(٧٢٨) مقارنة نوعية لموعود المسيحية مع موعود الشيعة
مقارنة نوعية لموعود المسيحية مع موعود الشيعة
موسى جوانشير
ترجمة: السيد جلال الموسوي
المقدمة:
إنَّ الاعتقاد بالموعود والإيمان بالمنجي، بمعنى المخلِّص الّذي تنتهي بظهوره معاناة البشرية من آلامها ومحنها، وتتبدل مظلوميتها واضطراباتها إلى بسط العدل والقسط والاستقرار والسعادة، لَهِيَ من المواضيع الّتي اتَّفقت عليها كلمة كلِّ الأديان الإلهية.
ففكرة النجاة، هي من أبرز وأهم هموم البشرية جمعاء، وخاصة البشرية في العصر الراهن، والتي طالما عانت الأمرَّين من الظلم والجَور ومصاعب الحياة، فضاقت بها ذرعاً، فطفقت تبحث هنا وهناك عن طريق الخلاص الذي يوصلها إلى غايتها المنشودة.
وقد تميز من بين الأديان الإبراهيمية، في الاهتمام الجادّ والبحث في هذا المجال، دينان بارزان هما الإسلام (الشيعة الإمامية الاثنا عشرية) والمسيحية (والتي ترتبط، بل تندكُّ في الديانة اليهودية التي كانت الحضن الذي نشأت فيه المسيحية وأخذت الكثير من تعاليمها منها، وإنْ كانت قد انفصلت واستقلَّت عنها تدريجياً فأخذت عنوانَ دين مستقل جديد)، وأتباع هاتين الديانتين أولَوا اهتماماً واضحاً وكبيراً لهذه المسألة، فأعلنوا آراءَهم الصريحة والشفافة حولها.
وسنحاول في هذا المقال، عقد مقارنة موضوعية نوعية بين المُنجي الموعود عند هاتين الديانتين، أي الإسلام (الشيعة) والمسيحية، وبيان ماهية ونوع المنجي، ليتسنّى لنا تبيين ماهية الموعود، ماهية الوعد، الرسالة المعنوية أو الاجتماعية، دور الموعود العالمي ومعرفته واطلاعه على أحوال العالم و.... ومن ثمَّ نحصل على الجواب الشافي والوافي على أسئلةٍ تَردُ إلى الذهن مُفادها: هل ينطبق المنجي الموعود المسيحي على المنجي الموعود عند الشيعة؟ وهل إنَّ الموعود المنجي واحدٌ أم متعدِّد؟ ومن هو المنجي الواقعيِّ؟
وهذا الأمر يفتح آفاقاً واسعة للحوار بين الإسلام والمسيحية، ومن شأنه أنْ يقرِّب بين أتباع الديانتين إلى حدٍّ بعيد.
نقول:
أولاً: خصوصيات الموعود المسيحي:
ألف: الميلاد الإعجازي:
في المصادر المسيحية: حملت السيدة مريم (عليها السلام)، أمُّ عيسى (عليه السلام)، الذي يعتبر الموعود المنجي عند النصارى، بلا واسطة الأب، وإنَّما حملت من روح القدس. أراد زوجها يوسف أن يهجرها، فأتاه مَلَك من ملائكة الله في عالم الرّؤيا وقال له: (يا يوصف بن داود، لا توجل من زوجك مريم، فانّ ما في بطنها من روح القدس، وإنّها ستلد غلاماً واسمه عيسى، وإنَّه سيخلص أمَّته من الذنوب)، فأفاق يوسف من النوم، وعمل بما قال له المَلَك، وأخذ زوجته، ولم يقربها حتى وضعت ولدها الأوّل وسمّته بـ(عيسى)(1).
وطبقاً لما جاء في المصادر الإسلامية، فإنَّ اليهود اتّهموا السيدة مريم (عليها السلام) وأشاعوا الافتراءات عليها حتّى وصل بهم الأمر إلى نسبة عدم العفاف إليها! وقد وصفهم القرآن الكريم بأنَّهم جاءوا ببهتان عظيم، وذمَّهم ذمّاً صريحاً بسب افتراءاتهم، فقال تعالى في كتابه الكريم:
﴿وَبِكُفْرِهِمْ وقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظيماً﴾ (النساء: 156).
ب: صَلْب عيسى (عليه السلام) وعروجه إلى السماء:
إن نظرة المسيحية في خصوص صلب عيسى (عليه السلام) تتفاوت عن وجهة نظر الإسلام. فقد أسهبت الأناجيل الأربعة في بيان قضية اعتقال عيسى (عليه السلام) وأسره وصلبه. فطبقاً لما قاله المسيحيون الأوائل، فإنَّ عيسى (عليه السلام) كان قد تنبّأ ليس فقط بقتله على يد المخالفين له، بل وأنَّه كان يعلم بمن سيخونه ويسعى في القبض عليه، ولذا فإنَّه (عليه السلام) قد عقد جلسةً مع حوارييه، وأكل معهم الوجبة الأخيرة في حياته، ليمهِّد للحواريين الاثني عشر مسألة مفارقته لهم. وبعد فترة وجيزة قام أحدُ تلامذته، واسمه يهودا الأسخريوطي بتسليم عيسى (عليه السلام) إلى مجموعة من مخالفيه الذين جاءوا بالعصي والسيوف للقبض عليه، وذلك في بستان اسمه (جثسيماني)، وكان رئيس الكهنة آنذاك هو الذي أرسلهم لهذه المأمورية.
ولمّا ألقوا القبض على عيسى (عليه السلام) اصطحبوه إلى مجمع الكهنة ومجلس شوراهم، فأجمعوا على الحكم عليه بالكفر، وقرروا معاقبته بالقتل. ثم أرسلوه إلى (پيلاطس الرومي) لينفذ فيه حكم الصلب.
ولم تمض من النهار إلّا ثلاث ساعات حتى أصعدوه على خشبة الصلب، في الوقت الذي اجتمع حول خشبة صلبه عدد من الناس وهم يهتفون بهتافات معادية لعيسى (عليه السلام)، بينما كان هو يدعو لهم بالمغفرة ويطلب من الأب أن يغفر لهم لأنَّهم يجهلون بما يقومون به(2).
وكان المسيح (عليه السلام) يقول بصوت عال: إلهي - إلهي! لماذا تركتني؟ حتى فارقت روحه الدنيا!
ويعتقد المسيحيون بأنَّ عيسى (عليه السلام) قد تحمَّل العذاب والصعاب من أجل أن يكفِّر عن ذنوب أبناء نوعه، فيرحمهم الربّ.
ويعتقدون أيضاً، بأنَّ أحد أعضاء شورى الكهنة، ومن المتنفذين في الحكم، قد أخذ جثمان عيسى النبي (عليه السلام) ودفنه في قبر جديد مصنوع من الصخور، كان قد أعدَّه لنفسه، لكي لا يبقى جسد عيسى (عليه السلام) على الصليب إلى يوم السبت.
وفي صبيحة اليوم الثالث، كانت عدَّة من النسوة من أقارب عيسى (عليه السلام) في طريق عودتهنَّ إلى الجليل، فمررْنَ بقبر عيسى (عليه السلام) لتجديد العهد به، ففوجئن بعدم وجوده في القبر، فدُهِشْنَ لذلك، وأردْنَ العودة، فظهر لهنَّ بعض الملائكة وقالوا لهنَّ: (إنَّ عيسى قد قام عن الأموات)(3).
وخلافاً للكتاب المقدس، فإنَّ المصادر الإسلامية تنفي قضية صلب السيد المسيح (عليه السلام)، بل وتصرِّح بأنَّ الله تعالى قد رفعه إليه، قال تعالى:
﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسيحَ عيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وما قَتَلُوهُ وما صَلَبُوهُ ولكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وإِنَّ الَّذينَ اخْتَلَفُوا فيهِ لَفي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وما قَتَلُوهُ يَقيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وكانَ اللهُ عَزيزاً حَكيماً﴾ (النساء: 157 و158).
