(٧٤٤) التقليد فوق الشبهات
التقليد فوق الشبهات
الشيخ سلمان السعدون
المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين .
وبعد...
فإن الأمم منذ القدم قد جرت في سلوكها على وجود المختصين للعلوم والأعمال المتداولة في عصرهم كالطبيب في الطبابة والمهندس في الهندسة والرياضيات والحداد في الحدادة والنجار في النجارة والمزارع في الزراعة واللغوي في اللغة والفيلسوف في الفلسفة والمعلم في طلب العلم وغيرها من العلوم والتخصصات العلمية والعملية .
وكما جرت سيرتهم عند مواجهة المشكلات في وضع الاحتمالات التي من خلالها يتم التيقن من حل المشكلة سواء بترجيح عمل على عمل آخر أو الجمع بين عملين وغيرها من الترجيحات حسب المعطيات التي بين أيديهم حتى يصلوا إلى الواقع العملي الذي تفرضه عليهم تلك الاحتمالات، فمثلاً لو أراد الإنسان أن يفسر أحد النصوص ولديه عدة معاني لمفردة من المفردات فيقوم بعزل المعاني التي لا تناسب السياق إلى أن يصل إلى المفردة التي تفسر ذلك النص حسب السياق الموجود، وكذا بالنسبة لبقية الأعمال والعلوم .
وكما جرت سيرة الأمم في طبيعتها للرجوع إلى المختص في حاجاتهم التي تعينهم في أمور دنياهم فلو كان هناك مريض بمرض يأتي الطبيب كي يشخص مرضه ويعالجه ولو أراد أن يصنع سيفاً يلجأ للحداد ولو أراد بناء بيتٍ لجأ للبنّاء ولو أراد أن يخيط ثوباً ذهب للخياط وهكذا في بقية أمورهم المعاشية.
وهذه السيرة لم تكن محصورة فقط في العلوم الدنيوية بل جرت في الأديان كذلك، فمن أقر بالله رباً وبمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) نبياً وأن هناك حساباً وعقاباً كان على شريعة الإسلام التي لا تخلو من تكاليف متوجهة للمسلمين من أتى بها برئت ذمته ومن لم يأت بها انشغلت ذمته، ولما كانت ذمته مشغولة لابد له من تفريغ ذمته من هذه التكاليف، فكيف تفرغ ذمة المكلف؟ هذا هو محور رسالتنا التي سنطرحها في هذا المقال الموجز.
وكان السبب الداعي إلى هذه الرسالة هو بعض الشبهات التي يلقيها بعض الشباب حول الرجوع للفقهاء في مسائل دينهم وبعض المسائل المتعلقة بالتقليد كالقول بأن التقليد يسلب الاختيار وغيره من الشبهات التي سوف نتناولها في رسالتنا.
وقد جعلت البحث في محاور أربعة:
١- قاعدة الاشتغال
٢- الاجتهاد
٣- الاحتياط
٤- التقليد
المحور الأول: قاعدة الاشتغال
قاعدة الاشتغال تعني أن العالِمَ باشتغال ذمته يقيناً يجب عليه إفراغ ذمته بشكل يقيني أيضاً، وهو مبدأ عقلاني يعترف به كل عقلاء العالم فمثلا لو كانت ذمة شخص (أ) مشغولة بمائة دينار لشخص (ب) وجب على (أ) إفراغ ذمته من المائة دينار وكذا الحال بالنسبة لسائر الأمور المعاشية فكل مسئول عن عمل ما لابد أن يؤدي واجباته تجاه ذلك العمل على أتم وجه حتى يفرغ ذمته المشغولة تجاه ذلك العمل فمن كانت عليه حقوق وواجبات لابد له من أدائها وإلا كان مقصراً يستحق العقوبة.
وهذه نتيجة طبيعية عقلانية لكل مؤمن بشريعة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) في كون ذمته مشغولة بتكاليف متوجهة إليه من الباري تعالى في الخطابات المولوية كخطاب (صَلِّ) إذا حان وقت الصلاة وخطاب (صُمْ) إذا دخل شهر رمضان وخطاب (حج) إن كان مستطيعاً وغيرها من الخطابات الإلهية، فلابد من المكلف إفراغ ذمته تجاه الله تعالى وتكاليفه المتوجهة إليه، فالاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، ولا يكون ذلك إلّا عن طرق ثلاثة محصورة عقلاً وهي: إما الاجتهاد أو الاحتياط أو التقليد.
