(٧٧٢) المهدوية برؤية حضارية فلسفة الخلاص نموذجاً
المهدوية برؤية حضارية فلسفة الخلاص نموذجاً
مجتبى السادة
إن الإنسان يتوق منذ القدم للبحث عن الأمن والسلام والفضيلة والرخاء، هذا ما تشهد له مختلف الأديان السماوية والفلسفات البشرية والتي تركز جهودها للبحث عن الخلاص، وعن السبيل التي تؤمن الحصول عليه، والذي يعني كمفهوم عام: تخليص أو إنقاذ البشرية بصورة أساسية من الظروف السلبية أو المعاناة إلى وضع أو حالة أرقى وأعلى يملؤها الرخاء والفضيلة.. والخلاص بشكله النهائي يكمن في إحلال الخير والعدل والإيمان بدلاً من الشر والظلم والإلحاد، ويشير ضمناً وبصورة منطقية إلى عصر ذهبي ومثالي يحفه الكمال المعنوي والتقدم المادي ويشمل البشرية كافة.
إن فكرة الخلاص في الأساس رؤية إنسانية عميقة، أشارت إليها جميع الديانات السماوية، وحثت عليها المبادئ العقلية والمنطقية للأفراد، ومالت إليها الفطرة الطبيعية للبشر، وهي في جوهرها تتعلق بقضية القلق الإنساني العميق حول الظلم والحروب والقتل والفساد، ووضع الإنسانية المريع، والبحث عن الخلاص والإنقاذ منه.. من المهم ايضاح معنى الخلاص والفلسفة القائمة عليه، وقبل ذلك إيجاد أجوبة منطقية مقنعة لأسئلة عديدة تتعلق برؤية كل حضارة أو أمة أو شعب لمفهوم الخلاص.
من الصعب الاعتقاد بأن الجميع على درجة من الاتفاق في رؤيتهم للخلاص، بل إن إتباع أديان سماوية كبرى وحضارات متنوعة تحمل مواقع متناقضة ورؤى متفاوتة طبقاً لشكل الخلاص وتصوره لديهم.. لقد أصبح الخلاص (كأمنية) مفهوم إنساني شامل، وقاسماً مشتركاً بين الأديان والفلسفات لمشروع آخر الزمان (نهاية التاريخ)، وهي خلاصة وجود البشرية على الأرض، وهي التي تحقق آمال وطموحات الأنبياء.. وهنا نتساءل حول هذه الفكرة الإلهية العقلية الفطرية: ما هي رؤية إتباع الأديان السماوية الرئيسية لها؟ وعلى يد من ينجز هذا الخلاص؟ وكيفية تطبيقه؟.
الخلاص عند اليهود:
إن فكرة المخلص برزت في الفكر اليهودي كخطوة ناشئة عن خطوات وعوامل سبقتها، وأهم تلك العوامل هي الاعتقاد بأن الشعب اليهودي أرقى الجنس البشري، وشعب مميز اختاره الرب ليكون شعبه المقدس.. لقد بدأت فكرة الخلاص اليهودي في الأصل بناءاً على ما أصاب اليهود من نكسات وهزائم وإذلال وشتات لفترة طويلة،(1) بدءاً بالآشوريين فالبابليين فالفرس فالإغريق ثم في النهاية الرومان، الأمر الذي جعلهم يتمنون أن يرسل الله إليهم مخلصاً ينقذهم من أيدي الأعداء، ويعيد إليهم ملكهم (مملكة داود وعرش سليمان) وبنحو مثالي وكامل، ويسيطرون على كل شعوب العالم.
وهكذا أصبح الخلاص اليهودي يقوم على أساس أن هناك مخلصاً منتظراً سيأتي لينتشلهم من الوهدة السياسية، وفي مفهومهم واعتقادهم فإن المخلص هو قائداً عسكرياً أو ملكاً مميزاً، ويجب أن يكون إنساناً ومولوداً بطريقة طبيعية، ولم يفكروا بأن المخلص كائن سماوي أو قادم من عالم آخر، بل الأمر المهم لكل اليهود أن يكون من نسل وسلالة داود (عليه السلام)، وان يحررهم من الاستعباد ويجلس على كرسي أبيه.