ج: الألقاب والأسماء:
إنَّ الألقاب والأسماء التي أُطلقت على السيد المسيح (عليه السلام)، في الأناجيل والقرآن الكريم، عديدة، وكلُّ واحد منها يحكي عن جنبة من جنبات رسالته. وأهم تلك الأسماء والألقاب هو:
1. عيسى: في البدء كان المنجي الموعود عند المسيحيين يسمى بـ(يهوشاعا، يسوع)، وهي لفظة عبرية تعني (نجاة الله).
وقد أُبدلت هذه الكلمة بين الرومان واليونانيين إلى (يسوس) وهي التي صارت في العربية (عيسى)(4).
وقد فسَّر الإنجيل هذه اللفظة بمعنى (الله المنجي)، والذي يخلص أُمَّته من الذنوب والرذائل.
2. ابن الإنسان: لقد ورد هذا اللقب في العهد الجديد بما يقارب الثمانين مرَّة، والمقصود به السيد المسيح (عليه السلام).
وقد ورد في كتاب دانيال اسم (ابن الإنسان) وأنَّه الشخص الذي سيظهر في آخر زمان المحن والمصاعب، وأنَّ الله سيمنحه الحكومة والملك والقضاء بين الناس. ويعتقد المسيحيون بأنَّ عيسى (عليه السلام) هو الذي سيحقّق تلك الآمال ويتولى ذلك المقام(5).
3. ابن الله: وهذا اللقب في عرف المسيحيين، لا يراد منه الولادة الجسمانية لعيسى من الله، وإنَّما يراد منه الإيمان بالارتباط الوثيق والثابت بين عيسى وبين الله(6).
4. المسيح: يمكننا اعتبار أنَّ اسم (المسيح) هو الاسم الثاني لعيسى (عليه السلام)(7)، والإنجيل الرابع يذكر هذا الاسم مراراً وتكراراً، وهو مأخوذ من الكلمة العبرية (ماشياح) (مسياح) بمعنى (المدَّهَن). ففي الديانة اليهودية، يتم تدهين بعض الأشخاص الذين يُنتخبون لأداء مأمورية دينية مهمة، يدهن خاص، ولهذا السبب فإنَّ هؤلاء الأفراد يتميزون عن سائر الناس ويكون لهم صبغة دينية وقداسة واحترام(8).
وقد عبَّر القرآن الكريم عن عيسى (عليه السلام) بأسماء عديدة مثل: (المسيح)، (عبد الله)، (المبارك)، (كلمة الله)، وفي المصادر الروائية الإسلامية عُبِّر عنه أيضاً بـ(روح الله)، فهو لقب عيسى بن مريم (عليهما السلام).
ومن جملة ألقابه الأخرى (معلِّم الخير) و(روح الأمين) وقد وردا في الروايات أيضاً(9).
د: الخصائص الظاهرية:
لم تتعرض المصادر المسيحية لشخصية عيسى بن مريم (عليهما السلام) إلّا بإيجاز، فلم يرد ذكر خصوصياته ومميزاته الظاهرية إلّا الشيء القليل، ولكنَّنا ومن خلال اقتناص بعض هذه المميزات من بين صفحات الكتاب المقدس، نستطيع أن نصفه بهذه الصفات:
قال (جيمز هاكس) في قاموس الكتاب المقدس: إنَّ عيسى شخص معتدل القامة، ذو شعر أشقر مسرّح إلّا عند أذنيه حيث يظهر عليه التجعُّد واللمعان. وكان يفرق شعره من وسط رأسه إلى قسمين. له جبهة مستوية ناعمة، ليس في وجهه علامات فارقة، وكان لون وجهه مائلاً إلى الحمرة، وله لحية كاملة وتامّة بلون شعر رأسه. وكانت عيناه زرقاوتين برّاقتين، وله يدان تامّتا الخلقة جميلتان(10).
وفي المقابل، فإنَّ المصادر الإسلامية، وخاصّة روايات أهل البيت (عليهم السلام)، تعطينا معلومات مفيدة وهامّة في خصوص صفات السيد المسيح (عليه السلام)، نشير إلى بعضها:
لقد كان عيسى (عليه السلام) متوسط القامة، ذا بشرة بيضاء مائلة للحمرة، وله شعر مجعَّد، وقد وُلد - كما هو شأن بعض الأنبياء (عليهم السلام) - مختوناً. ولقد صار في الثالثة من عمره حجّة لله على عباده وعلى يحيى بن زكريا (عليهما السلام) أيضاً. وقد حصل على مقام الرسالة في السابعة من عمره، ولكنه أُمرَ بتبليغ هذه الرسالة إلى الناس في عمر الثلاثين حيث أعلن عن رسالته لبني إسرائيل. وقد أُوحي إليه في جبل ساعير، وكان عمره يوم رفعه الله إلى السماء ثلاثة وثلاثين سنة(11).
هـ: الخصائص الأخلاقية:
لقد كان عيسى بن مريم (عليه السلام) قليل الكلام، لم يرتكب صغيرة ولا كبيرة، ولم يترك الأوْلى(12).
ولقد كانت أُصولُ مبادئه وتعاليمه روحانية محضة، خلافاً لشريعة موسى (عليه السلام) التي كانت سياسية وروحانية في ذات الوقت. فلقد كان عيسى (عليه السلام) يمنع من المقارعة السياسية للحكومة وكان متنفراً من الحرب وإراقة الدماء والعنف، وقد كان يتنازل عن حقّه حقْناً للدماء ورغبة في إقرار الصلح والوئام والإصلاح(13).
وكان يوصي الآخرين بأن يكونوا كذلك.
كان عيسى (عليه السلام) مطيعاً للقوانين الحكومية ومخالفاً للنشاطات المسلحة المضادّة للدولة، ولكنّه مع ذلك كان شجاعاً(14)، حيث وقف بصراحة وصرامة في وجه رجال الدين الفاسدين في زمانه، وثار ضدَّهم(15).
كان عيسى بن مريم (عليه السلام)، متواضعاً جداً(16)، وفي العشاء الأخير الذي كان له مع حوارييه، قام بغسل أرجلِهم واحداً واحداً بيده المباركة.
لقد كان عيسى (عليه السلام) غيوراً جدّاً، مظلوماً، صابراً(17)، حليماً، حنوناً(18)، مطيعاً لله تعالى(19)، وكان مقرّاً بعبوديته لله تعالى(20).
مضافاً إلى ذلك، فإنَّ عيسى (عليه السلام) كان منطيقاً خطيباً، حذقاً، نبهاً سريع البديهة، وقد دلَّت على ذلك مضامين الأناجيل(21).
ولقد كان عيسى (عليه السلام) مضرباً للمثل في الزهد والورع وكثرة العبادة. صوّاماً، يلبس الخشن من اللباس، ويأكل خبز الشعير. وكان كلّما غابت الشمس، وأينما كان، يقف لأداء الصلاة والعبادة حتّى تشرق الشمس. كان يصل المحتاجين المعوزين، ولم يكن يدّخر طعاماً لنفسه أبداً، وكان يقول: إنَّ الذي أطعمني صباحاً سيطعمني مساءً. كان عيسى (عليه السلام) يفرُّ جدّاً من النساء ومعاشرتهن.
لقد كان عيسى (عليه السلام) يجمع بين البكاء والابتسامة، فتارة كانت الابتسامة على شفتيه، وتارة تجده باكياً. وكان يحج في شهر ذي الحجّة(22).
و: الدور والمقام:
في تصوّر المسيحية، هناك نوعان من النجاة، وتبعاً لهما يمكن تصور نوعين من (المنجي)(23)، وهما:
ألف- النجاة السيال، الشخصي:
وهذا الإدراك في النجاة لا يرتبط بالسيد المسيح (عليه السلام) بعد عروجه، بل هو مرتبط بحياته الشخصية الأولى، قبل عروجه ورفعه للسماء. فعيسى (عليه السلام) كان قد فدى نفسه من أجل إصلاح الناس باعتباره الرابط بين الله والناس، فهو (كبش الله الذي به يغفر ذنوب البشر)(24).
