البحوث والمقالات

(٨٤٠) ارتباط إمامة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بالعدل الإلهي ودفع إشكالية وجود الشرور

ارتباط إمامة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بالعدل الإلهي ودفع إشكالية وجود الشرور
التحقّق والمعطيات

مرتضى علي الحلي

تمهيداتٌ - التمهيد الأوّل:
يُقصَد بمفهوم العَدل الإلهي في المنظور العقدي (تنزيه الله تعالى عن فعل القبيح(1) والإخلال بالواجب، فإذا حصل العلم بذلك حصل العلم بالعدل)(2).
والعَدلُ في حقيقته يرتبط ارتباطاً وجودياً واقعياً بتوحيد الله تبارك وتعالى، وهو حقيقةٌ من حقائق الذات الإلهية المُقدَّسة.
ويُصَّنف العلم بالعدل الإلهي على أنّه من مُدركات العقل العملي عند الإنسان، ذلك العقل الذي يُعبّرُ عنه عند علماء الأديان والعقيدة بالحُسن والقبح، ويُعبّرُ عنه عند الفلاسفة بالخير والشر، وعند علماء الأخلاق بالفضيلة والرذيلة، والمراد من العقل العملي هو المُدرِكُ لما ينبغي فعله وإيقاعه أو تركه وما لا ينبغي فعله، والعدل هو واحد من جملة ما يدركه العقل العملي عند الإنسان السوي من حيث إنَّ العدل أمرٌ حَسنٌ وينبغي فعله، ويستحق فاعله المدح عليه عقلاً، بخلاف الظلم فهو أمر قبيح عقلاً فينبغي تركه ويستحق فاعله الذم عليه عقلاً.
ولأصل العدل الإلهي أيضاً ارتباط وثيق بالتحسين والتقبيح العقليين الذي تقول به فرقة الإمامية الاثني عشرية وبمجمل أصول الدين الإسلامي الأخرى من النبوّة والإمامة والمعاد، وكذلك الشريعة وفروعها.
وقد بيّن الشيخ جعفر السبحاني هذا الترابط العقلي والاعتقادي بين أصول المنظومة الدينية وفروعها الشرعية، وذكر ما نصه:
(أنَّ موارد العدل بالنسبة إلى الله تعالى يجمعها أقسام ثلاثة:
1 - العدل التكويني: وهو إعطاؤه تعالى كلّ موجود ما يستحقه ويليق به من الوجود، فلا يهمل قابلية، ولا يعطل استعداداً في مجال الإفاضة والإيجاد.
2 - العدل التشريعي: وهو أنّه تعالى لا يَهمل تكليفاً فيه كمال الإنسان وسعادته، وبه قوام حياته المادية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، كما أنّه لا يكلَّف نفساً فوق طاقتها.
3 - العدل الجزائي: وهو أنّه تعالى لا يُساوي بين المُصلح والمُفسِد، والمؤمن والمشرك في مقام الجزاء والعقوبة، بل يجزي كلَّ إنسانٍ بما كسب، فيجزي المُحسن بالإحسان والثواب، والمُسيء بالإساءة والعقاب، كما أنّه تعالى لا يُعاقب عبداً على مخالفة التكاليف إلّا بعد البيان والإبلاغ.
وأكّد على أنَّ الدليل على (استنتاج عدله تعالى من قاعدة التحسين والتقبيح العقليين إنَّ مقتضى التحسين والتقبيح العقليين على ما عرفت، هو أنَّ العقل بما هو، يدرك أنَّ هذا الفعل بما هو هو من دون اختصاص ظرف من الظروف أو قيد من القيود حَسن أو قبيح، والمأخوذ في موضوع هذا الحكم العقلي ليس إلّا الفاعل العاقل المختار، من غير فرق بين الواجب والممكن.
وعلى ذلك فالله سبحانه عادل ومُنزّه مِن الظلم، لأنَّ القيام بالعدل حَسن وتركه كارتكاب الظلم قبيح، والله سبحانه حكيم لا يرتكب القبيح، كما هو مقتضى القول بالتحسين والتقبيح العقليين)(3).
