(٧٢٧) الثأر ثقافة الانتظار ولغة استرداد الحقوق
الثأر ثقافة الانتظار ولغة استرداد الحقوق
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
مقدمة:
تدل جملة من الروايات الشريفة على أن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عندما يخرج سيطلب بالقصاص والثأر من قتلة الإمام الحسين (عليه السلام)، وواجهت هذه الروايات جملة من النقود وحاولت أن توجد بيئة تستهدف مفهوم الثأر إلى الحد الذي يوجب التشنيع والاستهجان على من يستعمل هذا المفهوم.
وهذه الأوراق محاولة لتسليط الضوء على مفهوم الثأر ودوره في صناعة الثقافة المهدوية، كما ويتضمن الإجابة على جملة من الشبهات المثارة في هذا الصدد.
للوصول إلى المعاني، في العادة نستعمل طريق اللفظ، ومن هنا نحتاج إلى عملية ضبطه ليؤدي هذا الغرض، وأهل اللغة والقاموس نقلوا في الغالب الحيثية الاستعمالية، ولا يترتب عليها حكم ما لم تقم قرينة على ذلك.
فلابد من بذل جهدٍ في ضبط دلالة اللفظ على معنى محدد من أجل الوصول إلى تطابق الأحكام مع المراد، وفي العادة هذا الجهد مبذول من خلال إجراء عدة مقارنات بين الألفاظ المستعملة في المعنى وجملة من الشواهد على قرب أحدها منه، ثم القيام بعملية صياغة اللفظ بقالب اصطلاحي واضح لتحصيل الأحكام المترتبة عليه.
ويقع البحث في تمهيد نبين فيه مصطلحات البحث، وهي (الثأر - الثقافة - الانتظار) ومحاور ثلاثة، هي:
المحور الأول: الثأر في الخطاب الإنساني.
المحور الثاني: الثأر ثقافة الانتظار.
المحور الثالث: شبهات حول الثأر المهدوي.
مصطلحات البحث:
الثأر لغة واصطلاحاً:
الثأر: (الذَّحْلُ الطلب بالدم، وقيل: الدم نفسه...)(1).
والظاهر أن مفهوم الثأر يختلف عند المجتمعات رغم أنه من أقدمها لديهم.
ويصعب إلى حدٍّ ما إيجاد تعريف لـ(ثأر) اصطلاحي يبتعد عن التركة السلبية التي تحملها هذا المفهوم، ولعل الأنسب أن يقال: الثأر حق عند شخص أو جهة يؤخذ قصاصاً، ويعد الأخذ بالثأر - ضمن نطاق (الجروح قصاص) - من العادات الاجتماعية، ومما يشهد على ذلك ما قيل:
يا خير معتمد وامنع ملجأ * * * واعز منتقم وأدرك طالب(2)
فلا تخلو أُمة من وجود حالات الثأر، يتجلى ذلك بأدنى مطالعة لتاريخ الأُمم القديم والحديث، فإن مفردة الثأر من أدبيات كل أمة، وما ينبغي أن يقال هل هو ثأر انتقام أم ثأر نظام؟
فثأر أُمة للدفاع عن عرضٍ مغتصب هو ثأر مقدس ودفاع مشروع، وثأر أُمة للدفاع عن السيادة والعَلَم والوطنية والأمن ومقام الجلالة وما إلى ذلك هو دفاع مشروع تقرّه القوانين ويتبعه العقلاء في كل البلدان، وكما أن للدول مقدسات، وكذا للنظم الاجتماعية والعقلائية سيادة وهيبة، كذلك توجد مقدسات للنظم الدينية والدساتير الشرعية، والأشخاص القائمون على حفظ هذا النظام - أبرزهم الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) - فانتهاك حقوقهم والتعدي عليهم من أوضح مصاديق انتهاك السيادة الدينية، والمطالبة بحقوقهم - أخذ الثأر - من أوضح مصاديق الدفاع المقدس وحفظ النظام.
الثقافة لغةً واصطلاحاً:
ورد في البحث مفهوم الثقافة ونحاول التعرف عليه بما يناسب البحث من خلال التوضيح التالي:
الثقافة لغة:
التثقف في اللغة هو سريع التعلم والتفهم(3)، وتأتي بمعنى الظفر بالشيء(4)، قال تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ﴾ (الأنفال: 57) وكذلك يأتي بمعنى تقويم الشيء(5)، كما وتأتي بمعنى الحاذق الفطن(6).
الثقافة اصطلاحاً:
المعنى المتداول للثقافة هو تعبير عن مقدار ما تملكه البشرية في مجتمع معين من إمكانات ومؤهلات ترتقي بالمجتمع وتسمو به، على اختلاف في مصاديق ذلك إلى حدٍ كبير. ففي الوقت الذي تعد المعايير الأخلاقية وتطورها ومقدار تجسيدها من قبل الناس معياراً لقياس الثقافة عند بعض المجتمعات، يُعد التطور المادي من العمران والخدمات والبنى التحتية هو معيار الثقافة الوحيد عند البعض الآخر، فيما تعد مجتمعات ثالثة أن الثقافة الرفيعة هي التي توجد في مجتمع يتداول أفراده ثقافة الرقص والموسيقى وما إلى ذلك، فيما يرى آخرون أن الثقافة هي المزيج من كل ذلك، فكل مجتمع يرى معيار الثقافة مختلفاً عن غيره ويرى أن معيارها عنده هو المعيار الرفيع.
أمّا معنى الثقافة في الأفراد فهو تعبير عما يملكه من قدرات ومؤهلات على اختلافٍ في تحديد تلك المؤهلات، ففي حين يُعدَّ العِرق مؤهلاً، يعدّه آخرون عنصرية، نعم لم نجد من يختلف على أن من أهم المؤهلات الثقافية هو ما يملكه الفرد من قدرات معرفية ومؤهلات علمية، وهذا ما ينسجم مع تعريف الثقافة لغةً الواردة على لسان الخليل أبي نصر، وقد يكون تعريف الأزهري ناظراً إلى الثقافة لدى المجتمع.
والأنسب في تعريف الثقافة أن نقول: هي ما يملكه المجتمع أو الفرد من قيم ومبادئ تنبع من عاداته وتقاليده، فإذا تجسدت ومرّ عليها زمان صارت ثقافة.
كما وتعد الثقافة من أهم مفردات علم الانثروبولوجيا الذي يُعنى بدراسة الإنسان وسلوكه الفردي والاجتماعي(7).
والسؤال الجدير بالمتابعة هو من أين جاءت هذه العادات والتقاليد التي ارتقت وتطورت ووصلت إلى ما نشاهده اليوم؟
فهل هي وليدة تعاليم السماء على يد المرسلين؟ أو هي مع انضمام التجارب التي قام بها البشر طيلة هذه الفترة الزمنية الطويلة؟
الرأي السائد يرى أن ثقافات الشعوب التي عاشت تجارب الأنبياء كانت الأوفر في بناء ثقافة نابعة من أسس محكمة ومؤطرة بإطار معرفي وسلوكي رصين، وفيما يرى آخرون أن هذه الثقافات نشأت وتطورت بمعزل عن تراث السماء ووصايا الأنبياء (عليهم السلام) وأن من الموروث الذي لا يتجزأ عن الكثير من الشعوب هو الممزوج بالغناء والموسيقى والميوعة والخروج عن إطار الأديان في بناء الثقافة.
والمقصود من الثقافة في محل الكلام هي: التي تأتي لتقوّم الشيء بمعنى إزالة الفهم الخاطئ في مفهوم الانتظار والعلامات مثلاً على ما ذكره الأزهري، وليست التي بنيت طيلة قرون، وهذا المعنى من الثقافة ما تشير إليه جملة من روايات الظهور وما يقوم به الإمام (عجَّل الله فرجه) عند ظهوره.
الانتظار لغة واصطلاحاً:
الانتظار في اللغة:
قال الفراهيدي(8) في مادة (نظر):
نظرت فلاناً وانتظرته... تمهلت.
وقال ابن فارس(9) (نظر): النون والظاء والراء، أصل يرجع فروعه إلى معنى واحد وهو تأمل الشيء ومعاينته ثم يستعار ويتسع...
ويقولون نظرته أي انتظرته وهو ذلك القياس كأنه ينظر إلى الوقت الذي يأتي فيه.
هذا فيما يخص اللغة، أمّا الاصطلاح:
في البداية نبين أن التعريفات الاصطلاحية:
ويقصد بها التعريفات الصادرة من أهل الاختصاص في هذا العلم أو ذاك، وفي هذا الصدد يمكن لنا أن نعرف الانتظار كما هو عن جملة من علماء النفس بأنه طبع بشري تتدخل فيه عدة عناصر إدراكية وسلوكية، لنسمها بالانشداد إلى شيء معين وترقب حصوله، نعم يختلف من قضية إلى أخرى، كما يختلف أسلوب الانتظار ودرجاته.
وإذا رجعنا إلى تعريف ابن فارس وجدنا أن الانتظار يقوم على الأمل بالشيء المنتظر وكأنك تعاينه، لاحظ معي التعريف من جديد فهو يقول: (تَأْمُلُ الشيء ومعاينته) ففي حالة كونك منتظراً للشيء أي إنه بعيد عنك وبينك وبينه مسافة وزمان، أنت في ذات الوقت تعاينه، أنت منتظر تعاين ما تنتظر (كأنك تراه)، ففي وقت عدم رؤيته فعلاً فكأنه يراه ماثلاً أمامه.
وبهذا نتمكن من إيجاد مقاربة بين ما ذكر لغة وما ذكر اصطلاحاً بأن نقول: إن الانتظار حالة توجب ترقب إلى ما خفي وتجعلك تعاينه.
وإذا قصد به الانتظار المتعلق بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وهو تعريف شرعي لهذا النحو من الانتظار، فينبغي أخذه من الروايات الشريفة التي تناولته، إذ إن تحديد المفاهيم تارة يناط بالعرف فقط، وتارة يناط بالشرع - مُخترَعٌ شرعي - فقط، وتارة تحصل عملية تلفيق، فالموضوع موجود لدى العرف لكن الشارع أضاف إليه قيوداً أو حذف أخرى، والانتظار من القبيل الثالث، وحينئذٍ نقول: بعد أن تبين لنا سابقاً أن تعريف الانتظار (ترقب ما خفي عنك كأنك تعاينه).
نستعرض جملة من الروايات لبيان معنى الانتظار:
1 - روى الشيخ الكليني(10) بسنده عن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إِنَّ لِلْغُلَامِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ...» ثم قال (عليه السلام): «يَا زُرَارَةُ، وهُوَ المُنْتَظَرُ، وهُوَ الَّذِي يُشَكُّ فِي وِلَادَتِه، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَاتَ أَبُوه بِلَا خَلَفٍ ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: حَمْلٌ، ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّه وُلِدَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيه بِسَنَتَيْنِ، وهُوَ المُنْتَظَرُ غَيْرَ أَنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يُحِبُّ أَنْ يَمْتَحِنَ الشِّيعَةَ...»(11).
2 - روى الشيخ الصدوق(12) بسنده عن زرارة بن أعين قال: قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن للقائم غيبة قبل أن يقوم...»، ثم قال: «يا زرارة وهو المنتظر وهو الذي يشك الناس في ولادته...».
3 - روى الشيخ النعماني بسنده عن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن للقائم (عليه السلام) غيبة قبل أن يقوم...» ثم قال: «يا زرارة وهو المنتظر... وهو المنتظر غير أن الله يحب أن يمتحن قلوب الشيعة...»(13).
والذي يظهر أنها رواية واحدة، فانتهاء الأسانيد إلى زرارة بن أعين وتقارب ألفاظ النقول بشكل كبير يقرّب احتمال وحدتها، إذ من المستبعد من أمثال زرارة أن يسأل عن واقعة واحدة أكثر من مرة، بل الرواية تبرع بالحديث من الإمام (عليه السلام) أمام زرارة فلا وجه لتكرار الحديث عن نفس الحادثة بألفاظ متقاربة، بل مكررة.
وتقريب دلالتها أن الأئمة (عليهم السلام) ينزّلون الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) منزلة المنتظر، فلاحظ تعبيرهم (وهو المنتظر).