المحور الثاني: الاجتهاد
الاجتهاد هو بذل الوسع والجهد في التخصص، وهي سيرة جارية في الأمم السابقة والحاضرة واللاحقة ولن تنفك عن البشرية حيث إنها غير متعقلة بعلم دون آخر ولا بحرفة دون أخرى ففي كل مجال من مجالات الحياة تجد ذلك المختص شاخصاً أمام الناس يرجعون إليه إذا احتاجوه، فالطبيب مجتهد في الطب يرجع الناس إليه في الطب والمهندس مجتهد في الهندسة يرجع الناس إليه في الهندسة والفلكي مجتهد في الفلك يرجع الناس إليه في الفلك والنجار مجتهد في النجارة يرجع الناس إليه في النجارة وهكذا في بقية المجالات العلمية والعملية.
هؤلاء المتخصصون والمجتهدون دائماً هم الفئة القليلة من الناس فلن تجد أغلب الناس أطباء والقليل هم المرضى ولن تجد الأكثرية هم المهندسون والقليل هم من غير المهندسين ولن تجد أغلب الناس حدادون والقلة من غير الحدادين ولن تجد غالبية الناس من الفلكيين، إنما أهل الاختصاص قلة بالنسبة لغيرهم من الناس فهل عدد الأساتذة في المدارس أكثر من عدد الطلاب؟ فهذا الأمر وجداني يعاينه كل عاقل على هذه المعمورة.
ومن بين هذه التخصصات الفقه والتفقه في الدين وبذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المقررة شأنه شأن تلك التخصصات الموجودة في هذا العالم فهل هو متيسر للجميع أم متيسر للبعض؟
فالإجابة التي يجيب عليها كل عاقل هي أن الاجتهاد والتفقه في الدين متيسر للبعض دون البعض الآخر وهذا ما تصدح به الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، فلذلك الاجتهاد والتفقه في الدين واجب كفائي يسقط عن البعض بقيام البعض الآخر به وإن لم يقم به أحد أثم الجميع، كما أنك تجد الفقهاء والمجتهدين قليلين شأنهم شأن بقية المتخصصين والمجتهدين في بقية التخصصات.
إرشاد أهل البيت (عليهم السلام):
قد حث أهل البيت (صلوات الله عليهم) أصحابهم وشيعتهم على التفقه في الدين، فعن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام. [المحاسن ج1: ص229/165]
وفي رواية أخرى تحث على التفقه في الدين، في وصية المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: تفقهوا في دين الله ولا تكونوا أعراباً فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزك له عملاً. [بحار الأنوار: ج1، ص209/18]
وفي رواية أخرى، عن سليمان بن خالد، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا. فقال: إن الحكمة المعرفة والتفقه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم، وما أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من فقيه. [تفسير العياشي: ج1، ص151، ح498]
ففي هذه الروايات إشارة على تحفيز أهل البيت (عليهم السلام) المؤمنين على طلب العلوم الشرعية والتفقه في دين الله أصولاً وفروعاً.
آليات وقواعد الاستنباط في تراث آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم):
ثمة شبهة تتداول بين بعض الشباب وهي أن آليات استنباط الأحكام الشرعية في الحوزات العلمية لم يضعها أهل البيت (عليهم السلام) ولكن المتتبع لما وصل إلينا من كلام آل محمد يجد الكثير من الشواهد على أنها منهم (صلوات الله وسلامه عليهم) واليك بعضاً منها:
عن الإمام الرضا (عليه السلام): علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع. [وسائل الشيعة: ج27، ص62/52]، فالتأصيل والتقعيد منهم صلوات الله عليهم والتفريع وانتزاع القواعد على الفقهاء العاملين.