وعن أهمية هذا الأصل الديني قال العلّامة الحلّي (رحمه الله): (اعلم: إنَّ هذا أصل عظيم تبتني عليه القواعد الإسلامية، بل الأحكام الدينية مطلقا، وبدونه لا يتم شيء من الأديان، ولا يمكن أن يُعلم صدق نبيِّ من الأنبياء على الإطلاق... وبئس ما اختار الإنسان لنفسه مذهباً، خرجَ به عن جميع الأديان، ولم يمكّنه أن يعبدَ اللهَ تعالى بشرع من الشرائع السابقة واللاحقة، ولا يجزم به على نجاة نبيٍّ مرسل، أو ملك مقرّب، أو مطيع في جميع أفعاله من أولياء الله تعالى وخلصائه، ولا على عذاب أحد من الكفار والمشركين، وأنواع الفسّاق والعاصين)(4).
وأمّا ما يُثار من إشكاليات على المُنافاة بين عدل الله وحكمته ووجود الشرور والنقص والبلايا فقد ردّه العلّامة البلاغي (رحمه الله) بما نصّه (إنَّ إشكال الخلط والالتباس في مسألة الشرور ينشأ بسبب عدم إدراك طبيعة العلاقة بين الخير والشر، ونسبية الشرور والنقائص في العالم)(5).
وسنفصّل الكلام في هذه المنافاة المُدّعاة تفصيلاً وتحليلها وردّها، وسنتناول مدى أهمية وجود الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وكونه الأمان التكويني من الحيلولة دون الإخلال بالنظام، وحدود قدرته على التخفيف أو المنع من وقوع الشرور والنقائص والأذى في ضمن محاور البحث الآتية.
إنَّ الاعتقاد بالعدل الإلهي يستدعي الاعتقاد بوجوب نصب الإمام المعصوم على الله سبحانه عقلاً، وذلك لأنَّ الله سبحانه عدلٌ محض ومُنزّه عن فعل القبيح والإخلال بالواجب أو إهمال النّاس بعد ختم النبوّة وتركهم دون هادٍ أو مُرشدٍ وحافظٍ لهم من الضلال، وهذا الاعتقاد أيضاً يكفل تحقّق السكينة والطمأنينة في نفوس المؤمنين المعتقدين بذلك، ومن حيث تنجّز نفس العدلِ كصفة إلهية في الأرض بظهور وقيام الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وبسطه بعد دفع الظلم والجور.
وبذلك يتّضح مناط الترابط بين أصل العدل الإلهي (التنزيه عن فعل القبيح والإخلال بالواجب) وبين مقتضاه في وجوب نصب الإمام المعصوم وجوباً عقليّاً على الله سبحانه، لأنَّ الإمام المعصوم يُمثّل في تنصيبه وفي حَرَاكه الرسالي اعتقاداً وشرعاً وتدبيراً لطفاً في ارتفاع القبيح وفعل الواجب.
وقد وضّح السيّد المرتضى ذلك المعنى العقدي المكين في منتظم العلاقة بين العدل الإلهي ووجوب نصب الإمام المعصوم على الله سبحانه عقلاً، حيث قال: (لأنّ الطريق إلى وجوب الحاجة إلى الإمام إذا كان هو كونه لطفاً في ارتفاع القبيح وفعل الواجب، قد ثبت أنَّ فعل القبيح والإخلال بالواجب لا يكونان إلّا مِمّن ليس بمعصوم)(6).
فإذن الإمام المعصوم هو تمثّلٌ لعدلِ الله تعالى في خَلقه وفي تكليفه وفي أغراضه وفي ألطافه، وببركة وجوده يحدث بين العباد الاقتراب من الطّاعات والخيرات والفضائل والواجبات، والابتعاد عن المعاصي والشرور والرذائل والمحرّمات، وهو مَن يدعو إلى فعل الواجب والانصراف عن القبيح، وإنَّ خلوّ الزمان منه يستلزم وقوع الظلم والشرور بمقتضى اختلاف طباع وأمزجة النفوس البشرية ووقوع الهرج والمرج والتجاذب والتدافع والإخلال بالنظام.
