(٧١٤) قراءة في كتاب الغيبة للنعماني
قراءة في كتاب الغيبة للنعماني
محمد عبد المهدي سلمان الحلو
المقدمة:
عقيدة المهدي المنتظر، من الأسس الدينية - التي تعتبر امتداداً واضحاً وبما لا يقبل الشك لعقيدة الإمامة، على مختلف الصعد - الإسلامية، وفي الفكر الشيعي بصورته الخاصة، على أن ذلك لا يعد تجاهلاً لهذه الفكرة عالمياً، فلابد من وجود مصلح يأخذ بأيدي الناس والأمم إلى ما فيه الخير والصلاح، منقذاً للبشرية من حالة الفوضى والفساد إلى حالة الرشاد والصلاح، وتبعاً لهذه الأهمية ودورها في الفكر الإسلامي، نظَّر المختصون من العلماء والخبراء قديمهم وحديثهم في الفِرَق والمذاهب لهذا الموضوع بما يسد عين الشمس، وكان نصيبنا من البحث، دراسة لأهم الكتب في الفكر الإسلامي الشيعي الإمامي، ولأقدم المصنَّفات لعالِم من علماء القرن الرابع الهجري، وهو كتاب الغيبة للشيخ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر النعماني الكاتب، المعروف بـ(ابن أبي زينب النعماني)، المتوفي سنة (360هـ)(1).
وشملت الدراسة، محاولة الإحاطة بالجوانب المعرفية والعلمية في هذا الكتاب، وجاءت على مقدمة وفصلين، تضمن الأول منها قراءة تعريفية بالكتاب والمؤلف، حمل عنوان هوية الكتاب، وتوزعت على مبحثين: الأول منها شمل غاية الكتاب، والثاني منهجية البحث، في حين تضمن الفصل الثاني، بمباحثه الخمسة، والذي اكتسب عنواناً بـ(مضمون الكتاب)، دارت بين مبحث أول بعنوان: في مقدمة النص، والثاني نظرية الإمامة، والثالث نظرية الغيبة، واختص الرابع منها بنظرية الانتظار، والخامس بزمكانية الظهور المقدس، وأهميته.
الفصل الأول: هوية الكتاب:
المبحث الأول: غاية الكتاب:
تعود أهمية كتاب الغيبة إلى مجموعة من الأسباب الخاصة والعامة التي تثري البحث عن طريق الإشارة إليها:
أ - فهي تهتم بموضوع عام - على الصعيد الإنساني - متعلق بموضوع المخلص الذي تعتقده العديد من الأمم والشعوب، فكرة السيادة للعدالة، وانحسار الظلم، الذي خيم قروناً طويلة، وأحقاباً ممتدة على البشرية، مثّلتها فكرة (المخلص) أو (المهدي الموعود)، وكانت أملاً عند الأُمَّة الإنسانية جمعاء.
ب - أهمية هذا الموضوع من الزاوية الإسلامية، وبشكل خاص في الفكر الشيعي الإمامي، بحيث اعتبره أغلب الباحثين المختصين ومنهم (النعماني) بأنه من الفروع أو المحتويات المكملة لنظرية الإمامة في الفكر الشيعي الإمامي.
ج - أهمية هذا الكتاب، باعتباره من أقدم الكتب في موضوع الغيبة، وفضلاً عن قدمه، فهو يعد الأقرب إلى عصر الغيبة الصغرى للإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه)، والفارق بين مدة تأليف الكتاب سنة (342هـ)، وبداية الغيبة الكبرى للإمام (عجّل الله فرجه) سنة (329هـ) توضح ذلك.
د - للكتاب تحقيقان، الأول تحقيق علي أكبر غفاري، مكتبة الصدوق، طهران - إيران، لم تشر إلى سنة الطبع أو رقم الطبعة، اعتمدنا فيه على ما نشره موقع (كتاب خانه مدرسه فقاهت)، والآخر تحقيق: فارس حسون كريم، طبع دار الجوادين، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 2009(2).
المبحث الثاني: منهجية البحث:
بالرغم من الدوافع المهمة للتأليف، قسَّم (النعماني) الكتاب على مقدمة وستة وعشرين فصلاً أو باباً:
أ - المقدمة: تضمنت المقدمة مجموعة من الدوافع المهمة كمسوغ لتأليف الكتاب، وكان منها (تفرق الكلمة) و(تشعب المذاهب) التي جاءت سبباً طبيعياً لطول فترة غيبته (عجّل الله فرجه)، وهي حالة حدثت نتيجة التزعزع المعنوي جراء التقصير في فهم (التكليف) للسنن الإلهية وفلسفة الغيبة، مع أن مثل هذه الأمور - طول فترة الغيبة، والابتعاد عن منهج الحق - تم توضيحها وتبيينها في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، حتّى بلغت حد التواتر، وكان (للنعماني) الشفاء في خطبة الإمام علي (عليه السلام) في حديثه مع (كميل بن زياد)، بأن طالبي العلم وحملته هم:
1 - من ينقاد لأهل الحق، ولكن مع بزوغ الشك، وعرض الشبهة، ينتقل إلى التيه والحيرة والعمى والضلالة.
2 - من ثبت على دينه، وتمسك بحبله تعالى، وهؤلاء لشدّة عقيدتهم فهم ثابتون على الحق بما لا يزعزع هذه العقيدة إيماناً وثباتاً حتّى من قبل الرياح فكيف بالفتن، وكانوا بذلك مصداقاً لمضمون قوله (عليه السلام): «اعرف الحق تعرف أهله»، لا تعرفوا الحق بالرجال، واعرفوا الرجال بالحق، لأن دخول الدين بالرجال يعني الخروج من الدين بنفس الرجال.
ب - المنهج المتَّبع في طول الكتاب، كان منهجاً روائياً؛ لأن (النعماني) كان من رجال الحديث، وتتلمذ على يد (الكليني)، وإن العلم بالرواية والدراية من المناهج الكفيلة عنده للوصول إلى الحقيقة واليقين، فرواية من دون دراية، تبعد عن الفهم، ثم أن (الرواية تحتاج إلى دراية، وخبر تدريه خير من ألف خبر ترويه)(3).
ومع اهتمام (النعماني) بالمنهج الروائي في الوصول إلى اليقين، والابتعاد عن الشك، إلّا إنّا نجد لديه (منهجاً عقلياً) تضمنه التوزيع المتوافق لأبواب الكتاب وفصوله، وهو ما نعرض له في حينه، ومنهجاً (تأملياً) يعتمد (الفطرة والبرهان) ومخاطبة الوجدان؛ لأجل اقتناء الحقيقة والتمسك بها، وهذا يظهر في أكثر من موضع من مواضع الكتاب، فمثلاً يذكر: (... أليس هذا الخطاب كله والذم كله بأسره للقوم الذين نزل القرآن على لسان الرسول إليهم، وإلى الخلق مما سواهم)(4)، و(فلو لم يكن في الإسلام مصيبة، ولا على أهله عار ولا شنار...)(5)، و(وهذه - رحمكم الله - حال كل من عدل عن واحد من الأئمة الذين اختارهم الله (عزَّ وجلَّ))(6)، و(فتأملوا يا معشر الشيعة، - رحمكم الله - ما نطق به كتاب الله (عزَّ وجلَّ)، وما جاء عن رسول الله، وعن أمير المؤمنين والأئمة واحداً بعد واحد في ذكر الأئمة الاثني عشر وفضلهم وعدتهم من طرق الشيعة الموثقين عند الأئمة، فانظروا إلى اتصال ذلك ووروده متواتراً، فإن تأمل ذلك يجلو القلوب من العمى، وينفي الشك، ويزيل الارتياب عمَّن أراد الله به الخير، ووفقه لسلوك طريق الحق، ولم يجعل لإبليس على نفسه سبيلاً بالإصغاء إلى زخارف المموهين وفتنة المفتونين)(7).