ومع رجوعنا إلى تعريف الانتظار المتقدم (ترقب ما خفي عنك كأنك تراه) نلاحظ:
1 - أن تعريف الانتظار يحتاج متعلقاً، وإلّا فلا معنى لحصول حالة الانتظار دون أن يكون لها متعلق تتعلق به، أي أن الانتظار من المعاني الإضافية.
2 - أن الأئمة (عليهم السلام) يحددون هذا المتعلق، ويقدمون للمنتظرين مُنتظَراً عقائدياً هو الذي ينبغي أن يُنْتَظَر.
3 - إن الصفات التي تتحدث عنها الروايات والتي انطبقت على الإمام (عجَّل الله فرجه) من كونه غائباً، وسيظهر تجسيد واقعي لتعريف الانتظار (ترقب ما خفي عنك كأنك تراه).
ونلاحظ أن بعض الأصحاب عندما سمع أن اسم الإمام (عجَّل الله فرجه) هو المنتظر سأل عن سبب التسمية وكأن هناك حالة من المفروغية في ثبوت التسمية من خلال الانتقال إلى علتها، فهذا ابن أبي دلف عندما سمع الإمام الرضا (عليه السلام) يتحدث عن الأئمة (عليه السلام) بعده ولما وصل إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سمّاه بقوله: «... أن من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر» فقال له ابن أبي دلف: «... ولم سمي المنتظر»، فأجابه الإمام الرضا (عليه السلام) بقوله: «... لأن له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون ويستهزئ بذكره الجاحدون ويكذب فيها الوقاتون ويهلك فيها المستعجلون، وينجو فيها المسلمون»(14)، فثبوت اسم المنتظر له مما لا ريب فيه، وثبوت صفة المنتظِر لمن ينتظر ظهوره بعد غيبته أيضاً مما لا شك فيها روائياً كما لاحظت.
وإذا أردنا التتبع روائياً في هذا المفهوم وما أضافت عليه من آثار تكوينية واعتبارية نلاحظ أنها نزلت المنتظِر - للإمام الغائب (عجَّل الله فرجه) - منزلة سامية، حيث وصفته بالعديد من الأوصاف.
وهناك جملة من الروايات التي ذكرت تلك الصفات لهم، ومنها:
ما ورد في رواية طويلة عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) حيث جاء فيه: «... إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كل زمان لأن الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله (عزَّ وجلَّ) سراً وجهراً...»(15).
والرواية تفيد:
1 - أنهم أفضل أهل كل زمان، وهو بُعد نفسي إيجابي كبير كما هو بُعدٌ فكري وعقائدي.
2 - أعطاهم الله تعالى العقول التي ترى الغيبَ شهادةً.
3 - أعطاهم الله تعالى الأفهام والمعرفة التي ترى عالم ما وراء المادة وتتبصر به.
4 - هم بمنزلة المجاهدين بالسيف بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهم مجاهدون حقاً بانتظارهم، وهو تنزيل على غرار (الطواف بالبيت صلاة)، فيكون الانتظار جهاداً بالسيف مع المغايرة بين المفهومين كما هو واضح(16).
5 - وهم المخلصون حقاً، وهذا تنزيل عقائدي في أعلى مراتب الصفات الكمالية التي يسعى من أجلها المؤمن.
6 - وهم شيعتنا صدقاً، وهذا التنزيل مما لا يضاهيه شيء لمن يقرأ الروايات التي تتحدث عن صفات الشيعة.
7 - وهم الدعاة إلى دين الله تعالى سراً وجهراً، فهم منزلون منزلة أعظم وظيفة على الإطلاق: الدعوة إلى الله تعالى.
وفي نفس المصدر(17) نجد أن الإمام الصادق (عليه السلام) يصفهم بأنهم: «... أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».
وفي روايات أخرى تصف انتظارهم بالعبادة وأنه أفضلها، بل أحب الأعمال إلى الله (عزَّ وجلَّ)، فهي في ذات الوقت الذي نزلته منزلة العمل العبادي جعلته أفضل العبادات وأحبها إلى الله (عزَّ وجلَّ)، ومن روايات هذه الطائفة:
1 - عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «... انتظار الفرج عبادة»(18).
2 - وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً: «انتظار الفرج بالصبر عبادة»(19)، وهو قد يفهم منه التقييد بالصبر، ويمكن القول: إنه يتحدث عن رتب مختلفة لعبادة الانتظار، ولكل رتبة منها مقتضياتها.
3 - وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً: «أفضل أعمال أُمتي انتظار الفرج من الله (عزَّ وجلَّ)»(20)، وهي تتحدث عن كون الانتظار أفضل الأعمال الواقعة والصادرة من أُمة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، سواء كان عبادياً أم لم يكن.
4 - عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «أفضل العبادة انتظار الفرج»(21).
وروي عن الإمام موسى بن جعفر عن أمير المؤمنين (عليهما السلام): «أي الأعمال أحب إلى الله (عزَّ وجلَّ)؟ قال: انتظار الفرج»(22)، وقد أطلق لفظ «أفضل العبادة» متعلقاً بأشياء كثيرة، منها:
«وأفضل العبادة بعد المعرفة انتظار الفرج»(23)، كما ورد هكذا «أفضل العبادة الصبر والصمت وانتظار الفرج»(24)، وورد في نص آخر: «أفضل العبادة شيئان: الصبر وانتظار الفرج»(25).
وكيف ما كان فلا يضر أن يكون للعبادة موارد عديدة هي أفضل من غيرها مع فضل الموارد الأخرى.
حقيقة التنزيل للانتظار:
عندما تقول الروايات: إن الانتظار عبادة، فهل هذا تنزيل حقيقي أو ادِّعائي؟
وبلحاظ أي أثر من آثار العبادة يريد الشارع المقدس أن ينزل الانتظار؟
تقدمت عدة طوائف من الروايات نزلت الانتظار منزلة الفرج وأن المنتظرين كالمجاهدين وأنهم أولياء الله تعالى حقاً وغيرها، وكلامنا في التنزيل ليس مع تلك العناوين مع ما لها من الأهمية، إنما مع التنزيل بلحاظ العبادة والعمل، فالانتظار في نظر الروايات عمل، بل أحب الأعمال، وعبادة، بل أفضلها - أو من أفاضلها - فما هي حقيقة هذا التنزيل وما هي آثاره؟
العبادة لين وذل(26).
وتختلف باختلاف متعلقها، فكما تتعلق العبادة بالعمل الذي فيه ذل ولين كالركوع والسجود، تتعلق بالعقائد - فمن يخضع ويذل إلهياً وربوبياً فهو عبد على مستوى العقيدة - كذلك هو على مستوى الفكر أو الكلام الذي يخضع فيه ويذل، وهكذا في غيرها.
فكل خضوع وذل ناشئ من اعتقاد بحقانية الشيء الذي نخضع له حقيقة أو اعتباراً عبادة.
ويمكن أن يقال: إنها هي اندكاك إرادة العبد التكوينية الاختيارية في إرادة المولى الاعتبارية. بمعنى أن العبد لابد أن ينقاد إلى الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة في وجوده لله تعالى، وهو معنى التوحيد في العبادة والتوحيد في التشريع.
وإذا تبين هذا، فيمكن القول: كأن الأحاديث المتقدمة التي نزلت الانتظار منزلة العبادات بل أحبها وأفضلها تريد القول:
كما أن الصلاة أو الجهاد عمل قلبي، وعقدي(27)، وجوارحي، كذلك الانتظار هو عمل عبادي يشتمل على كل هذه الأمور.
فالانتظار عمل منزّل منزلة العبادة مطلقاً، نعم لم يدل الدليل على أن له شرائط من قبيل الطهارة كما في الصلاة ولا الاستطاعة كما في الحج وبلوغ النصاب كما في الزكاة، فأفضل الأعمال ما أخذ فيه قصد القربة لله تعالى وإن لم يطلب كما في أداء الخمس مثلاً.
كيف يتحقق الانتظار؟
بعد ما تقدم من معنى الانتظار يتبين أن له عدة مراتب تحدثت الروايات عن أسماها، فعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال ذات يوم: «ألا أخبركم بما لا يقبل الله (عزَّ وجلَّ) من العباد عملاً إلّا به»؟ فقلت: بلا، فقال: «شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمداً عبده، والإقرار بما أمر الله، والولاية لنا، والبراءة من أعدائنا - يعني الأئمة خاصة -، والتسليم لهم، والورع والاجتهاد والطمأنينة، والانتظار للقائم (عليه السلام)»، ثم قال: «إن لنا دولة يجيء الله بها إذا شاء»، ثم قال: «من سرّه أن يكون من أصحاب القائم المنتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدوا وانتظروا، هنيئاً لكم أيتها العصابة المرحومة»(28).
فلاحظ أن الحديث أكد على أن مما لا يقبل الله تعالى العمل إلّا به هو الانتظار، وقد ذكرت موارد تحققه صريحة.
الخلاصة:
فيتلخص مما تقدم أن الثأر لغة دينية للمطالبة بالحقوق المسلوبة للذوات المقدسة، والثقافة تأتي لإيضاح تلك الحقوق وكيفية إرجاعها من خلال الانتظار، يبقى علينا الآن أن نفهم كيف تحدثت الروايات عن هذا الثأر وكيف جسدت لغة الأخذ به كثقافة دينية وما هي الشبهات التي تثار حول هذه القضية وكيف يتم دفعها، وهذا ما نتحدث عنه مفصلاً ضمن محاور ثلاثة:
المحور الأول: الثأر في الخطاب الإنساني والديني، وفيه نقاط:
النقطة الأولى: الثأر عند الأُمم ومراحل تطوره:
ثقافة الثأر في المجتمعات من القضايا الواضحة، فإن التاريخ البشري شهد العديد من الصراعات التي نجمت عن طلب الثأر، وهذا الثأر نجم عنه صراع آخر وهكذا.
فالثأر غريزة بشرية لا يخلو منها أحد، وإن كان العقلاء والحكماء يروّضون هذه الغريزة ويجعلونها في دائرة النفع والفائدة.
ثقافة الثأر موجودة لدى جميع المجتمعات الإنسانية، نعم هي تتعنون بعنوان القانون فتكون قصاصاً وبعنوان الانتقام فتكون ثأراً، فلولا الثأر القانوني أو الانتقامي لما انتظمت الحياة ولأصبحت غابة، ولكان الطغاة والمجرمون والسراق هم السادة على البشرية.
نعم تجاوُزُ الحد في الانتقام خلَّف العديد من الكوارث في الصراعات وعلى جميع الجغرافيات.
فإذا قرأنا التاريخ الإنساني فإننا لا نجد أي استثناء، فلم يخل زمان أو مكان من حوادث الثأر.
حتى في التاريخ الحديث للأُمم التي تدّعي الرقي والتطور نجد حالات الثأر والانتقام بوضوح، ويكفي في هذا الصدد ما حصل من قبل الأمريكيين مع اليابانيين والانتقام منهم بسبب الهجوم على (بيرل هاربور)(29)، كما أن أغلب ما قام به النازي هتلر هو عمليات ثأر وانتقام لما لحق به من ذل وهوان في معاهدات سابقة، وهكذا لمن يتصفح تاريخ الأُمم الأوروبية، والأمريكية وغيرها سواء الحديثة منها أم القديمة(30).
أمّا الأمثلة على واقع ذلك في القبائل العربية التي كان يحكمها النظام القبلي فكثيرة، قد سطرها التراث الشعري والنثري للعرب قبل الإسلام، أمّا بعده فمن تسلط على رقاب المسلمين بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، جسد مبدأ الثأر والانتقام من العائلة النبوية بوضوح، وواقعة الطف أجلى مصداق.
ويبدو أنه عندما نرجع إلى أوليات مبدأ الثأر نجد أنه وُضِعَ كقانون يحمي الفرد من أن يؤخذ غيلة وغدراً من قبل أقرب مقرّبيه(31).
فنظام الثأر قانون يحمي الفرد، وتطور بتطور الأفراد والمجتمعات، فتوسع ليدخل في نطاق العشيرة أو القبيلة أو السلطة لكي تحميه من وقوع الأذى والإهانة أو التعدي على حقوقه أو الاعتداء عليه، فالثأر الذي سنّه الأفراد لحفظ نفوسهم وممتلكاتهم واعتباراتهم، تطور إلى قانون عام ينشده وينادي به الجميع ليحقق العدالة لهم، فعامل حفظ التوازن في هذه الحياة يكمن في القانون الذي ترجع بنيته إلى حفظ الحقوق المتمثل بأخذ الثأر ممن يتطاول على الآخرين بعقوبات جزائية مختلفة حسب القوانين والأعراف والتقاليد، فالثأر في وجه من وجوهه هو في الحقيقة الوجه غير المرئي للقصاص الذي به حياة الأفراد والمجتمعات.
