البحوث والمقالات

(٦٧٨) إشكالية الثأر وقتل الذراري في العقيدة المهدوية

إشكالية الثأر وقتل الذراري في العقيدة المهدوية

الشيخ محمد رضا الساعدي

من أشدِّ الظلامات التي وقعت على أهل البيت (عليهم السلام) والتي بكت لها كلُّ الكائنات الأرضية والسماوية واقعة الطفّ الأليمة التي استشهد فيها الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه بعد أن قُتلوا صبراً في رمضاء كربلاء على يد الدولة الأُموية الظالمة وأنصارها.
وهذه المقتلة العظيمة كانت وما زالت الواقعة الأكثر إيلاماً على قلوب محمّد وآل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وشيعتهم ومحبّيهم حتَّى أصبحت القضيَّة الأساسية في الثقافة الإسلاميَّة العامَّة والأكثر إحياءً من باقي القضايا بالرغم من كبر حجم تلك القضايا الأُخرى كقضيَّة مظلومية النبيِّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومظلومية السيِّدة الزهراء (عليها السلام) ومظلومية أمير المؤمنين (عليه السلام) وباقي مظلوميات أهل البيت (عليهم السلام).
ومن الشؤون العامَّة لهذه القضيَّة أنَّ لها ارتباطاً بالثورات وحركات الإصلاح والتغيير في العالم الإسلامي، بل وفي غيره، فكانت تُلهِم القادة والثوّار دروساً في التضحية والإباء والصبر والتقدّم، فلذا أخذت هذه الثورات على عاتقها إبراز القضيَّة الحسينية في يومياتها وأدبياتها وانتصاراتها، فلا نجد انفكاكاً في شعارات تلك الثورات عن القضيَّة الحسينية، وبسبب هذه الحماسة الحسينية كُتِبَ لتلك الثورات النجاح في أكثر من مستوى.
ومن أكبر الحركات الإصلاحية الشاملة كمّاً ونوعاً -كما دلَّت النصوص القرآنية والروائية- هي حركة صاحب العصر والزمان الإمام الحجَّة المنتظر (عليه السلام) الذي سيملأُ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً، فكان من الضروري أن نعرف علاقة الثورة المهدوية بالثورة الحسينية، وما هو نحو الارتباط بين القضيَّة المهدوية والقضيَّة الحسينية.
لا شكَّ أنَّ الارتباط بينهما له حيثيات عديدة وكثيرة، ولكنَّنا -دفعاً للإطالة- ركَّزنا في المقام على مفردة من تلك العلاقة، وهي مفردة أخذ الإمام المهدي (عليه السلام) بثأر سيِّد الشهداء (عليه السلام).
فلسائل أن يسأل: يا ترى هل لثأر الحسين (عليه السلام) مساحة في حركة حفيده (عليه السلام)؟ وما مقدار هذه المساحة؟ وكيف تكون طريقة أخذ الثأر؟
الجواب: نعم هناك مجال واسع ومساحة عريضة في عصر الظهور للأخذ بثارات الإمام الحسين (عليه السلام) من قِبَل الإمام المهدي (عليه السلام)، وهذا سيتَّضح جليّاً.
وقبل بيان ذلك نُبيِّن الأسباب التي تجعل الإمام المهدي (عليه السلام) هو الأخذ بالثأر دون غيره.
أسباب أخذ الثأر من المهدي (عليه السلام) دون غيره:
في الحقيقية أنَّ الأسباب عديدة، منها ما هو فقهي، ومنها ما هو عقدي، ومنها ما هو نسبي، وهكذا.
ومن أبرز تلك الأسباب ولو بنحو الاحتمال والأُطروحة:
السبب الأوَّل: ولاية الدم:

إنَّ الإمام الحجَّة (عليه السلام) هو وليُّ دم الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ هو الأقرب نسباً للحسين (عليه السلام) من كلِّ الأحياء في زمانه، فيكون الأولى بأخذ الثأر، لأنَّه وليُّ دمه الشرعي، وهذا من الجانب الفقهي واضح كما عبَّرت الآية الشريفة: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً﴾ (الإسراء: 33).
فالإمام الحجَّة (عليه السلام) يأخذ بدم الحسين (عليه السلام) من عصابة بني أُميَّة ومن ناصرهم في قتله وقتل أهل بيته (عليهم السلام) من باب أنَّه وليُّ دم جدِّه المظلوم الشهيد (عليه السلام).
ولذا علَّلت بعض الروايات تسميته بالمنصور لهذا السبب واستشهدت بهذه الآية الكريمة، ففي تفسير فرات بن إبراهيم عن جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيُّ مُعَنْعَناً، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً﴾، قَالَ: «الْحُسَيْنُ ﴿فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً﴾»، قَالَ: «سَمَّى اللهُ المَهْدِيَّ المَنْصُورَ كَمَا سُمِيَّ أَحْمَدُ وَمُحَمَّدٌ ومحمود [مَحْمُوداً] وَكَمَا سُمِّيَ عِيسَى المَسِيحَ (عليه السلام)»(1).
