البحوث والمقالات

(٧١٣) أسلوب الاستفهام في دعاء الندبة - (دراسة أسلوبية)

أسلوب الاستفهام في دعاء الندبة - (دراسة أسلوبية)

فائزة عبد الزهرة جامل السكيني

المقدمة:
انفتح دعاء الندبة على تنويع مدهش، وتعدّدية هائلة بإظهار الهدف من إرسال الأنبياء والرسل (عليهم السلام)، حفل بتركيز كبير من أجل إظهار التأسّف واللّوعة لفقد الإمام (عجّل الله فرجه)، وفيه ثقافة عالية على البناء واللغة، لقد حمل دعاء الندبة نزعة خطابية تستنهض القارئ (الداعي) بنحو المستغيث الحائر اللائذ بفناء بقية الله (عجّل الله فرجه)، لصلته بالعترة وبالله تعالى وبجميع الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)، فهو الملاذ الأخير الذي يلجأ إليه المضطر، بل الذي يجب أن يُلْجَأ إليه في كل حين، لأنه إمام زماننا وهو حي يرزق، فتكرار الاسم (أين) يستدعي بوجوب ندبة الإمام (عجّل الله فرجه) وإلحاح على أن نراه ونشكو إليه ما يلمُّ بنا من المظالم والجور.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الأمر بالدعاء يأتي بأمر الله (عزَّ وجلَّ) بقوله: ﴿وَقالَ رَبُكُمُ أدْعُوني أَستَجِب لكم إن الذِينَ يَستكِبرُونَ عَن عِبادتي سَيدخِلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ﴾ (غافر: 60)، لذا فالداعي يتوجّه لربه ببقيته في مطلع هذا المقطع بقوله «أين بقية الله» فالتوجّه لله (عزَّ وجلَّ) ببقيته وبقية حبيبه محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهم - محمد وآل محمد (عليهم السلام) - علة الوجود، وقد بقي ابنهم صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)، والملقب بالمهدي، فنتوجّه لله (عزَّ وجلَّ) به، ونبكي ونستصرخ ونندب من أجل ظهوره ومن أجل أن ينزل الفيض الإلهي والرحمة لعباده، ومن أجل الاتصال بالحضرة الإلهية بسيل من الكلمات الممزوجة باللواعج والانكسارات النفسية التي ولّدَتْها الذنوب، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أعجز الناس من عجز عن الدعاء وأبخل الناس من بخل بالسلام»(1).
وقد ورد دعاء الندبة في عدة مصادر قديمة أقدمها المزار الكبير للمشهدي الذي كان ومازال موضع عناية العلماء، وفي مصباح الزائر وإقبال الأعمال للسيد علي بن طاووس، وغيرها من المصادر.
اعتمدنا في بحثنا عن النسخة المنقولة في مفاتيح الجنان للقمّي، طبعة بيروت، علماً أننا لم نجد دراسة حديثة تناولت دعاء الندبة بشكل كامل، وقد اقتصرنا في بحثنا هذا في فصل ندبة صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه) وقد وجدنا أن أسلوب الاستفهام قد شكّل منبراً أصيلاً يُعَبرُ به عن الفجيعة والألم لفقد الإمام (عجّل الله فرجه) وعدم ظهوره لنا، ولما يحوي هذا الأسلوب من قوة بلاغية يبديها نص بلا منازع، استطاع أن يضيف إلى النص آفاقاً توثّق علاقتها بالنص وصلتها بالحياة، فالاستفهام أسلوب تعبيري يمتلك مستوى أدائياً عالياً بمقدوره التكيّف مع مختلف الانفعالات والنوازع الذاتية، لقد اسْتُلهِم من أسلوب الاستفهام آفاقه اللغوية الثرة للتعبير عن اللوعة والحرمان من عدم رؤية الإمام (عجّل الله فرجه) واستمرار فترة الغيبة.
فكان المبحث الأول: الأنماط الصورية للاستفهام في الدعاء، فكان اسم الاستفهام + اسم الفاعل، واسم الاستفهام + اسم المفعول.
أمّا المبحث الثاني: فكان الظواهر الأسلوبية في الدعاء، وفيه تناولنا التكرار والحذف، ثم الخاتمة ونتائج البحث.
ومما هو جدير بالذكر أن من فضل الله (عزَّ وجلَّ) أن يبقى الإمام (عجّل الله فرجه) حياً مدّخراً إلى اليوم الموعود يعيش بيننا ويتعرف على أخبارنا وتُعْرَض عليه أعمالنا، فالانتظار من صفات المؤمن، ومن هنا أكّدت الروايات ثواب الانتظار، عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أفضل أعمال أمتي انتظار فرج الله تعالى»(2)، وقال علي بن الحسين (عليه السلام): «انتظار الفرج من أعظم الفرج»(3)، وقال الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام): «من ثبت على ولايتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله أجر ألف شهيد مثل شهداء بدر وأُحد»(4).
لقد ذخر الله (عزَّ وجلَّ) الإمام (عجّل الله فرجه) للتغيير الشامل، لأن وظيفته مرتبطة بوظيفة جميع الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) بل هي النتيجة الحتمية لكل الرسالات السماوية.
إن هذه المسؤولية العظيمة جداً وهذا الدور القيادي الكبير الذي صعب على العقل إدراكه لشدته وعظيم بأسه والقدرة التي تفوق طاقة البشر وطاقة العقول، لا أحد قادر على أن يؤديها على أكمل وجه سوى الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لذا فهو وجه الله (عزَّ وجلَّ)، نجد أن دعاء الندبة هو دعاء يقدم عصارة منذ بدء الخليقة إلى الآن، لذا فهو منظومة كاملة لكل أعمدة مشروع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يبين ارتباط المشروع المهدوي بهوية الدور النبوي والدور الولوي، ليرسم لنا وظائف المؤمن وما ينبغي أن يعمله وما يقدم للمشروع المهدوي، لأن الشياطين تريد أن تجند المؤمن بطرق خفية وطرق غير مرئية يريدون أن يجمدوه ويخذلوه ساعة بعد ساعة ويشغلوه عن الارتباط بالمشروع المهدوي، لذا يحتاج المؤمن إلى ترويض متواصل أساسه الاستشعار بوجود الإمام (عجّل الله فرجه) وأن لا يغفل عن ذكر الله تعالى وعن ذكر الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وأن يؤدي ما يريده إمام زمانه منه من العمل الصالح ومساعدة الناس والالتزام بأحكام الدين، وكل ما يمت للدين بصلة، مما يسرُّ الله ووصيه الغائب الحاضر (عليه السلام).