النقطة الثانية: الثأر مقولة حق:
قال تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً﴾ (الإسراء: 33)، وقال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ﴾ (البقرة: 179)، وقال تعالى: ﴿وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ﴾ (المائدة: 45).
يظهر من هذه الآيات وأمثالها أن شرع الإسلام - بل كل شرع - قد سن في قانونه نظام العقوبة، بل إن العقوبة هي حياة النظام، ولإقامة نظام القصاص أصول وقواعد من الشهود والبينات والتثبت في إثبات الحقوق، ثم يأتي دور القصاص في استرداد الحقوق.
النقطة الثالثة: الثأر والقصاص عند أهل الكتاب:
الكتاب المقدس يقول الكثير بشأن الانتقام، وتحمل الكلمات العبرية واليونانية المترجمة (نقمة) أو (انتقام) أو (ثأر) فكرة العقاب في معناها الأصلي، ومما ورد بشأن ذلك في وصية الرب لموسى وأمره بالانتقام: (وأمر الرب موسى: انتقم نقمة لبني إسرائيل من المديانيين)(32)، وفي سفر صموئيل الأول (14-32): (وثار الشعب على الغنيمة، فأخذوا غنماً وبقراً وعجولاً، وذبحوا على الأرض وأكل الشعب على الدم)، وتنقل لنا بعض عبارات المزامير عبارات الانتقام: (خاصم يا رب مخاصمي، قاتل مقاتلي، امسك مجناً وترساً وانهض إلى معونتي، واشرع رمحاً وصد تلقاء مطاردي، اقض لي يا الله، وخاصم مخاصمي، بك ننطح مضايقينا بسمك ندوس القائمين علينا)(33).
وفي معجم اللاهوت الكتابي يقول: (الانتقام في لغتنا اليوم يعني إيقاع العقاب على التعدي بالرد على الشر بالشر، أمّا في لغة الكتاب فيشير الانتقام أولاً إلى استعادة البر، وإلى الانتصار على الشر... كان على أعضاء القبيلة، في المجتمعات الرحّل التي كان إسرائيل منها عند نشأته، أن يتبادلوا تولي الحماية والدفاع عن ذواتهم، أمّا عند حدوث قتل إنسان فكان ولي الدم ويعرف عندهم باسم (جويل) هو الذي يأخذ بثأر القبيلة فيقتل القاتل (عدد 35/21) غير أنه بجانب باعث التضامن، كان ثمة اقتناع بأن الدم المسفوك، كدم هابيل، يقتضي الثأر (راجع تكوين 4/10، أيوب16/18) على هذا النحو كان ينبغي صيانة العدل، وحتى بعد أن صار إسرائيل شعباً حضرياً فقد حافظ على هذه العادة (راجع صموئيل 3/22-27)، وقد يقال عن يوم الرب أنه يوم الانتقام (إرميا 46/10)، حينئذٍ سيثأر الله للعدل كما سيثأر لشرفه، وبهذا المعنى يمكن القول بأن الله وحده يستطيع أن ينتقم (لنفسه) بر، عدل، خلاص، انتقام: ذلك ما سيأتي به يوم الرب (إشعيا 59/ 17-18) فبقدر ما يكون شعب إسرائيل أميناً على العهد، يستطيع أن يرفع شكواه إلى (جويل) إلى (إله النقمات))(34).
النقطة الرابعة: الثأر والقصاص في الآيات والروايات:
لقد تحدثت جملة وافرة من الآيات في الذكر الحكيم عن القصاص والثأر وقد مرت عليك في ثنايا البحث، أمّا الروايات في ذلك فهي كثيرة، وقد بوب أهل الحديث والأخبار تلك الأحاديث في عدد من الأبواب نطل على الأهم منها، لنستشرف منها الاهتمام البالغ في الشريعة لقضية القصاص والأخذ بالثأر وضرورة ضبط ذلك في إطاره الذي يحفظ البشرية من الانجراف وراء التعصبات والأحقاد.
الأبواب في كتب القصاص(35):
منها: باب أحكام الأمر بالقتل أو الإمساك للقتل وغيرها من أنواع الإعانة أو التعاون على القتل.
ومنها: أبواب إثبات القتل من الإقرار والإشهاد والرؤية لعملية القتل، أو وجدان المقتول، والقتل على التهمة وغيرها.
ومنها: أبواب القتل الخطأ واختلاف الديات والجروح والاعتداءات والتي تتحدث عن المئات من التفاصيل من القتل العمد، أو الخطأ أو بالجناية أو القصاص أو قطع الأعضاء أو جرحها أو خدشها، بل تعدت الأحكام إلى شهود الزور، وتفاصيل الديات ومقدار الغرامات وتحديدها بشكل متناهي الدقة بما يضمن إرجاع الحقوق إلى ذويها حتى وصلت إلى دية الظفر.
ومنها: أبواب قتل الحيوانات والضمانات المترتبة عليها واختلاف تلك الغرامات بين أنواع الحيوانات وكيفية الاعتداء عليها.
ومن بين تلك الأحاديث الكثيرة التي تضمنتها الأبواب الآنفة الذكر:
1 - عن أبي جعفر (عليه السلام): «أول ما يحكم الله فيه يوم القيامة، الدماء»(36).
2 - عن أبي عبد الله (عليه السلام): «... إياكم وقتل النفس الحرام بغير حق، فإن من قتل منكم نفساً في الدنيا قتلته مائة ألف قتلة مثل قتلة صاحبه»(37).
3 - عن أبي عبد الله (عليه السلام): «يجيء يوم القيامة رجل إلى رجل حتى يلطخه بالدم والناس في الحساب، فيقول: يا عبد الله ما لي ولك؟ فيقول: أعنت عليّ يوم كذا وكذا بكلمة فقتلت»(38).
4 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لو أن رجلاً ضرب رجلاً سوطاً لضربه الله سوطاً من نار»(39).
5 - عن علي بن الحسين (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ﴾ (البقرة: 179)، «... لأن من هم بالقتل فعرف أنه يقتص منه فكف لذلك عن القتل كان ذلك حياة الذي هم بقتله وحياة لهذا الجاني الذي أراد أن يقتل وحياة لغيرهما من الناس إذا علموا أن القصاص واجب لا يجترون على القتل مخافة القصاص»(40).
6 - وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث يقول فيه الراوي: سألته عن رجل قتله القصاص، له دية؟ فقال: «لو كان ذلك لم يقتص من أحد»، وقال: «من قتله الحد فلا دية له»(41)، وفي نص آخر: «من اقتُصَّ منه فهو قتيل القرآن»(42).
وهذه الأحاديث ظاهرة بل بعضها صريح في أن الشريعة الإسلامية أقرت القصاص وأن به حياة الناس ونظام المجتمع وردعاً للاعتداء، وأنها نظمت عملية العقاب وردع المخالفة وحفظ النظام الفردي والاجتماعي بدقة عالية، ووضعت لكل اعتداء مهما صغر حجمه عقاباً يناسبه فضلاً عن العقاب الشرعي بالحرمة والأخروي بعقوبات مختلفة ذكرتها الروايات مفصلاً وأشارت النصوص السابقة إلى بعض منها.
النقطة الخامسة: الثأر في التراث الإنساني:
لا شك أن القصاص والأخذ بالثأر قضية ولدت مع الإنسان، فلم يخل مجتمعٌ من المجتمعات عن قصص الثأر، وقد سجّل التراث الإنساني هذه القصص بأشكال وألوان عديدة، ولسنا هنا بصدد البحث الببلوغرافي عن ذلك، وإنما الإشارة إلى أن الاقتصاص من المعتدي والأخذ بالثأر ركيزة من ركائز المجتمع البشري وثقافة من ثقافاته المتعددة وهي ممتدة بامتداده، وجسدتها الكتابات التي تحدثت عن التراث الإنساني عندما نظّم قضايا الأخذ بالثأر وسن مختلف القوانين لردع ذلك، وتقدم قبل سطور حديث الأديان السامية عن هذه المفردة، فمفردة الثأر قبل تحولها إلى لغة قانونية هي الحامي للبقاء الإنساني.
لذلك نجد أن التراث البشري سجّل لهذه المفردة الحضور اللافت على مستوى القصة والقصيدة والكتاب، وضمّنها موروثه الاجتماعي بالنحت على الجدران والمباني العامة والخاصة، فمثلت له الوجودات التي حققت العدل وأخذت بالثأر قدوة مجسدة ومثالاً يحتذى به، فيما مثّل الاستحواذ والتعدي والظلم أمثلة سيئة في التاريخ البشري.
ومن يرغب بالاطلاع على التراث البشري في هذا الصدد يجده ماثلاً أمامه دون عناء(43).
النقطة السادسة: الثأر وعقوبة الإعدام في مسلّات القوانين:
نعتمد في هذه القراءة على ما صدر من الأُمم المتحدة في إطار سلسلة اجتماعات - بين عامي (2012-2014م) - عقدتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان تناولت فيها عقوبة الإعدام وخلفياتها وما إلى ذلك، وجاء من ضمن البحوث المنشورة(44) بحث حمل عنوان (أديان العالم وعقوبة الإعدام) نقتبس منه عدة مواضع:
عند البوذية:
(... تشير الأدلة إلى أن معظم دول جنوب شرق آسيا طبّقت عقوبة الإعدام قبل وقت طويل منذ نشوء البوذية وانتشارها في الهند في فترة (400) إلى (500) سنة قبل الميلاد).
(توموكو ساساكي)، وهو عضو سابق في البرلمان الياباني تناول موضوع القصاص بقوله: (يعد القصاص أحد التعاليم الأساسية في البوذية اليابانية، فإذا ما ارتكب شخص عملاً شرّيراً فعليه أن يكفّر عن ذلك من حياته، فإذا أزهقت روحاً فعليك أن تقدم حياتك مقابل ذلك).
يقول (شريلا برابهوبادا) مؤسس حركة (هاري كريشنا): إن السبب وراء معاقبة القاتل بالقتل هو كي لا يعاني في حياته الأخرى الذنب العظيم الذي اقترفه...).
عند اليهود:
(... يحتوي الكتاب المقدس والتلمود نصوصاً تعتبر عقوبة الإعدام أمراً مشروعاً وشائعاً، فهناك (36) جريمة في الكتاب المقدس عقوبتها الموت، منها عبادة الأوثان، وتدنيس حرمة السبت، والزنا، وزنا المحارم، والدعوة إلى الردة. وتذكر الميشناه (السنهدرين) - أي محكمة العدل - وسائل وطرق تنفيذ الإعدام مثل القتل بالسيف والرجم والحرق والخنق...).
عند المسيحية:
(... يشتمل الكتاب المقدس على العديد من الإشارات إلى القتل والجرائم التي عقوبتها الموت، أدخل القديس (أوغسطين) مفهوم الحرب العادلة، واستمر إضفاء الشرعية على عقوبة الإعدام في القرون الوسطى، وكان ممن دافعوا عنها القديس (توما الاكويني) من خلال طرحه لمفهوم المصلحة العليا للمجتمع، والذي يتطلّب قبول قدر من الشر، وبعد قرون عدّة حاجج (مارتن لوثر) أن مسألة الحياة والموت هي سلطة إلهية فوّضها الرب للسلطات السياسية وقد عارض تطبيق عقوبة الإعدام على الجرائم الكنيسية، كي لا تختلط أحكام الكتاب المقدس مع القوانين البشرية...).
عند الإسلام:
(... إن رحمة الله تعالى هي جوهر نظرة الإسلام لعقوبة الإعدام... يقول الله تعالى في الآية 151 من سورة الأنعام: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾...)، انتهى الاقتباس.
يتبين مما تقدم: أن الثأر حقيقة متجذرة في الوجود الإنساني بمختلف دياناته وثقافاته وأعراقه، ولا زالت موجودة إلى اليوم، نعم اختلف التعبير عنها عند أغلب المجتمعات بلغة تناسب الثقافة في كل زمان، فصار يعبر عن الأخذ بالثأر بحفظ النظام، العدل، القصاص، حفظ الأمن القومي، حفظ الأمن العالمي، وما إلى ذلك من تعبيرات في زماننا.