السبب الثاني: حاكميته الشرعية:
إنَّ الإمام الحجَّة (عليه السلام) هو الحاكم الشرعي الأعلى في الأرض، فله إقامة القصاص الفردي والجماعي على المعتدين والظالمين لآل البيت (عليهم السلام)، وهذا واضح فقهياً كما قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ...﴾ (البقرة: 179).
ومن صور القصاص التي يقوم بها الإمام (عليه السلام) أن يأخذ بثأر الحسين (عليه السلام) وأصحابه ويأخذ بثأر الأنبياء والأولياء، كما يأخذ بثأر الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) كما نصَّت الروايات.
السبب الثالث: محقِّق العدل العامّ:
إنَّ الإمام الحجَّة (عليه السلام) هو محقِّق للعدل الإلهي الشامل التامّ، وشعار دولته نشر العدل في مشارق الأرض ومغاربها، ومن العدل هو الأخذ بثأر المظلومين وقصم رقاب المعتدين الظالمين: «أين معزُّ الأولياء ومذلُّ الأعداء»(2).
ولا شكَّ أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت (عليهم السلام) ومنهم الإمام الحسين (عليه السلام) أشدُّ الناس مظلومية على مدى التاريخ.
فهدف من أهداف القيام المهدوي هو الأخذ بثأر الأئمَّة الأطهار والأنبياء الأبرار كما جاء في دعاء الندبة المبارك: «أَيْنَ الطَّالِبُ بِذُحُولِ(3) الْأَنْبِيَاءِ وَأَبْنَاءِ الْأَنْبِيَاء»، ثمّ أعقب ذلك بالدم الأشرف والثأر الأكبر: «أَيْنَ الطَّالِبُ بِدَمِ المَقْتُولِ بِكَرْبَلَاءَ»(4).
وفي زيارة الإمام الحجَّة (عليه السلام): «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا طَالِبَ ثَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَبْنَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالثَّائِرَ بِدَمِ المَقْتُولِ بِكَرْبَلَاءَ»(5).
السبب الرابع: محقِّق أهداف الثورة:
إنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) محقِّق لأهداف الحسين (عليه السلام)، وهذه الأهداف إنَّما تتحقَّق من خلال القضاء على الاتِّجاهات التي منعت إقامة تلك الأهداف في الأرض من خلال قتلهم للمشروع الحسيني الإلهي، فيأتي الإمام (عليه السلام) ليُحقِّق تلك الأهداف من خلال القضاء على أتباع الخطِّ الأُموي الظالم وإن اختلفت مسمّياتهم وعناوينهم.
والإصلاح بكلِّ مستوياته هو من أهمِّ تلك الأهداف وأعظمها كما أشار إليه الإمام الحسين (عليه السلام) في خطبته: «أَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلَا بَطِراً وَلَا مُفْسِداً وَلَا ظَالِماً وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)...»(6).
فالإصلاح المهدوي هو تحقيق للإصلاح الحسيني وتتميم له، ومن جملة الإصلاح القضاء على الفاسدين والمفسدين والظالمين تحقيقاً للعدل الإلهي من جهة، ولخلق أجواء خالية من الأوبئة المعنوية من جهة أُخرى.
السبب الخامس: رفع مظلومية آل البيت (عليهم السلام):
إنَّ الأخذ بثأر الحسين (عليه السلام) من قتلته هو مطلب من مطالب أهل البيت (عليهم السلام) وخصوصاً السيِّدة الزهراء (عليها السلام) باعتباره رفعاً لمظلومية ولدها الحسين (عليه السلام)، والإمام الحجَّة (عليه السلام) هو أولَى الناس بتحقيق مطلبها ورفع الأسى والجوى الذي ألمَّ بها لقتل ولدها الشهيد (عليه السلام).
السبب السادس: أنَّه وفاء للحسين (عليه السلام):
إنَّ الحسين (عليه السلام) في الرجعة هو الذي يُصلّي على الإمام المهدي (عليه السلام) بعد قتله، إذ إنَّ آخر عصر الظهور هو مقتل الإمام المهدي (عليه السلام) وتبدأ بعده الرجعة برجوع الحسين (عليه السلام) كما ذكر ذلك صاحب البحار(7).
وهذا يجعل الرابط كبير بينهما، فهو (عليه السلام) ينتقم من أعدائه والإمام يُصلّي عليه (عليه السلام) بعد مقتله. فكما أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) اقتصَّ من قتلة الحسين (عليه السلام) فكذلك الحسين في الرجعة يقتصُّ من قتلة الإمام المهدي (عليه السلام).
هذه بعض الأسباب التي تشير إلى أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) هو طالب الثأر الأعظم للإمام الحسين (عليه السلام) تحقيقاً للعدل الإلهي ودفعاً للباطل الشيطاني.
أمَّا ما أُخِذَ من ثارات للحسين (عليه السلام) من قِبَل بعض الموالين الذين قاموا بالثورات كثورة المختار والتوّابين وغيرهما، فلم تكن كافية، ولم تكن محقِّقة لأخذ الثأر بتمامه، وإنَّما الذي يأخذ بالثأر التامّ هو الحجَّة بن الحسن (عليه السلام) كما نصَّت الروايات الخاصَّة التي سنذكرها لاحقاً في تقريب الرواية السادسة من الروايات الآتية.
