(٧٩٦) تأملات جوادية مهدوية
تأملات جوادية مهدوية
الدكتور الشيخ عماد الكاظمي
روى شيخنا الصدوق (رضوان الله عليه) في كتابه الشهير (كمال الدين وتمام النعمة) عن السيد الجليل عبد العظيم الحسني أنه قال:
دخلتُ على سيدي محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب (عليهم السلام) وأنا أريد أنْ أسأله عن القائم أهو المهدي أو غيره. فابتدأني فقال لي: يا أبا القاسم إنَّ القائم مِنَّا هو المهدي، الذي يجب أنْ يُنتظر في غيبته، ويُطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي، والذي بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) بالنبوَّةِ، وخصَّنا بالإمامة، إنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْقَ من الدنيا إلا يومٌ واحدٌ لَطَوَّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه، فيملأَ الأرضَ قسطاً وعدلاً، كما مُلِئَتْ جوراً وظلماً، وإنَّ الله تبارك وتعالى لَيُصْلِحُ له أمرَهُ في ليلةٍ، كما أصلحَ أمرَ كليمِهِ موسى (عليه السلام) إذ ذهبَ ليقتبسَ لأهلِهِ ناراً فرجعَ وهو رسولٌ نبيٌّ.
إنَّ هذا الحديث الشريف يمكننا أنْ نقرأ من خلاله قراءات جوادية متعددة في الإمام المهدي (عليه السلام)، وهي إجمالاً:
1- تعليم المسلمين اليقين بالإمام المهدي (عليه السلام) وأنه من أهل البيت الذين وعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به في كثير من الروايات المتواترة أنه (مِنْ وُلْدِ فَاطِمَةَ) خاصة، وذلك قوله: (إنَّ القَائِمَ مِنَّا هُوَ المَهْدِيُّ).
2- بيان مسؤولية المسلمين تجاه الإمام المهدي (عليه السلام) في حال غيبته خاصة، وهو اليقين بالانتظار التام لطلعته الكريمة، وعدم الشك، أو الظن، أو الإنكار لذلك أبداً، بل نكون على بينةٍ من أمر الله تعالى في غيبته، ونكون من المنتظرين له، كحالِ المنتظر لمَنْ يحبُّه بفارغ الصبر، فما هو حالنا عندما ننتظر آباءنا أو أبناءنا عند فراقهم وعودتهم، والأمر أعظم من ذلك وأعظم، بل ويتأمل طلعته وأخباره، وذلك قوله: (الذِيْ يَجِبُ أَنْ يُنْتَظَرَ فِيْ غَيْبَتِهِ).
3- بيان مسؤولية المسلمين تجاه الإمام المهدي في زمان ظهوره، وهو الطاعة التامة له عند طلعته المباركة، من دون أيِّ تفكيرٍ أو تردُّدٍ، بل الامتثال الكامل لأوامره ونواهيه، والتي هي تعاليم الشريعة المقدسة، وعلى الإنسان أنْ يهيء نفسه لمثل هذه الطاعة المطلقة، وهذا الامتثال التام بتربيتها على الطاعات دائماً، وذلك قوله: (وَيُطَاعَ فِيْ ظُهُوْرِهِ).
4- التعيين للإمام المهدي (عليه السلام) بعده؛ ليكون المسلمون على بينة من إمامهم المنتظَرِ الموعود، تعييناً ظاهراً تفصيليّاً لا لَبْسَ ولا شبهة فيه، وفيه من الوضوح ما لا يخفى على أيِّ إنسان، وذلك قوله: (وَهُوَ الثَّالِثُ مِنْ وُلْدِيْ)، وهذا القول بمثابة الإعلان العام لكُلِّ منتظِرٍ صادقٍ بقرب ولادة المهدي، وإزالة أي شَكٍّ لمن طال الانتظار عليه، وللردِّ على كُلِّ مُدَّعٍ أنه المهدي.
