج الرئيس، يتمتَّعون بشخصيَّة قويَّة، ومشاعر اجتماعية متينة، وعواطف مرهفة تُشكِّل أساس النظام الاجتماعي. وحيث إنَّ الأفراد في مثل هذا المجتمع ينتظرون قيام المجتمع المهدوي، فإنَّهم يتمتَّعون بمسؤولية اجتماعية قويَّة، فلا يغفلون عن أخطاء الآخرين وانحرافاتهم، وحيث يرون أهمّية لمصير مجتمعهم فإنَّهم يُشكِّلون سدّاً منيعاً بوجه المنحرفين والفاسدين.
ومن بين الآثار والنتائج المترتّبة على الانتظار، إنَّه يدفع الفرد إلى المسارات المتوائمة والمتماهية مع الذات، ويحول دون الخوض في المسارات المتضادَّة أو الموازية لها(38). ومن جهة أُخرى فإنَّ تحقّق الانتظار ممكن في الحقيقة مع الانتظار لحظة بلحظة؛ إذ لم يتمّ تحديد وقت محدَّد للظهور، وإنَّ تحقّقه يحصل فجأةً(39). كما أنَّ إمام المنتظرين حيٌّ ويشهد أعمال وسلوكيات أتباعه على الدوام. وإنَّ هذا الاعتقاد يؤدّي بأتباع الإمام المهدي (عليه السلام) إلى أن يعتبروا أنفسهم تحت مراقبته؛ فلا يرتكبون ما يخالف أهدافه. ومثل هذا الشعور يرفع من مستوى الإحساس بالمسؤولية، ويُقلِّل خطر الانحراف ويصل به إلى مستوى الصفر. وحتَّى إذا تجاوزنا هذا الأمر، وسلَّمنا جدلاً بوجود بعض الأشخاص الذين لا يعتقدون بهذه الأُمور، إلَّا أنَّهم مع ذلك لا يجرؤون على فعل ما يخالف حركة الانتظار بفعل التركيبة الاجتماعية التي تطغى عليها هذه الحالة.
وبعبارة أوضح: عندما تكون شخصية الأفراد متبلورة على أساس مسار الانتظار بشكل جيِّد، واقترنت بالاستحكام والثبات المقرون بالحيوية، فإنَّ التركيبة الاجتماعية العامَّة ستكون بحيث يكون توجّهها متعارضاً مع الانحراف والشذوذ. إنَّ مثل هذا التناغم إذا قام بين المنظومة الشخصية والنظام الاجتماعي والنظام الثقافي، فسوف يؤدّي بدوره إلى الاعتدال والحيوية الثقافية والاجتماعية.
انتظار الفرج: آلية ازدياد الثروة الاجتماعية:
طبقاً لما تقدَّم فإنَّ انتظار الفرج يفضـي إلى زيادة التمسّك بالتقاليد والالتزامات الاجتماعية والأخلاقية وما إلى ذلك. ومن جهة أُخرى فإنَّ الأفراد يتمسَّكون بالقيم والمعايير والمتبنّيات بشدَّة، ويحافظون عليها. إنَّهم ينتظرون تأسيس المجتمع المهدوي الذي سيكون الدين أساساً ورافعاً له. وإنَّ هذا الشعور بالمسؤولية والاعتقاد سيحملهم - بشكل طبيعي - على اعتبار العالم بأسره موطناً لهم، ولذلك يسعون إلى الحيلولة دون انحرافه، كما يجهدون في بنائه وعمارته. وعندما تنخفض الاتّجاهات القومية لدى الأفراد إلى أدنى مستوياتها، ترتفع حظوظ الاتّجاهات العامَّة والعالمية إلى أعلى مستوياتها، وسوف يقيم الجميع علاقاتهم على أساس المحبَّة العامَّة؛ وذلك لأنَّ من بين العناصر الرئيسة للنظام المهدوي الذي سيقيمه الإمام الحجَّة بن الحسن العسكري (عليه السلام) في آخر الزمان، هو جمع العالم بأسره تحت لواء واحد، ولن يكون في هذه الدولة العالمية موطناً للأنظمة السياسية العنصـرية والقبلية أبداً.