إن التاريخ اليهودي يثبت أن الشعب اليهودي على عكس الشعوب القديمة والحضارات الأخرى التي كانت تصنع عصرها الذهبي في الماضي المتوغل في القدم، ولذا كان اليهود ينتظرون المخلص في المستقبل في آخر الزمان ينشئ لهم دولتهم الكبرى، ويعيد بناء هيكل سليمان، ويجعل العالم متملقاً إليهم، ويعيد قضيب الملك إلى بني إسرائيل، فتخدمهم الشعوب وتخضع لهم الممالك.. ففكرة الخلاص والمخلص في نظرهم فصلت خصيصاً بمقاييس الشعب اليهودي، ولذا رفض اليهود الدعوة الجديدة (النبي عيسى (عليه السلام)) حيث تعارضت تماماً مع آمالهم وأحلامهم: فلم تحقق لهم الملك المادي الذي كانوا يحلمون به، وثانياً لم يخلصهم من الاحتلال الروماني والذل والاستعباد وغير ذلك، ومن أجل هذا ومطالب أخرى دخل اليهود في صراع مع عيسى (عليه السلام).
المسيح المنتظر أو المخلص عند اليهود ستكون مهمته الرئيسية مركزة على رفع شأن اليهود، ومن ثم يحكم العالم بشريعة النبي موسى (عليه السلام)، فيتحقق مجد بني إسرائيل، ويكون هو ملكاً عليهم، ويبلغ سلطانه البر والبحر، ويجعل من الأقلية اليهودية النخبة التي ترث العالم وتسوده وتحكمه.. ويعتقدون كذلك أن المخلص عندما يخرج يجمع شمل اليهود من كل أنحاء العالم، ويكوّن منهم جيشاً عظيماً، ويكون اجتماعهم في القدس، وهذا الاجتماع ليس مقصوراً على الأحياء فقط، بل حتى الأموات من اليهود يحييهم الله ويخرجهم من قبورهم لينضموا إلى جيش اليهود الذي يقوده المسيح،(2) وسيقتل ثلثي أهل الأرض(3) في معركة شهيرة (هرمجدون)، وبعد ذلك يقوم بجمع الأمم الأخرى الذين ظلموا اليهود ويحاكمهم ويقتص منهم، وكذلك تتغير أجسام اليهود (تصل قامة اليهودي في ذلك الوقت إلى مائتي ذراع)، وتطول أعمارهم (يعمر اليهودي قروناً كثيرة)، والطفل يموت في سن المئة.
ويمكننا تلخيص أطروحة الخلاص عند اليهود ونوجزها في النقاط التالية:
1- فكرة الخلاص تقتصر على الشعب اليهودي فقط، أي على العصبية القومية.
2- قام الخلاص أساساً لينقذ اليهود من الوهدة السياسية.
3- رفع شأن اليهود كأسياد للعالم، وأن الشعوب والممالك الأخرى تخدمهم.
4- نشر الشريعة الدينية (اليهودية) التي أسسها النبي موسى (عليه السلام).
5- يجب أن يكون هذا المخلص (الملك أو القائد) من نسل داود (عليه السلام).
6- إقامة دولة الله في الأرض ويكون سادتها اليهود، من الأحياء والأموات بعد رجعتهم.
7- استحقاق الخلاص: فعل إلهي محض، وما على الناس إلّا الانتظار.