وعليه، فالنجاة هنا إنَّما هي بمعنى الخلاص من التقصير أو الذنوب، أو هي التحرّر من عواقبها في الدنيا وفي الآخرة.
وبناءً على ذلك، فإنَّ النجاة على يد عيسى (عليه السلام) سيال وغير منحصر بزمان دون زمان (متى ما آمن الإنسان بعيسى فإنَّه سينجو) وهو فردي ولا علاقة له بعلامات الساعة (لا ارتباط له بنهاية التاريخ).
فالأفضل، إخراج هذا النوع من النجاة عن مقولة مباحث الموعود والإيمان به.
ب - النجاة الجمعي العالمي:
وفي هذا التصور، فإنَّ عيسى (عليه السلام)، وفي رجعته إلى عالم الأرض، سيقوم بعمل جبّار عظيم، وهو تشكيل الحكومة العالمية، وإيصال الرسالة الإنجيلية إلى أسماع كلِّ العالم(25).
وفي هذا التصور والإدراك للنجاة، نحن نواجه منجياً عالمياً لا كبش فداء لأشخاص وأفراد معدودين مذنبين. فهذا النوع من النجاة، وبإجماع كلِّ المسيحيين، وهو تخليص عيسى (عليه السلام) لكل الناس ورفع الظلم والجور والتشرذم والتشتّت والاضطراب، وهو ما لا يتحقق إلّا في ظلِّ حكومة عادلة عالمية مركزية.
والنجاة بهذا المعنى، نجاة مؤقتة بزمان معين (يتحقق في وقت خاص استناداً إلى تنبؤات خاصّة)، ونجاة اجتماعية ومعنوية (يهتم بالجانب المعنويِّ كما يهتم بالجانب الدنيويِّ والرفاه الماديّ)، ونجاة عالميِّة (ذات رسالة عالمية ولا تنحصر بأُمَّة دون أُمّة)، مستقبليِّ.
ففي هذا النوع من النجاة، نحن نواجه منجياً، له أهدافٌ ساميةٌ كبيرةٌ كإقامة العدل ونشره وضبط الأمن والرفاه الاجتماعي، مضافاً إلى دوره في نشر الهداية المعنوية.
وهنا، وبالالتفات إلى التصوّرين المسيحيين السابقين عن المنجي، نريد أن ندرس دور عيسى (عليه السلام) ومهمته ومقامه طبقاً لما جاء في التراث الشيعي.
1. النبيّ: إنَّ الإسلام يعتبر عيسى المسيح (عليه السلام) نبياً من أنبياء الله، أي ذلك الشخص الذي جاء برسالة من السماء لأهل الأرض من البشر وأنَّه وقف بوجه انحرافات رجال الدّين اليهود، وحارب ظلم المحرومين(26).
وهو من أنبياء أولي العزم (عليهم السلام)، وله مقامُ العصمة، وكان عنده اسمان من أسماء الله العظمى. وكان كثير السياحة والسفر وكان يبلّغ رسالته عملياً بسلوكه(27).
2. المنجي: وقد ورد تسميته بهذا الاسم، ويعني أنَّ الله تعالى ينجي البشر على يديه(28).
3. صاحب معجزة: إنَّ الكتاب المقدس ينقل تقارير عن كرامات ومعجزات السيد المسيح (عليه السلام)، كشفاء المعتوهين(29) وشفاء الأصمِّ والأبكم(30)، والمشي على الماء(31)، وإحياء الموتى(32) وغير ذلك.
ولكنَّ الذي ورد في الروايات الإسلامية وآيات القرآن الكريم من معجزات عيسى (عليه السلام) هي أكثر وأهم من المعجزات الواردة في المصادر المسيحية، كتكلُّم عيسى (عليه السلام) في المهد بذلك الكلام الذي يتضمن مضامين عقائدية وأخلاقية عميقة وسامية، مضافاً إلى إخباراته بالمغيبات وبالمستقبل، والتي تعدُّ جميعها سنداً مهمّاً على حقانية عيسى (عليه السلام)(33)، و دعائه وطلبه إنزال مائدة من السماء وإجابة الله تعالى لطلبه(34)، وكذلك خلقه من الطين طيراً ونفخه فيه الحياة(35).
4. عيسى (عليه السلام) ومقام الألوهية: كلُّ الأناجيل تعتقد ببشرية عيسى (عليه السلام)، ولكنَّ إنجيل (يوحنّا) عبَّر عن عيسى بأنَّه (كلمة الله) التي صارت جسمانية. كما تعتقد الأناجيل بأنَّ عيسى (عليه السلام) قد حصل على الألوهية، وأنَّه أزليّ، ولهذا فإنَّه يفعل فعل الله، ويتكلم كلام الله. وتعريف عيسى (عليه السلام) بهذه الصفات، ابتدع في كتابات (پولس).
يعتقد (توماس ميشيل) في كتابه (الكلام المسيحي) أنَّ هذا اللقب عنوان فاعلية عيسى (عليه السلام)، ويقول:
إنَّ هذا اللقب يمنح لمن يمتلك القدرة والسلطة. وباعتقاد المسيحيين أنَّ الله تعالى عندما بعث عيسى (عليه السلام) ونشره من القبر بعد موته، أعطاه هذا اللقب. وهذا اللقب إشارة إلى أنَّ عيسى (عليه السلام) هو الوسيط الوحيد بين الله والبشرية.
ومضافاً إلى هذا، فإنَّ لقب (الرَّب) إشارة ودلالة على ما يعتقده المسيحيّون من أنَّ الله سيُظهر عيسى (عليه السلام) في آخر الزمان وأنَّه سيجلس على يمين الله ليقضي بين الناس(36).
ولكنَّ آيات القرآن المجيد، والروايات الإسلامية تنكر ألوهية عيسى (عليه السلام)، وتعتبره كسائر مخلوقات الله تعالى بشراً وعبداً من عباد الله تعالى(37).
5. المقرُّ لملكوت الله تعالى: إنَّ ملكوت الله تعالى في الحقيقة، هو تحقُّق الوعود الإلهية التي قطعها الله تعالى لداود (عليه السلام)، والتي تتضمن استقرار ملكه وسلطنته إلى الأبد، وأنَّ هذه الوعود ستتحقّق بمجيء عيسى (عليه السلام) ورجوعه إلى عالم الدنيا.
والمراد من ملكوت الله تعالى في هذه الوعود، مجموعة المبادئ المعنوية والاجتماعية التي سيحقّقها عملياً عيسى (عليه السلام)، من خلال تشكيل الحكومة الإلهية (ملكوت الله) في آخر الزمان(38). ولكنَّ نفس عيسى (عليه السلام) لم يدَّعِ مثل هذا الادّعاء.
6. المنجي العالمي: إنَّ عيسى (عليه السلام) ينكر نظرة اليهود الضيقة حول انحصار النجاة في قوم بني إسرائيل، فهو مُنجٍ عالمي لكلّ البشرية جمعاء، كما جاء ذلك في كتاب (التاريخ الجامع للأديان)، حيث يقول: جاء في إنجيل متّي:
(أقول لكم أنَّ أُناساً سيأتون من المشرق والمغرب، ويجلسون في ملكوت السماء مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولكنَّ أبناء الملكوت سيلقون إلى الخارج، وسيبقون في الظلمة الخارجية التي ليس فيها إلّا البكاء والشقاء). وعليه، فالملكوت الإلهي ليس محدوداً بحدٍّ ولا هو محصور بحصرٍ لعدةٍ من صالحي اليهود، وإنَّما هو دائرة أُخوّةٍ محيطها شامل لكلِّ أقوام العالم(39).
النتيجة:
طبقاً لما تقدَّم من البيان، يمكن القول بأنَّ الموعود المنجي المسيحي هو موعود معينٌ شخصي، أي لا يمكن لكلِّ أحدٍ أن يكون الموعود المسيحي، حتّى لو توفَّرت له الشروط والظروف. وذلك الموعود هو شخص بعينه بخصوصيات بشرية، وإن كان قد حصل على عدّة خصوصيات إلهية.