عرض صلب الموضوع:
الروايات الخاصَّة الدالَّة على أنَّ الإمام الحجَّة (عليه السلام) يأخذ الثأر:

نصَّت الكثير من الروايات - ولعلَّها بلغت حدَّ الاستفاضة - على أنَّ الإمام الحجَّة أرواحنا لمقدمه الفداء هو الذي يأخذ بثأر سيِّد الشهداء (عليه السلام) حال خروجه من غيبته، وقد ذكرها أصحاب المجاميع الروائية كما في البحار وغيره.
وإليك جملة من هذه الروايات:
الرواية الأُولى: في بحار الأنوار عن علل الشرائع وعيون أخبار الرضا (عليه السلام): الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْهَرَوِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام): يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ مَا تَقُولُ فِي حَدِيثٍ رُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا خَرَجَ الْقَائِمُ قَتَلَ ذَرَارِيَّ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) بِفِعَالِ آبَائِهَا»؟ فَقَالَ (عليه السلام): «هُوَ كَذَلِكَ»، فَقُلْتُ: وَقَوْلُ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ): ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: 164]، مَا مَعْنَاهُ؟ قَالَ: «صَدَقَ اللهُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ، وَلَكِنْ ذَرَارِيُّ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ يَرْضَوْنَ بِفِعَالِ آبَائِهِمْ وَيَفْتَخِرُونَ بِهَا، وَمَنْ رَضِيَ شَيْئاً كَانَ كَمَنْ أَتَاهُ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ بِالمَشْرِقِ فَرَضِيَ بِقَتْلِهِ رَجُلٌ بِالمَغْرِبِ لَكَانَ الرَّاضِي عِنْدَ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ) شَرِيكَ الْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا يَقْتُلُهُمُ الْقَائِمُ (عليه السلام) إِذَا خَرَجَ لِرِضَاهُمْ بِفِعْلِ آبَائِهِمْ»، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ يَبْدَأُ الْقَائِمُ مِنْكُمْ إِذَا قَامَ؟ قَالَ: «يَبْدَأُ بِبَنِي شَيْبَةَ فَيَقْطَعُ أَيْدِيَهُمْ، لِأَنَّهُمْ سُرَّاقُ بَيْتِ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ)»(8).
تقريب الدلالة: الرواية واضحة الدلالة على أنَّ الإمام الحجَّة (عليه السلام) يأخذ بثأر سيِّد الشهداء (عليه السلام) حال خروجه، ويكون أخذ الثأر من أتباع الخطِّ الأُموي، سواء كانوا من بني أُميَّة أو من أنصارهم، والجامع المشترك بينهم أنَّهم شاركوا في قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وصحبه الميامين، وهذا القتل للذراري لأنَّهم ساروا على هذا النهج الشيطاني في القتل والتنكيل بأتباع آل البيت (عليهم السلام) من جهة، ولأنَّهم رضوا وافتخروا بذلك الفعل الشنيع.
فالإمام المهدي (عليه السلام) هو الآخذ بالثأر الأكبر كما هو واضح من الرواية.
إشكال ودفعه:
قد يقال: لماذا يقتل الإمام الحجَّة (عليه السلام) ذراري قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) وهم لم يرتكبوا القتل ولم يشهدوا تلك الجريمة؟
فإنَّه يقال: إنَّ الجواب على ذلك له عدَّة مستويات، وبعضها بنحو الاحتمال والأُطروحة، وكلُّ مستوى يصحُّ أن يكون جواباً مستقلّاً:
المستوى الأوَّل: الرضا بالأفعال - مجرَّد الرضا -:
ما ذكره الإمام الصادق (عليه السلام) في الرواية أعلاه من تعليل قتلهم: «يَرْضَوْنَ بِفِعَالِ آبَائِهِمْ وَيَفْتَخِرُونَ بِهَا، وَمَنْ رَضِيَ شَيْئاً كَانَ كَمَنْ أَتَاهُ».
فهم ساروا على هذا النهج العدائي للنهج النبوي الحسيني، ورضوا وأيَّدوا هذه الجرائم، ولو أنَّهم تمكَّنوا من قتل الحسين (عليه السلام) ثانيةً لقتلوه، فاستحقّوا بذلك القتل.
وهذا ما حصل ويحصل من النهج العدائي لآل البيت (عليهم السلام) وللحسين (عليه السلام)، وما يُفعَل الآن من قتل شيعة آل البيت (عليهم السلام) نكايةً وتشفّياً منهم لأنَّهم اتَّبعوا هذا الخطّ النبوي العلوي.
وما يُمارَس اليوم من جرائم في حقِّ أتباع آل البيت (عليهم السلام) ما هو إلَّا امتداد للنهج الأُموي والعبّاسي الذي قتل آل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم في سالف الدهر.
فإنَّ هؤلاء هم أبناء أُولئك تشابهت قلوبهم وأفعالهم ولم تتغيَّر إلَّا أسماؤهم، فما تمارسه اليوم المنظَّمات الإرهابية كداعش وجبهة النصرة وبوكوحرام وغيرها وبعض الأنظمة والدول الأُموية إنَّما هي تكملة لمسلسل القتل والذبح والحرق الذي مارسه أسلافهم باسم الدين والسلطة والخلافة الدنيوية.