إنَّ جميع الأفراد في هذا المجتمع متساوون، ويُنظَر إليهم بنظرة واحدة. فإذا كانت هذه هي هوية هذا النظام السياسي، يجب أن تكون حالة المنتظرين كذلك. فيجب عليهم أن يعتبروا آلام الآخرين آلامهم، وسعادة الآخرين سعادة لهم. وأن يعمدوا من خلال علاقاتهم العاطفية والمخلصة مع الجميع، أن يُقدِّموا يد العون إليهم، و(أن يبلسموا جراح الآخرين، وأن يسعوا إلى رفع مشاكلهم والتخفيف من معاناتهم في حدود الإمكان بما يرضي إمامهم. فإذا كان ذلك، لن يكون هناك في حدود الجغرافيا والمجتمع الذي يحكمه الإمام المهدي (عليه السلام) محروم أو مُعدَم أو مريض أو مكتئب أو حزين أو محتاج...، وربَّما كان من معاني بعض الأحاديث القائلة: (انتظار الفرج، فرج) يرمي إلى هذا المعنى، وهو أنَّ المجتمع المنتظر إذا كان انتظاره حقيقياً وصادقاً، فإنَّه في الحدِّ الأدنى وفي حدود دائرته [مجتمعه] يعمل على رفع المشاكل والمنغّصات عن كاهل الناس، ويعمل على تحقيق الأهداف التي يريدها الإمام الموعود في محيطهم. من هنا تمَّ تفسير سورة العصر بعصر الغيبة)(40).
إنَّ توسيع رقعة العلاقات التضامنية والحماية الاجتماعية في المجتمع، يؤدّي إلى تقليل الظلم الاجتماعي، وخفض مستوى التضاد في القيم، ورفع مستوى الوفاق الأخلاقي والقيَمي والمسؤوليات الاجتماعية لأفراد المجتمع، ويبسط العلاقات الحميمة والودّية.
ومن جهة أُخرى فإنَّ بسط العلاقات التي تُوفِّر الحماية الاجتماعية في المجتمع تُقلِّل من حالات الحرمان والانتحار واليأس والاستغلال والانفعال الاجتماعي(41).
إنَّ هذه الشـرائط والمناخات تؤدّي إلى رفع مستوى الثقة والاعتماد الاجتماعي وبسط العلاقات الاجتماعية، وبذلك ستكون للأفراد مشاركة وإسهام واسع في النشاطات الاجتماعية ذات الصبغة الدينية في الأعمّ الأغلب. وحيث يكون الالتزام والصدق لدى المنتظرين في مرحلة الانتظار قائماً، يرتفع هنالك مستوى الاعتماد وتكون العلاقات الاجتماعية في أحسن وأفضل حالاتها. من هنا يرتفع منسوب الرسمال الاجتماعي، وفي هذا السياق تنحسر حالات الانحراف في المجتمع إلى حدٍّ كبير.
انتظار الفرج: آلية تعزيز الانتماء الاجتماعي والوفاق الأخلاقي:
يتَّضح ممَّا سبق على نحو جيِّد أنَّ مرحلة الانتظار وما يتبلور من البنى الاجتماعية والنظام الشخصـي الذي يتمُّ إيجاده، أنَّ تعارض القيم والمعايير ينخفض بشدَّة، ويرتفع مستوى التوافق على القيم. وفي ظلِّ هذه الظروف يرتفع حجم الانتماء والتبعية الاجتماعية. ولا يخفى - بطبيعة الحال - أنَّ آلية هذا الانخفاض والارتفاع يجب أن يتمَّ تحقيقها وتحديدها، وهذا في حدِّ ذاته يستدعي بحثاً تفصيلياً مستقلّاً. وفي عملية الاستنتاج ممَّا سبق، يمكن التأكيد على الموارد الآتية:
1 - إنَّ انتظار الفرج يُعَدُّ الأرضية لبلورة الشخصية المتقدِّمة والحيوية في المجتمع.
2 - إنَّ انتظار الفرج يقضـي على اليأس والقنوط في المجتمع، ويُبقي الأمل والتفاؤل على أعلى مستوياته.