أمّا بالنسبة إلى المنهج العقلي، وهو منهج ينطلق به الكاتب من العام إلى الخاص، من التركيب إلى التحليل، ومن التحليل إلى التركيب، ويظهر ذلك وبوضوح عند استعراض عنوانات موضوعات الكتاب، فهو ينتقل من نظرية عامة، وهي نظرية الإمامة وأهميتها، باعتبارها حلقة الوصل بين النبوة والظهور، وكأن غاية النبوة هو الوصول إلى ما يتم به أمرها، ويستحكم بها غايتها، وهو الوعد الإلهي بإتمام النور(8)، ومن ثم هو ينتقل من التركيب (نظرية الإمامة) إلى التحليل، غاية البحث، وهو إثبات منهج الغيبة ثم الظهور المهدوي، أمّا ما قصده البحث بالانتقال من منهج التحليل بمرة أخرى إلى التركيب فهو الانتقال من فكرة المهدوية إلى ما يخص هذه الفكرة من حيث ولادته (عجّل الله فرجه) أو صفاته أو سيرته، أو حكمه، ثم تلاوة مجموعة من الأحداث القريبة والمعاصرة أو السابقة لفترة ظهوره المقدس.
وبعبارة أخرى، من عنوانات الكتاب، نستطيع القول، إن الكتاب بأبوابه الستة والعشرين، ينتقل من طبيعة تركيبية إلى طبيعة تحليلية، فهو ينتقل من الإمامة إلى فكرة المهدوية، وهذا ما نجده واضحاً في الأبواب من الأول إلى الباب الثاني عشر(9):
الباب الأول: في أهمية كتمان النظرية المهدوية (صون السر) عمن ليس من أهله، وهذا ما كان بمثابة المقدمة أو التمهيد للبحث.
الباب الثاني: في ذكر نظرية الإمامة - الحبل المرتبط والمتصل بين السماء والأرض.
الباب الثالث: في أن الإمامة والوصية إنما هي من قبل الله تعالى واختياره، وإنها أمانة يؤديها إمام سابق إلى إمام لاحق.
الباب الرابع: في عدد الأئمة (عليهم السلام).
الباب الخامس: ادِّعاء الإمامة فيمن لم تكن الإمامة فيه من الأصل.
الباب السادس: مرويات الإمامة عند أهل العامة.
الباب السابع: الشك في نظرية الإمامة.
الباب الثامن: في إنه تعالى لا يخلي الأرض من حجة.
الباب التاسع: التأكيد على نظرية الغائب، والإمام المهدي (عجّل الله فرجه) حتّى لو لم يبق في الدنيا إلّا يوم واحد.
الباب العاشر: غيبة الإمام (عجّل الله فرجه) في مرويات الأئمة.
الباب الحادي عشر: دور الشيعي في عصر الغيبة.
الباب الثاني عشر: ما يتعرض له الشيعة من التمحيص والتفرق والتشتت نتيجة لطول غيبة الإمام (عجّل الله فرجه).
ج - يظهر مما سبق أن (النعماني) انتقل من فكرة عامة تركيبية، إلى فكرة ناتجة عنها، وهي فكرة تحليلية، عقيدة الغيبة للإمام المعصوم، من هنا يتضح الانتقال الثاني بمنهج عقلي من عقيدة الإمام المهدي الموعود (عجّل الله فرجه)، كفكرة تركيبية، إلى إثبات أفكار مفصلية جزئية تتحدث عن هذه الفكرة بالتحليل، وهي تتوزع على أبواب تناولت ذات الفكرة، وأبواب تناولت ما حول الفكرة، والأولى كانت في الباب الثالث عشر، في حين كان ما حوله (عجّل الله فرجه) ممتداً من الباب الرابع عشر إلى الباب السادس والعشرين، وإليك التفصيل:
الباب الثالث عشر: في صفته وسيرته وفعله وما نزل عليه (عجّل الله فرجه) من القرآن الكريم.
الباب الرابع عشر: العلامات الدالة على عصر الظهور والقريبة منه.
الباب الخامس عشر: الأحداث المتعسرة (الشدة) التي تكون قبل أوان الظهور المقدس.
الباب السادس عشر: الأحاديث الشريفة المانعة من التوقيت.
الباب السابع عشر: معارضة الناس له (عجّل الله فرجه) أبان الظهور المقدس.
الباب الثامن عشر: السفياني شخصيته وصفاته ودوره.
الباب التاسع عشر: الراية التي يحملها (عجّل الله فرجه)، وهي راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
الباب العشرون: جيشه (جيش الغضب).
الباب الحادي والعشرون: أحوال الشيعة قبل الظهور.
الباب الثاني والعشرون: معنى مضمون الحديث الشريف عودة الإسلام جديداً بعد كونه غريباً.
الباب الثالث والعشرون: عمره (عجّل الله فرجه).
الباب الرابع والعشرون: في ذكر إسماعيل ابن الإمام الصادق (عليه السلام).
الباب الخامس والعشرون: معنى مضمون الحديث: من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.
الباب السادس والعشرون: مدة الحكم له (عليه السلام).
ومن هنا يتضح منهج النعماني في كتابه وغايته من التأليف وما يصبو إليه.
الفصل الثاني:
1 - ما يورده النعماني كمقدمة لبحثه المتقدم، هو بيان أسباب تأليف الكتاب، إذ يشير إلى أن أسباب تأليف الكتاب توزَّعت بين: تفرق أهل المذهب نتيجة لطول مدة الغيبة، على ما هم عليه من أداء الحقوق والواجبات الشرعية المناطة بهم والمحافظين عليها، فالناس على أقسام وأصناف: من كان إيمانه ضعيفاً، ويميل بسببه مع كل شبهة، ويبقى في حيرة وتيه وعمى وضلالة، أو من كان ذا إيمان، لكنه يميل مع أهل الدنيا، لاتباع الشهوات، أو من كان ذا إيمان لكنه يتخذه للرياء والتحسّن به بين الناس، ولا يبقى إلّا الصنف الرابع، وهم كالنحل في الطير - كما في مضمون الحديث - أو كرزمة الأندر، الذي لا يضره السوس شيئاً، فإن هذه: (العصابة التي تبقى على هذا الأمر وتثبت وتقيم على الحق، هي التي أمرت بالصبر في حالة الغيبة)(10).
2 - وإن طريق التصبُّر والانتظار هو طريق أئمة الهدى (عليهم السلام)، الذي يجنّب الناس الوقوع في الفتنة والتيه والحيرة والعمى، ثم يُبين النعماني أن المنهج في هذا الكتاب هو المنهج الروائي القائم على جمع الأحاديث الشريفة المروية عن أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام)، وبعد بيانه للمنهج، يوضح أن من أسباب التأليف ليس فقط ما سبق بل هو الدعوة إلى التصبُّر باتِّباع دينه تعالى عن طريق الكتاب والسنة، وليس عن طريق معرفة الرجال، وأيضاً لغرض مدافعة أعداء الدين والناصبين والمخالفين وسائر الفرق من المبتدعين والشكاك(11)، وكان من ضمنهم نقد فرقة المعتزلة الواقعة في الضلالة على حد قوله؛ لأنهم دفعوا فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) بتقديم المفضول على الفاضل، والناقص على التام، خلافاً لقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (يونس: 35)، ولجحودهم حق أئمة الهدى (عليهم السلام)، وهم أحد الثقلين، وأئمة الهدى وسفينة النجاة، بل هم: (المعاندون لشيعة الحق ومحبي أهل الصدق)(12).