وبناءً على تقارير الأناجيل، فإنَّ الموعود المسيحي، سيرجع إلى العالم وحينئذٍ سيظهر قدراته إلى الفعلية. كما إنَّ ماهية النّجاة عند المسيح المنجي فردية تتحقق بصرف إيمان الأشخاص به (فهو في هذا المجال كما ذكرنا آنفاً ليس إلّا واسطة بين البشر وبين الله تعالى وليس منجياً عالمياً) وهي أيضاً نجاة جماعية شاملة لا تنحصر بنجاة قومٍ دون قوم، ولا منطقة دون منطقة.
إنَّ فعالية هذا المنجي الموعود، تشتمل على جنبة معنوية وجنبة اجتماعية، بمعنى أنَّه سيسعى لتحقيق الأوامر والفرامين الإلهية وينشر رسالة الإنجيل، ولكنّه لا يتحدَّد بهذا المقدار، وإنَّما سيتحرك في مجالات الحياة الأخرى وينشر الرفاه والعدل والاستقرار في كل بقاع العالم.
وإذا لاحظنا المستقبل، باعتبار تحقّق أو عدم تحقّق رجوع المنجي، أمكننا القول بأنَّ عيسى (عليه السلام) هو من موعودي المستقبل، ولذا فإنَّه برجوعه إلى الدنيا، ستتحقّق تغييرات عالمية، وتظهر بعض العلائم الطبيعية، فتكون حركته حركة عالمية.
ثانياً: موعود الشيعة:
1 - الولادة الإعجازية:
كانت ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ليلة الجمعة، في النصف من شعبان(40) في مدينة سامراء، عاصمة العباسيين، سنة (255هـ).
كان الاضطراب والتخوّف سائداً بين حكّام بني العبّاس الغاصبين للخلافة. فلقد كانت الأخبار الصادرة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في خصوص ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قد وصلت إلى أسماعهم، من أنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) سيولد له ابنٌ، سيقضُّ مضاجع الحكام الطغاة وينشر العدل والقسط في العالم أجمع.
وفي مثل هذه الأوضاع، كان الحاكم العباسي (المعتصم)، وهو ثامن ملوك بني العباس، الذي بدأت حكومته سنة (218هـ)، قد أصدر أمراً لتلافي ذلك، من خلال مراقبة النساء الحوامل في بيت الإمام (عليه السلام)، وقد أدّى هذا الأمر الجائر إلى مقتل عدّة نساءٍ بريئات. فقد كان هذا الحاكم الجائر يرسل القوابل إلى بيت الإمام العسكري (عليه السلام) للتجسّس على النساء الحوامل.
ومع اقتراب ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، والإحساس بالخطر من قبل حكام بني العباس، سعى المعتصم إلى معرفة موعد ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) للقبض عليه وتصفيته، ولكنَّ المشيئة الإلهية أقوى من طغيان الطغاة، حيث اقتضت إرادة الله تعالى أن يولد هذا المولود المبارك، فبقيت آثار حمل أُمّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، السيدة نرجس (عليها السلام)، خافية وبعيدة عن أعين الجواسيس، فنجى حجّة الحقّ من الأذى والقتل، وتشرّف العالم بقدومه المبارك رغم كل المحاولات الخبيثة.
2 - الآباء والنسب:
المهدي (عجَّل الله فرجه) ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، أُمُّه السيدة نرجس، وهي مليكا بنت يشوع ابن قيصر ملك الروم.
وهذه السيدة الجليلة من أولاد الحواريين، وتنتسب إلى شمعون الصفا، وصيّ السيد المسيح (عليه السلام)، والتي سمَّت نفسها نرجس حين أسرها من قبل جيش المسلمين لكي لا يُعرف أمرها(41).
وعندما حملت السيدة نرجس (عليها السلام) بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغشاها نور وجوده المقدس، سمّاها الإمام العسكري (عليه السلام) بـ(صقيل).
عندما وُلد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، سلَّم على أُمّه.
وعندما أخبرها الإمام العسكري (عليه السلام) بما سيجري عليهم بعد استشهاده طلبت منه أن يدعو الله لتكون وفاتها قبل وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، وقد كان كذلك، حيث رحلت هذه السيدة عن عالم الدنيا في حياة مولانا الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، ووضع على قبرها لوح كتب عليه: «هذا قبر اُمُّ م ح م د»(42).
3 - الأسماء والألقاب:
قد ورد في الروايات والأحاديث المهدوية، عددٌ من أسماء وألقاب إمام العصر (عجَّل الله فرجه). وكل واحد من هذه الأسماء والألقاب ينمُّ عن بعض صفاته وخصوصياته الواقعية وآثاره الوجودية (عجَّل الله فرجه).
وإليكم إشارة إلى بعض ذلك:
إنَّ اسم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): (م ح م د)، وقد ورد في بعض الروايات النهي عن تسميته باسمه(43).
وأشهر ألقابه (عجَّل الله فرجه) (المهدي)(44). ويمكن الإشارة إلى ألقابه الأخرى، مثل: (القائم)(45)، (بقية الله)(46)، (الحجّة)(47)، (صاحب الزمان)(48)، (المنتظر)(49)، (المنصور)(50)، (الغريم)(51).
4 - الخصائص الظاهرية:
من خلال ما جاء في الروايات، وبعض التشرُّفات المعتبرة ولقاء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، يظهر أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أشبه الناس بجدِّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنَّه عندما يظهر يبدو وكأنَّه ابنُ الأربعين عاماً. فهو شابٌّ جميل الوجه كأنَّ وجهه قرص القمر أو كأنَّه كوكب منير. ولون بشرته أبيض مائل للحمرة، على خدِّه الأيمن خالٌ أسود وعلى جبهته أثر السجود، ذو جبهة عالية وأنف دقيق وطويل.
حاجباه طويلان كالهلالين، طلعته منيرة وعيناه كبيرتان وبراقتان سوداوتان ثناياه مفلّجة، له جسم كأجسام رجال بني إسرائيل لكنه متوسط القامة، ذو منكبين عريضين قويين، وعريض الصدر، نحيف الساقين، على كفِّ يده اليمنى خال(52).
5 - الخصائص الأخلاقية:
إنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه)، كسائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، يمتاز بكمالات أخلاقية خاصة. إذ أنَّ المعصومين (عليهم السلام) هم الكُمَّل من البشر، أسوة وقدوة للبشر من جميع الجهات، فلابدَّ أن يكونوا واجدين لكلِّ الفضائل بأعلى درجاتها. فالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فيه كلُّ صفات أئمة الشيعة (عليهم السلام)، كالخوف من الله، والزهد في الحياة(53)، العلم، الصبر والحلم، والورع والتقوى، العفو، الشجاعة، وكثرة العبادة(54)، فهذه جميعاً من صفاته وأخلاقه (عجَّل الله فرجه)، كما جاء في الروايات.
كما إنَّ صاحب العصر والزمان (عجَّل الله فرجه)، له شبهٌ بكثير من الأنبياء الماضين (عليهم السلام) فهو شبيه رسول الله محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الاسم والكنية(55). ويشبه نبي الله يوسف (عليه السلام) وموسى (عليه السلام) في الغيبة. وله شبه بكثير من الأنبياء (عليهم السلام) في إراءة المعجزة والكرامة، كما أنَّه يشبه إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) في خفاء الولادة و... إلخ موارد الشبه بينه وبين الأنبياء (عليهم السلام).
6 - دوره ومقامه (المقام، المنزلة، العصمة، الإمامة و...):
وهنا نحاول دراسة دور ومقام المنجي عند الشيعة، من خلال ما تقدَّم من بيان، وما تمَّ تحقيقه.
إنَّ إمام العصر (عجَّل الله فرجه)، هو محور ومدار عالم الوجود. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «الأئمة من بعدي اثنا عشر، أوَّلُهم أنت يا علي، وآخرهم القائم الذي يفتح الله على يديه مشارق الأرض ومغاربها»(56).