3 - إنَّ انتظار الفرج يرفع مستوى الرقابة والسيطرة الاجتماعية على المستوى الداخلي والخارجي، ويُقلِّل من النفقات الاجتماعية والسياسية المترتّبة على هذه الرقابة وتلك السيطرة.
4 - إنَّ انتظار الفرج يؤدّي إلى زيادة الثقة والاعتماد الاجتماعي، والعلاقات الاجتماعية، والمشاركة والمسؤولية الاجتماعية، ويرفع من الرصيد والرسمال الاجتماعي أيضاً.
5 - إنَّ انتظار الفرج يرفع من مستوى الانتساب والعواطف الاجتماعية، ويُعزِّز الشعور بالمسؤولية لدى الأفراد.
6 - إنَّ انتظار الفرج يؤدّي إلى خفض التعارض والتضادّ الاجتماعي والمعياري والقيَمي إلى حدٍّ كبير، ويعمل على سدِّ الثغرات والفجوات الاجتماعية والاقتصادية بشكل لائق.
7 - إنَّ انتظار الفرج يدفع بجميع الأفراد نحو الوصول إلى هدف وغاية واحدة، الأمر الذي يساعد على رفع مستوى الوفاق والتوافق على القيم والمعايير.
8 - إنَّ جميع هذه الأُمور تساعد على بلورة البنية الاجتماعية والشخصية بحيث تؤدّي إلى انخفاض مستوى الانحراف، واقتصاره على محافل خاصَّة وفردية.
9 - في مرحلة الانتظار يرتفع منسوب الشعور بالأمن والهدوء والطمأنينة، وتنخفض أسباب الخوف والقلق.
10 - في مرحلة الانتظار تصبح العدالة والمساواة محور المفاصل الاجتماعية، وينخفض منسوب الشعور بالحرمان النسبي.
11 - في مرحلة الانتظار يرتفع مستوى الشعور بالمسؤولية والتعاطف مع الآخرين، ويقلُّ الانحياز إلى القومية والأنانية والغرور والتكبّر.
12 - في مرحلة الانتظار يرتفع مستوى الشعور بالانتماء إلى المجتمع والجماعة، وتتَّسع رقعة العلاقات المخلصة القائمة على العواطف والمشاعر.

الهوامش:
(1) اُنظر: منتخب الأثر للصافي الكلبايكاني: 424 و428 و432/ مركز نشر الكتاب/ قم.
(2) اُنظر: ونداليسم اجتماعي لعليّ محسني تبريزي (مصدر فارسي): 30.
(3) لمزيد من الاطِّلاع، اُنظر المصادر الآتية:
أ - قيام وانقلاب مهدي از ديدگاه فلسفه تاريخ لمرتضـى مطهَّري (مصدر فارسي): 62/ انتشارات جامعه مدرِّسين/ قم.
ب - (http://www.hawzah.net/per/magazine/index.htm).
ج - تفسير نمونه (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل) لمكارم الشيرازي 7: 381 و382.
د - نگاهي دوباره به انتظار لمجيد حيدري نيك (مصدر فارسي)/ فصلية انتظار التخصّصية.
(4) اُنظر: شيعه در اسلام (الشيعة في الإسلام) للعلَّامة الطباطبائي: 232/ ط 1383ش/ نشـر دفتر انتشارات اسلامي. واُنظر أيضاً: گفت وگو درباره ى امام مهدى (بحث حول المهدي) لمحمّد باقر الصدر/ ترجمه إلى الفارسية: مصطفى شفيعي، (نقلاً عن صحيفة انتظار التخصّصية/ العدد الأوَّل).
(5) لمزيد من الاطِّلاع، اُنظر المصادر الآتية:
أ - انتظار مذهب اعتراض لعليّ شريعتي (مصدر فارسي): 6 و7، و9 - 11.
ب - قيام وانقلاب مهدي از ديدگاه فلسفه تاريخ لمرتضـى مطهَّري (مصدر فارسي): 62.