المحور الثاني: الثأر ثقافة الانتظار في نقاط:
النقطة الأولى: مقومات بناء الدولة:
جاء الإسلام كشريعة مكملة لما سبق من الشرائع وامتدادٍ لها لبناء الإنسان، حيث تكفلت قوانينه بجميع مناحي الحياة، فما من حادثة أو حركة إلّا ولها الحكم المناسب والتقنين الذي يتكفل حفظ الحقوق والواجبات.
فمنذ بدايات الإسلام، كان دور النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بناء المسلمين يقوم على أساس كون الإسلام ديناً ينظم الحياة، وما إن وطأت قدماه الشريفتان المدينة المنورة حتى شرع ببناء الأُسس التي تقوم عليها الدولة وتسلم هو بنفسه المناصب القيادية العليا من القضاء والإدارة المدنية والعسكرية والمالية، وبنى المنظومة الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والعقائدية للمسلمين، وفي ظرف (10) سنوات أصبحت دولته من أقوى الدول وأعدلها وأحفظها لحقوق الإنسان وكرامته، وهيّأ أفضل السبل وأسهلها لبسط العدل وأخذ الحقوق والالتزام بالواجبات، منطلِقاً من منظومة إلهية متكاملة أعطته الصلاحيات الكاملة.
ولنا أن نسأل: ما هي مقومات بناء الدولة التي أرادها الإسلام وأسّس لها النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
مما لا شك فيه أن من المقومات الأساسية لأي دولة هو وجود شعب وأرض وسلطة، إذ لا يمكن قيام دولة بدونها، والسلطة هي التي تنظّم شؤون الشعب على تلك الأرض ضمن أنظمة وقوانين وعلى مستويات مختلفة، وبمقدار حفظ الدولة للعدل تتميز، وبمقدار إخفاقها فيه تنحدر وتتلاشى.
النقطة الثانية: بناء المنظومة العقائدية والفكرية على أساس رأي الحاكم عند الآخر:
بعد النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تعرض المسلمون إلى انتكاسة كبيرة من عدة جهات، ومنها تنصيب من ليس بأهل لإدارة شؤون الدولة، ومن هذا المنطلق تأسست لدى المسلمين جملة من المفاهيم الخاطئة والمنحرفة عن جادة العدل في بناء الدولة.
استبدلت مفاهيم (العدل - القسط - حرمة الظلم - كره الظالمين) بمفاهيم مغايرة لها تماماً (تسمع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع)(45)، حتى أن جملة من الصحابة وبعد واقعة الحرة في المدينة وتسلط يزيد بن معاوية على الرقاب وبيعته الناس عبيداً كان يرى لزوم البيعة له وأن الخروج عليه وخلع طاعته يوجب الميتة الجاهلية(46).
فدخل الإسلام في حالة من غياب الوعي لم يستفق منها الأغلبُ إلى يومنا هذا، حيث بنيت المنظومة المعرفية والسلوكية تحت نظر الحاكم الظالم وسياطه.
ولعل أغلب ما يثار حول الإسلام في زماننا من شبهات وتشكيكات منشؤها المنظومة الفكرية الخاطئة التي تأسست على مفاهيم مغلوطة، فنشأ من ذلك تراث منسوب للدين مبني على أسس محجوجة عقلاً وعقلائياً، كان الهدف من ورائها تثبيت سلطة الحاكم الظالم مهما كان الثمن، حتى أن أبواق السلطة آنذاك كانت تخشى أن تبوح ببعض الحقائق الواضحة(47).
لقد تم استخدام الدين أسوأ استخدام لتحصيل مآرب السلطة وديمومية بقائها، فانقلبت المفاهيم رأساً على عقب وصدقت على ذلك الزمان مقولة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، التي نقلها الخبر الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) حيث قال: «قال النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر»؟، فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: «نعم وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف»، فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: «نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً»(48).
فتغيرت المنظومة من ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ﴾ (النحل: 90)، إلى (أن العدل هو ما يراه السلطان)، هذا هو فعلاً ما حصل، فقد بَنَت السلطةُ بالمال والسلاح منظومةً معرفية دينية أحادية الطرف، ليس فيها مجال لسماع الرأي الآخر فضلاً عن العمل به، ومن يجرؤ على المخالفة فسوف تقوم الدولة بسحقه واستخدام أشد وسائل الإقصاء والتنكيل به وبمن يتبعه.
من هنا صار الخروج على الدولة - وإن كانت تمارس أشد وأقسى أنواع الظلم - ظلماً ومحرماً وغير مشروع.
وقد قادت الدولة الفاسدة مشروعها من خلال حروب إعلامية منظّمة انتهت إلى تكذيب من يدَّعي أن لديه القدرة على إقامة العدل.
فلاحظ أن الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) سبط نبي الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وابن فاطمة (عليها السلام) يخرج للحرب ومعه حريمه وأولاده وأخوته ولا يخرج معه إلّا نفر قليل، فأي ماكنة إعلامية ضخمة منعت الناس عن اللحوق به والقتال معه دفعاً للظلم عن أنفسهم.
في الحقيقة من ينظر إلى الأحداث التاريخية في تلك الفترة، يؤمن أن الإسلام لم يبق منه شيء على الأرض سوى الاسم.
من هنا رفع الأئمة (عليهم السلام) من بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) شعار النصرة لحركته (عليه السلام) فقط، ولم يدخلوا ميدان الحرب العسكرية، فمن هو الذي يكون أفضل من الحسين (عليه السلام) ليقود الإصلاح في أمة جدِّه؟! ومع ذلك يقتل شر قتلة عرفتها البشرية.
النقطة الثالثة: الحركة الحسينية والبناء الديني لإصلاح المنظومة الفكرية والسلوكية للمجتمع:
بعد الانهيار الكبير لمنظومة الدين على مختلف الصعد، لم يكن من بُد إلّا أن يخرج الإمام الحسين (عليه السلام) ليرفع راية الإصلاح وإرجاع الأمور إلى نصابها التي كانت على عهد النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولم يكن مهماً له أن يتحقق الانتصار العسكري، بل كان يعلم بعدم تحققه وأنه مقتول ومن معه لا محالة.
فقد ورد في جملة من الروايات ما يفيد هذا المعنى، ومنها: ما رواه الشيخ المفيد(49) عن أُم سلمة أنها قالت خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من عندنا ذات ليلة فغاب عنا طويلاً ثم جاءنا وهو أشعث أغبر ويده مضمومة، فقلت: يا رسول الله ما لي أراك شعثاً مغبراً؟ فقال: «أُسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال له كربلاء، فرأيت فيه مصرع الحسين ابني وجماعة من ولدي وأهل بيتي، فلم أزل ألقط دماءهم فها هي في يدي»، وبسطها إليّ فقال: «خذيها واحتفظي بها»، فأخذتها فإذا هي شبه تراب أحمر....
خرج وهو يعلم بمصيره وأنه مقتول ويقول(50): «وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أُمة جدي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق».
إن الحسين (عليه السلام) رسم خارطة إصلاح واضحة المعالم.
من هنا نفهم أن الأئمة (عليهم السلام) عندما كان يُعرض عليهم القيام والنهوض، وذلك عندما يتراءى لبعضٍ أن الوقت قد حان، فإنهم يقولون(51): «ما أنت من رجالي ولا الزمان زماني»، وفي ذات الصدد عندما يأتي أحدهم إلى الإمام الصادق (عليه السلام) بكتاب أبي مسلم فيقول (عليه السلام) له(52): «ليس لكتابك جواب»، وفي نص آخر أجلى من سابقيه يقول المعلى بن خنيس(53): ذهبت بكتاب عبد السلام بن نعيم وسدير وكتب غير واحد إلى أبي عبد الله (عليه السلام) حين ظهرت المسودة قبل أن يظهر ولد العباس بأنا قد قدرنا أن يؤول هذا الأمر إليك، فما ترى؟ قال: فضرب بالكتب الأرض ثم قال: «أُف أُف، ما أنا لهؤلاء بإمام، أما يعلمون أنه إنما يقتل السفياني».
يقول الشيخ المفيد في سيرة الأئمة (عليهم السلام) على عدم الخروج بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى أن يقوم الإمام الحجة بن الحسن (عليهما السلام)(54): (إن ملوك الزمان إذ ذاك كانوا يعرفون من رأي الأئمة (عليهم السلام) التقية وتحريم الخروج بالسيف على الولاة، وعيب من فعل ذلك من بني عمهم ولومهم عليه، وأنه لا يجوز عندهم تجريد السيف حتى تركد الشمس عند زوال، ويسمع نداء من السماء باسم رجل بعينه ويخسف بالبيداء، ويقوم آخر أئمة الحق بالسيف ليزيل دولة الباطل، وكانوا لا يكبرون بوجود من يوجد منهم، ولا بظهور شخصه، ولا بدعوة من يدعو إلى إمام لأمانهم مع ذلك من فتق يكون عليهم به ولاعتقادهم قلة عدد من يصغي إليهم في دعوى الإمامة لهم ويصدقهم فيما يخبرون به من منتظر يكون لهم).
فكان دور الأئمة (عليهم السلام) منصبّاً على بيان أن الإمام الحسين (عليه السلام) قتيل الله وقتيل رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنه مصلح هذه الأُمّة على امتداد الزمان، فينبغي أن يكون حاضراً عند الناس في كل زمان ومكان، فكانوا (عليهم السلام) يؤكدون - كلما سنحت فرصة - على ارتباط الإمام الحسين (عليه السلام) برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنه امتداد له، وأن الله تعالى وأنبياءه قد لعنوا قاتل الحسين بن علي (عليهما السلام)، وأن قتله كان معلوماً لدى جميع الأنبياء والملائكة، وبكى لذلك جميع ما خلق الله تعالى حتى السماء والأرض، وأكدوا (عليهم السلام) على إحياء ذكر الحسين (عليه السلام) بمختلف درجات الإحياء(55).
فالروايات الشريفة التي نطالعها في هذا الصدد تبرز هذه الصورة وأن الحركة الحسينية هي الحركة الوحيدة القادرة على بناء المنظومة الدينية الصالحة لقيادة البشرية نحو الأفضل، وأن ركيزة هذه الحركة هو العدل، وأن الاعوجاج الموجود في كل زمان إنما هو في الابتعاد عن هذه المنظومة.
فإنه وإن كان التعتيم شديداً وقاسياً، إلّا أن الأئمة (عليهم السلام) استطاعوا وبجدارة إيصال المنظومة الحسينية إلينا، بل وإلى البشرية - لو اطلعت -، فما علينا سوى تفعيل المقدار الذي يقع علينا والباقي بعهدة الإمام (عليه السلام) الذي ينتظر أن يقوم الآخرون بأدوارهم في الاستمداد من العطاء الحسيني.
نعم لا زال التعتيم وبحجم كبير يمنع الكثير من أصحاب القلوب النقية من الوصول إلى هذه المنظومة الإلهية وهنا يأتي دور الرائدين والمخلصين من العارفين بالحسين (عليه السلام) ونهضته في تعريفها للناس بالأسلوب والطريقة المؤثرة والنافعة.
وهذا ما يحتاج إلى وجود الإمام (عليه السلام) - في إطار منظومة عقائدية متكاملة - فيكون الطلب بثأر الإمام الحسين (عليه السلام) هو طلب بالثأر للعدل المستلب على مر الزمان، فهل يبقى لمقولة (إنه انتقام شخصي) وغيرها مما ستسمعه من مقولات وشبهات معنى؟
المحور الثالث: أسئلة وشبهات حول الثأر المهدوي:
أثيرت حول النصوص التي دلت على أن الحجة بن الحسن (عجَّل الله فرجه) يأخذ بثأر الإمام الحسين (عليه السلام) عدة أسئلة وإشكالات جعلناها في إطار (9) عناوين يرجع في الغالب غيرها من الإشكالات والشبهات الأخرى إلى واحدة منها، وقبل ذكرها نستعرض بعضاً من تلكم النصوص استجلاءً للصورة وستأتي النصوص مفصلةً في محلها عند الإجابة على الشبهة الرابعة، وهي:
عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: «القائم والله يقتل ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) بفعال آبائها»(56).