5- تعليم المسلمين اليقين والبصيرة في أمر المهدي، وأنه لا بُدَّ من طلعته وفرجه، وعدم الشك أبداً في ذلك، فما دام الإنسان على قيد الحياة فليعلم أنَّه في أيِّ ساعة يكون ظهوره (عليه السلام)، بل الأمر أدقُّ من ذلك، فلو قيل له ستقوم الساعة الآن فليعلم أنها لا تقوم أبداً، وعدم الشك في ذلك أبداً، وأنَّ الشك في ذلك يؤدي إلى الشك في مسائل عقائدية متعددة، وذلك قوله: (إنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ ذَلِكَ اليَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ فِيْهِ)، فالأمر هو أمر الله، وهو لله، وهو بيده كله.
6- بشارة المسلمين بتحقيق دولة العدل الإلهي، وما وعد به النبي والأئمة (صلوات الله عليهم) التي لا ظلم ولا جور فيها، شخصي أو نوعي، بل العدالة المطلقة التي تتطلع إليها البشرية والإنسانية المحرومة في كُلِّ بقاع العالم، وأنَّه أمر لا بُدَّ من تحققه، وذلك قوله وهو يُقْسِمُ وهو المعصوم من كُلِّ زللٍ: (وَالَّذِيْ بَعَثَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) بِالنُّبُوَّةِ، وَخَصَّنَا بِالإِمَامَةِ... فَيَمْلَأَ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً، كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً).
7- بيان أنَّ حال الأئمة (عليهم السلام) هو مثل حال الأنبياء (عليهم السلام)، فكلُّهم خلفاء الله في أرضه، وسفراؤه إلى عباده، وهو الذي يتولَّى شؤونهم وما يتعلق بأحوالهم، وليس لأحد من الناس في ذلك من الأمر شيء أبداً؛ لذلك جعل أمر الإمام المهدي كأمر أحد الأنبياء العظام من أولي العزم وهو موسى (عليه السلام)، وهو قوله: (وَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيُصْلِحُ لَهُ أَمْرَهُ فِيْ لَيْلَةٍ كَمَا أَصْلحَ أَمْرَ كَلِيْمِهِ مُوْسَى).
8- إنَّ مقارنة أمر الإمام بأحد الأنبياء لإزالة الشك والتعجُّب من بعض المسلمين في مقارنة الأئمة بالأنبياء، وتصوُّرُهم أنَّ ذلك غلوٌّ أو إفراطٌ في العقيدة، فالإمام الجواد هنا يجعل أمر المهدي كموسى (عليهما السلام)، وفي رواية للإمام الرضا (عليه السلام) يجعل أمر الجواد كعيسى (عليهما السلام)، وكِلَا النبيَيْنِ من أولي العزم من الرسل، ولهم
كتاب سماوي، وقد بُعِثوا إلى أممهم لهدايتهم وتبليغهم تعاليم الله تعالى.
9- بيانٌ للمسلمين أنَّ مسألة المهدي تحتاج إلى ابتلاءات كثيرة ومتنوعة، ولكنَّ نتيجتها ظهور أمر الله تعالى، وهلاك الظالمين على يديه، وإدخال السرور على المؤمنين به، وهذا هو حال نبي الله موسى (عليه السلام) مما ذكره القرآن من قصته بكُلٍّ وضوح، وقد ذكرت روايات متعددة ذلك التشابه بينهما.
10- تحذير المسلمين أنْ لا يكونوا مع المهدي كما كان قوم موسى معه، من اللجاج والعناد وعدم الامتثال إليه، فكان مصيرهم التيه والضياع، وذهاب البركات الإلهية، وهي نتيجة حتمية لكُلِّ انحراف عن المعصوم، وقد أمر النبي الأمة التمسك بالثقلين (القرآن والعترة)؛ ليكونوا في أمان من كُلِّ ضلالٍ على جميع المستويات.
(تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)
اللهم اجعلنا أهلاً لانتظار أيامه (صلوات الله عليه)، والدعاة إليه.. ولا تسلبنا توفيق ذلك بسوء عقيدتنا وجهلنا يا رب العالمين.
والسلام عليك يا مولاي جواد الأئمة، ويا مهدي الأمة ورحمة الله وبركاته ..