ج - زمام در آينده لمحمّد جواد مغنية/ ترجمه إلى الفارسية: إبراهيم دامكافي وآخرون: 5/ ط 1344ش.
د - (http://www.hawzah.net/per/magazine/index.htm).
هـ - صحيفة قدس (الإيرانية)/ بتاريخ: (15/4/1385ش).
و - تفسير نمونه (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل) لمكارم الشيرازي 7: 381 و382.
(6) اُنظر: آسيب هاي اجتماعي ايران/ إعداد: انجمن جامعه شناسي ايران (مصدر فارسي): 17.
(7) اُنظر: ونداليسم اجتماعي لعليّ محسني تبريزي (مصدر فارسي): 68 و69.
(8) اُنظر: حاشيه نشيني در شهر مشهد وچشم انداز آينده لمحمّد باقر آخوندي (مصدر فارسي)/ انتشارات مؤسَّسه تحقيقات ومطالعات بين المللي ابرار معاصر/ ط 1382ش.
(9) اُنظر: آسيب هاي اجتماعي ايران/ إعداد: انجمن جامعه شناسي ايران (مصدر فارسي): 20.
(10) يرى (ريموند بودن) أنَّ الرقابة الاجتماعية عبارة عن مجموعة من المصادر المادّية والرمزية التي يمتلكها المجتمع لضمان التناغم والمواءمة بين سلوكيات أفراده في مواجهة الانحرافات، مع سلسلة من القواعد والأُصول المعيَّنة التي تتمتَّع بالضمانة التنفيذية. (جامعه شناسي كج روى (مصدر فارسي): 585/ ط 1380ش/ انتشارات پژوهشكده حوزه ودانشگاه).
(11) اُنظر: درآمدي بر جامعه: 176/ ط 1377ش/ انتشارات آستان قدس رضوي.
(12) اُنظر: جامعه شناسي نظم لمسعود جلبي (مصدر فارسي): 71/ ط 1375ش/ نشر ني.
(13) (Social Capital).
(14) روبرت بوتنام، أُستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد الأمريكية، أجرى استطلاعاً شمل عشـرات آلاف الأشخاص من المواطنين الأمريكيين من شتّى القوميات والأعراق؛ ليصل من خلال ذلك إلى نتيجة مفادها: أنَّه كلَّما زاد عدد الأعراق والقوميات في مجتمع، كلَّما انخفض مستوى الثقة والاعتماد بين أفراد المجتمع على مستوى التعامل مع القوميات الأُخرى، وحتَّى مع أبناء قوميتهم. وتتلخَّص رؤيته لرأس المال الاجتماعي في فكرته الأساسية القائلة: إنَّ الشبكات الاجتماعية تتضمَّن قيمة للأفراد، فالعلاقات الاجتماعية عنده تشبه رأس المال البشري. (المعرِّب).
(15) (http://www.sse.rue.dk/instirutional/research-paper).
(16) اُنظر: ونداليسم اجتماعي لعليّ محسني تبريزي (مصدر فارسي): 55.
(17) اُنظر: المصدر السابق: 61.
(18) اُنظر: المصدر السابق: 63.
(19) اُنظر: جامعه شناسي نظم لمسعود جلبي (مصدر فارسي): 117.
(20) اُنظر: تفسير نمونه (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل) لمكارم الشيرازي 1: 345.
(21) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل لمكارم الشيرازي 1: 259/ ط 2/ 1430هـ - 2009م/ الأميرة للطباعة والنشـر والتوزيع/ بيروت.
(22) اُنظر: الترجمة الفارسية لكتاب الميزان في تفسير القرآن 8: 268.
(23) اُنظر: تفسير نمونه (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل) لمكارم الشيرازي 1: 144.
(24) لا توجد في المصدر.
(25) ليست من المصدر.
(26) مجمع البيان للطبرسي 1: 132/ ط 1/ 1430هـ - 2009م/ الأميرة للطباعة والنشـر والتوزيع/ بيروت.
(27) اُنظر: از افسانه يهود ستيزى تا واقعيت اسلام ستيزى در دنيا لمحمّد باقر آخوندي (مصدر فارسي)/ ط 1384ش/ انتشارات مؤسَّسه تحقيقات ومطالعات بين المللي ابرار معاصر. (تحقيق غير منشور).