واستناداً إلى هذا الحديث وأمثاله، فإنَّ الشيعة يعتقدون بأنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يتمتع بعدة مقامات، فهو فردٌ ممتاز لا يقاس به سائر أفراد المجتمع البشري.
لقد منح الله تعالى الإمام المعصوم قابلية التصرّف في عالم الوجود والتكوين، وأعطاه مقام هداية العالمين. فعالم الوجود لا يستقر لحظةً واحدة بدون وجود الإمام المعصوم (عليه السلام). وهو واسطة الفيوضات الإلهية للبشرية(57).
فالإمام (عليه السلام) هو علّة انسجام أجزاء عالم الوجود.
فلا يمكن تصوُّر وجود عالم بدون وجود الإمام (عليه السلام)، وقد تكون الرواية الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) ناظرة إلى هذا الموضوع. قال (عليه السلام): «لو بقيت الأرض بغير إمامٍ لساخت»(58).
باعتقاد الشيعة، فإنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، واجد لملكة العصمة، فهو مصونٌ من ارتكاب أيِّ ذنب وخطأ ببركة هذه العصمة التي يتمتع بها. فهو من عترة وأهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(59).
إنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، يتمتع بمقام عظيم عند الله تعالى وعند الأئمة المعصومين (عليهم السلام)(60).
ومن خلال ما جاءَنا في المصادر الشيعية المعتبرة، يمكننا الجزم بأنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وارثٌ لسُنن جميع الأنبياء (عليهم السلام)، إذ إنَّه وارث كلِّ الأنبياء (عليهم السلام). ففي الإمام القائم (عجَّل الله فرجه)، سُنّة من موسى ويوسف وعيسى (عليهم السلام) ومحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم). فسُنَّتهُ من موسى (عليه السلام) هو أنَّه خائف مترقب، وسُنّته من يوسف (عليه السلام) هو عدم معرفته، كما هو الحال في عدم معرفة إخوة يوسف له حينما كانوا يكلمونه في مصر، بعد أن كانوا قد باعوه بثمن بخس.
وسُنَّته من عيسى (عليه السلام) السياحة في الأرض.
وسنَّته من محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، السيف(61).
إنَّه الإمام الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً(62).
ومن جهة الماهية، فإنَّ المنجي الموعود عند الشيعة، شخصٌ معين بعينه ومتعين، وليس شعاراً غير متحقَّق الآن وسوف يتحقّق في المستقبل من الزمن، بل هو فردٌ معين من سابق الزمن.
وقد ورد في مضامين الروايات ذكرُ مواصفاته الشخصية بصراحة ووضوح، من قبيل الاسم واسم الأب وأسماء الآباء والأجداد، والملامح الشخصية و... إلخ.
وعليه، فليست القضية قضية كلية يمكن أن تنطبق على أكثر من فرد أقدم على جملة من الإصلاحات التي تصبُّ في قناة نجاة البشرية.
فالمنجي الموعود عند الشيعة، يكون تخليصه تخليصاً لكل البشرية وفي كلِّ الأرض. والشاهد على هذا المدّعى عبارة «يملأ الأرض..» التي وردت في الروايات الواردة في هذا المضمار(63).
والبرامج التي يعتمدها المنجي الموعود عند الشيعة، تُؤمِّن للبشرية السعادة الدنيوية، كما أنَّها ناظرةٌ إلى السعادة الأخروية أيضاً، ولذا فإنَّ مخططاته المنجية، مخططات اجتماعية وروحية في نفس الوقت. ففي ظلِّ حكومته العالمية، يعمُّ العالم الرفاه والأمن ويستتبع السعادة الدنيوية للبشرية، إلى جنب انتشار الدين التوحيديّ ومبادئ الإسلام في كلِّ بقاع المعمورة.
وقد ورد في الروايات أنَّ المنجي الموعود الشيعيَّ سيدعو الناس عامّة إلى كتاب الله المجيد وسُنّة النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وإذا ما جعلنا مسألة الانتماء إلى الماضي أو المستقبل مناطاً للوعد الموعود به، أمكننا القول بأنَّ المنجي الموعود الشيعي ينتمي إلى الماضي بلحاظ وإلى المستقبل بلحاظ آخر. فانتماؤه إلى الماضي إنَّما هو بلحاظ تجديده لشريعة جدِّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسُنته وإحياء دينه، وإن كان ما سيقوم به يفوق بكثير ما تقدم من إصلاحات في زمن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل هو أكبر بكثير مما قام به كلُّ الأنبياء (عليهم السلام)، فليس لدعوته وإصلاحاته نظير ومثيل في تاريخ البشرية. وأمّا انتماؤه إلى المستقبل وتعلُّقه به(64)، فهو باعتبار عدم تحقّق قضيته لحدِّ الآن، فهو من موعودي المستقبل.
وأمّا من جهة التأثير والتغيير، فإنَّ قضية المنجي الموعود كونية، إذ يظهر من ثنايا الروايات الواردة في قضية آخر الزمان، حصول متغيرات كونية كالوقائع والبلايا الطبيعية مما يغير وجه العالم(65).
ثالثاً: الاستنتاج:
ألف- أوجه الشبه:
استناداً إلى ما تقدم من المطالب، تتبين لنا أوجه الشبه بين الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والسيد المسيح (عليه السلام)، نشير إلى بعض تلك الأوجه:
1. إنَّ ولادة كلٍّ من السيد المسيح والإمام المهدي (عليهما السلام)، هي ولادة إعجازية وغير طبيعية، فولادة السيد المسيح (عليه السلام) من غير أب بعناية إلهية، وعدم ظهور آثار الحمل على أُمِّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كان بعناية إلهية أيضاً.
2. والسيد المسيح (عليه السلام)، والإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، كلاهما من نسل داود النبي (عليه السلام). فعيسى (عليه السلام) من أحفاد داود من جهة أُمّه مريم (عليها السلام).
والإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ينتسب إلى داود النبي (عليه السلام) من جهة أُمّه نرجس (عليها السلام) فهي من أحفاد داود البنات، فهي بنت يشوعا، ابن قيصر الروم ومن نسل داود النبي (عليه السلام)، وأُمُّها من أولاد أحد حوارييّ عيسى (عليه السلام)، واسمُه شمعون الصفا وهو وصيُّ عيسى المسيح (عليه السلام)(66).
وبذلك يمكن تفسير بشارة كتاب (أشعيا النبي) بأنَّها إشارة إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والسيد المسيح (عليه السلام)، حيث ورد فيه:
(وخرجت شجيرة من يسي (أبو داود)، وسيتفرع من جذوعها غصنٌ تحلُّ فيه روح الله، أي روح الحكمة والفهم، وروح المشورة والقوّة، وروح المعرفة والخوف من الله وسيحكم للمساكين بالعدل، وينتصر لمظلومي الأرض، وسيلجم العالم بعصا فمه ويقتل شرّيري العالم بنفخات شفتي فمه، وسيكون حزام ظهره العدل، وحزام وسطه الأمانة)(67).
3. في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سُنَّةٌ من عيسى (عليه السلام):
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الباب:
«أَمَّا غَيْبَةُ عِيسَى (عليه السلام) فَإِنَّ الْيَهُودَ والنَّصَارَى اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ قُتِلَ فَكَذَّبَهُمُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِقَوْلِهِ وما قَتَلُوهُ وما صَلَبُوهُ ولكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ كَذَلِكَ غَيْبَةُ القائم (عجَّل الله فرجه) فَإِنَّ الْأُمَّةَ سَتُنْكِرُهَا لِطُولِهَا فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ إِنَّهُ لَمْ يُولَدْ وقَائِلٍ يَفْتَرِي بِقَوْلِهِ إِنَّهُ وُلِدَ ومَاتَ وقَائِلٍ يَكْفُرُ بِقَوْلِهِ إِنَّ حَادِيَ عَشَرَنَا كَانَ عَقِيماً وقَائِلٍ يَمْرُقُ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ يَتَعَدَّى إلى ثَالِثَ عَشَرَ فَصَاعِداً وقَائِلٍ يَعْصِي اللهَ بِدَعْوَاهُ أَنَّ رُوحَ القائم (عجَّل الله فرجه) يَنْطِقُ فِي هَيْكَلِ غَيْرِه»(68).