الخلاص عند المسيحيين:
يعتقد المسيحيون أن غاية الديانة المسيحية خلاص الإنسان من سلطة الخطيئة، والتي تقوم على أساس أن آدم (عليه السلام) أخطأ (أكله من الشجرة في الجنة)، وانه بخطيئته بُعد عن الله سبحانه وتعالى وأحدث عداوة بينهما، ثم ان هذه الخطيئة -كما يدعون - لم تختص به وحده، بل انتقلت بالوراثة إلى جميع أبنائه (الجنس البشري) فجميعهم مخطئون بالطبيعة الموروثة من آدم، وهؤلاء (البشر) لا يستطيعون التخلص من هذه الخطيئة بأنفسهم، ولما كان الله متصف بالمحبة والرحمة، وهب المسيح (ابنه كما يعتقدون) ليصلب فداء عن البشرية، فالمسيح بموته على الصليب حل محل الإنسانية وحمل عقاب الخطيئة وهو الموت، وأعاد مصالحة الإنسان مع الله، ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل بعد دفنه قام من القبر بعد ثلاثة أيام.
يرون إن المخلص (المسيح) لابد وأن يتحمل الآلام ويصلب من أجل البشرية، ولكن هذه الآلام لم تعطي فائدتها إلّا بعد الانتصار على الألم والموت بعد الصلب.. القيام من الموت (قيامة المسيح) هي أساس عمل الخلاص، فعلى ضوء القيامة، قبل الرب الصليب، وقبل الرب الموت، فالقيامة هي جوهر الكفارة وهي شرط الفداء، وبهذا يكتمل عمل المسيح الكفاري وخلاص البشرية به.
بالتأكيد إن الخلاص المسيحي قائم على خطيئة آدم التي انتقلت بالوراثة إلى جميع الجنس البشري، وإن الطريق الوحيد للخلاص يتمثل في إن (ابن الله) نزل وتجسد في صورة بشرية (المسيح) – مشتركاً في اللاهوت والناسوت - ليصلب ويقتل ويتغلب على الموت فيقوم، وبهذا ينال الناس الخلاص.
وبعد أن تم ذلك، يعيش المسيحيون الانتظار لعودة المسيح الثانية في المستقبل، ويرتكز هذا الإيمان على الاعتقاد بأن الله كان قد أرسل المسيح لإنقاذ البشر، وقد رفضه اليهود في ذلك الوقت، وخطة الله تتضمن العودة الثانية للمسيح.. إن قيامة (المسيح) التي حدثت في الماضي، وعودته التي ستحدث في المستقبل (آخر الزمان)، لابد أن يكون لها هدف كبير وجليل يتناسب مع هذه العملية الربانية الفريدة، والتي تتلخص في إقامة حكم الله وملكوته في الأرض، عند نهاية الزمن، ونهاية العذاب الإنساني، ونهاية المخطط الإلهي على الأرض، فيملأها عدلاً وصلاحاً، وأن علامة نزوله اجتماع اليهود في آخر الزمان في أرض فلسطين، وبناء الهيكل.
هذه هي أصل فكرة وأطروحة ومفهوم المسيحيون للخلاص، ونوجزها في النقاط التالية:
1- فكرة الخلاص قائمة على أساس أن الإنسان متلبس بالخطيئة، ولن يخلصه منها إلّا الله.
2- لا يمكن للإنسان أن يقوم بالخلاص بنفسه، بل تحتاج البشرية إلى مساعدة قدسية وإلهية مباشرة.
3- الطريق الوحيد للخلاص يتمثل في إن (ابن الله) يتجسد ويدفع الفداء ويصلب من أجل التكفير عن خطايا البشر.
4- يجب أن يكون هذا المخلص مركباً من اللاهوتية (ابن الله) والناسوتية (ابن مريم العذراء).
5- انحصار خلاص الإنسان بإيمانه بالمسيح (الإنسان/الإله) واعتناقه تعاليم الكنيسة، لا خلاص خارج الكنيسة. (4)
6- المسيح سينزل مرة ثانية (آخر الزمان) ويقيم ملكوت الله في الأرض ويملأها عدلاً وصلاحاً لإسعاد البشرية.
7- استحقاق الخلاص: فعل إلهي محض (إعجازي)، ولا يتم إلّا عبر إرادة إلهية.