(28) اُنظر: المصدر السابق: 8.
(29) عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كانت اليهود تجد في كتبها أنَّ مهاجر محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ما بين عير وأُحُد؛ فخرجوا يطلبون الموضع، فمرّوا بجبل يقال له: حداد، فقالوا: حداد وأُحُد سواء؛ فتفرَّقوا عنده، فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمرَّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه، وقال لهم: أمرُّ بكم ما بين عير وأُحُد [وكان في هذا الكلام الذي صدر عن الأعرابي ما كانوا ينتظرونه منذ زمن بعيد، وكانوا قد هاجروا من أجله، ولكنَّهم ظنّوا خطأً أنَّ حداد هو أُحُد]؛ فقالوا له: إذا مررت بهما فأذنّا بهما، فلمَّا توسَّط بهم أرض المدينة قال: ذلك عير وهذا أُحُد. فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت، وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر: إنّا قد أصبنا الموضع فهلمّوا إلينا؛ فكتبوا إليهم: إنّا قد استقرَّت بنا الدار واتَّخذنا بها الأموال وما أقربنا منكم، فإذا كان ذلك [أي إذا ظهر النبيُّ بينكم] فما أسرعنا إليكم. واتَّخذوا [أي اليهود الذين استوطنوا ما بين جبل عير وأُحُد] بأرض المدينة أموالاً، فلمَّا كثرت أموالهم بلغ ذلك تُبَّع فغزاهم فتحصَّنوا منه، فحاصرهم ثمّ أمنهم فنزلوا عليه، فقال لهم: إنّي قد استطبت بلادكم ولا أراني إلَّا مقيماً فيكم، فقالوا له: ليس ذلك لك إنَّها مهاجر نبيٍّ وليس ذلك لأحد حتَّى يكون ذلك، فقال لهم: فإنّي مخلف فيكم من أُسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصـره، فخلف حيين تراهم الأُوُس والخزرج، فلمَّا كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم: أمَا لو بُعِثَ محمّد لنُخرِجنَّكم من ديارنا وأموالنا، فلمَّا بعث الله محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلم) آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود. (مجمع البيان للطبرسي 1: 215 و216).
وعن ابن عبّاس، قال: كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل أن يُبعَث محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) يستفتحون الله، يدعون على الذين كفروا ويقولون: اللَّهُمَّ إنّا نستنصـرك بحقِّ النبيِّ الأُمّي إلَّا نصـرتنا عليهم. (الميزان في تفسير القرآن للعلَّامة الطباطبائي 1: 188).
وعليه فإنَّ اليهود طبقاً لهذه الآية كانوا يعلمون بأنَّ نبيَّ آخر الزمان (صلّى الله عليه وآله وسلم) سيظهر في شبه الجزيرة العربية، وأنَّه سيهاجر إلى موضع بين جبلي (عير) و(أُحُد) بالتحديد. ولذلك عمدوا إلى شدِّ الرحال ناحية هذين الجبلين ليُدركوه. فكانوا يعلمون اسمه وأوصافه بشكل دقيق، ويتصوَّرونه ناصراً لهم. وكانوا يتصوَّرون أنَّه سيخرج من بينهم (من شعب الله المختار على حدِّ تعبيرهم)، ولذلك كانوا يفاخرون على الكفّار والمشـركين، ويتوعَّدونَّهم بالانتقام بعد ظهور النبيِّ الذي كانوا ينتظرونه. ولكن بعد أن بُعِثَ النبيُّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهاجر إلى المدينة، وأيقن اليهود من خلال الأوصاف التي كانوا يعرفونه بها أنَّه هو النبيُّ الموعود الذي بشَّـرت به التوراة، وصدَّق به المشـركون ولاسيّما قبائل الأُوس والخزرج لما رأوه فيه من الصفات التي طالما سمعوها من اليهود، فآمنوا به، إلَّا أنَّ اليهود لم يحجموا عن الإيمان به وتصديقه فحسب، بل ناصبوه العداء وحاربوه بكلِّ الوسائل التي توفَّرت لديهم.