4. عمر السيد المسيح (عليه السلام) طويلٌ، وبذلك يمكن تفسير طول عمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
5. إنَّ ألقاب كلٍّ من السيد المسيح والإمام المهدي (عليهما السلام) تشير إلى جهة من جهات رسالتهما في نجاة وخلاص العالم، وكلاهما له غيبة، وهدف كلٍّ منهما إجراء الأحكام الإلهية.
6. لقد منح الله تعالى كلّاً من السيد المسيح والإمام المهدي (عليهما السلام) الإذن في التصرُّف في النشأة الطبيعية، ولذا فإنَّ كلّاً منهما صاحب معاجز وكرامات.
7. إنَّ كِلا المنجيين الموعودين، شخصان متعينان، وأنَّ نوع تخليصهما للبشرية بنحوين؛ فردي واجتماعي وهي طريقة تخليص ونجاة شاملة وعالمية، وليست منحصرة في جغرافية محددة، أو مختصَّة بقومية دون أُخرى، وإنَّها بمنهج ومخطَّط عالميّ.
ب - التفاوتات:
إنَّ مقام الإمام أعلى وأفضل من مقام النبيِّ ولذا فإنَّ مقام الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو أعلى وأفضل من مقام عيسى (عليه السلام). يقول الإمام الباقر (عليه السلام) في هذا الشأن:
«... حتّى ينزل عيسى بن مريم من السماء ويقتل الله الدجّال على يديه ويصلح بهم رجل منّا أهل البيت. ألا ترى أنَّ عيسى يصلّي خلفنا وهو نبي، ألا ونحن أفضل منه»(69).
إنَّ المنجي الموعود عند المسيحية، هو من سيرجع إلى عالم الدنيا، وهذه المسألة صارت سبباً لاستدامة إيمان المسيحيين، بل وقد أثّرت على الكثير من آدابهم وطقوسهم، كما أنَّها أعطت معنى لبعض فقرات الكتاب المقدس، ولكننا مع ذلك نرى بأنَّ المسيح الذي ذهب إلى السماء لم يؤثر ذلك التأثير في المجتمع المسيحيِّ، ولا يرتبط المجتمع المسيحي به كثيراً. بعكس المنجي الموعود عند الشيعة فإنَّ المجتمع الشيعي لم يفقد الارتباط به حتّى عند غيبته، لأنَّه (عليه السلام) باعتقادهم يقوم الآن بأداء وظائف الإمامة الخطيرة.
فشعاع ودائرة عمل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الاجتماعي أوسع بكثير من شعاع ودائرة عمل السيد المسيح في الوقت الراهن، كما إنَّ إقدامات وبرامج موعود الشيعة أهم وأغنى من إقدامات المسيح (عليه السلام) مما يمكن معه القول بأنَّ مخطَّط الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مخطَّط عالميٌّ ينسجم مع فكرة الحكومة الإسلامية العالمية.
وفي مجال ارتباط الموعود المنجي بالماضي أو بالمستقبل نقول: إذا جعلنا عدم تحقُّق النجاة والخلاص الفعلي ملاكاً، فلابد من القول بأنَّ كلا الموعودين المنجيين هما من الموعودين ذوي النظرة المستقبلية، وأمّا إذا أخذنا محتوى الدعوة ملاكاً، فلابدَّ من القول بأنَّ منجي الشيعة يعدُّ موعوداً مرتبطاً بالماضي لأنَّه سيحيي دين جدِّه محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وبلحاظ آخر، هو موعود مستقبليٌّ، باعتبار ما سيقوم به من إنجازات لم تتحقق حتّى على يد جدِّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فضلاً عن تحقّقها على يد من سبقه من الأنبياء (عليهم السلام). وأمّا الموعود المنجي عند المسيحيين، فهو موعود مستقبلي محض.
ج - من هو المنجي الموعود؟
إلى هنا قمنا بتعريف كلٍّ من الموعودين المنجيين، من جهة الخصائص والخصوصيات الشخصية، والأدوار، وقمنا بمقارنة بينهما، ووصلنا إلى هذه النتيجة وهي: أنَّ المنجي الموعود عند المسيحيين، شخص باسم عيسى (عليه السلام) وهو ابن مريم (عليها السلام)، وهو من نسل داود النبيِّ (عليه السلام) من جهة أُمّه مريم (عليها السلام)، وأنَّ الله تعالى قد عرج به إلى السّماء وادّخره لآخر الزمان ليرجع بكل جلال وإعظام إلى الأرض ليقرَّ ملكوت الله تعالى في الأرض.
وأمّا المنجي الموعود عند الشيعة، فهو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، والذي يواطئِ اسمه اسم جدَّه الرسول الأعظم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويكنّى بكنيته، وهو ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وأُمُّهُ السيدة نرجس (عليها السلام) وهي من نسل داود النبي (عليه السلام)، وأنَّ هذا الإمام (عجَّل الله فرجه) قد غاب عن أعين عامّة الناس وهو في سنِّ الخامسة من عمره، وأنَّه سيظهر في آخر الزمان ويُنْصَر بالإمدادات الغيبية، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ويمحو الظلم والجور وينتقم من الظالمين.
وعليه، وبنظرة ابتدائية، يبدو أنَّ كلّاً من الدِّين المسيحيِّ والدِّين الإسلاميِّ (الشِّيعة) يعرَف منجياً موعوداً مستقلاً، فهل يمكننا تصور وجود منجيين اثنين في آخر الزمان، أحدهما المنجي الشيعي والآخر المنجي المسيحي؟ فإذا كان كذلك، فكيف سيكون تعامُل أحدهما مع الآخر؟ وعلى فرض صحة هذه الفرضية، هل سيصمد ويستمر العالم تحت ظل حكومتين ثنتين، ويرافق ذلك استتباب العدل والأمن والقسط في كلِّ العالم؟ أم أنَّ تلك المواصفات والخصائص لا تنطبق إلّا على موعود ومنجي واحدٍ فقط وهو المصداق الأوحد للمنجي الموعود عند الدِّيانتين، أي إنَّ الدِّين المسيحيَّ والدِّين الإسلاميَّ ناظران إلى شخص واحدٍ ومنجٍ فارد، ولكنَّ كلّ واحدٍ من الديانتين وصَفَه بوصف وشكل خاص؟ أم أنَّ هناك شقّاً ثالثاً في هذا الباب؟
وللحصول على إجابة واقعية صحيحة وصريحة، لابدَّ من تقديم عدَّة مقدمات:
إنَّ المسيحيين يعتقدون بأنَّ الموعود الذي وُعدوا به لم يأت بعدُ، وأنَّ زمان الخلاص ليس معيناً ومشخّصاً عندهم، ولكنَّه سيأتي على أيِّ حال، لقد تكررت عبارة (إنَّ عيسى سيعود) في الكتاب المقدس لأكثر من (300) مرّة(70).
ولقد اتّفقت كلمة المحقّقين على أنَّ عيسى (عليه السلام) لم يدّعِ بأنَّه المسيح(71)، أيْ أنَّه (عليه السلام) لم يدّعِ أنَّه هو المنجي الموعود، وإنما كان ذلك ادّعاء المسيحيين من أنصاره ومريديه، وأنَّه سيعود ويبعث من بين الأموات.