وفي الحديث الصحيح عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قلت لأبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام): ما تقول في حديث روي عن الصادق (عليه السلام) قال: «إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) بفعال آبائها»؟ فقال (عليه السلام): «هو كذلك»، فقلت: قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ ما معناه؟ قال: «صدق الله في جميع أقواله، ولكن ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) يرضون بفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومن رضي شيئاً كان كمن أتاه، ولو أن رجلاً قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب لكان الراضي عند الله (عزَّ وجلَّ) شريك القاتل، وإنما يقتلهم القائم (عليه السلام) إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم»(57) الحديث.
وفي بعض نصوص الأدعية والزيارات وردت مضامين مشابهة لما ذكرته الروايات بصيغة الدعاء والطلب، منها مقطع من الدعاء المعروف بالندبة: «... أين الطالب بذحول الأنبياء وأبناء الأنبياء، أين الطالب بدم المقتول بكربلاء، أين المنصور على من اعتدى عليه وافترى...»(58).
الشبهة الأولى: الثأر حالة انتقامٍ ولا ينسجم مع منظومة العدل المهدوية:
ويمكن أن تنحل إلى شبهتين:
1 - الثأر المهدوي حالة انتقام.
2 - الثأر لا ينسجم مع منظومة العدل المهدي التي نقرأها في الآيات والروايات.
والجواب عن الأول:
يظهر من الشبهة أنه يراد وصف الثأر المهدوي بالعدوان المحض ومن دون مبرر، وهنا تكمن المغالطة، إذ إن الثأر ليس حالة انتقام غير مبرر على ما تقدم تعريفه بشكل مفصل في بداية البحث، إنما هو استرجاع حق مسلوب وهو نوع من أنواع القصاص عرف بهذا اللفظ - ثأر - لأنه المتداول آنذاك والأقرب إلى أفهام الناس.
إن الثأر المهدوي هو قصاص قانوني ولغة دينية للمطالبة بالحقوق المسلوبة وإرجاعها إلى الذوات المقدسة، حاله حال ما تقوم به أي دولة من الدول في الدفاع ضد الانتهاك الذي يداهم هذه الدولة وتراق من أجل ذلك الدماء، فمع ذلك لا يعد نقصاً أو عيباً.
أمّا الجواب عن الثاني:
فإن العدل هو وضع الشيء في موضعه، والقصاص من أجلى مفاهيم العدل، ولا تغيب عن أذهاننا صورة الميزان الذي يوضع خلف القضاة في جميع المحاكم العالمية مع أنهم يحكمون على المتهمين بأقسى أنواع العقوبات، فهل سمعنا أحداً قال: إنهم ظلمة ومنتقمون، وما يقومون به لا ينسجم مع منظومة العدل؟!
جميع الإلهيين يعتقدون أن الله تعالى خلق الجنة والنار، وجعل النار داراً يعاقب فيها الظلمة والمفسدين، فهل - والعياذ بالله تعالى - يقال: إن هذا ظلم ولا ينسجم مع منظومة العدل الإلهية ومقولة ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعراف: 156)، إن هذا لا يصح أن يصدر من شخص يحترم عقله وفكره.
فهذه في الحقيقة ليست شبهة، وإنما تهمة، نشأت من عدم الفهم للمفاهيم وحالة خلط بينها.
الشبهة الثانية: أن الثأر لغة رجعية:
الثأر لغة رجعية متخلفة لا تنسجم مع لغة بناء دولة عالمية ينادي بها الإسلام وينتظرها الجميع، نعم هي تنسجم مع لغة العشيرة والقبيلة التي تفقد عزيزاً عليها، فتنادي بلغة الثأر والانتقام له.
والجواب عن ذلك:
1 - من يحدّد أن هذا رجعي ومتخلف ولا ينسجم مع لغة بناء الدولة؟ هل هي الثقافة العامة للمجتمع وما يعبر عنه بالعرف، أو هي الثقافة الخاصة لمجتمع معين وإن لم يعرف أجواء الإسلام وطريقته في تشريع الأحكام؟ فإن كان الأول - الدول المتحضرة - فالعرف ببابك، فإنهم لا يأنفون من أخذ الثأر طيلة هذه القرون المتمادية إلى يومك هذا كما مرَّ ذلك تحت عنوان الثأر عند الأُمم ومراحل تطوره، وإن كان الثاني فإن لزوم الإنصات له هو أول الكلام، فضلاً عن أن يؤخذ بتحديده.
2 - إن لغة الإسلام هي لغة النظام والقانون - كما مر عليك في أبواب القصاص -، فكما لا يسمح بالانتقام غير المبرر، كذلك لا يسمح باستلاب الحقوق والتعدي عليها من قبل المتطاولين، فلكي نعيش حالة الاتزان في حفظ الأنفس والأموال والنظام لابد من قوة ردع بها يخشى المعتدي من سطوة الانتقام وأنه يؤخذ بجرمه لو اعتدى. وهذا المعنى عقلائي ومستمر مع العقلاء، لا أنه أمر رجعي.
3 - إن لغة الإسلام تبين المعاني للأُمة، ولا حراجة في انتخاب الألفاظ المناسبة حسب الظروف والأزمنة، فمما لا شك فيه أن الإسلام يقف بالضد من العبودية والاسترقاق، ولكن المجتمع وقتذاك لا يمكنه قبول الإسلام ورفض الرق، فانتخب التشريع الإسلامي طريقة ينشر فيها مبادئه، وفي ذات الوقت يحفّز على التخلي عن الرقيّة والعبودية، حتى إذا حان الوقت لرفضها اجتماعياً، فإن الإسلام وتشريعاته ستكون أسبق منهم في ذلك، وما إن يلتفتون إليها سيجدونها واضحة، وهكذا في لغة الثأر فإنه لا حراجة بعد وضوح المعنى من انتخاب اللفظ المناسب لكل عصر.
4 - إن لفظة الثأر لا تزال متداولة إلى يومنا هذا في الثقافات المدنية والشعوب المتحضرة وخطاباتهم وتصريحاتهم في الحرب والسلم ببابك، فإمّا أن نرفضها من الجميع أو لا ينبغي التهجم على المسلمين بها دون غيرهم.
5 - ثم أنه من قال إن الثأر لغة عدوان بشكل مطلق فقد تبيَّن مما تقدَّم في المحور الأول أن الثأر لغة استرداد الحقوق والدفاع عنها، نعم نسلِّم أن الثأر الذي يتجاوز فيه صاحبه الحدود المرسومة له في القانون والشريعة يكون تعدياً وليس كلامنا مع هذا النوع من الثأر.
الشبهة الثالثة: الثأر المهدوي نزاع بين قبيلتين:
إن الصراع بين العلويين والأمويين صراع ممتد إلى زمان النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل ما قبله، وهذه النصوص التي تتحدث عن الثأر المهدوي إنما تتحدث عن هذا الصراع الشخصي ولا علاقة لها بالعقيدة والدفاع عنها.
والجواب عن ذلك:
1 - إن الصراع بين بيت النبوة وبني أمية ليس صراعاً قبلياً، بل هو صراع مبادئ، فقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «إنا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله، قلنا: صدق الله، وقالوا: كذب الله، قاتل أبو سفيان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقاتل معاوية علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي (عليهما السلام) والسفياني يقاتل القائم»(59).
2 - لو تنزلنا فما المانع أن يكون الصراع القبلي صراع مبادئ وقيم، فليس كل صراع قبلي باطلاً، فهناك من الصراعات القبلية ما يتشرف به أبناؤها كقبيلتي همدان ومذحج اللتين أبليتا بلاءً قل نظيره في نصرة الإسلام، فحمية أبناء القبيلة ونصرتهم للدين والمبادئ حمية قيمية وليست تعصبية.
ويؤكد هذا المعنى أن القبائل في المجتمع الإنساني منطلق لبناء المنظومات التي أسست الدول والقوانين، وتقدم أن هذه الأنظمة وجدت لحفظ النظام وعدم التعدي على الحقوق وتحجيم أو إنهاء أفعال الظلمة، ولولا هذا الوجود القبلي لما كان للوجود الإنساني أن يرى التطور والرقي المدني، فقوانين القبائل هي نواة بناء المجتمعات ولازالت تتمتع بمساحة واسعة من الاحترام والدور في بناء النظم وحفظ الحقوق، فليس كل ما يمت إلى القبيلة ممقوتاً ومذموماً.
الشبهة الرابعة: زخم مفتعل:
إن صدور روايات عن أهل بيت الرحمة والعفو (عليهم السلام) تطالب بالانتقام والثأر لا نتعقله، فمن كانت سمتهم العفو عن ظالمهم وكظم الغيض عمن اعتدى عليهم كيف يتصور في حقهم أن يمارسوا الانتقام والثأر؟
إن هذه المقولة لا يصح الحديث فيها أمام هذه الذوات المملوءة عطفاً ولطفاً ورحمةً، فهم فيض الوجود وأوسع أبواب الرحمة الإلهية.
فلابد من رفض هذه الروايات، ولعلها افتُعلت في أزمنة متأخرة من قبل الغلاة وبعض أتباع السلطة لتحقيق أهداف ضيقة.
قبل الجواب عن هذه الشبهة نستعرض جملة من الروايات الواردة في هذا الصدد والتي تحدثت عن الثأر لشهادة الإمام الحسين (عليه السلام) على يد الحجة بن الحسن (عجَّل الله فرجه)، وهي:
1 - عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً﴾ [الإسراء: 33]، قال: «ذاك قائم آل محمد يخرج فيقتل بدم الحسين (عليه السلام)، فلو قتل أهل الأرض لم يكن مسرفاً، وقوله: ﴿فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾، لم يكن ليصنع شيئاً يكون سرفاً»، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يقتل والله ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) بفعال آبائها»(60).
فعظم المصيبة يستدعي هذا الفعل، أي إنه إنْ فعل فليس في فعله إسراف لعظيم ما وقع، ولكنه لا يفعل إلّا بما يناسب مقامه وشأنه، فلا يأخذ بالجريمة إلّا من يرتضي فعال الآباء الذين لو أتيحت لهم الفرصة لكرروها.
2 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تبارك وتعالى: ﴿فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ قال: «أولاد قتلة الحسين (عليه السلام)»، وقد أفرد الشيخ جعفر بن محمد بن قولويه في كتابه القيم (كامل الزيارة) باباً تحت عنوان (ما نزل من القرآن بقتل الحسين (عليه السلام) وانتقام الله (عزَّ وجلَّ) ولو بعد حين، ومما جاء فيه أيضاً: (والله لقد قتل قتلة الحسين (عليه السلام) ولم يطلب بدمه بعد)(61)، فالانتقام من الله تعالى.
3 - قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لما كان من أمر الحسين (عليه السلام) ما كان، ضجت الملائكة إلى الله بالبكاء وقالت يفعل هذا بالحسين صفيك وابن نبيك؟ قال: فأقام الله لهم ظل القائم (عليه السلام) وقال: بهذا أنتقم لهذا»، فالمنتقم هو الله تعالى بواسطة الإمام (عجَّل الله فرجه)(62).
4 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: «القائم والله يقتل ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) بفعال آبائها»(63).
5 - وفي الحديث الصحيح عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قلت لأبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام): ما تقول في حديث روي عن الصادق (عليه السلام) قال: «إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) بفعال آبائها»؟ فقال (عليه السلام): «هو كذلك»، فقلت: قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ ما معناه؟ قال: «صدق الله في جميع أقواله، ولكن ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) يرضون بفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومن رضي شيئاً كان كمن أتاه، ولو أن رجلاً قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب لكان الراضي عند الله (عزَّ وجلَّ) شريك القاتل، وإنما يقتلهم القائم (عليه السلام) إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم»(64) الحديث.
وتوجيه هذا المضمون يظهر جلياً من استعمالات العرب، فهو من يخاطبهم بلغتهم، فمثلاً يقال للرجل الذي غزا قومه قوماً آخرين وقتلوهم: أغرتم وفعلتم كذا، فيقول العربي: فعلنا ببني فلان، وسبيناهم ولا يريد أنه باشر ذلك بنفسه، ولكنه يفخر، ولأن هؤلاء الخلف راضون بفعال السلف ويرون صواب فعلهم فصح أن يقال أنتم رضيتم الفعل.