التمهيد الثاني - مُختصَرٌ في نظريات العدل - العدل عند الإمامية والمعتزلة والأشاعرة:
لقد تبنَّتْ فرقة الإمامية الاثني عشرية ومعها فرقة المعتزلة(7) العدلية مقولة العدل الإلهيِّ وأصالته العقلانية إدراكاً، والتي تقوم على أساس وفكرة التحسين والتقبيح العقليين.
وحَكمت الإمامية بأنَّ العقل الإنساني العملي قاضٍ بذلك بصورة مستقلة عن الشرع، فالحسن حسنٌ في نفسه والقبيح قبيحٌ في نفسه، سواء أحكمَ به الشرع ببيان صفة القبح فيه أم لم يحكم، وبيَّنوا الأسس العقلانية والمَدركية لذلك المبنى القويم، وهو أننا نعلم بالبداهة والضرورة التي لا تحتاج إلى كسب ونظر وتفكر، بل بمجرد تصور مفاهيم معينة نعلم بها فنحكم بحسنها ابتداءً كحُسن العدل وقبح الظلم وحسن إنقاذ الهلكى وقبح الكذب.
وهذه البداهة التصورية للمفاهيم والقدرة على تحديد حسنها وقبحها هي أمرٌ مركوزٌ في جبلَّة الإنسان الأولية ومع وجدانية وأولية وإدراكية العقل العملي الإنساني لحسن الأشياء وقبحها.
إلّا أنَّ فرقة الأشاعرة(8) جمَّدت فعالية وإدراكية العقل الإنساني في تعاطيه مع المفاهيم وتصورها والحكم عليها، وزعمت بالتعبَّد بالشرع، وأنَّ الحسن من الأشياء ما حسّنه الشرع والقبيح ما قبَّحه الشرع.
الرد على مزاعم الأشاعرة:
إنَّ ما تبنته الأشاعرة من تبعية حُسن وقبح الأشياء للشرع هو تبنّنٍ مردودٌ عقلاً، وقد أقامتْ مدرسة الإمامية الحقة الأدلة العقلية المتينة على بطلان ذلك، ومنها:
1 - إنّه لو كان مَدركُ حُسن الأشياء وقبحها هو الشرع لا غير، للَزِمَ أن لا يتحققا (أي الحسن والقبح للأشياء) من دون حكم الشرع في ذلك، فدعوى عدم تحقق الحُسن والقبح للأشياء إدراكاً من لدن العقل العملي الإنساني من دون حكم الشرع باطلة أصلاً، بدليل تحقّق التحسين والتقبيح للأشياء عقلاً في الخارج والواقع الموضوعي بمعزل عن الشرع، حتى عند من لا يؤمنون بالشرائع، هو من مُدركات العقل الإنساني عمليّاً، ولا توقف فيه على حكم الشرع.
2 - إنّه لو أبطلنا قدرة العقل العملي على إدراك حُسن وقُبح الأشياء بصورة مستقلة عن الشرع لبطلَ وانتفى التحسين والتقبيح الشرعي للأشياء، لأنّه بانتفاء الحسن والقبح العقليين ينتفي الوثوق بحسن ما يخبرنا الشارع بحسنه وقُبح ما يخبرنا بقبحه، فلا انتفاء للتحسين والتقبيح العقليين عمليّاً، لكون العقل وظيفةً تدرك وتتعقّل ما هو حُسن وما هو قبيح سواء أحكم به الشرع أم لم يحكم.
وقد بيّنَ العلّامة الحلّي (رحمه الله) هذا الوجه بما نصه:
(إنّ الحُسن والقُبح لو ثبتا شرعاً لم يثبتا لا شرعاً ولا عقلاً، وعدم ثبوتهما لا شرعاً ولا عقلاً باطل، ذلك أنّا لو لم نعلم حُسن الأشياء وقُبحها عقلاً لم نحكم بقُبح الكذب فجاز وقوعه حتى من الله تعالى وحاشاه عن ذلك، فإذا أُخبرنا في شيء أنّه قبيح لم نجزم بقبحه عقلاً وإذا أخبرنا في شيء أنّه حسن لم نجزم بحسنه لتجويز الكذب على الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ولجوزنا أن يأمرنا بالقبيح وأن ينهانا عن الحسن لانتفاء حكمته تعالى على هذا التقدير)(9).