التمهيد: التعريف بالاستفهام وأغراضه بشكل مختصر:
الاستفهام نمط تركيبي من الجمل الإنشائية الطلبية، فهو طلب العلم عن شيء لم يكن معلوماً أصلاً، وهو مشتق من مادة (فهم)، وقد عرفه ابن منظور بقوله: (الفهم معرفتك الشيء بالقلب، وفهمت الشيء: عقلته وعرفته، وفهمت فلاناً وأفهمته وتفهم الكلام: فهمه شيئاً بعد شيء واستفهمه: سأله أن يفهمه، وقد استفهمني الشيء، فأفهمته وفهمته تفهيماً)(5)، وقال ابن قتيبة (واستفهمته سألته الإفهام)(6)، فالاستفهام في أصل اللغة هو: طلب الفهم وكذا في اصطلاح النحويين أيضاً، لكنه عند السيوطي (ت 911هـ): (طلب الأفهام)(7).
وللاستفهام أدوات متعددة ومختلفة في تصنيفها أيضاً حيث تنقسم إلى (حروف) و(أسماء وظروف)، وسنقتصر في دراستنا هذه على الظرف (أين) وهو ظرف يستعمل للسؤال عن المكان، وهو اسم، وإنّ غنى هذا المقطع من دعاء الندبة بهذا الاسم الاستفهامي هو ما دفعني للخوض في هذا البحث المتواضع، علماً أنه قد تخرج صيغ الاستفهام عن معانيها الحقيقية إلى معان أخرى، تُفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال ومن أهم هذه المعاني ما يلي:
التقرير: (وهو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقرّ عنده)، وكذلك الأمر والنهي، والتسوية، والاستئناس، والتبكيت، والتهويل، والتخويف، والاستبعاد، والتفخيم والتعظيم، والتعجب، والتهكّم، والسخرية، والتهديد والوعيد، وغيرها.
فالاستفهام المجازي، يكون السائل عالماً فيه بما يسأل عنه، لكنه يقصد فيه معنى من المعاني المجازية، التي يفهمها المتلقّي من السياق اللغوي عند تأمل النص، وفقهه، وسبر ما يمكن وراءه من معانٍ وأسرار.
وفي بحثنا نجد أن البنية التركيبية للجملة الاستفهامية لم تأت على نسق واحد، بل جاءت بنسقين متكونة من اسم الاستفهام مع اسم الفاعل في النسق الأول، ومع اسم المفعول في النسق الثاني، فكان قوام البحث معتمداً على الجملة الاسمية، ذلك أن هذه الجملة في أصل وضعها تفيد ثبوت الوصف لموصوفه، وقد تَمثّل هذا في نسبة صفات الإمام (عجّل الله فرجه) فهي ليست صفات وقتية غير ثابتة فيه، بل هي موجودة فيه على الدوام، وهذه سمة أسلوبية امتاز بحثنا فيها ضمن هذا الفصل من ندبة الإمام (عجّل الله فرجه).
المبحث الأول: الأنماط الصورية للاستفهام في الدعاء:
1- اسم الاستفهام + اسم الفاعل:
يعد هذا النمط أكثر الأنماط التصورية، إذ بلغ ثلاثاً وعشرين مرة في المقطع المختار من الدعاء، واسم الفاعل: هو عبارة عن صيغة تختزل في طياتها عنصرين، وهما: الحدث والذات القائمة بذلك الحدث، فينبني على هذين العنصرين، وهذه القيمة الدلالية تُعدّ قرينة معنوية، تُسهم إسهاماً فاعلاً في التعرّف على هذه الصيغة، فمتى ما وجدنا اسماً يحمل هذه السمات حكمنا عليه بالفاعلية، ويُصاغ من الأصول المجردة على وزن فاعل(8)، وفيما زاد عليها على صيغة المضارع بميم مضمومة وكسر ما قبل الآخر(9)، وهي قرينة لفظية للدلالة عليه.
ويُعدّ اسم الفاعل من الصيغ التي تنطوي ضمن تراكيب اللغة العربية وإمكاناتها المتنوعة في مجال التعبير عن الزمن، بالصيغ الفعلية المجردة والمزيدة، وبالتراكيب، وببعض الأسماء ومنها اسم الفاعل.
«أين بقية الله التي لا تخلو من العترة الهادية»:
البقية بمعنى الباقي أي: ما أبقى الله تعالى(10)، وبقية اسم من أسمائه الشريفة، والندبة للميت والحي الغائب، وبقية اسم خاص مختص بصاحب العصر (عجّل الله فرجه) هذا الاسم الأول في فصل ندبته (عجّل الله فرجه) فلم يبق من كل الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) والأوصياء أحد إلّا البقية الباقية، بقية تنسب إلى الله تعالى، فهو تعالى لا يترك الأرض من حجة إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مستوراً، لا يوجد غير الإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)، يأتي اسم الفاعل في قوله الهادية: أي بقية الله الهادي للأمة الذي لا يمكن أن تخلو الأرض منه ولو خلت ساعة لذهب الوجود وانعدم، وكذلك في قوله «دابر» في المقطع «أين المُعدّ لقطع دابر الظلمة»، الدابر الأصل، وقال ابن بُرُزج: دَابِرُ الأَمر آخره، ودُبُرُ الأَمر آخره، ودُبُرُ الأَمر ودُبُرُه آخره، ودابِرُ القوم آخر من يبقى منهم ويجيء في آخرهم(11).
