(٦٨٣) المهدوية بين العقلانية والخرافة
المهدوية بين العقلانية والخرافة
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
ليست المشكلة في الخرافة بحد ذاتها كمفهوم لا يترتب عليها أثر فكري أو سلوكي، بل ليست المشكلة معها في بعض الزوايا هنا إذ المنظومة العقلانية تبتني على الإغفال أحياناً ما ولو بمعنى غير الواقعي الذي قد ينسجم مع بعض تعريفات الخرافة.
إنما المشكلة تكمن في أن تحجز الخرافة مساحة ليست مخصصة لها.
والزاوية التي نريد الحديث عنها القضية الغيبية المرتبطة بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وتمييزها عن الخرافة التي أُلبست لهذه القضية بقصد تارة أو جهل أخرى وربما بعضها بدافع الحرص.
وطبيعي ليست الإشكالية في أصل وجوده (عجّل الله فرجه) - لو لم تحصل له الغيبة- إذا لا توجد مشكلة من هذه الناحية كما مع آبائه الطاهرين (عليهم السلام) لم تحصل مشكلة لأن وجودهم كان مانعاً منها إلى حدٍ ما، إنما الإشكالية في غيبته وما ترتب عليها من طول عمره الشريف، واستتبع ذلك السؤال هل هذا الطول الزماني معقول وواقع أم هو خيال وخرافة، فأنْ يغيب شخص لاثني عشر قرناً ليست كلمة تقال؟
وهل يعقل أن يتولى شخص بعمر خمس سنوات إمامة أمة بل كون؟! وأن يتوقف على الإيمان به صحة الدين.
* وظيفة المتخصص، بل والمثقف الحريص، أن يقوم بعملية تنقية الأفكار والسلوكيات -وإن تمكن الاعتقاديات- من الخرافات الضارة بضبط عناصر القضية العقلانية وذكر نماذجها وانتخاب الخطاب المؤثر في نشرها لكي يفسح المجال بأن تأخذ دورها، وهذا بحد ذاته كفيل في تحجيم الخرافة إن لم يلغها أصلاً، فمادامت العقلانية فكراً وسلوكاً هي التي تنبع من الأساسيات بحسب مصادرها فلابد أن يؤثر هذا النبوع بالثبات الدائم لها.
إذن توجد قضية لا يسعنا إنكارها، نعم نحن نناقش في حدودها.
* نعم لابد أن نلتفت إلى هذه النقطة:
إن العديد من الأديان الكبيرة وعلى مر العصور كانت مناشئ ولادتها وصيرورة تكوينها محض الخرافة، وإن تم تأطيرها فيما بعد بلباس العقلانية.
* تنشأ الخرافة من تصورات تخيلية (إيجابية أو سلبية) يحاول الإنسان أن يتخذ تجاهها موقفاً محدداً وبالتالي إمّا أنْ يؤمن بها أو يرفضها وبالتراكم ومساعدة الحواس في بعض الأحيان، بل ولعله في انقياد العقل لقوة الواهمة أحياناً ما تنشأ الخرافة ثم تخرج إلى الفضاء حسب طبيعة الخطاب الذي تتسع به أو البيئة التي تعيش فيها وإمّا تنمو أو تموت.
وتساعد البيئة الخائفة، المترددة، الجاهلة في نموها، فيما تسهم الشجاعة العلمية والثبات الفكري والوضوح العقائدي في اضمحلالها.
كما ويساهم العقل الجمعي والبيئة المتضادة سياسياً أو مذهبياً في نشرها وإشاعتها بدوافع الخصام المعرفي غير المتكافئ، أو المصلحة بل وأحياناً السذاجة في نشوء بعض الأعراف التي يصعب أحياناً التخلص منها.
كما يساهم تشويه المصطلحات وإلقاء الشبهات في مساعدة الخرافة على التفريخ والنمو بشكل متسارع كما في خرافة السرداب.