ولم يعرِّف أيُّ واحد من الأناجيل عيسى (عليه السلام) على أنَّه قائدٌ عظيم مقتدر، وهو من ينتظره اليهود من قديم الزمان، بل أنَّ عيسى (عليه السلام) لم يتحرك أبداً باتجاه تشكيل حكومة، ولم يرد في أيّ خطابٍ من خطاباته وكلماته ذكرٌ لأيِّ نظرية سياسية، أو حتّى منهج اجتماعي شاخص. إنَّ عيسى (عليه السلام) كان يدّعي بأنَّه جاء لتكميل شريعة موسى (عليه السلام). استناداً لرواية الأناجيل، فإنَّ عيسى (عليه السلام) لم يبنِ أبداً فرضية تخليصه للناس ونجاتهم على أساس تشكيل حكومة أو مؤسسة اجتماعية، ولذا لا يمكننا تكوين نظرية اجتماعية عملية واضحة من سيرته(72).
إنَّ آيات الأناجيل، المرتبطة بموضوع المنجي وآخر الزمان، تتحدث عن دخوله (عليه السلام) في حكومة الله أو دولة الله تعالى، وفي الكثير من نصوص الأناجيل، فإنَّ عيسى (عليه السلام) يستخدم مصطلح (دولة) أو (ملكوت أبي) بدلاً من مصطلح (حكومة).
ففي إنجيل متّي، جاء إنَّ عيسى (عليه السلام) قال لحوارييه:
ولكنّي أقول لكم، لن أشرب بعد اليوم عصير العنب، حتّى ذلك اليوم الذي نشربه أنا وأنتم طازجاً في ملكوت أبي(73).
هذا وإنَّ مما يلفت النظر، هو أنَّ بعض مقاطع عبارات الأناجيل تذكر أنَّ عيسى (عليه السلام) كان يذكر شخصاً باسم (ابن الإنسان)، وهذا لا ينطبق عليه، فمن الواضح أنَّ ذلك الشخص بما يمتلكه من خصائص ومميزات فريدة، يتمتع بمقام أعلى من مقام عيسى (عليه السلام).
وعليه، فالمقصود من (ابن الإنسان) ليس حضرة السيد المسيح (عليه السلام). وطبقاً لما ذكره (مستر هاكس)، الأمريكي الجنسية في (قاموس الكتاب المقدس)، فإنَّ عبارة (ابن الإنسان) قد وردت (80) مرّة في الإنجيل وملحقاته (العهد الجديد)، ينطبق (30) مورد منها فقط على عيسى المسيح(74)، وأمّا الخمسون مورداً الأخرى فهي تتحدث عن منجي يظهر في آخر الزمان ونهاية العالم، وأنَّ السيد المسيح سيكون معه ويعظّمه ويجلّه وأنَّ أحداً غير الله تبارك وتعالى لا يعلم بيوم وساعة ظهوره.
إنَّ عيسى (عليه السلام)، لم يدَّعِ أبداً أنَّه سيقيم حكم وسلطنة ابن الإنسان أو ملك المسيح، لأنّه يصرِّح بأنَّ هذا العالم ليس محل سلطاني وملكي، إذ لو كان ملكي في هذا العالم لحال خَدَمي بيني وبين تسليمي لليهود(75)، بل كان عيسى (عليه السلام) يعرِّف نفسه على أنَّه رسولٌ جاء من قبل الله ليبشر الناس بحكومة الله، تلك الحكومة التي يتولاها شخص آخر غير عيسى (عليه السلام). وكنموذج على هذا المدّعى، ما جاء في إنجيل مرقس حيث جاء فيه، بعد بيان حوادث آخر الزمان والبليات والمصائب، على لسان عيسى (عليه السلام)، قال: (... ثم يشاهدون ابن الإنسان الذي يأتي على الغيوم بكلِّ جلال وعظمة)(76).
وجاء في إنجيل لوقا: (شدّوا أحزمة أظهركم، وأبقوا السراجات متوقّدة، وكونوا كأولئك الذين ينظرون مولاهم ويترقبون عودته من العرش ليفتحوا له الباب حينما يعود ويطرقها. طوبى لأُولئك الغلمان الذين يجدهم سيدهم عند عودته مستيقظين... فكونوا على أهبة الاستعداد فإنَّ ابن الإنسان سيأتي في ساعةٍ لا تتوقعونها)(77).
وفي موضع آخر من هذا الإنجيل؛ يقول عيسى (عليه السلام):
(إذ إنَّ كلَّ من يستنكف منّي ومن كلامي، سيستنكف منه ابنُ الإنسان عندما يعود في جلاله وجلال الأب والملائكة المقدسين)(78).
فكما تلاحظون، فإنَّ عيسى (عليه السلام) يخبر عن مجيء شخص آخر باسم (ابن الإنسان).
وطبقاً لما جاء في الأناجيل، فإنَّ عيسى (عليه السلام) يعتبر أنَّ رسالته هي التبشير بملكوت الله تعالى.
فقد جاء في إنجيل لوقا: قال عيسى: (عليَّ أن أُبشِّر المُدن الأُخرى بملكوت الله، فإنّي إنَّما أُرسلت لهذا الأمر)(79).
وقد ورد في مصادرنا الإسلامية وروايات المعصومين (عليهم السلام) في خصوص عودة السيد المسيح (عليه السلام) ما يرفع كلَّ تلك الإبهامات الموجودة في هذه الأسئلة. نشير هنا إلى بعض ما جاء فيها:
إنَّ عيسى (عليه السلام) يميت البدَع، فقد رُوي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه أخبر عن نزول عيسى بن مريم (عليه السلام) وأنّه ليس بينه وبين نزوله نبيّ، وأنّه يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية وأنَّ الله تعالى يظهر الإسلام على كلِّ دين فلا يعبد الله في الأرض إلّا بدين الإسلام، وأنَّ عيسى يعيش أربعين سنة ثم يموت فيصلي المسلمون على جنازته(80).
فهذه الرواية تخبر عن نسخ المسيحية الحالية وآدابها ورسومها المنحرفة، وعن انتشار الإسلام في الأرض، وما وضع الجزية إلّا لأنَّ الجزية إنَّما هي على غير المسلمين، ولن يبقَ أحدٌ يدين بغير الإسلام، فلا معنى لبقاء حكم الجزية، وهذا يعني ضمناً أنَّ السيد المسيح (عليه السلام) يتحرك في ضمن تحقيق أهداف الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وإقامة الحكومة الإسلامية العالمية، وأنَّه ناصرٌ للإمام المهديِّ (عليهما السلام).
عيسى بن مريم (عليه السلام) وزيرٌ أمينٌ:
ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ عيسى بن مريم (عليهما السلام) يهبط من جسر أبيض بجنب دمشق، فيقول له المهدي (عجَّل الله فرجه) تقدم وصلِّ بنا، فيقول عيسى بن مريم (عليهما السلام) للمهدي (عجَّل الله فرجه): صلِّ بأصحابك، فأنا اليوم وزير لا أمير. فيصلّي المهديُّ بأصحابه(81).
وفي مقطع آخر حول صفات السيد المسيح (عليه السلام)، يقول: وهو [عيسى] الوزير الأيمن للقائم وحاجبه ونائبه(82).
عيسى (عليه السلام) قاض عادل:
يعتقد المسيحيون بأنَّ عيسى (عليه السلام) وعند عودته إلى الأرض، سيحكم بين الأخيار والأشرار. والمصادر الإسلامية تؤيد هذا المطلب، ففي الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابنُ مريم حَكماً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية»(83).
عيسى (عليه السلام) قاتل الدجّال:
قد جاء في الكتاب المقدَّس حول واقعة عظيمة وهي مجيء ابن الهلاك، فما لم تتحقَّق هذه الواقعة لن يرجع المسيح (عليه السلام)(84).
والأحاديث الإسلامية تؤيد هذا المطلب، وتخبر عن ظهور الدجّال في آخر الزمان، وله عينٌ واحدة مكتوب على جبهته: (كافر)، يدّعي الربوبية ويضلُّ خلقاً كثيراً(85).
وطبقاً للأحاديث الواردة، فإنَّ الدجّال كثير الفتن، وأنَّه سيقتل على يد السيد المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام).
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يقتل ابنُ مريم الدجّال بباب لُدّ» (مدينة بفلسطين)(86).