فيأتي الإمام المنقذ (عليه السلام) ليُطهِّر الأرض من هذه الزُّمَر والمسمّيات ثأراً لآل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم على مرِّ التاريخ، بل ثائراً لكلِّ المظلومين والمستضعفين في المعمورة.
المستوى الثاني: العلم الإلهي بالسير العملي للذراري:
قد يقال: إنَّه في علم الله وتقديره أنَّ جميع ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) أو غالبهم يسيرون على نهج آبائهم في القتل لآل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم والإفساد في البلاد والعباد، وبذلك استحقّوا القتل، كما في الدعاء على لسان النبيِّ نوح (عليه السلام) عندما دعا الله باستئصال جميع الظالمين: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً﴾ (النوح: 26 و27).
المستوى الثالث: المداهنة:
إنَّه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما دلَّت الروايات، منها: ما عن الإمام الباقر (عليه السلام): «أوْحَى اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ) إِلَى شُعَيْبٍ النَّبِيِّ (عليه السلام): أَنِّي مُعَذِّبٌ مِنْ قَوْمِكَ مِائَةَ أَلْفٍ أَرْبَعِينَ أَلْفاً مِنْ شِرَارِهِمْ وَسِتِّينَ أَلْفاً مِنْ خِيَارِهِمْ، فَقَالَ (عليه السلام): يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ، فَمَا بَالُ الْأَخْيَارِ؟ فَأَوْحَى اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ) إِلَيْهِ: دَاهَنُوا أَهْلَ المَعَاصِي(9) وَلَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي»(10).
المستوى الرابع: القصاص الاجتماعي- الجماعي:
إنَّه من باب القصاص الجماعي كما فعل النبيُّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ببني قريظة وبني النظير حيث عاقب الجميع (جميع الرجال البالغين دون الأطفال والنساء) بعقوبة القتل والإجلاء، لخيانتهم للمعسكر الإسلامي وتواطئهم مع معسكر الشرك.
المستوى الخامس: خاصٌّ بالإمام (عليه السلام):
إنَّه حكم خاصٌّ بالإمام المهدي (عليه السلام) أو بعصر الظهور، ككثير من الأحكام الخاصَّة به (عليه السلام) من خلال حكمه على البواطن والضمائر لا بالظواهر فقط، فيكون قتله لذراري قتلة الحسين (عليه السلام) من الأحكام الخاصَّة.
المستوى السادس: خاصٌّ بقتلة الإمام الحسين (عليه السلام):
إنَّه حكم خاصٌّ بقتلة الإمام الحسين (عليه السلام) بأن تُقتَل كلُّ ذراريهم قصاصاً خاصّاً بهم لعظيم ما وقع على الحسين (عليه السلام) وعياله وأصحابه من قتل وتنكيل وتمثيل، فكان جزاء من يرضى بهذا الفعل ويسير بهذا النهج أن يُستَأصل من الأرض.
المستوى السابع: قضيَّة غيبية:
إنَّ قتلهم وإن كان ظاهره تعدّياً أو ظلماً إلَّا أنَّه في الواقع عدل وحقٌّ كما فعل الخضر (عليه السلام) في قصَّة قتل الغلام، فكان من الصالح للأبوين أن يقتل الخضر ابنهما حتَّى يُبدِلهما الله خيراً منه، ومن صالح الابن أن يُقتَل لكي لا يكبر ويعقّهما فيصبح من الظالمين فلا يتعذَّبان بوجوده، وبرَّر ذلك الفعل لموسى (عليه السلام) كما ذكرت الآيات وتفسيرها.
ففي (مكاتيب الأئمَّة (عليهم السلام))(11) كتابه (عليه السلام) إلى يونس وهشام في قصَّة موسى (عليه السلام) حين لقي الخضر (عليه السلام): روى محمّد بن عليِّ بن بلال، عن يونس، قال: اختلف يونس وهشام بن إبراهيم في العالم الذي أتاه موسى (عليه السلام) أيّهما كان أعلم، وهل يجوز أن يكون على موسى (عليه السلام) حجَّة في وقته وهو حجَّة الله على خلقه؟ فقال قاسم الصيقل: فكتبوا ذلك إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) يسألونه عن ذلك. فكتب في الجواب:
«... فَنَظَرَ الخَضِرُ إِلى غُلامٍ يَلعَبُ بَينَ الصِّبيانِ، حَسَنِ الوَجهِ كَأَنَّهُ قِطعَةُ قَمَرٍ، في أُذُنَيهِ دُرَّتانِ، فَتَأَمَّلَهُ الخَضِرُ ثُمَّ أَخَذَهُ فَقَتَلَهُ، فَوَثَبَ موسى عَلى الخَضِرِ وَجَلَدَ بِهِ الأَرضَ فَقالَ: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً﴾. فَقالَ الخَضِرُ: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً...﴾ [الكهف: 74 و75]، ﴿وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾، وَطُبِعَ كافِراً - كَذا نَزَلَت -، فَنَظَرتُ إِلى جَبينِهِ وَعَلَيهِ مَكتوبٌ: طُبِعَ كافِراً، ﴿فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾ [الكهف: 80 و81]، فَأَبدَلَ اللهُ لِوالِدَيهِ بنتاً، وَوَلَدَت سَبعينَ نَبيّاً...».