وأمثلة ذلك كثيرة كما في علوم اللغة وفي علم الكلام والفقه وأصول الفقه والتفسير ومما يتوقف عليه عملية الاجتهاد والتفقه في الدين وسنعرض ما يدلل على هذا المعنى على سبيل المثال لا الحصر:
ففي اللغة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: تعلموا العربية فإنها كلام الله الذي تكلم به خلقه، (ونطقوا به الماضين) وبلغوا بالخواتيم. [وسائل الشيعة: ج5، ص84/1]
وفي علم الكلام ففي رواية طويلة نستقطع منها المطلب فقد قال الصادق (عليه السلام) لهشام بن الحكم: مثلك فليكلم الناس. [الكافي: ج1، ص168/4]
وفي علم الفقه قاعدة لا تعاد فعن أبي جعفر (عليه السلام): لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود ثم قال (عليه السلام): القراءة سنة والتشهد سنة والتكبير سنة ولا تنقض السنة الفريضة. [وسائل الشيعة: ج5، ص459/14]
وفي الفقه أيضاً قاعدتا الفراغ والتجاوز فعن أبي جعفر (عليه السلام): كل ما شككت فيه مما مضى فامضه كما هو. [وسائل الشيعة: ج8، ص237/3]
وفي التفسير عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إلّا تخبرني من أين علمت وقلت: إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك ثم قال: يا زرارة قال: رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ونزل به الكتاب من الله لأن الله (عزَّ وجل) يقول: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ فعرفنا أن الوجه كله ينبغي أن يغسل ثم قال: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ ثم فصل بين الكلام فقال: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ فعرفنا حين قال: ﴿بِرُءُوسِكُمْ﴾ إن المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه: فقال: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ فعرفنا حين وصلها بالرأس أن المسح على بعضها ثم فسر ذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) للناس فضيعوه ثم قال: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ فلما وضع الوضوء إن لم تجدوا الماء أثبت بعض الغسل مسحا لأنه قال: ﴿بِوُجُوهِكُمْ﴾ ثم وصل بها ﴿وَأَيْدِيكُم﴾ ثم قال: ﴿مِّنْهُ﴾ أي من ذلك التيمم لأنه علم أن ذلك أجمع لم يجر على الوجه لأنه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها، ثم قال: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم﴾ (في الدين) ﴿مِّنْ حَرَجٍ﴾ والحرج الضيق. [الكافي: ج3، ص29/4]
وفي علم الرجال فعن أبي جعفر (عليه السلام): لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها. [وسائل الشيعة: ج27، ص77/67]
وفي علم الدراية، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: حديث تدريه خير من ألف ترويه، ولا يكون الرجل منكم فقيها حتى يعرف معاريض كلامنا، وإن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً لنا من جميعها المخرج. [بحار الأنوار: ج2، ص182/5]
وفي علم أصول الفقه قاعدة الاستصحاب: (وروي عن إسحاق بن عمار أنه قال: قال لي أبو الحسن الأول (عليه السلام): إذا شككت فابن على اليقين. قال: قلت: هذا أصل؟ قال: نعم. [الفقيه ط جديد: ج1، 351، ح1025]
فهذه نبذة مختصرة وأمثلة بسيطة عن بعض القواعد والأصول والآليات التي ألقاها وأصّلَها المعصومون (صلوات الله عليهم)، وفرّع عليها فقهاؤنا العلوم الشرعية، كما أن هناك مصنفات للأعلام منها: الأصول الأصلية وتأسيس الشيعة لعلوم الإسلام وغيرها من التصانيف التي فيها الكفاية وزيادة على ما أوردناه.
المحور الثالث: الاحتياط
الاحتياط هو الإتيان بالاحتمالات التي يتيقن معها الإنسان من إصابة الواقع، وقد جرت عليه سيرة الأمم السالفة في شتى المجالات، كما لو أراد الإنسان أن يشخص مرضه ولنفرض أن لديه ألماً في بطنه فإنه يعمل على وضع بعض الاحتمالات قبل مراجعته للطبيب باستعمال بعض الأعشاب وغيرها من الأعمال كتدفئة البطن حتى يزيل هذا الألم أو أن يترك بعض المأكولات التي تجلب آلام البطن والمعدة.
أو حينما يكون الإنسان على رأس عمله وصادفته بعض المشكلات مثلا: التأخير في إنجاز الأعمال فيضع بعض الاحتمالات مثل كثرة المعاملات أو قلة عدد الموظفين أو طول الدورة المستندية لهذه الأعمال فيعمل على زيادة عدد الموظفين وتقصير الدورة المستندية ويبدأ بالأهم ومن ثم المهم حتى يصل إلى مرحلة الإنجاز السريع للأعمال.
وكذا الحال في التكاليف الشرعية فالمكلف يعمل بالاحتياط حتى يتقين معه إفراغ ذمته من التكاليف الشرعية المتوجهة إليه والاحتياط بالنسبة للمكلف على أربعة أقسام:
أولاً: أن يكون الاحتياط بالإتيان بالعمل.
ثانياً: أن يكون الاحتياط بترك العمل.
ثالثاً: أن يكون الاحتياط بالجمع بين عملين.