(30) عن أبي عبد الله الحسين بن عليٍّ (عليه السلام) أنَّه سُئِلَ: هل وُلِدَ المهدي؟ قال: «لا، لو أدركته لخدمته أيّام حياتي. (موسوعة كلمات الإمام الحسين: 660). [والصحيح كما في غيبة النعماني أنَّه عن الإمام الصادق عليه السلام].
(31) اُنظر: تحوّلات مذهبي مسيحيت ويهوديت واحتمال چالش با اسلام لمحمّد باقر آخوندي (ج 3) (مصدر فارسي)/ انتشارات مؤسَّسه تحقيقات ومطالعات بين المللي ابرار معاصر/ 1382ش. (تحقيق غير منشور).
(32) من هذا القبيل بعض المعلومات ذات الصلة بهذه المسألة بالاعتماد على مقالة (دونالد فاكنر)، وقد عمد الدكتور (بيرك) الأمريكي إلى تلخيص العقائد الجوهرية للصهيونية المسيحية على النحو الآتي:
أ - ميثاق الله مع الإنسان (في الإنجيل): إنَّ ميثاق الله مع إسرائيل ميثاق أبدي غير مشـروط. وعلى هذا الأساس فإنَّ الوعد بالأرض المعطاة للنبيِّ إبراهيم (عليه السلام) غير قابل للإبطال أبداً. بعبارة أُخرى: إنَّ الكنيسة لم تحل محلَّ إسرائيل، وعلى الرغم من العراقيل ونقض العهود والمواثيق لم يتمّ إلغاء امتيازات إسرائيل.
ب - الكنيسة: لقد كانت غاية الله منذ البداية قائمة على إسعاد إسرائيل إلى الأبد. ومع ذلك حيث لم يستطع إسرائيل اتِّباع عيسى المسيح (عليه السلام) تمَّ طرح الكنيسة، ولكن في الظهور الثاني للسيِّد المسيح (عليه السلام) سيتمُّ إلغاء الكنيسة، ليعود إسرائيل ثانيةً بوصفه عاملاً رئيساً في تنفيذ الأهداف الإلهية في العالم. وبعبارة أُخرى: هناك الآن عهدان وميثاقان معتبران في العالم: الميثاق الأوَّل: ميثاق الله مع النبيِّ موسى (عليه السلام)، والميثاق الآخر: ميثاق النبيِّ عيسى (عليه السلام)، وعلى الرغم من ذلك فإنَّ الميثاق الجديد لا ينسخ الميثاق القديم بأيِّ حالٍ من الأحوال.
ج - حماية إسرائيل الجديدة: يجب على الصهيونية المسيحية أن تؤمن بما جاء في سفر التكوين (13/ 12) (Genesis) بالمعنى الواقعي والحقيقي، وأن يُطبِّقوا ذلك دعماً لدولة إسرائيل الجديدة: (سوف أرحم من يبسط حمايته لكم، وسوف أنتقم ممَّن يلعنكم). وإنَّ عدم دعم إسرائيل يعني العجز عن توفير الحماية لبقاء إسرائيل في الظروف الراهنة، وهذا الأمر سيؤدّي إلى نزول العقاب الإلهي.
د - النبوءة: إنَّ النبوءات الموجودة في الإنجيل لا تخصُّ مجرَّد الأحداث التي وقعت في مرحلة الإنجيل، بل تعمل على بيان الحقائق الراهنة أيضاً. وعلى هذا الأساس عندما ننظر - مثلاً - في الإصحاح السابع من سفر دانيال (Daniek)، وكانت لنا القدرة على التفسير بشكل مناسب، سوف نُدرك كيفية التحوّل في التاريخ المعاصر.