إن للإيمان بما لا نراه من عالمنا المادي أسساً لا يمكن إنكارها فكذلك ينبغي أن يكون للإيمان بما لا نراه من عالم الغيب أسس لا يمكن إنكارها لمن قاده الدليل إليها، فنحن لم نشاهد نزول جبرائيل (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم نشاهد كيف شرِّعت الصلاة والصيام ولا ندرك الملاك الحقيقي وراء هذه التشريعات، إلّا أنّ ثقتنا بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصمته هي التي كانت وراء إيماننا بهذا الكم الهائل من الغيبيات، فالمدار في الإيمان بها ورفع الخرافة عنها هو قيام الدليل عليها، وكذلك في المهدوية بلا فرق ومن يدعِ الفرق فهو المطالب بالدليل.
لذلك جاء وصف الكتاب الكريم بأنه هدى للذين يؤمنون بالغيب مطلقاً بعد قيام الدليل عليه ولا يفصِّلون بين غيب وغيب، فيصفون بعضاً منه بالخرافة وبعضاً منه بالوحي، حيث قال تعالى: ﴿ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: 1-2).
ومن ذلك أيضاً الحديث المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) حيث قال: «والذي بعثني بالحق بشيراً ليغيبن القائم من ولدي بعهد معهود إليه مني حتى يقول الناس ما لله في آل محمد من حاجة ويشك آخرون في ولادته فمن أدرك زمانه فليتمسك بدينه ولا يجعل للشيطان إليه سبيلاً فيزيله عن ملتي ويخرجه عن ديني»(1).
إذن فما جدوى النقاش مع شخص –وهو ينكر وجود الله تعالى أو الآخرة أو الملائكة أو الجنة أو النار- في القضية المهدوية وغيبة الإمام (عليه السلام) وطول عمره الشريف وآثاره التكوينية أو الشرعية في غيبته، فإن مثل هذا الشخص ينكر أصل الغيب برمَّته لله تعالى كان أم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أم لغيره.
نعم من يؤمن بهذه الغيبيات يصبح للنقاش معه جدوى.
وللاستئناس نذكر بعض الروايات التي تتحدث عن حال الناس في غيبة الإمام (عجّل الله فرجه):
عن الصادق ݠ، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أنكر القائم من ولدي في زمان غيبته مات ميتة جاهلية»(2).
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «تكون له حيرة وغيبة يضلّ فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون»(3).
عن الرضا (عليه السلام) قال: «لا يرى جسمه ولا يسمّى باسمه»(4).
وعن الجواد (عليه السلام): «القائم هو الذي يخفى على الناس ولادته ويغيب عنهم شخصه»(5)، وعن أبي هاشم الجعفري قال سمعت أبا الحسن العسكري(عليه السلام) يقول: «الخلف من بعدي الحسن ابني فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف، قلت: ولمَ، جعلني الله فداك؟ فقال: لأنكم لا ترونه شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه، قلت: فكيف نذكره؟ فقال: قولوا الحجة من آل محمد»(6).
فهذه الروايات الشريفة يظهر منها أنه (عجّل الله فرجه) موجود بيننا ولكننا لا نراه، فكما أن الهواء موجود ولا نراه ولا نشك فيه لأننا نشعر وجداناً به، بل لا حياة لنا بدونه، فكذلك الإمام (عليه السلام) بل هو أعظم من الهواء، فالهواء به حياتنا الفانية والإمام (عليه السلام) به الفانية والباقية.
فالخرافة أو الأسطورة هي ما لا أصل له، وقد أثبتنا في هذه العجالة أن الإيمان بالمهدي من آل محمد (عليهم السلام) له أصل ويتفرع على أصول والدليل عليها جميعاً قطعي، فيكون وصف هذه العقيدة بالخرافة هو في الحقيقة الخرافة، ولا تنشأ الخرافة إلّا من شخص خرفٌ فكرُه.
الهوامش:
(1) كفاية الأثر: ص10.
(2) إكمال الدين 2: 412 ـ 413 / 12 باب 39.
(3) كمال الدين: 1/ 289، ح1.
(4) كمال الدين: ج2، ص370.
(5) كمال الدين: ج2، ص377.
(6) كمال الدين: ج2، ص381.