فإذن ينتج من ذلك - أنَّ التحسين والتقبيح للأشياء هو من مُدركات العقل العملي الإنساني، لا من جملة ما يتوقف حكمه على رأي الشرع توصيفاً وبياناً، كما ذهبتْ إليه فرقة الأشاعرة.
التمهيد الثالث - انبثاق أصل الإمامة وواقع علاقته الجذرية بالعدل الإلهي:
العدل الإلهي دليل عقلي على إمامة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه):
إنَّ انبثاق الاعتقاد بأصل الإمامة في مذهب الإمامية الاثني عشرية بالنظر العقلي إنّما يتأتّى من كون نصب الإمام المعصوم المنصوص واجباً عقليّاً على الله تعالى بمقتضى عدله وحكمته ولطفه، لأنَّ الإمام يُمثّل لطفاً إلهيّاً حَسناً حكيماً ومُحصّلاً للغرض المطلوب، وهو تقريب المكلّفين من الطّاعات وإبعادهم عن المعاصي، فضلاً عن كونه لطفاً في ارتفاع القبيح وفعل الواجب، كما تقدّم.
وعلى هذا الأساس العقلي المتين استدل المحقّق الطوسي (رحمه الله) (على وجوب نصب الإمام على الله تعالى بأنَّ الإمام لطفٌ، واللطف واجبٌ، أما الصغرى - الإمام لطفٌ - فمعلومة للعقلاء، إذ العلم الضروري حاصل بأنَّ العقلاء متى كان لهم رئيس يمنعهم عن التغالب والتهاوش ويصدهم عن المعاصي ويَعدهم على فعل الطاعات ويَبعثهم على التناصف والتعادل، كانوا إلى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد، وهذا أمر ضروري لا يشك فيه العاقل)(10).
ومرَّ آنفاً أنَّ المراد بالعدل الإلهي في المنظور العقدي والعقلي أنّه سبحانه لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب، والقبيح هو كلُّ فعلٍ لا ينبغي فعله بحكم إدراك العقل، كالكذب والظلم وبقية المنكرات، وأمّا عدم الإخلال الواجب بالنسبة لله تعالى فهو من حيث إنّه جلّ وعلا قد خلق الخلق وكلَّفهم بتكاليف شرعية فيجب عليه أن يبعث إليهم نبيّاً من عنده أو ينصب لهم إماماً منصوصاً ومُسمّى من لدنه، ليعلَّمهم هذه التكاليف، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، والقرآن الكريم قد صرّح بهذا اللطف الإلهي الحسن، وعبّر عنه بالمِنّة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (آل عمران: 164).
ومن المعلوم في علم الكلام والاعتقاد أنَّ دليل وجوب بعثة الأنبياء يعطي عمومية الوجوب في كلِّ وقت، بحيث لا يجوز خلو الزمان من شرع نبيّ، فينزاح هذا الوجوب العقلي الاعتقادي بعمومه ليشمل مورد وجوب وجود الإمام المعصوم في كلّ وقتٍ أيضاً بمقتضى عدل الله تعالى وحكمته، وهذا ما قرّره الشيخ المفيد في كتابه النكت الاعتقادية، حيث قال: (حكمة الله تعالى تقتضي نصب الإمام وتوجبه)(11)، وذلك لتحقيق الغرض بالزجر عن القبائح والمحرّمات والحثّ على الطاعات والواجبات، وهذا هو اللطف الإلهي بعينه بياناً وتحققاً.