رابعاً: أن يكون الاحتياط بترك العملين.
فمتى يكون الاحتياط بالإتيان بالعمل؟ حينما يحتمل المكلف وجوب العمل ويعلم بعدم حرمته فهنا مقتضى الاحتياط أن يأتي بالعمل، كما لو أنه احتمل وجوب صلاة الليل ويعلم بعدم حرمتها فمقتضى الاحتياط الإتيان بصلاة الليل.
ومتى يكون الاحتياط بترك العمل؟ حينما يحتمل حرمة العمل ويعلم أنه ليس واجباً فمقتضى الاحتياط ترك العمل، كما لو أنه احتمل حرمة السماع للموسيقى ويعلم أن سماعها ليس واجباً فمقتضى الاحتياط هنا ترك سماع الموسيقى.
ومتى يكون الاحتياط بالجمع بين العملين؟ حينما يعلم إجمالاً أن أحد العملين قد وجب في حقه ولا يعلم أيهما الذي وجب عليه فمقتضى الاحتياط الجمع بينهما، كما لو شك المكلف في أنه قد قطع المسافة الشرعية وحلّ عليه وقت الصلاة الرباعية ولكنه لا يعلم هل يقصّر الصلاة أو يتمها حيث إنه شاك في قطع المسافة فمقتضى الاحتياط هنا أن يصليها تارة قصراً وتارة تماماً حتى يفرغ ذمته من الواقع المجهول.
ومتى يكون الاحتياط في ترك العملين معاً؟ حينما يعلم إجمالاً أن أحد العملين محرم عليه ولا يعلم أيهما المحرم عليه فمقتضى الاحتياط ترك العملين، كما لو شك في أن الماء أو الإنائين أحدهما مغصوب فمقتضى الاحتياط ترك التصرف فيهما.
ولابد من الإشارة إلى أن الاحتياط غالباً ما يتعذر على عامة الناس لعدم معرفتهم بموارد الاحتياط كما لو علم المكلف أن الفقهاء اختلفوا في جواز الوضوء والغسل بالماء المستخدم في رفع الجنابة فمقتضى الاحتياط عدم استخدام الماء المستعمل في رفع الجنابة وتركه إلّا إذا لم يكن عند المكلف سوى هذا الماء المستعمل فمقتضى الاحتياط هنا الوضوء أو الغسل بهذا الماء المستخدم في رفع الجنابة.
كما أن الاحتياط قد يعارض الاحتياط من جهة ما، فلا يكون للمكلف إلّا الاجتهاد الذي مر بيانه أو التقليد كي يفرغ ذمته، كما لو كان مقتضى الاحتياط الإتيان بالتسبيحات الأربع ثلاث مرات في الصلاة الرباعية أو الثلاثية لكن إذا ضاق الوقت عليه أو طرأ عليه طارئ فلا يفرغ ذمته سوى الاجتهاد أو التقليد.
وحيث إن المكلف باختياره لهذا الطريق يكون على يقين من إفراغ ذمته فلا شك في حسنه عقلاً بل واستحبابه شرعاً، حيث إنه قد تواترت الروايات في كون الاحتياط هو سبيل النجاة ومما يدل على ذلك ما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) يقول: إن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) قال لكميل بن زياد فيما قال: يا كميل أخوك دينك، فاحتط لدينك بما شئت. [أمالي المفيد: ص283]
وما رواه الشهيد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث طويل قال فيه: وخذ بالاحتياط لدينك في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا. [الحدائق الناضرة :ج1 ص72]
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): لك أن تنظر الحزم، وتأخذ بالحائطة لدينك. [وسائل الشيعة: ج27 ص154/65]
ونكتفي بهذا القدر حتى لا يطول بنا المقام.
المحور الرابع: التقليد
التقليد هو رجوع الجاهل للعالم وللمختص في المجال الذي يفتقر إليه وهذا ما جرت عليه سيرة العقلاء على مر الأزمنة حيث إن كل فرد من البشر يطبقها في حياته، فالمريض يرجع إلى الطبيب ومن يجهل الزراعة يرجع للمزارع ومن يجهل معاني الألفاظ يرجع لقواميس اللغة والمختصين بها ومن يجهل في البناء يرجع للمعماري وهكذا في بقية وسائر المجالات العلمية والعملية فالإنسان لابد له من الرجوع للمختص حتى يفتيه بحسب اختصاصه.