وفي «محيي» في المقطع «أين محيي معالم الدين»:
أي بظهور القائم (عجّل الله فرجه).
وفي «قاصم» و«المعتدين» في المقطع «أين قاصم شوكة المعتدين»، القصم:
دَق الشيء، يقال للظالم: قَصَمَ الله ظهره، القَصمُ: كسر الشيء الشديد حتى يَبين، قَصمه يَقصمه قَصماً فانقَصَمَ وتقَصم كسَره كسراً(12).
وفي «هادم» المقطع «أين هادم أبنية الشرك والنفاق»، هدم:
الهدم إسقاط البناء يقال هدمته هدماً والهدم ما يهدم(13).
وفي «مبيد» في المقطع «أين مبيد أهل الفسوق والعصيان والطغيان»:
بَادَ يَبيدُ بَيداً ويُبُوداً أي: هَلَكَ(14) فالإمام (عجّل الله فرجه) يُهلِكُ الفاسقين ولا يترك لهم باقية بظهوره الشريف المبارك، لأنهم تجاوزوا الحد بطغيانهم لأن معنى الطغيان الوارد في المقطع: هو مجاوزة الحدّ، وكل شيء جاوز المقدار والحدّ والعصيان فهو طاغٍ، وأطغيته جعلته طاغياً، وطَغا السيلُ: ارتفع حتى جاوز الحد في الكثرة(15).
وفي «حاصد» في المقطع «أين حاصد فروع الغي والشقاق»:
وحصدهم بالسيف: استأصلهم(16)، والحصاد بالفتح والكسر: قطع الزرع(17)، ذلك أن الإمام (عجّل الله فرجه) يستأصلهم من جذورهم، والتعبير بالحصاد يشير إلى كثرة هؤلاء ويشير إلى قدرة الإمام العالية لمحوهم من الأرض والقضاء عليهم من الأصل.
ويأتي اسم الفاعل أيضاً في كلمة «طامس» في المقطع «أين طامس آثار الزيغ والأهواء»:
ومعنى كلمة طمس: إزالة الأثر بالمحو(18)، عند ظهور الإمام (عجّل الله فرجه).
وفي «قاطع» في المقطع «أين قاطع حبائل الكذب والافتراء»:
والقَطعُ: إبانةُ بعض أَجزاء الجِرمِ من بعضٍ فضلاً قَطَعه يقطَعُه قطعاً وقَطِيعةً وقُطوعاً، والقَطعُ مصدر قَطَعتُ الحبلَ قطعاً فانقَطَع، والمِقطَعُ بالكسر ما يُقطَعُ به الشيء وقطَعه واقتطعه فانقطع(19).
بظهور الإمام (عجّل الله فرجه) يهتدي الناس إلى طريق الحق والصدق بوعيٍ أصيل بعيد عن الانحراف والتزييف والانحراف السائد قبل الظهور، فأهل البيت (عليهم السلام) هم آل الله وبهم تمّ الدين ويسود العدل بعيداً عن الافتراء والكذب على الرعية، بظهوره يقطع كل الأكاذيب إذ الحق لا يكاد يُعمَل به إلّا بعد ظهوره (عجّل الله فرجه).
بدأت القائمة بعد ذلك بحملات الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بعد أن مهّدت بـ:
أين بقيةُ الله المهديُّ (عجّل الله فرجه) من آل محمد (عليهم السلام) الذي لا تخلو العترة الهادية منه، يبدأ بمراحل التطهير.
أول شيء يبدأ به هو القطع إذ من أسمائه القاطع لكل مظاهر الانحلال والافتراء الموجود.
واسم الفاعل في «مبيد» المقطع «أين مبيد العتاة والمردة»:
وبَادَ يَبيدُ بيداً إذا هلك(20).
والعتي هاهنا مصدر للعتو وهو التمرّد في العصيان وقيل يبدأ بالأكثر جرماً فالأكثر(21).
وفي مفردة «مستأصل» في المقطع «أين مستأصل أهل العناد والتضليل والإلحاد»:
واستأصلته قَلَعته بأصُولِهِ وَمِنهُ قِيلَ استأصَلَ اللهُ تَعالَى الكُفارَ أَي أَهلَكَهُم جميعاً(22)، والمعروف أن العنيد هو الذي لا يأخذ بالنصيحة والموعظة بل يأخذ برأيه وهواه ويعدل عن طريق الحق والصواب، ليُضلّ ويُلحِد في دينه.
ليأتي اسم الفاعل في مفردَتي «معز» و«مذل» المقطع «أين معز الأولياء ومذل الأعداء»:
العزُ في الأصل القوة والشدة والغلبة والعِزُ والعِزَة الرفعة والامتناع والعِزة لله وفي التنزيل ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: 8)، أَي له العِزة والغلبة سبحانه(23)، أمّا الذل فهو نقيض العز: ذل يذل ذُلاً وذِلة وذلالة ومَذَلة فهو ذليل بيّن الذل والمذلة من قوم أَذلّاء وأذّلة وذِلال(24) فأعداء الدين والرسالة المحمدية يُذلّهم الإمام القائم (عجّل الله فرجه) عند ظهوره.
وفي كلمة «جامع» في المقطع «أين جامع الكلمة على التقوى»:
و(الجامع) من أسمائه تعالى، وهنا (إشارة إلى خصوصية من خصائص دولة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وهي تجريد الإنسان من جميع العبوديات على اختلاف الأشكال وتكون العبودية لله تعالى)(25) أي لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا صاحب ملة إلّا صار إلى الإسلام.
وكذلك يأتي اسم الفاعل في مفردة «المتصل» في المقطع «أين السبب المتصل بين الأرض والسماء»:
ولبيان معنى هذا المقطع نجد أن (السبب: الحبل الذي يصعد به النخل وجمعه أسباب... وسُمّي كل ما يُتوصَّل به إلى شيء سبباً...، ومعناه أن الله تعالى آتاه من كل شيء معرفة وذريعة)(26).