ومن هنا جاءت دعوى النعماني بضرورة التمسك بما أكَّده الأئمة (عليهم السلام) من أهمية الالتزام بكتم السر، وعدم الكشف عن هذه الأسرار مقابل أعدائهم: (فإن صون دين الله وطي علم خيرة الله سبحانه عن أعدائهم المستهزئين به أولى ما قدم، وأمرهم بذلك أحق ما امتثل)(13).
3 - و يظهر من الأحاديث الواردة بطرقه (رحمه الله) عن الأئمة (عليهم السلام) من أسباب كتم الحديث عدم إدراكه لمن لا يتحمله، وسبب ذلك هو عدم تكذيبهم لله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فليس كل حديث يمكن أن يؤخذ منهم (عليهم السلام)، يمكن أن يتحدّث به، وهذا ما يجد النعماني له تعليلاً: (يريد (عليه السلام) بذلك أن يحدث به من لا يحتمله ولا يصلح أن يسمعه، ويدل قوله على أنه (عليه السلام) يريد أن يطوي من الحديث ما شأنه أن يطوى ولا يظهر)(14).
وأجد أن من أسباب الكتم والدعوة له؛ هو الأخذ لكلامهم بما يغير معناه، وهذا ما يدل عليه الحديث الوارد في الكتاب للإمام (عليه السلام): «أقول كذا وكذا، فيقولون: إنما يعني كذا وكذا، إنما أنا إمام من أطاعني»(15)، ويظهر من خلاصة مقدمة البحث ضرورة المحافظة على اليقين، وعدم الوقوع في التشكيك في قضية الإمام الغائب (عجّل الله فرجه) وذلك بما دلَّت عليه السنن الإلهية الواضحة من آياته ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ﴾ (الحديد: 16)، وإن هذا الأمر - الغيبة - يحتاج إلى الكتمان وخاصة ممن لا يستطيع له فهماً واستيعاباً.
المبحث الأول: نظرية الإمامة:
1 - تعتبر نظرية الإمامة من النظريات والقوائم الأساسية، بل هي ركيزة أساسية في الفكر الإمامي، استدل عليها النعماني بطرق مختلفة، توزَّعت بين الآيات القرآنية المباركة والحديث الشريف، واستند في تأويل الآيات على الأحاديث المباركة الواردة بطرق روائية معتبرة تزيل الشك والغموض والارتياب وتدعو إلى الإيمان والاعتقاد، وخاصة ما ورد منها عن كتاب (سُليم بن قيس الهلالي)، فقد وصف (النعماني) الكتاب المتقدم بأنه من أقدم الكتب الأصولية، وأهمها، ويرجع سبب الأهمية؛ إلى الروايات الواردة فيه إنما جاءت بطرقها عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعن الإمام علي (عليه السلام) برواية الصحابة الأجلاء كـ(المقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، وأبي ذر)، وأن الاعتماد عليه هو لقطع العذر أمام المتشكك والمبتدع والضال: و(إن الأئمة من ولد الحسين (عليه السلام) تسعة، تاسعهم قائمهم، ظاهرهم باطنهم، وفي ذلك قطع لكل عذر، وزوال كل شبهة، ورفع لدعوى كل مبطل، وزخرف كل مبتدع، وضلالة كل مموه)(16).
ثم يؤكد (النعماني) مادحاً الكتاب: (ودليل واضح على صحة أمر هذه العدة من الأئمة، لا يتهيأ لأحد من أهل الدعاوى الباطلة المنتمين إلى الشيعة، وهم منهم براء أن يأتوا على صحة دعاويهم وآرائهم بمثل [بمثل كتاب سليم] ولا يجدونه في شيء من كتب الأصول التي ترجع إليها الشيعة ولا في الروايات الصحيحة، والحمد لله رب العالمين)(17).
وبالإضافة إلى ما رواه عن طريق الشيعة تفسيراً للآيات البينة أو رواياتهم عن عددهم (عليهم السلام)، فـ(النعماني) يشير إلى روايات أهل العامة في هذا الباب دعماً للحقيقة وإكمالاً لها.
2 - لقد ذكر (النعماني) مجموعة من الآيات القرآنية الدالة على الإمامة:
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران: 103).
﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾ (الفرقان: 27).
﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ (النساء: 58).
﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (النساء: 59).
﴿وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (النساء: 83).
﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43).
﴿وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (الأنبياء: 7).
﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة: 119).
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾ (المائدة: 3).
﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ﴾ (المائدة: 55).
﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: 33).
﴿وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (الحج: 78).
يشير (النعماني) إلى أهمية نظرية الإمامة، وكونها نظرية إلهية، جاء بها القرآن الكريم، وإن الآيات الواردة، إنما جاءت مشفوعة بما ورد بالأحاديث الشريفة الشارحة والمؤوَّلة لها، فهي تؤكد ضرورة الاعتصام بالحبل الذي عنته الآية الكريمة، وهذا الحبل على نوعين: حبل من الله (عزَّ وجلَّ)، وهو القرآن الكريم، وحبل من الناس، الذين هم أهل بيته (عليهم السلام)، وإن التخلُّف عن هذين الحبلين يؤدي بالإنسان إلى الندم؛ لعدم اتِّباعه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما عبَّرت آية ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾ (الفرقان: 27)، ورواية أخرى تشير إلى أن الحبل هو الإمام (علي بن أبي طالب (عليه السلام))(18)، ولقد علَّق (النعماني): (ولو لم يدلنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على حبل الله الذي أمرنا الله (عزَّ وجلَّ) في كتابه، بالاعتصام به، وألّا نتفرَّق عنه، لاتَّسع للأعداء المعاندين التأول فيه، والعدول بتأويله، وصرفه إلى غير من عنى الله به ودلّ عليه رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عناداً وحسداً، لكنه قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في خطبته المشهورة، التي خطبها في مسجد الخيف، في حجة الوداع: «إني فَرَطكم، إنكم واردون علي الحوض... ألا وإنّي مخلِّف فيكم الثقلين، الثقل الأكبر القرآن، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي، هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله (عزَّ وجلَّ)، ما إن تمسكتم به لم تضلوا، سبب منه بيد الله وسبب بأيديكم»(19).
ويؤكد أيضاً أن ما ورد في كتاب الله العزيز من آية مباركة ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة: 58)، فإن منزلتهم (عليهم السلام) بمنزلة باب حطَّة في الدين الإسلامي الذي بمجرد دخوله يكون مغفرة للذنوب: (والعترة (عليهم السلام)، هم الذين ضرب بهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مثلاً لأُمَّته، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق»، وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مثل أهل بيتي فيكم كمثل باب حطَّة في بني إسرائيل الذي من دخله غفرت ذنوبه واستحق الرحمة والزيادة من خالقه»(20).
وفي موضع آخر يجمع (النعماني) عن فهم القرآن بالقرآن، أن المقصود بأهل الذكر هم أهل البيت (عليهم السلام)، باعتبار أن (الذكر) إنّما هو الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ﴿أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً﴾ (الطلاق: 10-11)، تأويلها أن أهل الذكر إنما هم أهل البيت (عليهم السلام)، ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43)، ﴿وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (الأنبياء: 7)، وتؤكد آية رد الأمر إلى الرسول وأهل بيته هو ما يبتغيه القرآن ﴿وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (النساء: 83)، وإن هذه الآيات البينات غايتها هو رد الأمانة إلى أهلها، وخاصة في مسألة الحكم، بما ورد في القرآن الكريم ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ (النساء: 58) المفسرة بالحديث الشريف، بأن الحكام إنما هم أئمة أهل البيت (عليهم السلام)(21).