فطبيعة الإنسان هي الاحتياج لغيره في قضاء حوائجه ومسائله ومن هذه المجالات التي يحتاج إليها الإنسان التفقه في الدين، ولذلك من تعسر عليه طلب التفقه في الدين وتعذر عليه الاحتياط لابد له من أن يقلّد العالم المأمون دينه لمعرفة أحكامه الشرعية.
وهذا هو الطريق الأخير من طرق استفراغ الذمة هو ما عليه عامة الناس وهو ما جرت عليه سيرة العقلاء من رجوع الجاهل للعالم وقد أرشد الشارع المقدس إلى هذا الطريق في كثير من المواضع منها آية النفر آنفة الذكر، حيث إن من تفقه في الدين يرجع لينذر قومه والقوم هاهنا ليسوا سوى مقلدين لمن تكبدوا عناء التفقه في الدين وليس مرادنا من التقليد سوى ذلك، فحينما كان التفقه في الدين ليس متاحاً للجميع وكذلك الاحتياط غير متاح للجميع، يبقى الطريق الشائع بين عامة الناس وهو التقليد.
إرشاد أهل البيت (عليهم السلام):
ففي وصية طويلة للإمام الصادق (عليه السلام) نستشهد بموضع الشاهد فيها: فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم. [وسائل الشيعة: ج27، ص124/20]
فهنا الرواية أعطت أوصاف الفقيه الذي يمكننا أن نرجع إليه لا كل فقيه اتفق نستفتيه، فلذلك الوجوب هنا تخييري فللعامي أن يحتاط أو أن يلتحق بركب طلب العلم ليتفقه في الدين أو أن يقلد من كانت هذه مواصفاته، وكما أن الرواية ناظرة لوجوب رجوع الجاهل للعالم كما هي سيرة العقلاء وهذا الوجوب تخييري، وتدل الرواية أيضاً على أن الفقهاء قلة وليس كل الناس متفقهين كما في بقية التخصصات العلمية والعملية وكما يدل عليه الوجدان على ذلك.
فعن علي بن المسيب الهمداني قال: قلت للرضا (عليه السلام): شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا، قال علي بن المسيب: فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم، فسألته عما احتجت إليه. [وسائل الشيعة: ج18، ص98/27]
فالإمام (عليه السلام) أرجعه إلى العالم بمعالم الدين وهو زكريا ابن آدم فرجوع عامة الناس لمعرفة معالم دينهم من الفقهاء المأمونين على الدين والدنيا أمر بديهي أرشد إليه الشارع وأرشدت إليه السنة المطهرة وجرت عليه سيرة العقلاء من سالف العصور إلى يومنا هذا.
ونختم هذا المحور بترجمة أبان بن تغلب كما في الفهرست: وقال له أبو جعفر الباقر (عليه السلام): اجلس في مسجد المدينة وافت الناس، فإني أحب أن يُرى في شيعتي مثلك. [فهرست الشيخ الطوسي: ص57]، ففي هذه الرواية دلالة كافية لمن له أدنى تأمل على رجوع الشيعة للعالم المتفقه في الدين، فالمؤمن مخير بين أن يكون مجتهداً أو محتاطاً أو مقلداً حتى يفرغ ذمته من التكاليف الإلهية المتوجهة إليه.
خاتمة:
نحن نعلم أن لكل فعل حكماً شرعياً من الأحكام الخمسة، فلابد من تحصيل الحجة على ذلك الفعل فإما أن نجتهد أو نحتاط بين الأقوال أو نقلد، أما الإقدام على الفعل من دون علم فهو عمل بغير علم وهو إفتاء من دون علم، وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح. [الكافي: ج1، ص43/3] وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه. [الكافي: ج1، ص42/3]
لذلك عمل غير المجتهد من دون احتياط أو تقليد باطل فهومن باب العمل والإفتاء من دون علم حتى وإن كان لنفسه ناهيك أن يفتي لغيره، فنحن في أمور الدنيا لا يمكننا أن نقول بما لا نعلم فكيف بأمور الدين؟ فالإنسان لابد أن يتحرز لأمور معاده كما يتحرز لأمور معاشه فحينما تجد سيرة البشر على مر العصور حالهم بين اجتهاد واحتياط وتقليد فتعتبر هذه من السنن الكونية التي لن تنفك عنهم فالشبهات المطروحة إنما هي شبهات في مقابل البديهة التي لا يختلف عليها العقلاء.
هذا والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبيه وآله الطيبين الطاهرين.