ويأتي أيضاً اسم الفاعل في مفردة «صاحب» في المقطع «أين صاحب يوم الفتح وناشر راية الهدى»:
والمعنى هنا (صحبه يصحبه صحبة بالضم وصَحابة بالفتح وصاحبه عاشره والصحب جمع الصاحب مثل راكب وركب والأصحاب جماعة الصحب)(27).
أمّا «ناشر راية الهدى» أي بمعنى (ينشر راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا ينشرها بعد يوم الجمل إلّا القائم)(28).
واسم الفاعل في مفردة «مؤلف» في المقطع «أين مؤلف شمل الصلاح والرضا»:
وهنا (ألفتُ الشيء وآلفتُه بمعنى واحد لزمته فهو مؤلفٌ ومألوف وآلفت الظباء الرملَ إذا ألفته)(29).
وفي «الطالب» في «أين الطالب بذحول الأنبياء وأبناء الأنبياء»:
ويأتي (وجدان الشيء وأَخذه والطِلبة ما كان لك عند آخر من حَقٍ تُطالبه به والمطالبة أَن تُطالب إنساناً بحق لك عنده ولا تزال تتقاضاه وتُطالبه بذلك)(30)، فالإمام (عجّل الله فرجه) بظهوره يثأر للأنبياء (عليهم السلام) وأبناء الأنبياء لما تعرضوا له من القتل والتعذيب، تأتي مفردة مرة أُخرى مكررة في المقطع «أين الطالب بدم المقتول بكربلاء» وهنا (طلب الدم أي طلب الثأر والذي يطلب بدم الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته من أعدائه هو الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لأن الإمام هو الوارث الشرعي للإمام الحسين (عليه السلام) ويطلب بدمه بأمر من الله تعالى)(31) وقد روى العياشي في تفسيره بإسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً﴾ (الإسراء: 33) قال: «هو الحسين بن علي (عليه السلام) قتل مظلوماً ونحن أولياؤه، والقائم (عجّل الله فرجه) منّا إذا قام طلب بثأر الحسين (عليه السلام) فيقتل حتى يقال قد أسرف في القتل، قال: المسمى المقتول الحسين (عليه السلام) ووليه القائم (عجّل الله فرجه)، والإسراف في القتل أن يقتل غير قاتله ﴿إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً﴾، فإنه لا يذهب من الدنيا حتى ينتصر برجل من آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً»(32).
2- أسلوب الاستفهام + اسم المفعول:
يأتي استعمال اسم المفعول بالدرجة الثانية من حيث الكثرة في هذا المقطع من ندبة الإمام (عجّل الله فرجه)، وذلك لاشتراك اسم الفاعل واسم المفعول العاملين والمجردين من (الـ) على الدلالة على الزمن الحاضر أو المستقبل، ويدلّان على الزمن الماضي إذا كانا مضافَين وغير عاملين، وكذلك يدل اسم الفاعل واسم المفعول العاملين والمُعرَّفين بـ(الـ) على الزمن الماضي أو الحاضر أو المستقبل وفقاً للقرائن السياقية، ويدل اسم الفاعل واسم المفعول على التجدّد والحدوث وتدّل المشتقات الأخرى على الثبات، وتوجد علاقة وثيقة بين التجدّد والثبات والدلالة الزمنية(33).
فإذا دلّ الاسم المشتق على التجدّد فإنه يصلح للدلالة على الزمن الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وإذا دلّ الاسم المشتق على الثبات فإنه لا يصلح للدلالة على زمن مخصوص، وإنما يدلّ على مطلق الزمن(34) أي ثبوت الوصف لموصوفه، لذا فصيغة اسم المفعول، تأتي للدلالة على ثبوت الصفة.
فمن ذلك مفردة «المعد» في المقطع «أين المعد لقطع دابر الظلمة»:
فالإعداد صفة ثابته للإمام (عجّل الله فرجه) بشكل قطعي، وأعددته إعداداً: أي هيّأته وأحضرته(35)، ومما هو جدير بالملاحظة نجد في بداية فصل ندبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) تبدأ حملة قوية كبيرة عظيمة لوظائف الإمام (عجّل الله فرجه) إذا ظهر، فيبدأ بعملية قطع واستئصال ودحر وطمس وتنظيف كامل من براثن الشرك والإلحاد والظلم ومن الفساد المستشري في البر والبحر والجو، فالإمام (عجّل الله فرجه) عند ظهوره ينهي كل مظاهر الفساد وكل مظاهر الظلم، ذلك أن الله (عزَّ وجلَّ) لم يترك العباد دون أن يكون هناك مصلح يُعَدُّ إعداداً تاماً لحمل أمانة عجزت عنها السماوات والأرض، لأن يكون خليفته في الأرض، فالإنسان لم يُخلق عبثاً دون أن يكون هناك رسول من الله (عزَّ وجلَّ) يهديه لدينه ويرشده لما فيه خير الدنيا والآخرة، وقد هيّأ الله (عزَّ وجلَّ) لنا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لهذا الأمر وليكون المشروع المهدوي امتداداً للمشروع المحمدي، وهذا هو مشروع السماء مشروع عقائدي لا يقوم به إلّا من اصطفاه الله (عزَّ وجلَّ) وأعدّه لهذا الأمر، و(المُعَدّ) من أسماء الإمام (عجّل الله فرجه)، «والمعد لقطع دابر الظلمة»، فكل الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) والمصلحين لم يُتَح لهم قطع دابر الظلمة، سوى صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) فهو الذي سوف يقطع دابرهم عن بكرة أبيهم لذا فهو المُعَدّ، فقطع الإمام (عجّل الله فرجه) قطع كلي وليس جزئياً، وقد أعطى الله سبحانه الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ضماناً بالنصر الكلي وليس الجزئي، هو الذي يقطع دابر المتكبرين من جذورهم هو الذي يقطع دابر الظلمة، يزيل الإمام (عجّل الله فرجه) الشرك والظلم ثم يصلح المجتمع.