وإنَّ العقل عندنا يحكم بعدل الله سبحانه وتحقّقه وفق أسس التحسين والتقبيح العقليين، ممّا يقتضي عدله (جلّ وعلا) عدم الإهمال الإلهي في رعاية الخلق وهدايتهم أو الإجمال في التكاليف أو الإخلال بالواجب، وهو ما ثبت تنزّهه عنه تعالى بوصفه الخالق الحكيم، الذي لا ينقض أغراضه العائدة إلى العباد في حسنها ونفعها وحكمتها ومعطياتها، ونقض الأغراض محالٌ على الحكيم، فيجب أن يلطف بعباده ببعثة نبيٍّ أو بنصبِ إمام معصوم في كلّ وقت وزمان.
وللشيخ الطوسي كلامٌ متين وقيّم في هذا الانبثاق والترابط العقدي بين أصل الإمامة وعدل الله سبحانه ولطفه، ما نصّه:
(ومَن هو معصوم مأمون منه القبيح وترك الواجب لا يحتاج إلى إمام يكون لطفاً له في ذلك، وإن احتاج إليه من وجوه أُخَر، نحو أخذ معالم الدين عنه وغير ذلك، واللطف في الحقيقة هو تصرّف الإمام وأمره ونهيه وتأديبه، فإن حصل انزاحت به العلة، وحُسن التكليف وإن لم يحصل بأمر يرجع إلى المكلّفين لا يجب سقوط التكليف عنهم، لأنهم يؤتون في ذلك من قبل نفوسهم لا من قبل خالقهم. وإنّما يجب على الله تعالى خَلق الإمام وإيجابه علينا طاعته ليتمكن من التصرّف، فإذا لم يمكّنه لم يجب سقوط التكليف عنّا، لأنّا نكون أتينا من قبل نفوسنا، فإذا ثبتت هذه الجملة فلا يلزم إذا كان الإمام غائباً - في إشارة إلى الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) - أن يسقط التكليف عنا، لأنّا أتينا من قبل نفوسنا بأن أخفناه وأحوجناه إلى الاستتار، ولو أطعناه ومكّناه لظهر وتصرف فحصل اللطف)(12).
وأمّا في المنظور النقلي فأصل إمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، ومنهم إمامة الإمام المهدي الموعود، الإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه) معلوم من النقل المتواتر القطعي الدال على إمامتهم والنص عليهم إماماً إماماً، ولوجوب عصمتهم وثبوتها لهم نصّاً وإخباراً ولانتفائها عن غيرهم، ولوجود الكمالات فيهم، كما هو مقرّر في كتب علم الاعتقاد ومباني علماء الكلام والعقيدة في مذهب الإمامية الاثني عشرية.
وإنَّ غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) واستتاره لا تنافي عدل الله سبحانه وحكمته ولطفه بالمكلّفين، كما حاول المشكّكون والمخالفون إثارة هذه الشبهة، وقد ردّ على هذه الشبهة الشيخ المفيد (طاب ثراه)، بما نصّه (فإن قيل: قد تقدّم أنَّ الإمامة لطف واللطف واجب على الله تعالى، فإذا كان الإمام مستتراً كان الله تعالى مُخِلّاً بالواجب - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -.
فالجواب: اللطف الواجب على الله تعالى في الإمام هو نصبه وتكليفه بالإمامة، والله تعالى قد فعل ذلك فلم يكن مُخِلّاً بالواجب وإنّما الإخلال بالواجب من قبل الرعية فإنّهم يجب عليهم أن يتابعوه ويمتثلوا أوامره ونواهيه ويمكّنوه من أنفسهم، فحيث لم يفعلوا ذلك كانوا مُخلّين بالواجب فهلاكهم من قبل أنفسهم)(13).