فكذلك الإمام الحجَّة (عليه السلام) يعلم بواطن هؤلاء الذراري ويقتلهم ويُبيِّن وجه ذلك كما فعل الخضر لموسى (عليه السلام).
النتيجة: لو صحَّت أحد هذه الاحتمالات كما هو الصحيح فهو، وإلَّا رددنا علم الرواية إلى أهلها.
الرواية الثانية: روى ابْنُ الْوَلِيدِ، عَنِ الصَّفَّارِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْقَائِمُ وَاللهِ يَقْتُلُ ذَرَارِيَّ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ بِفِعَالِ آبَائِهَا»(12).
تقريب الدلالة: في هذه الرواية تعليل لقتل ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) بسبب فعل آبائهم ممَّا فعلوا بواقعة كربلاء، والكلام فيها ما مرَّ في التعليق على الرواية الأُولى ودفع إشكال قتل الذراري.
الرواية الثالثة: روى مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّزَّازُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى، عَنْ سَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 193]، قَالَ: «أَوْلَادُ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)»(13).
تقريب الدلالة: في هذه الرواية تعليل لقتل ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) من خلال تفسير الآية المباركة من كونهم ظالمين، فيكون العدوان والقصاص واقعاً عليهم تحقيقاً للعدل الواقعي وإن سُمّي عدواناً ظاهري كما احتمل ذلك صاحب البحار، قال معلِّقاً على الرواية: (لعلَّ المراد بالعدوان ما يُسمّى ظاهراً عدواناً وإن كان في الواقع موافقاً للعدل)(14).
أقول: أو -لعلَّه والله العالم- لأنَّ العدوان لا بمعنى الاعتداء الابتدائي وإنَّما من باب ردِّ الاعتداء الواقع منهم ومن آبائهم، وهو حقٌّ مشروع كما بيَّنت الآية: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة: 194).
فيكون الاعتداء عليهم مشروعاً تحقيقاً للعدل والقصاص كما بيَّنّا في بعض مستويات دفع إشكال قتل الذراري المتقدِّم.
الرواية الرابعة: عن كامل الزيارات: ابْنُ الْوَلِيدِ، عَنِ الصَّفَّارِ، عَنِ ابْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ [الإسراء: 33]، قَالَ: «ذَلِكَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ يَخْرُجُ فَيَقْتُلُ بِدَمِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَلَوْ قَتَلَ أَهْلَ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ سَرَفاً، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ لَمْ يَكُنْ لِيَصْنَعَ شَيْئاً يَكُونُ سَرَفاً»، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَقْتُلُ وَاللهِ ذَرَارِيَّ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ بِفِعَالِ آبَائِهَا»(15).
تقريب الاستدلال: في هذه الرواية يُبيِّن الإمام (عليه السلام) حجم المصيبة والفاجعة والجريمة التي ارتكبها قتلة الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنَّهم بقتله قتلوا النبيَّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وآله (عليهم السلام)، وقتلوا شريعة الله، وقتلوا القرآن، وقتلوا العدل...، إلى غيرها من مظاهر الخير والصلاح، فلو قام الإمام الحجَّة (عليه السلام) بالثأر له بقتل كلِّ المعتدين والظالمين على وجه الأرض لما وفى بقتل الحسين (عليه السلام)، لعظيم شأنه في السماء والأرض كما دلَّت الروايات، منها ما قاله في (مصباح الشريعة)(16): قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): «رُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: يَا سَلْمَانُ، إِنَّ اللهَ (عَزَّ وَجَلَّ) لَنْ يَبْعَثَ نَبِيّاً وَلَا رَسُولًا إِلَّا وَلَهُ اثْنَا عَشَرَ نَقِيباً، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَرَفْتُ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، قَالَ: يَا سَلْمَانُ، هَلْ عَرَفْتَ نُقَبَائِيَ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمُ اللهُ تَعَالَى لِلْإِمَامَةِ مِنْ بَعْدِي؟ فَقُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: يَا سَلْمَانُ، خَلَقَنِيَ اللهُ تَعَالَى مِنْ صَفْوَةِ نُورِهِ، وَدَعَانِي فَأَطَعْتُهُ، فَخَلَقَ مِنْ نُورِي عَلِيّاً، وَدَعَاهُ فَأَطَاعَهُ، فَخَلَقَ مِنْ نُورِي وَنُورِ عَلِيٍّ فَاطِمَةَ، وَدَعَاهَا فَأَطَاعَتْهُ، فَخَلَقَ مِنِّي وَمِنْ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، فَدَعَاهُمَا فَأَطَاعَاهُ، فَسَمَّانَا اللهُ تَعَالَى بِخَمْسَةِ أَسْمَاءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ فَاللهُ تَعَالَى المَحْمُودُ وَأَنَا مُحَمَّدٌ، وَاللهُ الْعَلِيُّ وَهَذَا عَلِيٌّ، وَاللهُ الْفَاطِرُ وَهَذِهِ فَاطِمَةُ، وَاللهُ ذُو الْإِحْسَانِ وَهَذَا الْحَسَنُ، وَاللهُ المُحْسِنُ وَهَذَا الْحُسَيْنُ، وَخَلَقَ مِنْ نُورِ الْحُسَيْنِ تِسْعَةَ أَئِمَّةٍ، فَدَعَاهُمْ فَأَطَاعُوهُ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ اللهُ تَعَالَى سَمَاءً مَبْنِيَّةً، وَأَرْضاً مَدْحِيَّةً، أَوْ هَوَاءً، أَوْ مَلَكاً، أَوْ بَشَراً، وَكُنَّا أَنْوَاراً نُسَبِّحُهُ وَنَسْمَعُ لَهُ وَنُطِيعُ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا لِمَنْ عَرَفَ هَؤُلَاءِ حَقَّ مَعْرِفَتِهِمْ؟ فَقَالَ: يَا سَلْمَانُ، مَنْ عَرَفَهُمْ حَقَّ مَعْرِفَتِهِمْ، وَاقْتَدَى بِهِمْ فَوَالاهُمْ، وَتَبَرَّأَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، كَانَ وَاللهِ مِنَّا يَرِدُ حَيْثُ نَرِدُ وَيَكُنْ حَيْثُ نَكُن...».