وطريق آخر هو الاعتماد على ما ورد من الأحاديث المباركة المروية عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام). ركَّزت الأحاديث الشريفة بمختلفها على عظمة أهل البيت (عليهم السلام)، كما ركَّزت على أحقيتهم وفضلهم وعددهم وأسمائهم وأفضليتهم على جميع الخلق، بما يحقق (إكمال الدين) ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾ (المائدة: 3)، فمثلاً يروي لنا (النعماني)، مسنداً ذلك إلى كتاب (سليم بن قيس): (أن علياً (عليه السلام)، قال لـ(طلحة) في حديث طويل عند ذكر تفاخر المهاجرين والأنصار بمناقبهم وفضائلهم: «يا طلحة، أليس شهدت رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] حين دعانا بالكتف، ليكتب فيها ما لا تضل الأُمَّة بعده ولا تختلف، فقال: صاحبك ما قال: إن رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] يهجر، فغضب رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] وتركها»؟ قال: بلى قد شهدته. قال: «فإنكم لما خرجتم أخبرني رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] بالذي أراد أن يكتب فيها ويشهد عليه العامة، وأن جبرئيل أخبره بأن الله تعالى قد علم إن الأُمَّة ستختلف وتفترق، ثم دعا بصحيفة فأملى عليَّ ما أراد أن يكتب في الكتف، وأشهد على ذلك ثلاثة رهط: سلمان الفارسي، وأبا ذر والمقداد، وسمّى من يكون من أئمة الهدى الذين أمر المؤمنين بطاعتهم إلى يوم القيامة، فسمّاني أولهم، ثم ابني هذا الحسن، ثم ابني هذا حسين، ثم تسعة من ولد ابني هذا حسين، كذلك يا أبا ذر، وأنت يا مقداد»؟ قالا: نشهد بذلك على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). فقال طلحة: والله لقد سمعت من رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] يقول لأبي ذر: «ما أقلَّت الغبراء، ولا أظلَّت الخضراء ذا لهجة أصدق وأبر من أبي ذر»، وأنا أشهد أنهما لم يشهدا إلّا بالحق، وأنت أصدق وأبر عندي منهما(22).
كذلك أنه ذكر مجموعة من الأحاديث المروية عن (النصارى)، وهي حاوية على حادثة وَقَعَتْ مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ التقى برجل من النصارى من نسل (عيسى بن مريم (عليه السلام)) ومن أقرب الأسباط نسلاً، أكَّد عند لقائه أمير المؤمنين (عليه السلام) أحقية الكتب الموجودة عنده، التي ذكرت أهل البيت (عليهم السلام) فرداً فرداً، حتّى الإمام الغائب، وأكَّدت الصحيفة صلاة السيد المسيح (عليه السلام) خلف الإمام (عليه السلام) يوم ظهوره المقدس(23).
3 - إن في نقل الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، المروية عن النبي الأكرم [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] وأهل بيته (عليهم السلام) ما يقود إلى الحقيقة، ويبعد عن الشك بتواترها، ودلالتها على الحق، وبذلك يؤكد (النعماني)، وبنص طويل أن تواتر الأحاديث والآيات وروايتها عن طريق أئمة الشيعة يجلي العمى من القلب، ويزيل الإبهام والشك: (فتأملوا - يا معشر الشيعة - رحمكم الله ما نطق به كتاب الله (عزَّ وجلَّ)، وما جاء عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعن أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) واحد بعد واحد في ذكر الأئمة الاثني عشر وفضلهم وعدتهم من طرق رجال الشيعة الموثقين عند الأئمة (عليهم السلام)، فانظروا إلى اتصال ذلك ووروده متواتراً، فإن تأمل ذلك يجلو القلوب من العمى، وينفي الشك، ويزيل الارتياب...)(24).
4 - ويؤكد أهمية كتاب سليم بن قيس الهلالي في نقل الأحاديث الشريفة وأهميتها، بل إنه يوثق هذا الكتاب بأنه من أكبر كتب الأصول عند الشيعة، فقال: (وليس بين جميع الشيعة ممن حمل العلم ورواه عن الأئمة (عليهم السلام) خلاف في أن كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من أكبر الأصول التي رواها أهل العلم، ومن حملة حديث أهل البيت (عليهم السلام)، وأقدمها؛ لأن جميع ما اشتمل عليه هذا الأصل إنما هو عن رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] وأمير المؤمنين (عليه السلام) وسمع منهما، وهو من الأصول التي ترجع إليها ويعول عليها)(25).
وقد ذكر (النعماني) لتدعيم ما تطرق إليه من فضل أهل البيت (عليهم السلام) وأحقيتهم ما روته العامة، إذ ذكر كثيراً من أسانيدهم في أن الأئمة بعد الرسول [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] إنما هم أهل البيت (عليهم السلام) وأنهم نقباء كنقباء بني إسرائيل: (والروايات بهذا المعنى من طرق العامة كثيرة، تدل على أن مراد رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] ذكر الاثني عشر وإنهم خلفاؤه)(26)، بل زاد هذا الفضل ما تطرق إليه ومما روي عن اليهود وما موجود في (مشلي - قصص سليمان) في ولادتهم من نسل رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] بما زاد الكتاب: (دلالة وبرهاناً وتوكيداً، تجب به الحجة على كل مخالف معاند وشاكٍ متحير)(27).
5 - واستكمالاً للبحث، تطرق المؤلف إلى مجموعة من الأحاديث الشريفة المروية والمسندة إلى أئمة الهدى (عليهم السلام)، بيَّن فيها - وبالتواتر، وبما لا يقبل الشك- تأكيد هذه الأحاديث على هلكة منكري الإمامة أو الشك فيها أو مدعيها من دون حق، فعن طرقه، روى حديثاً مرفوعاً إلى الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ (الزمر: 60)، قال: «من زعم أنه إمام وليس بإمام»، قلت: [السائل] وإن كان علوياً فاطمياً؟ قال (عليه السلام): «وإن كان علوياً فاطمياً»(28).
بل وفي سند لحديث آخر إن مدعي الإمامة كافر وقال: مشرك(29)، ولم يكتفِ بسرد الأحاديث المتواترات ذات المضمون المتقدم عن أهل البيت (عليهم السلام) فقط، بل تعدى ذلك إلى مجموعة من الأحاديث الواردة عن طرق العامة أيضاً، التي أكَّدت أن الأئمة اثنا عشر خليفة كلهم من قريش(30).
6 - و يتطرق إلى أن من شك أو تحير أو مات ولم يعرف إمام زمانه، إنما مات ميتة جاهلية، ولا يختص هذا المعنى بمن أنكر الأحياء منهم وصدّق الأموات، بل من أنكر أحد الأحياء أنكر الأموات، ومن أشرك إماماً منصباً من الله تعالى، مع إمام ليس من الله تعالى، فقد كان مشركاً(31).