وكذلك أيضاً قد دفعها الشيخ الطوسي (طاب ثراه) في كتابه الاقتصاد، بما ذكر وقال: (والفرق بين الاستتار وظهور آبائه (عليهم السلام)، لم يكن المعلوم من حالهم أنَّهم يقومون بالأمر ويزيلون الدول ويظهرون بالسيف ويقومون بالعدل ويميتون الجور، وصاحب الزمان بالعكس من ذلك، ولهذا يكون مطلوباً مرموقاً، والأولون ليسوا كذلك، على أنّ آباءه ظهروا لأنّه كان المعلوم أنّهم لو قتلوا لكان هناك مَن يقوم مقامهم ويسدّ مسدهم، وليس كذلك صاحب الزمان، لأنَّ المعلوم أنّه لو هلك لم يكن هناك مَن يقوم مقامه ولا يسدّ مسده، فبانَ الفرق بينهما، وطول غيبة الإمام كقصرها، فإنّه ما دامت العلّة الموجبة حاصلة فإنّه مُستترٌ إلى أن يعلم الله تعالى زوال العلة، فيعلم ذلك بما وقفه عليه آباؤه من الوقت المعلوم، بالأمارات اللائحة للنصر، وغلبة الظن يقوم مقام العلم في ذلك، وخاصة إذا قيل لك: إذا ظهرت لك أمارات النصر فاعلم أنَّه وقت الخروج وكل ذلك جائز)(14).
التمهيد الرابع: التوصيف الروائي المعتبر للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بالعَدل المُنتَظَر والمُدّخَر ومحقّق العدل الإلهي وناشره - الخصوصية والتكليف والدلالات:
إنَّ المُستظهَر وبصورة التواتر الإجمالي والمعنوي من مجمل الروايات الصحيحة والمعتبرة، والتي تناولت البعد العقدي في قضية الإمام المهدي هو أنّه (عجّل الله فرجه) له خصوصية مميَّزَة وفريدة في التكليف والوظيفة، وهي تحقيق العدل الإلهي والقسط الشامل في الأرض قاطبةً والقضاء على الظلم والفساد، وتكاد تكون هذه الخصوصية هي الأكثر تناولاً في أوّل مهامه وواجباته، بحيث وردت له توصيفات كثيرة ومتعدّدة تؤكّد هذه الحقيقة الشأنية والوظيفة العملية.
ونذكر هنا طائفةً من الروايات المعتبرة، والتي منها ما هو صحيح سنداً ومتناً.
الرواية الأولى: وهي رواية صحيحة(15) رواها الكميت بن أبي المستهل عن الإمام محمّد الباقر، أنّه قال (عليه السلام): «يا أبا المستهل إنَّ قائمنا هو التاسع مِن ولد الحُسين، لأنَّ الأئمة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اثنا عشر، وهو القائم»، قلتُ: يا سيّدي فمَن هؤلاءِ الاثنا عشر؟ قال: «أوّلهم عليُّ بن أبي طالب، وبعده الحسن والحسين، وبعد الحسين علي بن الحسين، وأنا، ثم بعدي هذا ووضع يده على كتف جعفر»، قلتُ: فمَن بعد هذا؟ قال: «ابنه موسى، وبعد موسى ابنه علي، وبعد علي ابنه محمد، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وهو أبو القائم الذي يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً، ويشفي صدور شيعتنا»، قلتُ: فمتى يخرج يا بن رسول الله؟ قال: «لقد سُئِل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ذلك فقال: إنّما مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلّا بغتة»(16).
وفي هذه الرواية الصحيحة نلحظ فقرة «فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً» على أنّها الخصوصية الفريدة التي تميّز بها الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من بين مجموع الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) والذين لم نلحظ لهم هذه الخصوصية، وكما ذكر الشيخ الطوسي آنفاً (لم يكن المعلوم من حالهم أنَّهم يقومون بالأمر ويزيلون الدول ويظهرون بالسيف ويقومون بالعدل ويميتون الجور، وصاحب الزمان بالعكس من ذلك).
ووفق المُعطى الدلالي اليقيني لهذه الرواية الصحيحة أنَّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو الذي سيكون مَظهَراً لعدل الله تعالى ومُظهِراً له في الأرض قاطبةً، ممّا يؤكّد هذا المعنى المكين قوّة وواقعية الترابط العقدي والوظيفي بين عدل الله سبحانه وفعلية تنجّزه بنصبه إمام العصر والزمان وتمكينه من بسط العدل والقسط لا محالة في وقت الظهور والقيام.