ثمّ بيَّن الإمام أنَّ الإمام الحجَّة (عليه السلام) يقتل ذراري قتله الإمام الحسين (عليه السلام) كما ذكرت الروايات السابقة.
الرواية الخامسة: تفسير العيّاشي: عَنِ الْحَسَنِ بَيَّاعِ الْهَرَوِيِّ، يَرْفَعُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا (عليهما السلام) فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 193]، قَالَ: «إِلَّا عَلَى ذُرِّيَّةِ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)»(17).
تقريب الاستدلال: هذه الرواية كأخواتها السابقات تدلُّ على أنَّ ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) مصداق للآية الشريفة، وتبرير قتلهم ما مرَّ من توجيهات، فراجع.
الرواية السادسة: المناقب لابن شهرآشوب: (تَارِيخُ بَغْدَادَ وَخُرَاسَانَ وَالْإِبَانَةُ وَالْفِرْدَوْسُ): قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إِنِّي قَتَلْتُ بِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا (عليه السلام) سَبْعِينَ أَلْفاً، وَأَقْتُلُ بِابْنِ بِنْتِكَ سَبْعِينَ أَلْفاً وَسَبْعِينَ أَلْفاً»(18).
تقريب الاستدلال: أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) سيقتل -بيد أوليائه ووليِّه الحجَّة- أكثر ممَّا قتل بقتل النبيِّ يحيى (عليه السلام)، فإن كان قتل بقتل النبيِّ يحيى (عليه السلام) سبعين ألفاً فإنَّه يقتل بقتل الحسين (عليه السلام) مضاعفاً، وهذا يدلُّ على أنَّ شأن الحسين (عليه السلام) أعظم من شأن جميع الأنبياء إلَّا النبيَّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ولا شكَّ أن قتلة الحسين (عليه السلام) على أكثر الروايات ليسوا بهذا العدد، فلذا القتل يشمل ما هو أوسع من القتلة المباشرين، كقتل الذراري والراضين والفرحين بقتله (عليه السلام).
وروى أيضاً عن الصَّادِقُ (عليه السلام): «قُتِلَ بِالْحُسَيْنِ مِائَةُ أَلْفٍ، وَمَا طُلِبَ بِثَأْرِهِ، وَسَيُطْلَبُ بِثَأْرِهِ»(19).
هذه الرواية تُبيِّن أنَّ هناك مقتلة حصلت بقتلة الحسين (عليه السلام) إلى زمن الإمام الصادق (عليه السلام) ولم يتمّ الثأر، وسيأتي من يطلب بثأره ويأخذ بحقِّه، وهذا ما يتمُّ على يد الطالب بدم المقتول بكربلاء.
ثمّ روى رواية بيَّن بها قصَّة مقتل يحيى (عليه السلام) وأنَّ دمه لم يبرد إلَّا بعد أن أُخِذَ بثأره، وكذلك دم الإمام الحسين (عليه السلام) لا يبرد إلَّا بالأخذ بثأره على يد الإمام الحجَّة (عليه السلام).