الخلاص عند المسلمين (المهدوية):
إن رؤية المسلمين للخلاص يتمثل في التخلص من نقص أساسي أو جوهري في الطبيعة الإنسانية أو التاريخ البشري أو كليهما معاً في الحياة الدنيا أو الآخرة، وهذا المفهوم يلبي الحاجات النفسية الفردية والجماعية باختلافها، ويشعر الأفراد والشعوب بوجود فرص جديدة لبناء مستقبل فردي أو جماعي مثالي، وهكذا يتمحور الخلاص الإسلامي في صعيدين:
على الصعيد الشخصي: أكد الإسلام أصالة المسئولية الفردية، فكل إنسان مسئول عن عمله، وهو قادر بعمله الصالح التقرب من الله تعالى، وتحقيق النجاة الأخروية والدنيوية معاً، وإن ارتكب خطيئة أو معصية فأن باب (التوبة) مفتوح في كل زمان ومكان، والله واسع المغفرة.
على صعيد الأمة أو البشرية: فإن البشارات القرآنية والنبوية تؤكد بأن البشرية مقبلة على عصر مشرق ونهاية سعيدة، على يد (المهدي المنتظر) الخليفة الثاني عشر للرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فيخلص البشرية من الظلم والجور وينشر التوحيد والعدل على كافة الأرض المعمورة.
ولذا يمكن تشبيه الخلاص الإسلامي بطائر يحلق بجناحين: أحدهما التوبة، والآخر المهدوية.
إن الخلاص الإسلامي للبشرية ككل وللتاريخ الإنساني اجمع يتمثل في (المهدوية)، والتي لا يمكن النظر أو التعامل معها كحالة مستقلة ومنعزلة عن مناخها الطبيعي، فلا يمكن انتزاعها من أرضية التعاليم الدينية.. فمن معتقد الإمامة والتي تتفرع من النبوّة تنطلق الإمامة الخاتمة، وعلى هذا المبدأ فالمهدوية كإمامة للزمان الحاضر تتمتع بموقع فذ ودور مميز داخل النظام الديني الإسلامي وهيكله العام.. إن النظر إلى المهدوية أو المخلص الإسلامي بهذه الرؤية يعتبر أهم ركن وعنصر من ركائزها الأساسية، والتي تلعب دوراً أساسياً في إبقاء الإسلام حياً متحركاً فاعلاً.
ومن منطلق إن النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء والرسل وأنه بعث للناس كافة، وإن الدين الإسلامي خاتم الأديان السماوية، ويبسط حاكميتّه على جميع شؤون البشر، فأن الحاجة ضرورية لوجود إمام هادي ومرشد في كل زمان (القائد الرباني للبشرية حالياً).. فكما كان الأسباط اثني عشر للنبي موسى (عليه السلام)، وسمي رُسل النبي عيسى (عليه السلام) الاثني عشر بالحواريين، كذلك هناك أثني عشر وصياً وخليفةً للنبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وآخرهم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) الذي هو الحجة في هذا الزمان.. فاللطف(5) من الله تام، ولكن النقص من الناس وخذلانهم، والذي أدى إلى غياب الإمام الأخير.
لا يمكن فهم الخلاص الإسلامي العام إلّا من خلال فهم الغيبة وموجباتها، ومدى تأثيرها في إيجاد محفزات لدى المجتمع الإنساني في السعي نحو الخلاص، فعندما يعرف الفرد أو المجتمع أسباب الغيبة ودوافعها، يدرك حينها مسؤوليته في تحقق هذه الغيبة واستمرارها، ويدرك أيضاً دوره في تحقق الخلاص.. لقد اقتضت الإرادة الإلهية والحكمة الربانية في ظل خذلان الناس وتقاعسهم، إن يغيب آخر إمام (المهدي المنتظر) عن الناس غيبة عنوان،(6) وان يطول عمره الشريف، بانتظار أن تتهيأ الظروف وأن تسنح الفرصة له للقيام بالحركة الإصلاحية الشاملة على مستوى العالم بأسره، وتنال البشرية الخلاص وتنال العدل الإلهي، ويتم بناء الدولة الفاضلة، وتحقيق حلم كل الأنبياء.