الرواية الثانية: وهي صحيحةٌ أيضاً عن النزال بن سبرة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث يذكر فيه أمر الدجال ويقول في آخره: «لا تسألوني عمّا يكون بعد هذا، فإنّه عهد إليَّ حبيبي، أن لا أخبر به غير عترتي»، قال النزال بن سبرة: فقلت لصعصعة بن صوحان: ما عنى أمير المؤمنين بهذا القول؟ فقال صعصعة:
يا بن سبرة إنَّ الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه هو الثاني عشر من العترة، التاسع من ولد الحسين بن علي (عليهما السلام)، وهو الشمس الطالعة من مغربها، يظهر عند الركن والمقام، فيطهر الأرضَ ويضع الميزان بالقسط فلا يظلم أحدُ أحداً، فأخبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنَّ حبيبه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عهد إليه أن لا يخبر بما يكون بعد ذلك غير عترته الأئمة(17).
وهذه الرواية الصحيحة أيضاً أخذت فقرة (فيطهر الأرضَ ويضعَ الميزانَ بالقسط فلا يَظلم أحدُ أحداً) والقيام بالقسط وتطهير الأرض من الظلم والفساد وظيفةً وخصوصية فريدةً للإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فتقدّم هذه التوصيفات الدقيقة تكفّلاً يقينيّاً من المعصومين (عليهم السلام) بحقيقة هذا الترابط العقدي بين أصل العدل الإلهي وتنجّزه وفعليّته وتحقّقه على يد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ممّا يستدعي الإذعان والتسليم بذلك.
الرواية الثالثة: عن الأصبغ بن نباتة، قال: أتيتَ أميرَ المؤمنين عليّاً (عليه السلام) ذات يوم فوجدته مُفكّراً ينكت في الأرض، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، تنكتَ في الأرض أرغبة منك فيها؟ فقال: «لا، والله ما رغبتُ فيها ولا في الدنيا ساعة قط، ولكن فِكري في مولود يكون من ظهري، الحادي عشر من ولدي، هو المهدي الذي يملأها قسطاً وعدلاً كما مُلئِت ظلماً وجوراً، تكون له حيرة وغيبة يضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون»، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، فكم تكون تلك الحيرة والغيبة؟ فقال: «سبتٌ من الدهر».
فقلتُ: إنَّ هذا لكائن؟ فقال: «نعم، كما أنّه مخلوق». قلتُ: أدركُ ذلك الزمان؟ فقال: «أنّى لكَ يا أصبغ بهذا الأمر؟ أولئك خيار هذه الأمة مع أبرار هذه العترة»، فقلتُ: ثم ماذا يكون بعد ذلك؟ قال: «ثم يفعل الله ما يشاء، فإنَّ له إرادات وغايات ونهايات»(18).
إنَّ هذه الرواية هي الأخرى تأخذ خصوصية نشر القسط والعدل وبسطه وإزالة الظلم والجور ودفعه ليتميّز بها الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) على نحو الفرادة من مجموع الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وكوظيفة إلهية ادُّخِر لها بمقتضى إرادة الله تعالى وحكمته وعدله، والتعليل الأخير في ذيل هذه الرواية «ثم يفعل الله ما يشاء، فإنَّ له إراداتٍ وغاياتٍ ونهاياتٍ» يكشف كشفاً إنيّاً عن واقعية الارتباط والترابط العقدي والفعلي بين إمامته (عجّل الله فرجه) وعدل الله سبحانه وإرادته وتقديره وحكمته.