ففِي حَدِيثِ مُقَاتِلٍ، عَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ (عليه السلام)، عَنْ أَبِيهِ (عليه السلام): «أَنَّ امْرَأَةَ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَبِرَتْ وَأَرَادَتْ أَنْ تُزَوِّجَ بِنْتَهَا مِنْهُ لِلْمَلِكِ، فَاسْتَشَارَ المَلِكُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَعَرَفَتِ المَرْأَةُ ذَلِكَ، وَزَيَّنَتْ بِنْتَهَا وَبَعَثَتْهَا إِلَى المَلِكِ، فَذَهَبَتْ وَلَعِبَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهَا المَلِكُ: مَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: رَأْسُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا (عليه السلام)، فَقَالَ المَلِكُ: يَا بُنَيَّةِ، حَاجَةٌ غَيْرُ هَذَا. قَالَتْ: مَا أُرِيدُ غَيْرَهُ، وَكَانَ المَلِكُ إِذَا كَذَبَ فِيهِمْ عُزِلَ عَنْ مُلْكِهِ، فَخُيِّرَ بَيْنَ مُلْكِهِ وَبَيْنَ قَتْلِ يَحْيَى (عليه السلام)، فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَيْهَا فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَأُمِرَتِ الْأَرْضُ فَأَخَذَتْهَا، وَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ، فَجَعَلَ يَرْمِي عَلَيْهِمْ بِالمَنَاجِيقِ وَلَا تَعْمَلُ شَيْئاً، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ عَجُوزٌ مِنَ المَدِينَةِ، فَقَالَتْ: أَيُّهَا المَلِكُ، إِنَّ هَذِهِ مَدِينَةُ الْأَنْبِيَاءِ لَا تَنْفَتِحُ إِلَّا بِمَا أَدُلُّكَ عَلَيْهِ، قَالَ: لَكِ مَا سَأَلْتِ، قَالَتْ: ارْمِهَا بِالْخَبَثِ وَالْعَذِرَةِ، فَفَعَلَ، فَتَقَطَّعَتْ، فَدَخَلَهَا، فَقَالَ: عَلَيَّ بِالْعَجُوزِ، فَقَالَ لَهَا: مَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: فِي المَدِينَةِ دَمٌ يَغْلِي، فَاقْتُلْ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْكُنَ، فَقَتَلَ عَلَيْهِ سَبْعِينَ أَلْفاً حَتَّى سَكَنَ. يَا وَلَدِي، يَا عَلِيُّ، وَاللهِ لَا يَسْكُنُ دَمِي حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ المَهْدِيَّ (عليه السلام)، فَيَقْتُلَ عَلَى دَمِي مِنَ المُنَافِقِينَ الْكَفَرَةِ الْفَسَقَةِ سَبْعِينَ أَلْفاً»(20).
الرواية السابعة: علل الشرائع: الدَّقَّاقُ وَابْنُ عِصَامٍ مَعاً، عَنِ الْكُلَيْنِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ الْعَمِّيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنِ الثُّمَالِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْبَاقِرَ (عليه السلام): يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، أَلَسْتُمْ كُلُّكُمْ قَائِمِينَ بِالْحَقِّ؟ قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ سُمِّيَ الْقَائِمُ قَائِماً؟ قَالَ: «لَمَّا قُتِلَ جَدِّيَ الْحُسَيْنُ (عليه السلام) ضَجَّتِ المَلَائِكَةُ إِلَى اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ) بِالْبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ، وَقَالُوا: إِلَهَنَا وَسَيِّدَنَا، أَتَغْفُلُ عَمَّنْ قَتَلَ صَفْوَتَكَ وَابْنَ صَفْوَتِكَ وَخِيَرَتَكَ مِنْ خَلْقِكَ؟ فَأَوْحَى اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ) إِلَيْهِمْ: قَرُّوا مَلَائِكَتِي، فَوَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْتَقِمَنَّ مِنْهُمْ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، ثُمَّ كَشَفَ اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ) عَنِ الْأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) لِلْمَلَائِكَةِ، فَسَرَّتِ المَلَائِكَةُ بِذَلِكَ، فَإِذَا أَحَدُهُمْ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالَ اللهُ (عَزَّ وَجَلَّ): بِذَلِكَ الْقَائِمِ أَنْتَقِمُ مِنْهُمْ»(21).
تقريب الاستدلال: في هذه الرواية يُبيِّن الإمام (عليه السلام) وجه تسمية الإمام الحجَّة بالقائم، وهو لأنَّه يقوم بالانتقام من قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) ويأخذ بثأره، وأنَّ ذلك يُشفي صدر الملائكة (عليهم السلام).
ولا ينافي ذلك ما ورد من روايات أُخرى أنَّه سُمّي القائم لأنَّه يقوم بالحقِّ كما في رواية الإرشاد: رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا قَامَ الْقَائِمُ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ جَدِيداً، وَهَدَاهُمْ إِلَى أَمْرٍ قَدْ دَثَرَ وَضَلَّ عَنْهُ الْجُمْهُورُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْقَائِمُ مَهْدِيّاً لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَمْرٍ مَضْلُولٍ عَنْهُ، وَسُمِّيَ الْقَائِمَ لِقِيَامِهِ بِالْحَقِّ»(22).
أو لأنَّه يقوم بعد موت ذكره كما في رواية (معاني الأخبار): «سُمِّيَ الْقَائِمُ (عليه السلام) قَائِماً لِأَنَّهُ يَقُومُ بَعْدَ موته [مَوْتِ] ذِكْرِهِ»(23).
لأنَّ ذلك من باب تعدُّد علل التسمية، كما أنَّ الأخذ بثأر الحسين (عليه السلام) من مصاديق القيام بالحقِّ، فلا منافاة بالتعبير بين الروايات.
فمن جدول أعمال القيام للإمام الحجَّة (عليه السلام) أن يُطهِّر الأرض من الظالمين ومن قتلة الإمام الحسين وذراريهم السائرين على نهجهم والراضين بأفعالهم.