المبحث الثاني: نظرية الغيبة:
1 - تتَّخذ - وكما مر - فكرة الغيبة والظهور، أهمية كبيرة على الصعيدين الفكري والعقائدي للأُمَّة الإسلامية بشكل عام، وللشيعة الإمامية بشكل خاص، تمحورت هذه الفكرة حول ميزة أساسية وهي ضرورة وجود الإمام الغائب (عجّل الله فرجه)، سواء أَكان هذا الإمام حاضراً موجوداً أو غائباً مستوراً، كما ورد في خطبة الإمام علي (عليه السلام) بهذا الخصوص: «ولا تخلو الأرض من حجة، قائم لله بحجته، إمّا ظاهر معلوم، وإمّا خائف مغمور»(32)، وعلَّل (النعماني) الجملتين الواردة في الحديث الشريف «ظاهر معلوم» و«خائف مغمور»، بأن الأولى تعني (معلوم الشخص والموضع)، في حين أنَّ الثانية تعني (الشخص المجهول الموضع)(33)، أو كما في الحديث: «ما زالت الأرض إلّا ولله فيها حجة»(34)، وأنَّه تعالى لم يدع الأرض بغير عالم (إمام)، وهذه سُنَّة إلهية جرت من يوم خلق سبحانه آدم (عليه السلام) إلى آخر أيام الدنيا(35).
2 - ممّا تقدَّم تبيَّن لنا مبدأ ضرورة وجود الإمام؛ لكن هذه الضرورة لابد أن يكون لها ما يفسرها ويسوغها، ونجد أن أسباب التسويغ متعددة:
أ - مع غيبة الإمام، فإنَّ العلم لا ينقطع بغيبته عن مريديه في دولة الباطل، وذلك عن طريق الحَفَظَة والحَمَلَة الذين يحملونه(36).
ب - حتّى إذا زاد الناس شيئاً في حلال أو انقاص في حرام، ردَّهم لذلك(37).
ج - حتّى لا تبقى الأرض بغير حجة، فيحتج بها الناس يوم القيامة؛ لأن إرادته تعالى اقتضت أن لا يعاقب أُمَّة من الأُمم حتّى يبعث فيهم رسولاً أو هادياً.
د - إنَّ عدم وجود حجة، يستلزم السخط الإلهي على أهل الدنيا، وهذا ما يوجب عدم بقائها(38).
3 - و جاءت هذه الضرورة لتؤكد أن الأرض حتّى وإن لم يبقَ فيها يوم واحد لأطال الله تعالى هذا اليوم، حتّى يتم الظهور المقدس، بل إن الأرض لو لم يكن فيها إلّا شخصان اثنان لكان أحدهما هو الحجة على الآخر(39)، وهذا ما يعلِّل ضرورة وجود الإمام الغائب طبقاً للسنن الإلهية المفترضة في هذا الكون.
4 - ولتأكيد ضرورة ظهور الإمام (عجّل الله فرجه) بعد عصر الغيبة، وبيان العلل المقتضية لذلك، يسرد (النعماني) العشرات من الأحاديث الشريفة التي تؤكِّد غيبته، وأن هذه الأحاديث بتواترها لا تدع مجالاً للشك أو التكذيب، وإنما تعطي صدقاً ويقيناً للمتمسك بأهل البيت (عليهم السلام):
أ - الأحاديث التي ترد في هذه الأبواب، تؤكِّد على غيبته، وأيضاً على عدم المطالبة بمعرفة شيء عن اسمه أو صفته، بل هي تمنع الفحص عنه، وهي دعوة منع متقاربة مع دعوة الشك، ومن هنا يبدو أنَّ النصوص الشريفة - كما يرى النعماني -، إنَّما تحاول أن تقسِّم المؤمنين إلى صنفين:
- أهل الجهل الذين لا يستطيعون إدراكاً لما يرد من الأحاديث النبوية أو تلك الصادرة عن أهل البيت (عليهم السلام)، والدليل على ذلك، ما يصفهم به النعماني بقوله: (ومن هذه الروايات الواردة للغيبة وصاحبها، يطالبون بالإرشاد إلى شخصه والدلالة على موضعه، ويقترحون إظهاره لهم، وينكرون غيبته؛ لأنهم بمعزل عن العلم وأهل المعرفة)(40).
- أمّا الصنف الآخر، فهم العارفون به، والعالمون بما ورد من الأحاديث المتقدمة، وهم من أهل العلم والمعرفة، الذين يصفهم (رحمه الله) بأنهم: (مسلمون لما أمروا به، ممتثلون له، صابرون على ما ندبوا إلى الصبر عليه، وقد أوقفهم العلم والفقه، موقف الرضى من الله والتصديق لأولياء الله، والامتثال لأمرهم، والانتهاء عمّا نهوا عنه...)(41).
ب - الأحاديث التي ترد وتؤكِّد الشبه بين سنن الأنبياء (عليهم السلام) وبين سيرته العطرة أو غيابه المبارك، بما يزيل الشك، كما أن هذا التشابه والتوارد، يؤكِّد على سنن إلهية كونية، فهو (عجّل الله فرجه) شابه في سيرته:
أوَّلاً: النبي موسى (عليه السلام)، في أنه خرج خائفاً يترقب.
ثانياً: النبي عيسى (عليه السلام) في أنه يرجع ثم يظهر بعد غيبته(42).
ثالثاً: النبي يوسف (عليه السلام) في غيبته، أو أنه كان يعرف الناس وهم لا يعرفونه(43).
رابعاً: سنن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والسير بسيرته حتّى تتبين آثاره: «إذا قام سار بسيرة رسول الله...» الحديث(44).
ج - الأحاديث الواردة في حقيقة ولادته (عجّل الله فرجه)، وذلك ردّاً على المناقشات والمجادلات الواردة والزاعمة بأنَّه لم يولد بعد، ومن هذه الأحاديث ما يرويه عن ابن الجارود: «لا يزالون ولا تزال حتّى يبعث الله لهذا الأمر من لا يدرون، خُلق أم لم يُخلق»(45) أو: «لا تزالون وتزال حتّى يبعث الله لهذا الأمر من لا تدرون خُلق أم لم يُخلق»(46).
ويعلق (النعماني) على ذلك: (أَلَيس - يا معشر الشيعة - ممن وهب الله تعالى له التمييز وشافي التأمل والتدبر لكلام الأئمة (عليهم السلام) بيان ظاهر ونور زاهر، هل يوجد أحد من الأئمة الماضين (عليهم السلام) يشك في ولادته، واختلف في عدم وجوده؟)(47).
د - ذكر أمر الغيبتين، بأنه (عجّل الله فرجه) له غيبة صغرى، يتصل بها بالخُلَّص من شيعته، وغيبة أخرى طويلة جاء في وصفها اشتباه الناس فيها وكثرة الشك، بل ومن الحال فيها أن يقال له في إحداهما: «هلك ولا يدرى في أي وادٍ سلك»(48).
وأكد النعماني أن إحدى هاتين الغيبتين قد صحَّتا عنده، وأن صدق الأولى منها كان برهاناً على صدق الصادقين (عليهم السلام)، وهي الغيبة التي كان يتَّصل بها الإمام (عجّل الله فرجه) بسفرائه الأربعة، المنصَّبين من قبله: (يخرج على أيديهم [السفراء] غوامض العلم، وعويص الحكم، والأجوبة عن كل ما كان يسأل عنه من المعضلات والمشكلات، وهي الغيبة القصيرة، التي انقضت أيّامها، وتصرَّمت مدَّتها)(49)، والغيبة الطويلة - في زماننا - زمن التمحيص والامتحان والغربلة والبلبلة والتصفية - زمن التمايز بين الخبيث والطيب: (وهذا زمان ذلك قد حضر، جعلنا الله فيه من الثابتين على الحق)(50).