هـ - تأسيس إسرائيل: وهي المرحلة التي تُسـرِّع من تحقّق وعود الإنجيل. وعلى هذا الأساس، عندما يحين آخر الزمان، يجب على الصهيونية المسيحية أن تنتظر انهيار الحضارات، وارتفاع عدد الجرائم، وزوال السلام، وغياب الاعتدال العالمي، وانتشار معاداة المسيحية والتعاليم المخلصة والموالية لإسرائيل، والأهمّ من كلِّ ذلك إنَّ هذا التحالف والائتلاف السياسي سيُحدِّد موقع هذه الجماعة في اليوم الحاسم والمصيري لهرمجدون (Armageddon). وهرمجدون هو الموضع الذي ستقع فيه الحرب الأخيرة والفاصلة بين الخير والشـر قبل يوم المحشـر طبقاً للرواية الإنجيلية. (اُنظر في هذا الشأن: آينده از نگاه صهيونيسم (مصدر فارسي.
(http://www.icej.org/about/about_doctrines.htmk).
وعلى كلِّ حالٍ طبقاً لعقيدة الصهاينة، فإنَّ (الأيّام الأخيرة) كما سمّاها (القدّيس بطرس) قبل ألفي سنة، ستشهد حرباً ضروساً بين النور والظلمة، وإنَّ إسرائيل ستكون في بؤرة هذه المعركة؛ لأنَّ الله سيبسط حكومة عدله وينشـرها في العالم عبر إسرائيل (زكريّا 9 / 14). إنَّ قوى الشـرِّ سوف تبرز بالمعارضة لسيادة هذه الحاكمية، وبالتالي سوف تسعى إلى القضاء على إسرائيل، إلَّا أنَّ تحقّق الوعد الإلهي بقيام إسرائيل وانتصارها، سيكون بمثابة إتمام الحجَّة على العالمين وعلى جميع المخالفين لإسرائيل، وسيثبت أنَّ قول الله حقٌّ. وعلى هذا الأساس يجب أن يقف الصهاينة المسيحيون في الخطوط الأمامية من هذه المعركة؛ لأنَّ الحقيقة القائلة بالتحاق الكثير من الأشخاص إلى هذه الحركة في الأعوام الأخيرة تُمثِّل خير شاهد على أنَّ الله يُعِدُّ جيشاً روحياً لخوض هذه المواجهة النهائية (Showdown) الوشيكة.
((http://www.rca.org/images/mission/mideast/christianzionism.pdf).
(33) اُنظر: تفسير نمونه (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل) 7: 388.
(34) اُنظر: المصدر السابق 7: 386 و387.
(35) اُنظر: المصدر السابق 7: 383.
(36) للمزيد من الاطِّلاع، اُنظر المصادر الآتية:
أ - انتظار لمجيد حيدري نيك/ مجلَّة انتظار التخصّصية (مصدر فارسي).
ب - عصـر زندگي (آينده انسان واسلام) لمحمّد حكيمي (مصدر فارسي): 328 - 337/ ط 1371ش/ انتشارات هاتف.
ج - رسالت اسلامي در عصر غيبت لمحمّد صدر (مصدر فارسي): 33 و34/ ط 1360ش/ انتشارات بدر.
(37) للمزيد من الاطِّلاع بشأن الروايات الموجودة في هذا الشأن، اُنظر المصادر الآتية:
- أُصول الكافي للكليني 2: 163، و8: 234.
- بحار الأنوار للمجلسي 52: 122 و140.
- الاحتجاج للطبرسي 2: 322.
- من لا يحضره الفقيه للصدوق 4: 358 و366.
- وسائل الشيعة للحرِّ العاملي 18: 65.
(38) اُنظر: عصر زندگي (آينده انسان واسلام) لمحمّد حكيمي (مصدر فارسي): 301 و302.
(39) اُنظر: مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم لمحمّد تقي الموسوي الأصفهاني: 160/ ط 1363ش/ انتشارات مؤسَّسة الإمام المهدي (عليه السلام).
(40) اُنظر: عصر زندگي (آينده انسان واسلام) لمحمّد حكيمي (مصدر فارسي): 321 و322 و325.
(41) اُنظر: جامعه شناسي نظم لمسعود جلبي (مصدر فارسي): 157 - 159.

البحوث والمقالات : ٢٠٢١/٠٣/١٢ : ٥.١ K : ٠
: محمّد باقر آخوندي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.