وذلك يأخذ بالثأر التامّ - كما تقدَّم - الذي يشفي صدر النبيِّ الكريم وعموم المؤمنين الصالحين والملائكة الضاجّين.
وبذلك يتحقَّق العدل الإلهي التامّ، فيمنُّ الله على المستضعفين بالفتح، ويقضي على المستضعِفين -بالكسر- كما عبَّرت الآية الكريمة: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ﴾ (القصص: 5).
فقد جاء في (تفسير القمّي)(24): «أَنَّ اللهَ أَخْبَرَ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَبَشَّرَهُ بِالْحُسَيْنِ (عليه السلام) قَبْلَ حَمْلِهِ، وَأَنَّ الْإِمَامَةَ تَكُونُ فِي وُلْدِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْقَتْلِ وَالمُصِيبَةِ فِي نَفْسِهِ وَوُلْدِهِ، ثُمَّ عَوَّضَهُ بِأَنْ جَعَلَ الْإِمَامَةَ فِي عَقِبِهِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ يُقْتَلُ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَى الدُّنْيَا وَيَنْصُرُهُ حَتَّى يَقْتُلَ أَعْدَاءَهُ، وَيَمْلِكَهُ الْأَرْضَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ...﴾ الْآيَةَ، قَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105]، فَبَشَّرَ اللهُ نَبِيَّهُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَنَّ أَهْلَ بَيْتِكَ يَمْلِكُونَ الْأَرْضَ وَيَرْجِعُونَ إِلَى الدُّنْيَا وَيَقْتُلُونَ أَعْدَاءَهُم...».
وروى الحصيني -قد طبَّق الإمام العسكري (عليه السلام) الآية المباركة على الإمام الحجَّة (عليه السلام)-: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «يَا عَمَّةُ، اذْهَبِي بِهِ إِلَى أُمِّهِ لِتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَأْتِينِي بِهِ»، فَمَضَتْ بِهِ إِلَيْهَا، فَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ، وَرَدَّتْهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) كَالْحِجَابِ، فَلَمْ أَرَ سَيِّدِي، فَقُلْتُ لِأَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام): يَا سَيِّدِي، أَيْنَ مَوْلَايَ؟ فَقَالَ: «أَخَذَهُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْكِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ فَأْتِنَا»، فَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ السَّابِعُ أَتَيْتُ وَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ، فَقَالَ لِي (عليه السلام): «هَلُمِّي ابْنِي»، فَجِئْتُ سَيِّدِي وَهُوَ فِي ثِيَابٍ صُفْرٍ، فَفَعَلَ بِهِ كَفِعْلِهِ الْأَوَّلِ، وَجَعَلَ لِسَانَهُ فِي فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ»، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله»، وَأَثْنَى بِالصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَالْأَئِمَّةِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى أَبِيهِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: 5 و6]»(25).
وفي (بحار الأنوار)(26): عن الغيبة للشيخ الطوسي: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقِطَعِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ يَحْيَى الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ (عليه السلام) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾، قَالَ (عليه السلام): «هُمْ آلُ مُحَمَّدٍ، يَبْعَثُ اللهُ مَهْدِيَّهُمْ بَعْدَ جَهْدِهِمْ، فَيُعِزُّهُمْ، وَيُذِلُّ عَدُوَّهُمْ».

الهوامش:
(1) بحار الأنوار 51: 30/ ط بيروت.
(2) المزار الكبير لابن المشهدي: 579.
(3) الذًّحل: الثًّأر.
(4) المزار الكبير لابن المشهدي: 579.
(5) بحار الأنوار 99: 86/ ط بيروت.
(6) مناقب آل أبي طالب 4: 89.
(7) بحار الأنوار 53: 115.
(8) بحار الأنوار 45: 295/ ط بيروت؛ العيون 1: 273؛ علل الشرائع 1: 219.
(9) أي تركوا نصيحتهم ولم يتعرَّضوا لهم ولم يمنعوهم من قبائحهم.
(10) الكافي 5: 56/ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر/ ح 1.
(11) مكاتيب الأئمَّة (عليهم السلام) 5: 299.
(12) بحار الأنوار 45: 296/ ح 3.
(13) بحار الأنوار 45: 296 و297/ ح 4.
(14) المصدر السابق.
(15) بحار الأنوار 45: 298/ ح 7.
(16) مصباح الشريعة: 63.
(17) تفسير العيّاشيّ 1: 86؛ بحار الأنوار 45: 298/ ح 8.
(18) مناقب آل أبي طالب 3: 234؛ بحار الأنوار 45: 298/ ح 10.
(19) مناقب آل أبي طالب 4: 81.
(20) مناقب آل أبي طالب 4: 85.
(21) بحار الأنوار 45: 221/ ح 4.
(22) بحار الأنوار 51: 30/ ح 7.
(23) بحار الأنوار 51: 30/ ح 3.
(24) تفسير القمّي 2: 297.
(25) الهداية الكبرى: 356.
(26) بحار الأنوار 51: 54/ ح 35، عن الغيبة للطوسي: 184 و185/ ح 143.

البحوث والمقالات : ٢٠٢١/٠٤/١١ : ٥.٣ K : ٠
: الشيخ محمد رضا الساعدي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.