هـ - ترافق الغيبة كما تم بيانه في أثناء البحث، موجة من الحيرة والشك والتردد، وأن هذه الفتنة لا تدع أحداً من الوقوع في شباكها إلّا نزراً يسيراً من الناس، وصفهم بـ(الثابت على شدَّتها)(51)، معتمداً بذلك على مجموعة من الأحاديث الشريفة للأئمة المعصومين (عليهم السلام) ومنها(52):
(لا ينفك المؤمنون حتّى تكون بمنزلة المعز، لا يدري الخابس على أيها يضع يده، ليس فيهم شرف يشرفونه، ولا سناد يسندون إليه أمرهم).
سمعت علياً (عليه السلام) يقول: «كأني بكم تجولون جولان الإبل، تبتغون مرعى ولا تجدونها، يا معشر الشيعة».
بهذا الكم الهائل، الذي تطرق إليه فيما يخص الغيبة، يقول: (هذا آخر ما حضرني من الروايات في الغيبة، وهو يسير من كثير مما رواه الناس وحملوه...)(53).
المبحث الثالث: نظرية الانتظار أو (ثقافة الانتظار):
لم يكن لمنهج الكتاب أن يكتب له الكمال، لولا الجهد الكبير الذي بذله (النعماني) في بيان أهمية نظرية الانتظار، وهدف هذا الانتظار حيث بيّن ما يتعلق بهذا الأمر بجانبين:
أ - بيان عدم الاستعجال والتسرُّع والقول بالظهور المبارك دون تحقّق شروطه، ورفع موانعه، ومن ذلك التوعد بهلاك (المحاضير) الوارد في الحديث الشريف، ومعنى المحاضير كما نص الحديث هو المستعجلون: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «هلك المحاضير»، قال: قلت: وما المحاضير؟ قال: «المستعجلون، ونجا المقربون، وثبت الحصن على أوتادها...»(54).
بل إن الأحاديث الواردة بهذا الخصوص حدَّدت وظيفة المؤمن المنتظر: فعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال ذات يوم: «ألا أخبركم بما لا يقبل الله (عزَّ وجلَّ) من العباد عملاً إلّا به»؟ فقال: بلى، فقال: «شهادة أن لا إله إلّا الله، وأن محمداً عبده، والإقرار بما أمر الله، والولاية لنا، والبراءة من أعدائنا - يعني الأئمة خاصة -، والتسليم لهم، والورع والاجتهاد والطمأنينة، والانتظار للقائم (عليه السلام) »، ثم قال: «من سرَّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر، وليعمل بالورع، ومحاسن الأخلاق، وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده، كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدّوا وانتظروا، هنيئاً لكم أيتها العصابة المرحومة»(55).
فالأحاديث الشريفة حدَّدت بما لا يقبل الشك دور المُنتَظِر بالشهادة بالتوحيد والنبوة والولاية والبراءة، والتسليم بالورع والاجتهاد والطمأنينة والانتظار، ثم وصف الحديث المُنتَظِرين بأنهم أصحاب القائم (عجّل الله فرجه): «من سره أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر»(56)، مع شرط الورع والتحلّي بمكارم الأخلاق، فمن كان هذا عمله، وتوفي ولم يدرك الغائب (عجّل الله فرجه)، كان له أجر من أدركه.
وكان لـ(النعماني) نصيحة وعظة في وجوب التأدب بما رواه الأئمة، والانصياع إلى أمرهم (عليهم السلام)، في الصبر والكف والانتظار، وترك الاستعجال حتّى يكونوا - المؤمنين المنتظرين - ثابتين ثبات الحصن على أوتادها، لما في ذلك من السلامة قبل الوقوع في الفتنة(57).
ب - وإن من لوازم نظرية الانتظار، وجوب التعرُّض إلى التمحيص والتدقيق حتّى تتفرَّق الأُمَّة وتتشتَّت، وحتّى لا يبقى منها إلّا الأندر فالأندر، مصداقاً لقوله (عليه السلام): «لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن غربلة»(58)، حتّى يطرأ عليهم التمييز والتمحيص والتبديل.
ويقارن (النعماني) بين تكسُّر الزجاج، وتكسُّر الفخار، الوارد في الحديث الشريف: «والله لتكسرنَّ تكسُّر الزجاج، وإن الزجاج ليعود، فيعود كما كان، والله لتكسرن تكسُّر الفخار، وإن الفخار ليتكسَّر فلا يعود كما كان، والله لتغربلن ووالله لتميزن، ووالله لتمحصن، حتّى لا يبقى منكم إلّا الأقل، وصعر خده»(59)، فتكسر الزجاج يفارق تكسر الفخار، في أن الأول كالشخص المؤمن بالغيبة الذي تضربه الفتنة، فيعدل عن تمسكه، ثم يعود بمنِّ الله تعالى عليه وفضله إلى ما كان عليه، أمّا من شُبه بتكسر الفخار، فهو لمن أدركته الفتنة ولم يلحقه النور بالعودة إلى ما كان عليه، بل يلحقه الشقاء، حتّى يموت، فهو كالفخار لا يعود إلى حاله(60)، ولا يزال (النعماني) يذكر أحاديث تبيِّن مقدار الفتنة وشدَّتها، حتّى يصل إلى أن القائم ينكره الناس لأنه يخرج عليهم (شاباً موفقاً)، ويصف لنا الحديث من يبقى على عهده بالإمام (عليه السلام) بأنه لا يثبت عليه إلّا مؤمن أخذ الله ميثاقه في الذر(61).
المبحث الرابع: زمكانية ما قبل وما بعد الظهور:
1 - كيف يمكن أن نفهم الأحاديث التي أوردها (النعماني) بسنده عن الأئمة (عليهم السلام)، وهي أحاديث تصف الإمام (عجّل الله فرجه) بأنه قائم بالسيف، يقتل كذا، ثم يقتل كذا، بما يتصوَّر القارئ أن زمن ظهور الإمام (عجّل الله فرجه) ليس إلّا زمن سفك الدماء؟ وخاصة إذا ما قورنت هذه الأحاديث الشريفة بسيرة الإمام الغائب (عجّل الله فرجه) مع سيرة من سبقه من الأئمة (عليهم السلام)، فمثلاً أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سار في أُمَّته بالمن، وكان يتألف الناس، في حين أن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) الغائب يسير بالقتل! أو أنه (عجّل الله فرجه) يسير بسيرة مخالفة لسيرة الإمام علي (عليه السلام)، فهو سار بهم بالمن والكف، في حين أن الإمام الغائب (عجّل الله فرجه) يسير بالسيف والسبي(62).
فلو عطفنا هذه الأحاديث الشريفة على بعضها نجد أن أهم ما يدعو إليه الإمام الغائب (عجّل الله فرجه)، هي الدعوة إلى الدين الإسلامي من دون أن تأخذه في الله لومة لائم، بحيث يفهم منه الشدة في التطبيق، وأنه جاء بالإسلام جديداً على العرب لشديد(63). وأن أغلب الروايات الواردة في هذا الباب تخصص العداء للمخالفين من العرب خاصة(64).
2 - وإن ما يدعم التحليل السابق، هي الأحاديث الواردة، والمكملة لسيرته (عجّل الله فرجه) عند ظهوره، وهي ما تدعو إلى ملئ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً بعد أن مُلئت ظُلماً وجوراً وشراً(65)، فكيف يستقيم قيام العدل مع إهراق الدم، إلّا إذا كانت تلك الدماء هي دماء المخالفين لمنهج السماء والمحاربين لرسالة النبي الخاتم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وهو زمن يصل العدل فيه إلى أنَّ المرأة تحكم في بيتها بما أنزل الله تعالى(66).