ويأتي اسم المفعول في مفردة «منتظر»: «المترقب»، وأصل الرقيب من الترقب وهو أي أن الإمام (عجّل الله فرجه) منتظر أمر الله (عزَّ وجلَّ) بالظهور ليقيم العدل في الأرض ويصلح ما قد فسد منها منذ غياب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) من بعده وما قام به أهل الإجرام من ظلم وفساد في الأرض التي خلقها الله (عزَّ وجلَّ) للعدل والسلام، ويُعد هذا الاسم من أسماء الإمام (عجّل الله فرجه) المشتهرة ومن معانيها أنه ينتظر خروجه المخلصون، وهذا الاسم يستبطن معنى عميقاً هو الغيبة الطويلة، لماذا ننتظر؟ الانتظار لمن؟ إنه للإمام الغائب (عجّل الله فرجه)، انتظار انتهاء الغيبة، انتظار الظهور.
وفي كلمة «المرتجى» في المقطع «أين المرتجى لإزالة الجور والعدوان»:
و(الرجاء من الأمل نقيض اليأس مَمدودٌ رَجاهُ يرَجوهُ رَجواً ورجاءٌ ورجاوةٌ وَمرجاةٌ وَرجاةٌ)(36)، وهنا إشارة إلى الأمن والأمان الذي يحصل بظهور المولى (عجّل الله فرجه)، وهنا يحطّ البحث ركابه ليتنفس الصعداء، فأين رجاء الله تعالى الذي ينتظر طلعته المؤمنون بفارغ الصبر؟ وقد بلغ السيل الزبى، واختنقت العبرة في صدور المؤمنين للُقْيا صاحب العصر (عجّل الله فرجه)، وتغيير الحال الذي ألمَّ بكل بقاع الأرض من الظلم والحرمان، فرجاء المؤمن لا ينقطع أبداً، يطمح أن يدرك زمن ظهور الإمام (عجّل الله فرجه) ونيل السعادة في الدارين آنذاك وأن يحظى بحياة كريمة كما يريدها الله تعالى لعباده بعيداً عن الذل والهوان وسلب الحقوق، بل حياة في كنف الله تعالى وإمامه الموعود المرتجى (عجّل الله فرجه) لإحداث التغيير الشامل يحفظ الإنسانية من الانحطاط والدونية المقيتة، بحفظ كرامة الإنسان وعقيدته وفطرته السليمة.
ويأتي اسم المفعول في مفردة «المدخر» في المقطع «أين المدخر لتجديد الفرائض والسنن»:
(ذخر: أصل الادخار إذ تخار، يقال ذخرته، وإذخرته إذا أعددته للعقبى)(37) يشير هذا المقطع من الدعاء إلى (أن القائم (عجّل الله فرجه) إذا قام بالأمر يطبق الإسلام كما نزل على جده الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مجرداً عن الاجتهادات والتحريفات التي دخلت عليه فيكون تطبيق الإسلام في دولته المباركة جديد على الناس وقد دلت على ذلك نصوص ومن جملتها)(38).
في الدعاء المروي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) «وجدد به ما محي من دينك وبُدّل من حكمك حتى تعيد دينك به وعلى يديه جديداً غضاً»(39).
ذلك أن الإمام (عجّل الله فرجه) هو الامتداد الطبيعي لآل البيت (عليهم السلام) وما جاءوا به من تطبيق أحكام الله (عزَّ وجلَّ).
ويأتي اسم الفاعل أيضاً في مفردة «المتخير» في المقطع «أين المتخيّر لإعادة الملة والشريعة»:
(المِلة لغةً: الشريعة، والجمع مِلَل، وقد تَمَلل، وامتل: دخل في الملة) وقد اختاره الله (عزَّ وجلَّ) من شجرة حبيبه محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، من نسل علي وفاطمة (عليهما السلام) هذا النسب وهذا القرب من آل البيت (عليهم السلام) كونهم أهلاً لحمل الرسالة الربانية وكذا هو حال ابنهم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وأهليته لهذا الدور الإلهي جعل الله (عزَّ وجلَّ) يختاره لإعادة جميع ما شرعه الله سبحانه وبيَّنه من الطاعات وترك المحرمات.
وكذا الحال في لفظة «المؤمل»، تحمل دلالات ذلك البعد الإلهي المرجو، وقد نقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إن الدنيا لا تذهب حتى يبعث الله رجلاً منا أهل البيت يعمل بكتاب الله»(40).
[فالقرآن الكريم والسنة النبوية تمثل القانون الوحيد الذي يحكم الأرض في دولة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وفي مفردة «المقتول» يأتي اسم الفاعل المقطع «أين الطالب بدم المقتول بكربلاء» طلب الدم أي طلب الثأر، والذي يطلب بدم الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته من أعدائه هو الإمام (عجّل الله فرجه) لأن الإمام هو الوارث الشرعي للإمام الحسين (عليه السلام) ويطلب بدمه بأمر الله تعالى].
وفي مفردة «المنصور» تأتي صياغة اسم المفعول في المقطع «أين المنصور على من اهتدى عليه وافترى»:
(اعتدى فلان عن الحق واعتدى فوقَ الحقِ كأَن معناه جازَ عن الحق إلى الظلم وعدَى عن الأمر جازه إلى غيره وتركه)(41)، وهذا النص يبيِّن بأن النصر سيكون للإمام (عجّل الله فرجه) وأتباعه لا محالة، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «إن الملائكة الذين نصروا محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم بدر في الأرض ما صعدوا بعد ولا يصعدون حتى ينصروا صاحب هذا الأمر وهم خمسة آلاف»(42)، إن القدرة الغيبية وهبها الله للأنبياء والأولياء (عليهم السلام) لينصرهم بإذنه، إن الله (عزَّ وجلَّ) نصر رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالملائكة والرعب ودخل العنصر الغيبي أو القدرة الغيبية لأن أمره إلهي، لذا فإن الله (عزَّ وجلَّ) يزود وليه الحجة (عجّل الله فرجه) بما زود الأنبياء (عليهم السلام) به ويسخّر له كل شيء بإذنه، كما سخّر (عزَّ وجلَّ) لنبيه سليمان بن داود (عليهما السلام) الرياح وسخّر له جوانب كثيرة من الطبيعة مثل العواصف التي تؤثر في الأرض والصواعق، ولقد كان نبي الله سليمان (عليه السلام) يتمتع بقدرات غيبية متعددة(43)، لم يخلق الله سبحانه خلقه عبثاً لكي يعيث الظالمون في الأرض فساداً حسب أهوائهم الدنيوية وطاعة شياطينهم دون أن ينزل عليهم عقابه وعدله الذي يطردهم به من رحمته ويكون ذلك بوليه القائم (عجّل الله فرجه).