هذا هو مفهوم فكرة الخلاص وأطروحة المخلص الإسلامي بإيجاز، ونلخصها في النقاط التالية:
1- فكرة الخلاص قائمة على أساس إن الدين الإسلامي خاتم الأديان السماوية، وشريعته تبسط حاكميتّها على جميع البشر.
2- الخلاص الفردي: أصالة المسئولية الفردية لكل شخص، وإن باب التوبة مفتوح.
3- الخلاص العام: يهدف لإنقاذ الإنسانية وإصلاح البشرية كلها وليس محدد لطائفة أو جماعة معينة.
4- أن لا خلاص خارج فكرة المهدوية، يعني لا يمكن أن يتم خارج مبدأ الإمامة، التي هي استمرار للنبوة الخاتمة.
5- المخلص الموعود كفكرة تحولت من أمنية إلى واقع قائم، فشخصت الهوية وحددت الشخص، فهو (الإمام المهدي ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
6- إقامة الدولة الفاضلة آخر الزمان، وفيها تتوحد كل الأمم والشعوب تحت ظل سيادة واحدة، فتتحقق أحلام الإنسانية في حياة قائمة على العدل والمساواة.
7- استحقاق الخلاص: فعل بشري مبارك ومؤيد من الله سبحانه وتعالى، وللإنسان دور في تحققه.
ثمرة مفهوم وفلسفة الخلاص:
لقد أصبح مبحث الخلاص الذي يمس كل البشرية ومستقبل التاريخ الإنساني من المباحث المركزية في الفكر العالمي المعاصر وفي الدراسات الدينية، فتوالت الدراسات والبحوث المؤصلة لهذا المفهوم، وحددت الدوافع والأسباب لتبني هذه المواقف أو تلك الرؤى، وبالتأكيد فإن مفهوم الخلاص عند الحضارات وأتباع الديانات المختلفة تنطلق من رؤيتهم وفلسفتهم للحياة.
إننا نركز هنا على فهم الخلاص بالمعنى العام الشامل وليس حسب رؤية واحدة محددة، وليس كما يفهم عند اليهود بالخلاص من الوهدة السياسية، أو كما يعبر عنه في المسيحية بفكرة الخلاص من الخطيئة، أو كما ينظر إليه المسلمين عند الحديث عن المغفرة والتوبة.. ولكننا نتحدث عن الخلاص الشامل العام، الذي تطمح إليه الإنسانية وتتمناه كل البشرية، وهو الذي ينسجم مع الحاجات الفطرية للإنسان ويتلائم مع المبادئ العقلية السليمة ويعضده الإرشاد السماوي، فعندما تتظافر هذه المواصفات والمؤهلات في مفهوم الخلاص فإن البشرية تظل تبحث عنه وتنتظره لسنين وقرون عديدة.
بكل تأكيد إن الخلاص الذي يلبي مصالح فئة أو طائفة أو شريحة معينة من البشر (كاليهود مثلاً)، ويجعل الغالبية العظمى من الناس عبيد وخدم لهم، فمثل هذا الخلاص لا تتمناه الإنسانية ولا أحد ينتظر تحققه، لأنه يفتقد لأبسط مبادئ العدل والمساواة.
وكذلك الخلاص القائم على عقاب غير المخطئ (السيد المسيح)، والذي يفتقد للعدالة والرحمة، باعتبار إن ألف باء العدالة تقتضي أن يتحمل الجاني مسئولية جنايته ولا ينزل العقاب بغيره، وهل في صلب المسيح عدالة أو رحمة أو محبة؟ فمثل هذا الخلاص لا يطلبه الناس ولا ينتظرونه.
أما حين يكون الخلاص قائم على ثوابت العدل والمساواة ويسعى إلى تطبيقها وترسيخها في المجتمع البشري، وينظر للناس جميعا سواسية بدون تفاضل أو تمايز، وتسقط الحواجز القومية، وتتوحد الملل البشرية، وتملأ الأرض عدلاً وقسطاً، فالكل في هذا المفهوم يشعر بالسكينة والأمان، وينعم الجميع في ظل ذلك بالسعادة والأمان.