وتؤكد الأحاديث الشريفة الصفات التي يختص بها (عجّل الله فرجه) مثل السكينة والوقار، وأن يعرف الحلال والحرام الذي أمر الله تعالى به.
3 - ماذا يمكن أن نفهم من أحاديث عصر الظهور؟
أورد (النعماني) العديد من الأحاديث التي تشرح حالة عصر الظهور، وتشخص هذا الظهور بفترة بني العباس، والدلالة على ذلك إيراده (رحمه الله) مجموعة من الأحاديث التي تحاول أن تبيِّن الخلاف بين بني العباس وأهل البيت (عليهم السلام) وتبيِّن حال هلاك ملوكهم وارتفاع الأسعار وغلاءَها وسوء الأحوال الإدارية والمعاشية(67).
ثم إن هذه الروايات الشريفة الواردة مع تسليمنا بصدقها لا تحدِّد موعداً ثابتاً لظهوره (عجّل الله فرجه) بقدر ما أنَّها تحدِّد علامات عامة مثل الجوع والخوف الشديد، اختلاف أهل الشام، ظهور السفياني، اليماني، الصيحة، خسف البيداء، قتل النفس الزكية، وجه يطلع في القمر، اختلاف بني فلان، وغيرها من الأحاديث العامة، يحاول (النعماني) خلالها أن يحصر - وهو ظاهر إيراداته فيما يبدو - توقيتاتها بهلاك بني العباس، مع أنها علامات عامة مرسلة(68):
قال أمير المؤمنين على منبر الكوفة: «إن الله (عزَّ وجلَّ ذكره)، قدر فيما قدر، وقضى وحتم، بأنه كائن لابد منه أنه يأخذ بني أمية بالسيف جهرة، وإنه يأخذ بني فلان بغتة»، «أمسك بيدك، هلاك الفلاني - اسم رجل من بني العباس - وخروج السفياني، وقتل النفس الزكية، وجيش الخسف والصوت...» ثم قال: «الفرج كله هلاك الفلاني من بني العباس»(69)، وفيها أيضاً: «لابد أن يملك بنو العباس، فإذا ملكوا واختلفوا وتشتت أمرهم، خرج عليهم الخراساني والسفياني، هذا من المشرق، وهذا من المغرب يستبقان إلى الكوفة كفرسي رهان، هذا من هاهنا، وهذا من هاهنا، حتّى يكون هلاكهم على أيديهما، أما إنهما لا يبقون منهم أحداً»(70) وأيضاً: ما من علامة بين يدي هذا الأمر؟ فقال: «بلى»، قلت: وما هي؟ قال: «هلاك العباسي، وخروج السفياني، وقتل النفس الزكية، والخسف بالبيداء، والصوت من السماء»، فقلت: جُعلت فداك، أخاف أن يطول هذا الأمر، فقال: «لا، إنما هو نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً»(71)، وغيرها كثير بما تدلل على جعل هلاك بني العباس توقيتاً من تواقيت الظهور.
4 - ثم إن تعدد الروايات التي تصف عصر الظهور، يجعل من الصعب إطباقها وتحديدها على زمن معيَّن دون آخر، وخاصة أنَّ الأحاديث الشريفة تستخدم عبارة (من المحتوم)، مثل خروج السفياني، اليماني، الصيحة، وإن فيها روايات ذات موضوعات عامة، وتصف بها أمكنة مختلفة مثلاً: «أولها اختلاف بني العباس،... ومنادٍ ينادي من السماء، ويجيئكم صوت من السماء، ويجيئكم صوت من ناحية دمشق بالفتح، وتخسف قرية من قرى الشام تسمى الجابية، وتسقط طائفة من مسجد دمشق الأيمن، ومارقة تمرق من ناحية الترك، ويعقبها هرج الروم، وسيقبل إخوان الترك حتّى ينزلوا الجزيرة، سيقبل مارقة الروم حتّى ينزلوا الرملة...»(72). وغيرها من الأحداث التي ورد ذكرها الروايات الشريفة، ونحن لا يسعنا إلّا التصديق بهذه الروايات والتصديق بصدورها عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، وخصوصاً أنَّها ثابتة كلها؟! رواية ودراية، وهي معتمدة عند (النعماني)، بما لا نملك تجاهها تفسيراً، أو تفصيلاً يُذكر، ونرجع بتأويلها وتفسيرها إلى ما يقوله المختصون والعلماء العاملون، الخبراء في أحاديث المهدوية: (هذه العلامات التي ذكرها الأئمة (عليهم السلام)، مع كثرتها، واتصال الروايات بها وتواترها وإتقانها موجبة ألّا يظهر القائم (عليه السلام)، إلّا بعد مجيئها وكونها، إذ كانوا قد أخبروا أن لابد منها وهم الصادقون»(73).
5 - ترد في هذا السفر الخالد، العديد من الأحاديث الشريفة المباركة، التي ركَّزت على موضوع مهم، وهو (اجتناب التوقيت)، بل وتكذيبه أيضاً، مثلاً: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا محمد، من أخبرك عنّا توقيتاً فلا تهابنَّ أن تكذِّبه، فإنّا لا نوقِّت لأحد وقتاً»(74)، وبذلك الحديث الشريف تبطل جميع الادِّعاءات المهدوية القائمة منذ ظهور فكرة المهدوية، واتصالها بفكرة الغيبة من دون تحقق العلامات المثبتة لهذه القضية.
6 - تظهر الأحاديث الشريفة الواردة، أنَّ للناس موقفاً صَلِباً من ظهور الإمام (عجّل الله فرجه)، فهم يقابلونه بالتأويل ويخرجون عليه، ولا يرتضونه ويحاربونه، وهذا يدل على شدَّة العناد الذي يلاقيه الإمام (عجّل الله فرجه)، ليس من أهل فرقة أو طائفة خاصة، بل - وكما ترد في الأحاديث - من الشرق والغرب(75)، حالة المواجهة التي يتلقّاها (عجّل الله فرجه) هي أشد من حالة البعثة المباركة للرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن قائمنا إذا قام استقبل من جهل الناس أشد مما استقبله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من جهال الجاهلية»(76).
7 - من الأفكار المهمة، التي ترشد إليها الأحاديث المباركة، وهي موازية لفكرة المهدوية، فكرة معرفة الإمام المعصوم - إمام الزمان -، وهي فكرة ذات بُعد معنوي وبُعد تعبُّدي في آن واحد، إذ ورد في هذا الكتاب مجموعة من الأحاديث المباركة التي تؤكِّد هذا المعنى، وتجعل معرفة الإمام (عليه السلام) موازية لفكرة الانتظار، عن الفضيل بن يسار: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ (الإسراء: 71)، فقال: «يا فضيل، اِعرف إمامك، فإنك إذا عرفت إمامك لم يضرك تقدَّم هذا الأمر أو تأخر، ومن عرف إمامه، ثم مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر، كان بمنزلة من كان قاعداً في عسكره، لا، بل بمنزلة من قعد تحت لوائه»(77).
وهنا إشارة واضحة إلى ضرورة معرفة الإمام المعصوم، ودوره في الظهور أو قيامه.
ومن هنا نرى أن البحث عن منهجية الكتاب المبارك (الغيبة للنعماني) ينطلق من رؤية أساسية، وتدور حول الإمامة، كنظرية إلى الإمام (الإمام الغائب) معرفة بدوره، وانصياعاً لما أمره الله تعالى به وأمرنا به.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين وعجل فرجهم وجعلنا من أنصاره إنه سميع مجيب.