وتأتي المفردة الأخيرة الدالة على اسم المفعول كلمة «المضطر» في المقطع «أين المُضطَر الذي يُجابُ إذا دَعا»:
ومعنى المضطر هو الإنسان الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الأيام(44)، فالإمام وسيلتنا إلى الله (عزَّ وجلَّ) وشفاعته إلى الله سبحانه تقضي الحوائج، أي إن دعوة الإمام (عجّل الله فرجه) لشخص ما، لا ترد عند الله سبحانه إلّا بقضائها لأن دعاء الإمام (عجّل الله فرجه) عند الله سبحانه لا يُرَدّ أبداً فكيف إذا توجّه الإمام (عجّل الله فرجه) لربّه لقضاء حاجة إنسان ما، وهذا يكون لكل سائل وصاحب حاجة أن يتوجه لله (عزَّ وجلَّ) بصاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)، يجب أن يكون الإنسان دوماً في حالة اضطرار قريباً من ربه ووصيه، فمما لا شك فيه أن الإنسان المؤمن يطمح لأن يكون من عباد الله الصالحين والمتقين.
المبحث الثاني: الظواهر الأسلوبية في الدعاء:
1- التكرار:
يفصح التكرار عن تركيز دالٍّ على أهمية المكرَّر وفاعليته الإيحائية، وهذا ما نجده حاضراً في دعاء الندبة في «أين» المكانية لتعبّر عن مصيبتنا الكبرى وهي فقدان إمام زماننا (عجّل الله فرجه) وعدم ظهوره لنا، وهذه المعاناة، من لها غير مولانا وسيدنا وحامينا صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)؟ وسيف الله القاطع من أهل الكفر والشقاق، هنا تأتي الأداة (أين) لتكون القطب والركيزة الأساسية المعبرة عن اللّوعة والألم لفقد الإمام (عجّل الله فرجه) وما يتجرعه المؤمن من غصة وحشرجة الصدر لفقد الطلعة الرشيدة والغرة الحميدة الحاملة لراية النبي الأكرم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لقد أحدث تكرار الأداة «أين» الأثر الكبير على الجوانب الدلالية للنّص عموماً، وحمل شحنات إيقاعية أدت وظيفة جمالية ووسيلة إلى إثراء الموقف وشحذ الشعور إلى حد إظهار الفجيعة والندبة.
أسهمت الأداة (أين) في هذا المقطع في منح اللغة النبرة الصوتية المتميزة، إذ إن النون من الأصوات المجهورة المتوسطة بين الشِدّة والرخاوة أيضاً، وعند النطق به (يعتمد طرف اللسان على أصول الأسنان العليا مع اللثة فيقف الهواء أو يحبس وينخفض الحنك اللين فيتمكن الهواء الخارج من الرئتين من المرور عن طريق الأنف وتذبذب الأوتار الصوتية)(45)، ويعد النون من أحرف الذلاقة أيضاً ويذهب بعض الدارسين إلى أنها (أصلح الأصوات قاطبة للتعبير عن مشاعر الألم والخشوع)(46)، ويرى أنه (لولاها ما اهتدى الإنسان إلى وتر وناقوس يرن)(47)، فلذلك طبع صوت النون بالنغم الشجي الذي تعشقه الأذن وترتاح إليه النفس، لقد شكل صوت النون قيمة إيقاعية قائمة على التناغم والانسجام الصوتي ما جعل الندبة هنا تأتي بأسلوب لافت ومؤثر ومُشعر في الوقت نفسه بأهميّة الحدث الذي تصوّر في الذهن والذي تمكّنَ في النفس.
ومما هو جدير بالذكر أنّ تكرار الأداة (أين) هنا شكّل مناخاً له القدرة على استفزاز الذائقة الجمالية وبهذا الانتظام المطلق، أي عدم وجود فجوة بين المكوّنات الإيقاعية، لذا جاء تكرار (أين) هنا ليوقظ الإحساس في أنفسنا: أَلا تبحثون عن إمامكم؟ ألا تبحثون عن ملك الأرض؟ ألا تبحثون عن منقذكم؟ ألا تستشعرون بوجوده؟ ألا تبحثون عنه؟
في كل مقطع تتكرر (أين) ليأتي بعدها دعاء الندبة بأسماء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، يا من تعشقون الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وتحبون الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) دعاء الندبة يعطيكم قائمة من بعض أسماء الإمام (عجّل الله فرجه)، أي يجب أن نُحِسَّ بوجود الإمام (عجّل الله فرجه)، يجب علينا أن ندعو له ونلوذ به، ونقوي ارتباطنا به ونزور عنه بالنيابة، فذكرنا لإمامنا (عجّل الله فرجه) هو ذكر لله ولدين الله (عزَّ وجلَّ).
أي إن هناك انتظاماً مطلقاً بين مقاطع الدعاء وبين كلماته، وهذه ظاهرة أسلوبية في هذا المقطع، ولعل عدم خلخلة النظام داخل هذه المنظومة وفي شبكة العلاقات التركيبية والصوتية وتوزيع التكرار في ثنايا هذا المقطع أوجد عنصراً فعّالاً في أسلوبية النص العام للجمل، فجعل من التكرار ملمحاً واضحاً لا غموض فيه، ففيه انزياح عن المألوف والتكرار النمطي.