6 - وفي بعض نصوص الأدعية والزيارات وردت مضامين مشابهة لما ذكرته الروايات بصيغة الدعاء والطلب، منها:
أ - ففي مقطع من الدعاء المعروف بالندبة: «... أين الطالب بذحول الأنبياء وأبناء الأنبياء، أين الطالب بدم المقتول بكربلاء، أين المنصور على من اعتدى عليه وافترى...»(65).
ب - وفي مقطع من زيارة الإمام الحسين (عليه السلام): «... فأسأل الله الذي أكرم مقامك أن يكرمني بك، ويرزقني طلب ثأرك مع إمام منصور من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)...»(66)، وفي مقطع آخر: «... وأن يرزقني طلب ثأركم مع إمام مهدي ناطق لكم...»(67).
ج - وفي مقطع آخر من زيارة الإمام الحسين (عليه السلام): «... وأن يوفقني للطلب بثأركم مع الإمام المنتظر الهادي من آل محمد ...»(68).
بعد هذا الاستعراض يتبين لنا:
1 - أن جملة من الروايات المتقدمة، نطمئن بصدورها، فإنكارها دون مبرر مجازفة وقول بلا دليل.
2 - لا يصح رفض رواية صح صدورها إلّا لسبب وجيه، ومنه أن تكون مخالفة للكتاب والسنة، فيستكشف صدورها تقية مثلاً، وفي المقام لا يوجد مبرر لرفض هذه الروايات لموافقتها للكتاب كما في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ﴾ (البقرة: 179)، فإن قيل: إن هذا يخالف قوله تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾، قلنا: إن الإمام (عليه السلام) تكفل بجواب ذلك بقوله: «لأنهم رضوا فعال آبائهم».
3 - جميع الإلهيين يعتقدون بأن الله تعالى هو منتهى الرحمة واللطف والرأفة، وفي ذات الوقت يعتقدون بأنه أعدل العادلين وأحكم الحاكمين، وأنه لا يضيع حقاً بل ذرة من عملٍ، وما حصل مع الحسين (عليه السلام) بوصفه امتداداً طبيعياً للنبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقتضي إنزال أشد العقوبات في من أجرم بحقه فعلاً أو قولاً.
وقد تقدم وصف قتله وانتهاك حرمته في بعض النصوص السابقة أنه (قتل للإسلام، وتعطيل للحلال والحرام، وأن على هذا المصاب حزن جميع الوجود)، أفلا يحق لهذه الوجودات الحزينة أن تسترد حقها المسلوب طيلة قرون ودهور، أليس هذا هو العدل؟
4 - تقدم في نصوص عديدة أن ما خرج من أجله الحسين (عليه السلام) ليس منفعة شخصية أو حقاً مغتصباً إنما هو إصلاح إنساني ديني، فهو خرج من أجل إرجاع المبادئ إلى نصابها وإعطاء الحقوق لأهلها، فالدفاع عن مظلمته والاقتصاص من قتلته هو دفاع عن النظام الإنساني والديني ومبادئ العدل والحق.
الشبهة الخامسة: لابد من التأويل:
أن هذه النصوص التي تقدمت لو سلَّمنا صدورها فلابد من تأويلها لأنها لا تمثل وجهة نظر أهل البيت (عليهم السلام) لأن وجهتهم العفو والسماحة وعدم التعصب كما قيل.
والجواب عنها:
1 - إن الروايات المتقدمة صريحة في الثأر، فلا وجه لتأويلها.
2 - إن التأويل إنما يصح فيما إذا كان هناك مانع يمنع من الالتزام بالنص أو الظاهر كما في قوله تعالى: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ (الفتح: 10)، فحيث إن الله تعالى منزّه عن الجسم والجسمية، حيث قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ (الشورى: 11)، فهنا يأتي وجه التأويل، فتحمل اليد على القوة والرفعة وما إلى ذلك.
أمّا مع كون المعنى الوارد في الروايات لا يمنع من الالتزام به مانع عقلي أو عرفي أو شرعي فلا موجب لتجشم عناء التأويل، فإن الأخذ بالثأر من المعتدي وإقامة القصاص عليه - كما تقدم مفصلاً - قضية اتَّفق عليها الجميع دون استثناء، وهي لا تخالف الكتاب ولا السنة.
3 - الروايات تامة سنداً ودلالة ولا مانع يمنع من الأخذ بها، نعم، يحق لمن يرى أن التعبير بأخذ الثأر لا يناسب زمانه أو مجتمعه أن يتحدث عنه بلغة أخرى، فليس هناك إلزام بهذا التعبير حتى يقع المخالف في المحذور أو المحرم، وإن كان الأنسب فيما لم يكن هناك مانع الاقتصار عليه إذ لعل التعبير به أكثر تأثيراً في النفوس على ما تقدم من كون بعض الألفاظ - كالثأر - أفضل من غيرها في تأدية المعنى من جهة البُعد النفسي، نظير المقولة القرآنية في اللعن فإنه كان يمكنه أن يعبر بالطرد، لكن إيقاع لفظة اللعن في النفوس له تأثير كبير مطلوب من قبل الشارع.
الشبهة السادسة: الإسراف في الثأر:
بعض الروايات تقول: لو قتل أهل الأرض لم يكن مسرفاً، وهذا لا يعقل، إذ لو سلَّمنا أن الراضي بقتله شريك في الجرم، فليس معنى ذلك أن جميع أهل الأرض مشتركون فيه، فكيف ساغ تجويز قتل أهل الأرض جميعاً انتقاماً؟
والجواب عن ذلك:
1 - إنّ ما ورد في هذا النص فرض (لو قتل) ومع ذلك فهو مقيد بتقيدات كثيرة ذكرناها في الروايات المتقدمة من قبيل التقييد بـ«لرضاهم بفعل آبائهم»، كما ذكر المستشكل، فهو من باب ذكر العام والمطلق اعتماداً على وجود المخصص والمقيد.
2 - إن المقصود من هذا النص أن كل من رضي بهذا الفعل، فلو أن أهل الأرض رضوا لكانوا مستحقين للقصاص.
3 - إن التقييد موجود في نفس النص، فلاحظ قوله (عليه السلام): «يقتل والله ذراري قتلة الحسين بفعال آبائهم»، والقيد المتصل في نفس الكلام يمنع من أصل انعقاد الكلام في الظهور، فالنص استعمل «أهل الأرض» من البداية في معنى خاص وهو خصوص «الذراري الراضين بفعال آبائهم» والعرف يرى ذلك سائغاً دون تردد.
4 - إن هذا حديث بلسان ﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً﴾ (المائدة: 32)، هذا لمن قتل نفساً من عامة الناس، فكيف بمن يقتل ولي الله تعالى وريحانة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إن قتل هكذا شخص لا يعادله أهل الأرض جميعاً، وهذا المعنى كثير في لغة القرآن الكريم والروايات الشريفة وأمثال العرب، فمن القرآن ما تقدم من الآية، ومن الروايات الشريفة ما ورد في علي (عليه السلام): «لضربة علي لعمرو يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين»(69)، فهو حديث عن معنى حقيقي لما يمثله أمير المؤمنين (عليه السلام) وما قام به من فعل في ذلك اليوم، وأنه لولاه لما كانت هناك عبادة، ومن أمثال العرب قولهم: (بشسع نعل كليب) لما كان لكليب عندهم من عظمة.
فالاعتداء على المعصوم ليس هو اعتداء على ذاته فقط بل على مقامه، ومن له مقام لا يضاهى فيكون قتل العالَم ممن رضوا أهون وأيسر من قتله والتجاوز عليه، ولذلك نجد الإمام (عليه السلام) في نفس الحديث بعد أن قال: «ولو قتل أهل الأرض لم يكن مسرفاً» أي إن واقع ما حصل على الحسين (عليه السلام) لا يضاهيه شيء ولا يسمّى الانتقام له إسرافاً ولو كان بقتل كل أهل الأرض إن كانوا راضين بفعل القتل، ولكنه في ذات الوقت يقول (عليه السلام): «لم يكن ليصنع شيئاً سرفاً»، أي هذا منه ليس سرفاً لواقع ما حصل على الحسين (عليه السلام) - لو كان أهل الأرض اشتركوا في قتله - إن قتله لهؤلاء بل لذراريهم بعد طول الزمان سرف، فهو (عليه السلام) يتنزَّه عن أن يقال على فعله إنه سرف رغم أنه ليس واقعاً سرفاً.
الشبهة السابعة: مرجوح لا راجح والنسبة باطلة:
دلّت الروايات على رجحان العفو واستحباب العفو عن القاتل من قبل المؤمنين وأهل البيت (عليهم السلام) أولى بذلك منهم، يتنافى مع مقولة الثأر والانتقام التي ينسبها أتباع المذهب إليهم، فضلاً.
والجواب عن ذلك:
1 - إن مقولة القصاص والثأر ليست نسبة من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) إليهم، وقد تقدم في أجوبة بعض الشبهات المتقدمة كون الطلب بالثأر من المفردات المهمة في المنظومة الدينية، فادِّعاء أن المطالبة هي من أتباعهم لا منهم مجازفة ومجانبة عن الصواب، والدليل الناصع الدال على أن هذا طلبهم.
2 - إن الروايات التي تحدثت عن العفو هي تتحدث عن مقام آخر غير مقام إثبات الحق، فبعد أن يثبت الحق ويتجلى حجم الاعتداء ويعترف المعتدي يأتي دور العفو، أمّا من لا يعترف بذلك ويتمادى ويرضى بفعل الآباء والأجداد، فإن العفو عن أمثال هؤلاء يعد جبناً وتخاذلاً وهو نقص في كمالات الإنسان فضلاً عن المعصوم، فالذي يعد كمالاً ورفعة هو العفو بعد اعتراف المذنب وإقراره، نعم، لابد أن يكون الإقرار في ظرف مناسب، وليس بعد فوات الأوان كما حصل مع فرعون ﴿حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * الْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس: 91).
3 - إن الحق الذي يطالب بإسقاطه صاحب الشبهة ليس هو حقاً تابعاً لشخص إنما هو حق عام، حق الاعتداء على منصب الإمامة.
4 - إن العفو إمّا أمر راجح أو مستحب، والقصاص حسب الفرض أمر لازم، فإذا تعارض الاستحباب معه لا وجه لتقدمه عليه فضلاً عن أن يعارضه.
الشبهة الثامنة: إن الثأر يشكّل أزمة خطاب عالمي:
سلمنا أن ما سيقوم به الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو من الأمور الحسنة عقلاً وشرعاً، بل هو لازم لما تقدم من وجوه، ولكن ذلك لا ينفي أن التصريح به منفّر على مستوى الخطاب العالمي، فإن الجمهور العريض من الناس بعيدون عن الدين ولا يرغبون به لما يتصورونه من تقييد لحرياتهم، فإذا انظمّ إليه أمثال هذا الخطاب العدواني، فإنه سيؤكد ما في أذهانهم من شبهات حول الدين، فكان الراجح على المشرِّع ترك مثل هكذا خطاب لما فيه من المنفرية الظاهرية.
والجواب عن ذلك:
1 - إذا سلمنا أن هناك حسناً في أخذ الثأر، بل هو كذلك لما فيه من إقامة للعدل ونظم الحياة، فلا وجه للإشكال على ذلك بأن إثارته منفرة منه، مع أن أمثال هذه العبارات لازالت مستعملة إلى يومنا هذا من أكثر الدول والمنظمات العالمية التي تتصدر المشهد الحقوقي العالمي، كما تقدم.
2 - الخطاب الديني خاضع لضوابط وآليات، هي في العادة تلاحظ العرف ومرتكزاته وما يتعامل به في خطاباته، فهو يستخدم نفس الأدوات والمواد التي يستعملها الناس في التعبير عن مقاصدهم، واستعماله لهذه المفردات يعني أن الطابع العام من الناس يألفها ويأنس بها، أمّا أنها لا تروق للبعض، فالإشكال حينئذٍ في هذا البعض ونظرته الضيقة تجاه الخطاب الديني، وفي العادة مهما كان الخطاب موزوناً فإنه لا يكون مرضياً من قبيل الجميع، نعم قد يكون مرضياً من قبل الغالب.
3 - إن الخطاب الديني كما يلاحظ عنصر اللفظ وأدائه للمعنى، أيضاً يلاحظ في بعض خطاباته البعد المشاعري للخطاب، إذ يقصد من ورائه إيجاد حالة من الارتباط الروحي بقضية معينة فيصدر جملة من الخطابات الوجدانية، فالقضية مقصودة للشارع المقدس وإن لم ترق للبعض.