الهوامش:
(1) أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر النعماني الكاتب، المعروف بـ(ابن أبي زينب النعماني)، المتوفي سنة (360هـ)، ذكره آغا بزرك الطهراني في أكثر من موضع في موسوعته، وبما أن البحث عن كتاب الغيبة، فقد أورده في الجزء السادس عشر، تحت التسلسل (398)، وإنه تلميذ ثقة الإسلام الكليني، توفي بدمشق، وفرغ من كتابه هذا سنة (342هـ)، كان اسم الكتاب ملاء العيبة في طول الغيبة أورده في الرقم (6596): الطهراني، آغا بزرك، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، دار الأضواء، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ، ج 16، ص79. وقريب منه ما ذكره السيد الخوئي (قدّس سرّه) في رجاله في أنه تلميذ ثقة الإسلام الكليني، وقرأ كتابه الغيبة على محمد بن علي الشجاعي: الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث وطبقات الرواة، مؤسسة الإمام الخوئي، النجف الأشرف - العراق، بدون طبعة ولا تاريخ، الكتاب السادس عشر، ص231-323. تحت التسلسل (9963). ومن الجدير ذكره أن المحقق (فارس حسون كريم) ذكر النعماني تحت التسلسل (9938) في الجزء [الكتاب] الرابع عشر، ص221، ولا أدري لعل المحقق اعتمد نسخة أخرى غير التي اعتمدنا عليها، فهو لم يشر إلى طبعة تذكر، لكنا وجدناه بما تقدم، وللتأكيد، ينظر: النعماني، الغيبة، تحقيق: فارس حسون كريم، دار الجوادين، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 2008، ص18.
(2) يمكن الإشارة إلى أن مهمة التحقيق، تفترض وجود نسخ خطية قديمة متعددة للكتاب الواحد، وأن هذه النسخ موجودة ومتفرقة في مختلف المكتبات العالمية، يقوم المنهج التحقيقي بجمع هذه النسخ، ومحاولة المقاربة بينها، وإبراز النسخة الأُم المعتمدة في التحقيق، بما يزيل الشك والتناقض والغموض الذي يحصل نتيجة الاختلاف في محتواها، بما يغير المعنى أو يجعله غامضاً، لكن ما عرضه (فارس حسون كريم) مع خالص الوفاء والتقدير له للجهد المبذول في الرجوع إلى الآيات المباركة أو إخراج الأحاديث الشريفة وتصحيحها، لكن ما عرضه هنا وفي مقدمته للكتاب هو ليس تحقيقاً بالمعنى المتعارف عند أصحاب التحقيق، بل هو أقرب إلى التوليف، فبينما كان التحقيق هو الاعتماد على نسخ أقلُّها ثلاثة، وأن التحقيق لا يكون لنسخة محققة إلّا إذا اكتشف فيها نقصاً أو خطأ ما، أو نشرت بدون تحقيق، فما عُرض في مقدمته هو اعتماده على (طبعة) وليس (نسخة) طبعت مؤخراً في سنة (1403هـ)، وقابلها بطبعة (غفاري) (1397هـ)، على أنه أشار كما أشار غفاري إلى مجموعة من النسخ الخطية التي اعتمدها غفاري، ذكرها (كريم) في كتابه. للمزيد: المنجد، صلاح الدين، قواعد تحقيق المخطوطات، دار الكتاب الجديد، بيروت - لبنان، الطبعة السابعة، 1987، ص12-14، فضل الله، مهدي، أصول كتابة البحث وقواعد التحقيق، دار الطليعة، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1998، ص140-146. النعماني، كتاب الغيبة، تحقيق علي أكبر غفاري، ص6.
(3) النعماني، أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب، الغيبة، تحقيق: فارس حسون كريم، دار الجوادين، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 2009، ص29.
(4) الغيبة للنعماني: ص54.
(5) الغيبة للنعماني: ص55.
(6) الغيبة للنعماني: ص64.
(7) الغيبة للنعماني: ص103.
(8) ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْـرِكُونَ﴾ (التوبة: 33).
(9) لم يكن العنوان هنا مطابقاً لما موجود في كتاب الغيبة من حيث النص، وإنما كان مطابقاً من حيث المعنى لما تقتضيه ضرورة البحث، لذا اقتضى التنويه.
(10) الغيبة للنعماني: ص34.
(11) الغيبة للنعماني: ص36.
(12) الغيبة للنعماني: ص37.
(13) الغيبة للنعماني: ص38.
(14) الغيبة للنعماني: ص44.
(15) الغيبة للنعماني: ص44.
(16) الغيبة للنعماني: ص104.
(17) الغيبة للنعماني: ص104.
(18) الغيبة للنعماني: ص49.
(19) الغيبة للنعماني: ص49-50.
(20) الغيبة للنعماني: ص51.
(21) الغيبة للنعماني: ص61.
(22) الغيبة للنعماني: ص84-85.
(23) الغيبة للنعماني: ص79.
(24) الغيبة للنعماني: ص103.
(25) الغيبة للنعماني: ص103.
(26) الغيبة للنعماني: ص107.
(27) الغيبة للنعماني: ص107.
(28) الغيبة للنعماني: ص113.
(29) الغيبة للنعماني: ص115.
(30) الغيبة للنعماني: ص117-125.
(31) الغيبة للنعماني: ص126-129.
(32) الغيبة للنعماني: ص137.
(33) الغيبة للنعماني: ص137.
(34) الغيبة للنعماني، ص138.
(35) الغيبة للنعماني: ص139.
(36) الغيبة للنعماني: ص137.
(37) الغيبة للنعماني: ص138.
(38) الغيبة للنعماني: ص140.
(39) الغيبة للنعماني: ص141-142.
(40) الغيبة للنعماني: ص164.
(41) الغيبة للنعماني: ص164.
(42) الغيبة للنعماني: ص149.
(43) الغيبة للنعماني: ص141.
(44) الغيبة للنعماني: ص168.
(45) الغيبة للنعماني: ص188.
(46) الغيبة للنعماني: ص189.
(47) الغيبة للنعماني: ص189.
(48) الغيبة للنعماني: ص178.
(49) الغيبة للنعماني: ص178-179.
(50) الغيبة للنعماني: ص179.
(51) الغيبة للنعماني: ص197.
(52) الغيبة للنعماني: ص197.
(53) الغيبة للنعماني: ص199.
(54) الغيبة للنعماني: ص203.
(55) الغيبة للنعماني: 207.
(56) الغيبة للنعماني: ص207.
(57) الغيبة للنعماني: ص208.
(58) الغيبة للنعماني: ص209.
(59) الغيبة للنعماني: ص215.
(60) الغيبة للنعماني: ص215-216.
(61) الغيبة للنعماني: ص219.
(62) الغيبة للنعماني: ص237.
(63) الغيبة للنعماني: ص238.
(64) الغيبة للنعماني: ص238-241.
(65) الغيبة للنعماني: ص243.
(66) الغيبة للنعماني: ص245.
(67) الغيبة للنعماني: ص257-258.
(68) الغيبة للنعماني: الحديث رقم 13، 16، ص264-266.
(69) الغيبة للنعماني: ص266.
(70) الغيبة للنعماني: ص267.
(71) الغيبة للنعماني: ص271.
(72) الغيبة للنعماني: 289.
(73) الغيبة للنعماني: ص291.
(74) الغيبة للنعماني: ص300.
(75) الغيبة للنعماني: ص309.
(76) الغيبة للنعماني: ص307.
(77) الغيبة للنعماني: ص350-315.