افتتح التكرار في بدء هذه الندبة بـ«أين بقية الله» فكانت فيها نسبة الإمام (عجّل الله فرجه) في كلمة البقية وهو السبب لندبته ليأتي بعدها التكرار منسوب لصفات هذه البقية الباقية وهو الإمام (عجّل الله فرجه)، فكان المفتتح يشمل لكل الصفات التي جاءت بعده، فكان الوقوف عند مفردة الـ(بقية) تندرج تحتها صفات متعددة، ذلك أن المعنى المكرَّر هو استمرار في المشاعر والأحاسيس التي أثارها الموقف الأول أو هو تعبير عن مشاعر أعمق لم يستطع الموقف الأول أن يحتويها أو يصل إليها، ومن هنا يأتي الموقف الجديد والمعنى المكرَّر مشبعاً بالإثارة والانفعال فيتسع ليشمل دائرة النفس كلها ويتغلغل إلى أعماقها فيستقر بها أو يتلوّن بأحاسيسها فتصبح جزءاً في تشكيل نسيجها، فترسم للقارئ منهاجاً، لمن يريد السير في طريق الهداية والصلاح، وهنا نجد دور التكرار في تماسك النص (يطلق البعض على هذه الوسيلة: الإحالة التكرارية، وتتمثل في تكرار لفظ أو عدد من الألفاظ في بداية كل جملة من جمل النص قصد التأكيد، وهذا التكرار في ظاهر النص يصنع ترابطاً بين أجزاء النص بشكل واضح)(48).
يشكل التكرار عنصراً بنائياً أساساً في الدعاء؛ لأن تكرار الداعي صيغة الاستفهام ذات الوضوح السمعي يمثل منهجاً لمشاعره هو بذاته حال دخوله بوعي الدعاء محضر الحق (عزَّ وجلَّ)، لذلك يتناسب مغزى التكرار مع نوع الدعاء من تضرع أو ثناء أو مناجاة أو قنوت أو غيرها، وكذلك مع طول الدعاء الشكلي أسلوبياً، نحن نبحث عن إمام زماننا (عجّل الله فرجه) المغيب ونشكو له حالنا وما جرى بشريعتنا وديننا، وما قام به الظالمون من الأذى، لذا كان التكرار دالّاً على المناسبة فدلالة التكرار على المناسبة في النصّ الدعائي يمثّل قيمة التكرار في تحقيق الإنجاز وأثر الأداء في قوة فعل الكلام وهو أمر يتعلق بطاقة الدعاء الروحية في اتصاله بعالم الغيب، لبلوغ مراتب اليقين في وعي الداعي، إذ يمثل التكرار معطى أساسياً وليس شكلياً لتحقيق إجابة الدعاء وإنجاز الهدف المرجو منه وبغير ذلك لا يصل الداعي إلى مبتغاه.
2 - الحذف:
هو من الأساليب البلاغية التي تهدف إلى (التخفيف من ثقل الكلام وعبء الحديث، ففي الخفة تلك تكمن البلاغة ويسمو الكلام، حتى يصل إلى قوة السحر في التأثير)، وقد (تنبه القدماء وعلماء النص المحدثون إلى دور الحذف حيث جعلوه وسيلة من وسائل التماسك النصي، بل تنبه إليه القدماء أيضاً وأفاضوا في الحديث عن قيمته البلاغية والدلالية).
وشرط الحذف أن يكون في الكلام قرينة تدل على المحذوف احترازاً من العبث، يقول عبد القاهر الجرجاني: (هو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ عجيب الأمر شبيه بالسحر فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن) وهذا ما يضفي أسلوبية جمالية تجعل القارئ يمعن النظر في النص لتقبل المعاني المطروقة في هذا الحذف، وتشد من انتباهه (فالمعنى إذن هو الملجأ الذي يلجئون إليه في تقدير المحذوف، وهو الحكم في إمكان الحذف أو عدمه، ويظهر ارتباط التقدير بالمعنى في اشتراطهم الدليل على المحذوف، كما يظهر ذلك في تقديرهم للمحذوف).
وهنا في بحثنا نجد أن الفاعل محذوف وهو الإمام (عجّل الله فرجه) لينوب عنه اسم الفاعل أو اسم المفعول، وهذا لما يوفره أسلوب الحذف من أهمية لحاجات فنية تكمن في تحقيق الدلالة في النص وما يصنعه من توافق واستجابة بين المؤلف ومتلقيه عن طريق إثارة انتباه القارئ وتنشيط خياله، ذلك لأن المتلقي يجد متعة في تحريك حسه ليكشف ما هو غير مكشوف بوضوح لأي قارئ؛ لذلك فإن الحذف وسيلة من وسائل الشد بين القارئ والنص بإشراك القارئ في بلوغ ما يراد إبلاغه إليه، فيلقى إليه بعض الكلام، ويترك له الخوض والبحث عن الباقي، وقد اشتمل بحثنا على حذف الفاعل بدءاً من مطلعه حتى خاتمته.
كما إن اكتمال عناصر الصياغة يدخلها منطقة الشفافية التي يستطيع المتلقي اختراقها سريعاً إلى الناتج الدلالي، فلا تحصل للنفس لذة ولا ذوق بإدراك المعنى، أمّا الحذف فإنه يدخل البنية دائرة الكثافة، بحيث لا يخترقها المتلقي إلّا بعد معاناة، فيكون اكتساب المعنى شبيهاً باكتساب التصور فيزداد الكلام حسناً وتزداد النفس لذة.
كما إن المحذوف إذا بلغ نهاية أوصافه، لم تعد هناك حاجة إلى ذكره للاكتفاء بالصفات الدالة عليه، كنوع من الإيماء إلى تفرده بها، فإن اجتمعت هذه اللواحق الدلالية والنفسية، كان الكلام في قمة بلاغته، بحيث يصير للنفس لذة به(49)، إن المتأمل في مجموع البنى الحذفية يؤدي إلى طرح قضية الصياغة وتعبيرها عن الفكر بواسطة اللغة، حيث ينجز الفكر نفسه بالدخول في أشكال تعبيرية ركيزتها الحذف.