لا ريب إن إدراك أهداف وأغراض المهدوية الإنسانية والعالمية والحضارية، والمهمة الإصلاحية الكبرى التي ستقوم بها، يساهم في إثبات عجز وفشل أطروحات المدارس الأخرى عن تلبية ما يطمح إليه العقل البشري والفطرة الإنسانية، من حيث تحقيق السعادة والعدل والكمال المنشود للمجتمع البشري.. وبكل تأكيد إن الخلاص في مثل الرؤية المهدوية يرسم أسمى ما تطمح إليه الإنسانية وأكمل صورة للمستقبل ونهاية التاريخ، ولذا عدت المهدوية كأفضل هدية قدمت للبشرية تنجذب لها القلوب قبل العقول.
الهوامش:
(1) بعد أن مات النبي سليمان (عليه السلام) في سنة 935 ق.م، انقسمت مملكة اليهود (935 ق.م – 586 ق.م) إلى قسمين:
المملكة الجنوبية: تحت رئاسة قبيلة (يهودا) وعاصمتها القدس، ولقد حكمها 20 ملكاً، كلهم من نسل داود.
المملكة الشمالية: تحت رئاسة قبيلة (إفرايم) وعاصمتها السامرة، وأول ملك بعد الانقسام هو يربعام.
اتسعت الفجوة بين الشعبين، وأصبحا كفريستين بين مخالب الأمم التي تحيط بهما، واستمر الانقسام والانشقاق مائتي عام (935 – 721 ق.م).. ثم تعرضت المملكتين إلى كوارث السبي والاضطهاد:
ملك آشور (تغلث فلاسر) هجم على إسرائيل وسبى عدد كبير منهم، وكذلك الملك الآشوري سرجون الثاني حاصر السامرة 721( ق.م) وسبى أعداد غفيرة من اليهود.
فرعون مصر (نخاو) احتل مملكة يهوذا سنة 608 ق.م، ثم احتل مملكة إسرائيل.
ملك بابل (نبوخذ نصر) احتل المملكتين وطرد فرعون مصر وسبي أكثر السكان إلى بابل.
سلطان فارس الساساني (كورش) سنة 538 ق.م هجم على المملكتين وطرد البابليين وسيطر على البلاد اليهودية.
تعرض اليهود إلى المزيد من السبي والاضطهاد على يد الاسكندر الأكبر، وكذلك السلوقيون، والتشريد خارج بلادهم.
المصدر كتاب: الخلاص المسيحي ونظرة الإسلام اليه، ص 60 – 67.
(2) الكتاب المقدس: العهد القديم، سفر حزقيال - الإصحاح 37 (1- 14).. ولمزيد من تفاصيل المحاكمة أنظر الإصحاح (9).
(3) الكتاب المقدس: العهد القديم، سفر زكريا - الإصحاح 13، ولمزيد من التفاصيل انظر كتاب: مفهوم الخلاص في الديانة اليهودية – ص 125- 129.
(4) مقولة القديس كبريانوس الشهيرة.
(5) قاعدة اللطف الإلهي: هي من أهم الأدلة العقلية التي استند عليها المسلمون (الإمامية) لإثبات أصل الإمامة وكذلك إمامة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) المنتظر (عليه السلام)، والتي تؤكد على وجود شخص خبير بأحكام الدين الإسلامي وتعاليمه، ولا يمكن أن يقع في الخطأ (العصمة)، يتحمل مهمة بيانه وتوضيحه للناس، وهذا الشخص هو الإمام (في كل عصر وزمان) حسب اعتقاد مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).. والمعنى: ما يقرب العبد من الطاعة ويبعده عن المعصية.
(6) خفاء العنوان: وهي أن الناس يرون الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بشخصه، دون أن يكونوا عارفين أو ملتفتين إلى حقيقة أنه المهدي المنتظر.