4 - لو فرضنا أن الشارع أراد أن يغير الخطاب، فما هو اللفظ المناسب لواقع هذه القضية مع المحافظة على بعدها القانوني والوجداني؟ فإن أمثال هذه القضايا ليست توقيفية فلكل شخص حرية التعبير بما يراه مناسباً شريطة الحفاظ على المعنى وحيثياته الدخيلة فيه، ولعلنا لا نجد لفظة مناسبة لتأدية هذين الأمرين كالتي استعملها الشارع المقدس.
5 - نسلِّم أن بعض الألفاظ التي استعملها الشارع المقدس في التعبير عن مقاصده هي منحصرة بزمن معين أو أكثر مناسبة للزمن الذي صدر فيه النص والقريب منه، كما في لفظة السيف كسلاح عند ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، فإن المتداول - زمان النص - هو هذا، ولو تصدى الشارع لبيان السلاح في زمان الظهور فقد يكون منفراً لعدم فهمه من الناس آنذاك، فجاء بلفظة تتناسب والمستعمل في زمان النص، ولا خصوصية لها، لما نجزم من أنه لا يريدها بعينها، وإنما هي تعبير كنائي عن الآلات العسكرية المستعملة ولعل الأمر كذلك في مقامنا بالنسبة للفظة الثأر.
الشبهة التاسعة: لماذا الحسين (عليه السلام) فقط؟
إن الشيعة تنادي دائماً بالثأر للحسين (عليه السلام) (يا لثارات الحسين) ولا تنادي بالثأر لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهم يرون أنه انتُهِكَ مقامه وحُرِّفَ الإسلام من بعده، كما أنهم لا ينادون بالثأر لفاطمة (عليها السلام) مع أنهم يعتقدون أن الاعتداء الذي وقع عليها كبير جداً، كما ولا ينادون بالثأر للإمام علي (عليه السلام) مع أنهم يرون أن كل المصائب ناشئة من مصيبة إقصاء الإمام علي (عليه السلام)، كما ولا ينادون بالثأر للإمام الحسن (عليه السلام) المظلوم، وهكذا بقية الأئمة (عليهم السلام)، فلماذا لا يكون هناك ثأر لهم كما للإمام الحسين (عليه السلام)، فهل هو أفضل منهم؟ أو إن ذلك حالة انتقائية؟
والجواب عن ذلك:
1 - الأحكام الصادرة من الشريعة بهدف تنظيم حياة الإنسان استعملت فيها عدة أساليب، فبعض الأحكام جاء بيانها مع بيان علّتها، وبعضها الآخر أرجع فيها الشارع المقدس إلى العرف بين الناس، وبعض ثالث تعبّدنا بالحكم دون أدنى معرفة بالأسباب الموجبة للشريعة، ونحن نأخذ به تعبداً، إيماناً منا بكبرى حكمة الشارع المقدس وهادفيته وأنه بصدد تقديم الأفضل في مقام التشريع للإنسان، فالإيمان بمشرع بهذا المستوى يسد الباب عن السؤال عما وراء الحكم من دواعٍ، وهذا موجود لدى الكثير من الدول في تشريعاتها، فجهاز المخابرات في أغلب الدول يشرع ويمارس قوانين قد يراها الناس أنها تقيد حريتهم أو تضر بمصالحهم الشخصية، بل وبعض النوعية، ولكنهم لا يسألون عن ذلك بعد الفراغ عن أن هناك مصلحة عليا وراء هذا التشريع أو تلك الممارسة.
فإغماض ملاكات التشريعات في بعض الأحيان هو بذاته حكمة، وهكذا في قطاعات عديدة كالجيش أو الصناعات الحربية الدقيقة، بل حتى جملة من الصناعات الطبية أو الهندسية أو الالكترونية، يتم كتمان الملاك وراء التشريع، ويكتفى بقاعدة أن المصلحة العامة تقتضي ذلك. وهنا لعل المصلحة العامة للدين تقتضي ذلك، فما المانع أن يكون الخطاب الديني موجهاً تجاه قضية واحدة ولا يعني ذلك بحال من الأحوال عدم أهمية القضايا الأخرى.
2 - إن الذي وقع على الحسين (عليه السلام) في حقيقته عظيم جداً ولا نبالغ إذا قلنا إنه لم يقع مثل ما وقع عليه على أحد أبداً، باعتبار مقامه السامي من جهة ودناءة مقام عدوه من جهة ثانية وتنوع الظلم عليه من جهة ثالثة، واستخفاف عدوّه بكل مبدأ إنساني وديني في هذه الواقعة، فكل ما يمكن تصوره من فضائع وفجائع قد وقعت في واقعة واحدة عليه (عليه السلام).
فهذه الجهة وجهات أخرى قد لا نلحظها وغيرها مما هو في ذهن القارئ وهي ما كانت وراء إبراز هذه القضية كشاخص في المظلومية وضرورة النظر إليها والمطالبة بها على طول الزمان.
3 - إن الحسين (عليه السلام) تجسدت فيه المظلومية السابقة واللاحقة، والحادثة المروعة في كربلاء هي بحق تمثل أسوة المظلومية، فالحسين (عليه السلام) اجتمعت فيه مظلوميات من سبق وسيلحقه حتى عبرت بعض النصوص المتقدمة أنه ثأر الله تعالى وبالثأر له يتم الثأر للأنبياء والأولياء.
4 - يمكن القول عندما نأخذ بثأر الحسين (عليه السلام) فإننا نأخذ بثأر رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسن (عليهم السلام)، وهكذا نأخذ بثأر الأنبياء والأئمة والأولياء، فلا خصوصية لذكره إلّا من باب أنه أجلى وأبرز مصاديق المظلومية.
5 - لو كانت الخطابات الشرعية موجَّه باتجاهات متعددة فخطاب منها باتجاه أخذ الثأر لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأخرى باتجاه أخذ الثأر لأمير المؤمنين (عليه السلام) وثالث باتجاه أخذ الثأر لفاطمة (عليها السلام) وهكذا، فإن أفراد الأُمة سوف تتبعثر وتتشتت جهودهم، فلابد من وجود شخصية تكون فيها المظلومية بارزة وجلية إلى حدٍ يصعب إنكارها من قبل الأغلب إن لم نقل الجميع، ولو تأملت بوجدانك لوجدت أن الأحداث التي وقعت على الحسين (عليه السلام) آلمت أعداءه قبل محبيه، وأنها لم تقع على غيره، فلعله من أجل ذلك كان التركيز عليه.
6 - لا دليل على أن الروايات أغفلت أو أهملت الأخذ بالثأر لهم كما ورد في النص: «أين الطالب بذحول الأنبياء وأبناء الأنبياء»، بل هو كما ترى عام يشمل جميع الأنبياء (عليهم السلام).
الشبهة العاشرة: مخالف للسيرة العقلائية:
إن أغلب الأُمم تعرضت لحوادث مروعة وقصص الظلم وانتهاك الحقوق للأفراد والمجتمعات تملأ التاريخ، ومع ذلك فإن العالم اليوم تناسى تلك الأحداث التي مرَّت عليه وتغلَّب على الصعاب والظلم الذي مرَّ ليعيش بسلام مع الظالمين له، فسيرة العقلاء تقضي بترك الثأر والابتعاد عن تجسيد حالة الانتقام.
والجواب عن ذلك:
1 - إن قصص الثأر المنسية لم يمسحها التاريخ من سجلاته، ولازالت تقرأ في اليوم الواحد آلاف المرات، فالظلم لا يمسحه التغاضي عنه. إن المظلومين عبر التاريخ لم يتناسوا ظالميهم ولا يزالون يطالبون بحقوقهم ما إن تتاح لهم فرصة ذلك، ولكن الظالمين لازالوا إلى اليوم يمارسون ظلمهم بمنع المظلومين من المطالبة بحقوقهم وتهديدهم عسكرياً أو اقتصادياً.
2 - إن العالم اليوم قد أسس محكمة العدل الدولية لكي يحاسب الظالمين ويثأر للمظلومين بالاقتصاص من ظالميهم لكي يكونوا عبرة، فالعالم والعقلاء منه لا يغطون على الظلم، بل يؤسسون له المحاكم العليا للأخذ بالحقوق.
3 - إن هناك ظلماً على فرد وآخر على أفراد ومجتمع وثالثاً على مبدأ، ولا نظن أن أحداً يفرط بالأول أو الثاني فكيف يفرط بالثالث، فهل فرطت دولة من الدول في حقها الأولي والأصلي على أرضها أو في سيادتها.
نجزم أن أياً من ذلك لا وجود له، فلماذا يطالب من يستميت بالدفاع عن حقه المؤمنين بالتغاضي عن مبدأ وعقيدة مبنية على إرجاع الحق المستلب لشخص فيض الوجود وقطب عالم الإمكان.
4 - إنما يكون للشبهة وجه لو سلّمنا أن الظلم الذي وقع على الإمام الحسين (عليه السلام) قد انتهى ولا أثر له اليوم، ولكن هذا الظلم لازال مستمراً على أيدي من يرضون بالفعال السابقة، فلو كان قد انتهى لكان هناك وجه في التغاضي عنه، أمّا مع استمراره كيف يطلب التغاضي عنه.
5 - إن سيرة العقلاء لا تترك القصاص ولو تقادم الزمن، وإلّا دعت إلى الهرج والمرج وضياع الحقوق والنظام.
6 - إن صاحب الحق والمخول في التنازل عنه موجود، فليس من الصحيح التحدث نيابة عنه في قضية هي من مهامه وهو أعرف بما يقوم به وما ينبغي له فعله أو تركه.
الخاتمة:
إن من يتابع حركة الإمام الحسين (عليه السلام) وما صدر عنه من أقوال وأفعال يلاحظ أنه (عليه السلام) يضع اصلاحاً انتظارياً «اللهم فخذ لنا بحقنا وانصرنا على القوم الظالمين»(70)، بعد أن حصر خروجه بـ«إنما خرجت لطلب الإصلاح»(71)، فهذا الخروج معلوم أنه لا يعطي ثماره إلّا بعد انتظار وصبر، ولذلك سيبقى محركاً للحس البشري وداعياً له أن يمهد للإصلاح الشامل.
فذلك المصلح المظلوم خرج لإصلاحنا، فلابد أن نرفع من ظلامته ونأخذ بثأره «إني حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم... فأسأل الله... أن... يرزقني طلب ثأركم مع إمام مهدي...»(72)، فطلب الثأر رزق من الله تعالى نحصل عليه عندما نستحضر القضية وننتظرها ونمهد لها، فما لم تُفهم حركة الإصلاح الحسيني لا تُفهم حركة الإصلاح المهدوي، فالدم الحسيني لا يسكن حتى يحصل الثأر ممن سفكه مع يد مصلح آخر الزمان، يقول الإمام الحسين (عليه السلام) عن ذلك مخاطباً ولده السجاد (عليه السلام): «يا ولدي يا علي، والله لا يسكن دمي حتى يبعث المهدي - الله - فيقتل على دمي من المنافقين والكفرة...»(73)، لذلك نجد الروايات المتكررة ألمحت إلى هذا الترابط كما في اختيار يوم عاشوراء للقيام المهدوي «ينادي باسم القائم (عليه السلام) في ليلة ثلاث وعشرين، ويقوم في يوم عاشوراء وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي (عليهما السلام)، لكأني به في يوم السبت العاشر من المحرم قائماً بين الركن والمقام»(74).
وفي نص آخر في معرض تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ﴾ (الحج: 60)، فإن الله تعالى سوف ينصر الحسين (عليه السلام) «يعني بالقائم من ولده»(75)، وهذا توصيف جميل جداً لتجسيد حالة الأخذ بالثأر التي تشمل ثقافة الانتظار رجاء ظهور القائم (عجَّل الله فرجه).
فلابد من إيقاظ حالة الشعور الدائم بالتقصير والاستعداد للنصرة على حد عبارة الإمام (عجَّل الله فرجه): «فلئن أخَّرتني الدهور وعاقني عن نصرك المقدور... فلأندبنك صباحاً ومساءً ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً حسرة عليك وتأسُّفاً على ما دهاك وتلهفاً حتى أموت بلوعة المصاب وغصَّة الاكتئاب»(76).