الخاتمة ونتائج البحث:
1- الدعاء عبادة يتعبد بها الناس، ويتخلق بها المؤمنون بالله (عزَّ وجلَّ)، أوّل الكلام، ويعتبر دعاء الندبة من الأدعية المعروفة التي لها وقع في القلوب، وفيه ندبة لأهل البيت (عليهم السلام) ثم لصاحب الزمان (عجّل الله فرجه).
2- إن الجانب التاريخي الذي سرده لنا هذا الدعاء ليس له نظير بعد القرآن الكريم، منذ بدء الخليقة إلى خاتم الأوصياء المهدي (عجّل الله فرجه) باعتباره المخلِّص الوحيد الذي بقي رغم أنه مُغيَّب، وهو ذروة الرسالات ومعيد الشريعة والصراط القويم.
3- ندبة الإمام (عجّل الله فرجه) في المقطع الذي تكرر فيه أسلوب الاستفهام بشكل ملحوظ باسم الاستفهام؛ ليعبر عن اللوعة لفقد الإمام (عجّل الله فرجه) وما يلاقي المؤمنون من الظلم والويلات بسبب فقده، فلا يوجد غيره من يعيد الحق وينتقم من الظالمين ويقطعهم من دابرهم دون أن تكون هناك أي بقية لهم، لأن ثورته شاملة كاملة وليست جزئية لذلك فهو الأمل الوحيد المتبقي للنجاة.
4- اتكأ الدعاء على اسم الفاعل واسم المفعول إلّا أن اسم الفاعل كان له النصيب الأوفر، ذلك أن من مميزاته دلالته على الثبوت أي ثبوت الصفة في ذات الموصوف.
5- وبوصف أسلوب الدعاء حمل تعبيراً ذاتياً صادقاً؛ فإن طاقته التعبيرية تتناسب مع عمق الانفعال ودلالته؛ فيكون الأثر الانطباعي هو المعادل الموضوعي للذات.
6- وقد أدى التكرار لأسلوب الاستفهام دوراً بارزاً في تدعيم التماسك النصي، وتدعيم البناء الشكلي، لذا شكَّل التكرار عنصراً بنائياً في الدعاء جسَّد الحالة النفسية والغربة التي يعيشها المؤمنون لفقد إمامهم (عجّل الله فرجه).

الهوامش:

(1) الأصول من الكافي: الكليني:2/468.
(2) بحار الأنوار: 52: 123.
(3) كمال الدين:330، الاحتجاج:3: 50، بحار الأنوار: 36: 387.
(4) بحار الأنوار: 52: 136.
(5) ابن منظور: لسان العرب، مادة (فهم).
(6) ابن قتيبة الكوفي الدينوري: 360.
(7) جلال الدين السيوطي: الإتقان في علوم القرآن: 294.
(8) ينظر: المقتضب: 2/202، وشرح المفصل:6/85.
(9) ينظر: المقرب: لابن عصفور:498، وشرح ابن الناظم 4/3123، وشرح الرضي على الكافية:3/327، وشرح الحدود في النحو: الفاكهي:90، تصريف الأسماء، محمد الطنطاوي:85.
(10) مجمع البيان: 5: 249.
(11) لسان العرب (دبر):5: 209.
(12) لسان العرب (قصم): 12: 124.
(13) المفردات: 213.
(14) المصباح المنير(ب ي د): 70.
(15) المصباح المنير(ط غ ي): 361.
(16) شرح دعاء الندبة، الشيخ رحيم الفضلي: 286.
(17) مجمع البحرين مادة (حصد): 3: 27.
(18) المفردات: 403.
(19) لسان العرب (قطع): 12: 138.
(20) لسان العرب (بيد): 2: 188.
(21) مجمع البيان: 6: 392.
(22) المصباح المنير مادة (ا ص ل): 20.
(23) مجمع البحرين مادة (ولا): 1: 303.
(24) لسان العرب (ذلل): 6: 40.
(25) شرح دعاء الندبة، الشيخ رحيم الفضلي: 293.
(26) المفردات: 289.
(27) لسان العرب (صحب): 8: 237.
(28) شرح دعاء الندبة، الشيخ رحيم الفضلي: 304.
(29) لسان العرب (ألف): 1: 132.
(30) بحار الأنوار: 52: 84، ورواه في الكافي عن كمال الدين، لسان العرب (طلب):9: 129.
(31) شرح دعاء الندبة، رحيم الفضلي: 304.
(32) تفسير العياشي:2: 290.
(33) الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ط1، ج7 / 270.
(34) انظر الجرجاني: دلائل الأعجاز: ج1/505.
(35) مجمع البحرين مادة (عدد):3: 69.
(36) لسان العرب (رجا): 6: 118.
(37) المفردات: 234.
(38) شرح دعاء الندبة: 275.
(39) الصحيفة الرضوية الجامعة: ص74 دعاء 99.
(40) الكافي: 8: 396.
(41) لسان العرب مادة (عدا):10: 66.
(42) تفسير نور الثقلين: ج1، ص388.
(43) شرح دعاء الندبة: 318.
(44) مجمع البحرين مادة (ضرر): 3: 265.
(45) علم الأصوات كمال بشر: 348.
(46) خصائص الأصوات العربية ومعانيها: 160.
(47) خصائص الأصوات العربية ومعانيها: 169.
(48) نحو النص، د: أحمد عفيفي: 106.
(49) الإشارات والتشبيهات في علم البلاغة، تحقيق عبد القادر حسن:33.

البحوث والمقالات : ٢٠٢١/٠٥/٢٠ : ٥.٥ K : ٠
: فائزة عبد الزهرة جامل السكيني
التعليقات:
لا توجد تعليقات.