إنَّ المنجي الموعود عند المسيحيين، أي النبي عيسى (عليه السلام)، لم يدّعِ أنَّه المسيح المنجي، إذ لم يرد في كلامه أو في تقريرات الأناجيل ما يدلُّ على أنَّ تشكيل الحكومة العالمية سيكون على يد عيسى بن مريم (عليهما السلام)، بل ورد في كلامه (عليه السلام) أنَّ شخصاً ذا مقام أعلى من مقام عيسى (عليه السلام)، باسم ابن الإنسان هو الذي سيتولى ذلك، وهذه الشخصية لا تنطبق على عيسى (عليه السلام) في كلِّ موارد استعمال هذا الاسم.
والأهم من ذلك كلِّه هو أنَّ المصادر الإسلامية والشيعية قد ذكرت وظائف ومهامَّ المسيح (عليه السلام) في ظل دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ولذا يمكن الاستنتاج بأنَّ المنجي الموعود في كلا الدِّيانتين، أي المسيحية والإسلام، هو شخص واحد وهو الإمام الحجّة بن الحسن العسكري (عجَّل الله فرجه).
ولكنَّ الأمر الذي لا شك فيه هو أنَّ عيسى المسيح (عليه السلام) سيعود إلى عالم الدنيا وسيكون إلى جنب الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بعنوان الوزير، وهو الملازم الصادق والوفيّ للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، بل سيكون دور السيد المسيح (عليه السلام) في نشر وانتشار الإسلام وظهوره على الأديان، دوراً أساسياً مهمّاً ومؤثراً، وذلك لما يلي:
أولاً: إنَّ السيد المسيح والإمام المهدي (عليهما السلام)، لهما هدف مشترك وهو حاكمية الدّين الإلهيّ وإقرار العدل والقسط وإجراء الأوامر الإلهية، ونفس هذا الأمر يدعوهما إلى توحيد التخطيط والرؤية للأُمور.
ثانياً: إنَّ اقتداء السيد المسيح (عليه السلام) بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في الصلاة، دليل على قبوله للدِّين الإسلامي واِتّباعه لشريعة الإسلام، وبالنتيجة فكأنه يريد أن يعلن للمسيحيين الذين يدّعون ولاءهم وطاعتهم له، بأنَّكم إن كنتم صادقين في دعواكم، فعليكم اعتناق الإسلام.
وهذا الموقف من السيد المسيح (عليه السلام) من شأنه أن يساهم في التسريع للإيمان بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وبذلك يسرِّع في تحقُّق الوعد الإلهي.
ثالثاً: إنَّ العمر الطويل للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، سيصير سبباً في ضعف يقين بعض الناس وتماهلهم في نصرة الحقِّ واِتّباعه. كما أنَّ عدّةً من الناس ممَّن يحاولون التهرّب من المسؤولية لأيّ عذر وحجّة من أجل تبرير تمرّدهم على الأوامر الإلهية، سيجعلون طول العمر مبرِّراً لتخلّيهم عن الحقِّ، ولذا، فإنَّ رجوع السيد المسيح (عليه السلام)، يمكن أن يكون إتمام حجّة على كلِّ هؤلاء، إذ لا شك في أنَّ عمر السيد المسيح (عليه السلام) هو أطول من عمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وبذلك سيكون إذعانهم لقبول طول عمر الإمام (عجَّل الله فرجه) سهلاً، وسيسلّمون أمرهم لدساتير الإسلام وحكومة العدل المهدوي.
النتيجة:
يتبيّن من هذا البحث، أنَّه ليس عندنا إلّا مُنجٍ موعود واحد، وهو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي هو المنجي الموعود عند الشيعة، فهو بمواصفاته متعين ومتشخص، وأنَّ نوع تخليصه للعالم هو تخليص جماعي اجتماعي ومعنوي ذو أهداف عالمية. وهذا المنجي سيظهر في آخر الزمان، وبتشكيله للحكومة العالمية الشاملة، سيقوم بإجراء الأوامر الإلهية وسيكون عيسى بن مريم (عليهما السلام) بعد رجوعه إلى عالم الدنيا، في ركابه وملازماً وفياً صادقاً له، وسيؤدي دوره بعنوان الوزير في حكومة الإمام (عجَّل الله فرجه).
الهوامش:
(1) إنجيل متي 1: 52-81.
(2) إنجيل لوقا 32:43.
(3) جان باير ناس، 3831: ص 6-46.
(4) التوفيقي 4831: ص31.
(5) ميشيل 7731: ص96.
(6) ميشيل 7731: ص86.
(7) ميشيل 7731: ص7.
(8) زيبايي نژاد 2831: ص81.
(9) الحيدري الكاشاني، 8831: ص674.
(10) هاكس، 7731: ص708.
(11) زيبايي نژاد 2831: ص66-86-96.
(12) زيبايي نژاد 2831: ص66-96.
(13) إنجيل متّى 5:83.
(14) إنجيل متّى 12:21.
(15) إنجيل متّى 12:21.
(16) يوحنّا 31:4.
(17) متّى 11:92.
(18) متّى 51:9.
(19) متّى 10:15.
(20) سورة مريم 91، الآية 30.
(21) إنجيل لوقا: 20:20، إنجيل متّى 22:51.
(22) زيبايي نژاد، 2831: ص86.
(23) صادق نيا محراب: ص232-239.
(24) يوحنّا 1:29.
(25) تيليخ پل 1831: ص332.
(26) ميشل 7731: ص 17.
(27) زيبائي نژاد: ص66-69.
(28) نفس المصدر.
(29) لوقا 35:4.
(30) مرقس 35-7:32.
(31) متّى 25:14.
(32) لوقا 21:7-16.
(33) سورة مريم 30-33.
(34) سورة المائدة 5: 114-115.
(35) سورة آل عمران، الآية 49.
(36) ميشيل 1731: ص96.
(37) سورة مريم: 30.
(38) صادق نيا - المحراب: ص832.
(39) جان برناس: ص595.
(40) الشيخ الصدوق، كمال الدين، ج2، ص155.
(41) الشيخ الصدوق: ج2، ص231.
(42) الصدوق، كمال الدين، ج2، ص157-159.
(43) الشيخ الصدوق: ج1، ص 284، ج2، ص318.
(44) الشيخ الصدوق: ج1، ص103.
(45) الشيخ الصدوق: 2، ص495.
(46) الكليني: ج1، ص411.
(47) الكليني: ص328.
(48) الشيخ الصدوق: ج2، ص271.
(49) الشيخ الصدوق: ج2، ص342.
(50) الشيخ الصدوق: ج1، ص330.
(51) المفيد: ص354.
(52) الجعفري: جمال يار.
(53) النعماني: ص233.
(54) القندوزي: ص104.
(55) معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): ج1، ص49.
(56) معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): ج1، ص313.
(57) لطيفي: ص111.
(58) الكليني: ج1، ص252.
(59) مجموعة من الكتّاب: ج1، ص18 و511.
(60) الشيخ الصدوق: ج2، ص473؛ النعماني: ص643.
(61) الشيخ الصدوق: ج1، ص56 و303.
(62) الشيخ الصدوق: ج1، ص535.
(63) معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
(64) محمدي مظفر: ص182.
(65) معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
(66) الشيخ الصدوق: ج2، ص731.
(67) أشعيا: 5-1: 11.
(68) الشيخ الصدوق: ج2، ص271.
(69) المجلسي: ج41، ص348 و349.
(70) الشاكري: ص18.
(71) ماري جوفيور: ص77.
(72) محراب صادق نيا: ص230.
(73) متّى 29:26.
(74) هاكس: ص912.
(75) يوحنّا 81:63.
(76) مرقس 26:13.
(77) إنجيل لوقا 53:21-40.
(78) إنجيل لوقا: 9:27.
(79) إنجيل لوقا: 43:4.
(80) معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): ج2، ص854.
(81) معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): ج2، ص324.
(82) معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): ج2، ص824.
(83) معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): ج2، ص804.
(84) دوم تسالونيكيان 3:2.
(85) معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): ج2، ص864.
(86) معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): ج2، ص964.