فالثأر المهدوي للحسين (عليه السلام) ثقافة عقلائية ولغة دينية في استرداد الحقوق وإيقاف عجلة الظلم المستمر على الذوات المقدسة.
الهوامش:
(1) لسان العرب - ابن منظور - مادة ثأر.
(2) الأبيات لخويلة الرئامية القضاعية.
(3) العين - الخليل بن أحمد الفراهيدي (توفي 170هـ)، مادة - ثقف.
(4) تهذيب اللغة - أبو منصور الأزهري (ت370) مادة ثقف.
(5) المصدر السابق.
(6) منتخب الصحاح - أبو نصر الجوهري (ت393).
(7) مدخل إلى علم الإنسان - د. عيسى الشماس - صفحات مختلفة.
(8) الخليل بن أحمد الفراهيدي - كتاب العين - مادة نظر.
(9) ابن فارس - أبو الحس أحمد بن فارس - معجم مقاييس اللغة، مادة نظر.
(10) الكافي - الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (رحمه الله): ج1، ص337، عن علي بن إبراهيم (ثقة) عن الحسن بن موسى الخشاب (ثقة من وجوه أصحابنا) عن عبد الله بن موسى (وهو من ورد في إسناد تفسير القمي، فهو وإن لم يوثق صريحاً إلّا أنه يمكن اعتبار حاله إما من هذه الجهة أو من جهة اعتماد الشيخ المفيد عليه)، عن عبد الله بن بكير (ثقة - فطحي) عن زرارة بن أعين (ثقة)، فالرواية معتبرة.
(11) وروي بطريق آخر أيضاً، نفس المصدر: ج1، ص342.
(12) كمال الدين - الشيخ محمد بن علي بن الحسين الصدوق (رحمه الله): ص370، والرواية رواها عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار (رضي الله عنه) (ثقة) عن سعد بن عبد الله (ثقة) عن أحمد بن محمد بن عيسى (ثقة) عن عثمان بن عيسى الكلابي (ثقة - واقفي) عن خالد بن نجح (وهو من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام)، وعده النجاشي من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، وعدّه البرقي من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام)، لم ينص على وثاقته ويمكن توثيقه بعدة وجوه، منها:
1 - ما رواه الكشي من خدمته لأبي الحسن (عليه السلام)، وقيل بعدم كفايته على الوثاقة، بل عدم دلالته.
2 - إنه من أصحاب الكتب، ويوجد مبنى بتوثيق من له كتاب، وعليه نقوضٌ ذكرت في محلها.
3 - إن كتابه معروف ويروي عنه الصدوق مع التزامه بأنه لا يروي إلّا عمن هو معروف مشهور، وفيه: عدم كفايته، لو سلم أن له كتاباً أصلاً وأنه معروف.
4 - إنه روى عنه الأعاظم كعثمان بن عيسى وغيره، ورواية الأعاظم عنه تنافي جهالته وضعفه، وفيه: أنه مبنى لمن يقول به.
5 - إنه روى عنه أصحاب الإجماع كابن أبي عمير وغيره وهم لا يروون إلّا عن ثقة، وله وجه عند المشهور، إلّا أنه مناقش بعدة مناقشات ليس محل ذكرها هنا.
6 - إن للصدوق إليه طريقاً صحيحاً وقيل بكفاية ذلك للتوثيق، وهو مبنى لمن يقبل به.
7 - إنه ورد في (17) مورداً وهي كافية للحكم بوثاقته، ويرده: قلتها بالقياس إلى غيره ممن أكثر ولم يوثق.
والإنصاف أن هذه الوجوه مجتمعة توجب القول بوثاقته ولا أقل من الاعتماد على روايته خصوصاً أن مورد الرواية مما يمكن فيه ذلك إذ يتحدث عن غيبيات لا علم له بها لكي يضعها (وهذا بحث له محله) فلا أقل من قبول هذا المورد.
(13) كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني المتوفي حدود سنة (360هـ) وطريقه إليها: عن محمد بن همام (ثقة)، عن جعفر بن محمد بن مالك (فيه توثيق وتضعيف وهو من رواة تفسير القمي)، عن عباد بن يعقوب (ثقة على كل تقدير) عن يحيى بن يعلى (من رواة الشيعة في كتب العامة ويوثقونه)، عن زرارة (ثقة ثقة)، وقد رويت في عدة مصادر وبأسانيد مختلفة.
(14) كمال الدين - الشيخ الصدوق: ص406، ح3.
(15) لقراءة الحديث وهو من روائع الأحاديث، راجع كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص347-348، ح2.
(16) عوالي اللئالئ - الإحسائي: ح1، ص214، ح70.
(17) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص385.
(18) بحار الأنوار: ج52، ص122، نقلاً عن أمالي الطوسي.
(19) بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج52، ص145، نقلاً عن دعوات الراوندي.
(20) كمال الدين وتمام النعمة: ص672.
(21) كمال الدين وتمام النعمة: ص315.
(22) معاني الأخبار للشيخ الصدوق: ص199.
(23) تحف العقول لابن شعبة الحراني: ص403.
(24) تحف العقول لابن شعبة الحراني: ص201.
(25) معدن الجواهر للكراجكي: ص26.
(26) معجم مقاييس اللغة لأبي الحسن أحمد بن فارس: ج4، ص205، مادة (عبد).
(27) إذ إن الصلاة لم تأت إلّا بعد الاعتقاد بتوحيد الله تعالى والإيمان بالأنبياء والرسل، وأن الله تعالى واحد في التشريع وتجب طاعته، هذه المقدمات العقائدية والإيمان بها هو الذي جعلنا نمتثل الصلاة وغيرها من العبادات ونأتي بها كجزء من أعمالنا العبادية.
(28) كتاب الغيبة للشيخ النعماني: ص205.
(29) غارة جوية نفذتها القوات اليابانية عام (1941م) على الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ، أسفر الهجوم عن قتل ما يقرب من (3000) شخص، فكان الرد الأمريكي ثأراً قاسياً.
(30) تشير بعض الدراسات إلى أن خمس الكرة الأرضية كان يعيش النزاعات وحروب الأخذ بالثأر في منتصف القرن الماضي.
(31) الثأر طبيعة بشرية أم نظام اجتماعي - الدكتور قاسم عبده قاسم - مقال منشور من قبل دار عين للدراسات، بتصرف.
(32) موقع إجابات أسئلة كتابية (gotquestions)، حول سؤال: (ماذا يقول الكتاب المقدس بشأن الانتقام؟).
(33) المزمور (44/5) و(43/1) و(35/1-3).
(34) في موقع البشارة - الموسوعة المسيحية العربية الالكترونية.
(35) وسائل الشيعة - الشيخ الحر العاملي: ج29، ص9-404.
(36) الوسائل: ج29، ص12، ح6.
(37) الوسائل: ج29، ص15، ح15.
(38) الوسائل: ج29، ص18، ح3.
(39) الوسائل: ج29، ص23، ح7.
(40) الوسائل: ج29، ص53، ح6.
(41) الوسائل: ج29، ص63، ح1.
(42) الوسائل: ج29، ص64، ح9.
(43) يمكن الاطلاع بشكل تفصيلي من خلال عنوان (الإعدام في الأدب ووسائل الإعلام) في موسوعة (الويكيبيديا)، وفيه الإشارة إلى مصادر عالمية وأُممية عديدة تتحدث عن الثأر والإعدام في التراث الإنساني والديني حيث تحدث بداية عن تاريخ هذه العقوبة عند مختلف الثقافات والأديان ثم عن تفصيلات كثيرة بهذا الصدد.
(44) الابتعاد عن عقوبة الإعدام - الحجج - التوجهات - الآفاق - المحرر (إيفان شيمونوفيتش): ص175-185، يراجع بحث أديان العالم وعقوبة الإعدام لـ(ماريو مارازيتي)، المتحدثة باسم جمعية (سانت إيجيدو) وعضو حالي في البرلمان الإيطالي.
(45) الجامع الصحيح - صحيح مسلم - مسلم بن الحجاج: ج6، ص20.
(46) المصدر السابق: ص22.
(47) عن أبي هريرة قال: حفظت عن رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] وعاءين، فأمّا أحدهما فبثثته، وأمّا الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم. [صحيح البخاري: ج1، ص38].
(48) الكافي - الشيخ محمد بن يعقوب الكليني: ج5، ص59، ح14، عن علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ورواة الحديث جميعهم موثقون، نعم بناء على كون مسعدة بن صدقة في طبقة أصحاب الباقر (عليه السلام) تكون الرواية موثقة لأن النجاشي والشيخ الطوسي قال أحدهما: (بتري) وقال الآخر: (عامي)، أمّا بناءً على كونه من أصحاب الصادق (عليه السلام) فالرواية صحيحة، كما استظهر ذلك السيد الخوئي (رحمه الله) في ترجمته للرجل تحت الرقم (12305).
(49) الإرشاد للشيخ المفيد: ج2، ص130، وهناك نصوص عديدة في هذا الصدد من المناسب مراجعة كتاب كامل الزيارات للشيخ جعفر بن محمد بن قولويه من ص121-160، للاطلاع عليها.
(50) بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج44، ص329.
(51) ينابيع المولدة للقندوزي: ج3، ص161، رد الإمام الصادق (عليه السلام) على كتاب أرسله أبو مسلم إليه.
(52) الكافي للشيخ الكليني: ج8، ص274.
(53) الكافي للشيخ الكليني: ج8، ص331.
(54) الفصول العشرة للشيخ المفيد: ص74.
(55) من المناسب جداً الاطلاع على فهرست كتاب كامل الزيارات للشيخ جعفر بن محمد بن قولويه، وهو من أعظم الكتب تأليفاً ومؤلفاً، فإن فيه أبواباً كثيرة توضح الصورة التي أبرزها الأئمة ݜ لمقام الإمام الحسين (عليه السلام) وأهميته في الإصلاح الديني والارتباط القلبي وتجسيد المبادئ التي خرج من أجلها.
(56) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال - الشيخ الصدوق: ص217.
(57) وسائل الشيعة - الحر العاملي: ج16، ب5، ص138، نقلاً عن عيون الأخبار والعلل للشيخ الصدوق، ورجال الحديث أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني من مشايخ الصدوق قال عنه (ثقة ديناً فاضلاً) عن علي بن إبراهيم (ثقة) عن أبيه إبراهيم بن هاشم (مما لا شك في وثاقته) عن عبد السلام بن صالح الهروي أبي الصلت (ثقة).
(58) المزار - الشيخ محمد بن المشهدي: ص579.
(59) معاني الأخبار - الشيخ محمد بن علي بن الحسين الصدوق المتوفي 381هـ: ص346.
(60) كامل الزيارات - الشيخ جعفر بن محمد بن قولويه المتوفي 368هـ، ص135.
(61) المصدر السابق: ص136 وص134.
(62) الكافي - الشيخ محمد بن يعقوب الكليني: ج1، ص465.
(63) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال - الشيخ الصدوق: ص217.
(64) وسائل الشيعة - الحر العاملي: ج16، ب5، ص138، نقلاً عن عيون الأخبار والعلل للشيخ الصدوق، ورجال الحديث أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني من مشايخ الصدوق قال عنه (ثقة ديناً فاضلاً) عن علي بن إبراهيم (ثقة) عن أبيه إبراهيم بن هاشم (مما لا شك في وثاقته) عن عبد السلام بن صالح الهروي أبي الصلت (ثقة).
(65) المزار - الشيخ محمد بن المشهدي: ص579.
(66) كامل الزيارات - الشيخ جعفر بن محمد بن قولويه: ص329-330.
(67) نفس المصدر: ص330.
(68) مستدرك الوسائل - الشيخ النوري: ج10، ص413.
(69) عوالي اللآلئ - للشيخ ابن أبي جمهور الإحسائي: ج4، ص86.
(70) بحار الأنوار للشيخ المجلسي: ج44، ص383.
(71) المصدر السابق: ج44، ص329.
(72) كامل الزيارات للشيخ جعفر بن محمد بن قولويه: ص330.
(73) مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب: ص238.
(74) الإرشاد للشيخ المفيد: ج2، ص379.
(75) تفسير القمي لعلي بن إبراهيم القمي: ص87.
(76) المزار للشيخ محمد بن المشهدي: ص501.