رابعاً: وهو ما ورد في ضمن دعاء الافتتاح(19) من فقرة «وَالعَدْلِ المُنْتَظَر»: «اَللّهُمَّ وَصَلِّ عَلى وَلِيِّ أَمْرِكَ القائِمِ المُؤَمَّلِ، وَالعَدْلِ المُنْتَظَر ، وَحُفَّهُ بِمَلائِكَتِكَ المُقَرَّبينَ، وأيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ يا رَبَّ العالَمينَ، اَللّهُمَّ اجْعَلْهُ الدّاعِيَ إِلى كِتابِكَ، وَالقائِمَ بِدينِكَ، اِسْتَخْلِفْهُ في الأَرْضِ كَما اسْتَخْلَفْتَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِ، مَكِّنْ لَهُ دينَهُ الَّذي ارْتَضَيْتَهُ لَهُ، أَبْدِلْهُ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِ اَمْناً، يَعْبُدُكَ لا يُشْرِكُ بِكَ شَيْئاً، اَللّهُمَّ اَعِزَّهُ وَاَعْزِزْ بِهِ، وَانْصُرْهُ وَانْتَصِرْ بِهِ، وَانْصُرْهُ نَصْراً عَزيزاً، وَاْفتَحْ لَهُ فَتْحاً يَسيراً، وَاجْعَلْ لَهُ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصيراً، اَللّهُمَّ أَظْهِرْ بِهِ دينَكَ، وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ، حَتّى لا يَسْتَخْفِيَ بِشَيء مِنَ الحَقِّ، مَخافَةَ أَحَد مِنَ الخَلْقِ»(20).
وفقرة «العَدلُ المُنتَظَر» هذه تنص على توصيف الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بحقيقة العدل المُنتَظَر تحقيقه وتطبيقه، ومعلومٌ عند أهل البلاغة والبيان أنّ توصيف الذات بصيغة المصدر (العدل)، لهو أبلغ وأعمق دلالةً وإفادةً من توصيفه بصيغة اسم الفاعل (عادل)، وهذا التوصيف يأتي عن استحقاق واقعي وقابلية ذاتية للموصوف، وهو الإمام المهدي الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، مثلما مُلِئَت ظلماً وجوراً، فصيغة المصدر (العدل) فيها من الإطلاق(21)، ما يشمل ويؤكّد ذلك الترابط العقدي والفعلي بين العدل الإلهي وحكمة نصب الإمام المهدي وادّخاره لهذه الوظيفة المُرتَقَبة الكبيرة والعامّة، وهذا المعنى لا تتوفر عليه صيغة اسم الفاعل (عادل).
ومن هنا فإنَّ تحدّد وصف الإمام المهدي بـ(العدل المُنتَظر) يشير إلى معنيين أساسيين ومهمين هما:
1- ضرورة انتظار شخص الإمام المهدي المُنتَظَر الموصوف بالعَدل.
2- انتظار تطبيق العَدل الإلهي الموعود وتحققه على يد الإمام المهدي واقعاً، وكلا المعنيين يرجع روحاً ومعنى إلى حقيقة واحدة، وهي أنَّ الإمام المهدي هو من سيكون مَظهَراً ومُظهِرَاً لعدل الله سبحانه في أرضه قاطبةً.
وبعد تقديم هذه التمهيدات الأربعة، والتي أجملنا فيها ما وقع من تفصيلات كلامية وعقلية وروائية وتحليلية، تُطلَب من مظانّها في بيان مفهوم عدل الله تبارك وتعالى وحكمته ولطفه ومناطات ارتباط أصل الإمامة الواجبة به وأغراضه سبحانه منها في تحقيق العدل والقسط وإزالة الظلم والجور والفساد.
يقع الكلام والبحث تفصيلاً في محورين أساسيين يشتملان على مطالب ضمنية تعالج الإشكالات المُدّعاة على منافاة عدل الله وحكمته مع وقوع الشرور والظلم والنقائص والعاهات والبلاء والكوارث وما شابه في هذه الحياة الدنيا، ودور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وولايته التكوينية في دفع ذلك ومعالجته وبعض التحليلات والمُكتسبات والمعطيات.
المحور الأوّل - ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأوّل: وجود الشرور في عالم الحياة الدنيا - المفهوم والإشكاليات والتقييم:
المطلب الثاني: نماذج من معالجات الأنبياء للشرور - المصاديق والمعطيات:
المطلب الأوّل: وجود الشرور في عالم الحياة الدنيا - المفهوم والإشكاليات والتقييم:
من المعلوم لغةً أنَّ (الشرّ خلاف الخير، وهو السوء والفساد، ومنه الشرر، وهو ما تطاير من النار، ومفردها شررة)(22).
وأيضاً في المعنى الاصطلاحي لا يختلف مفهوم الشر عن معناه اللغوي، وقد عبّر العلماء عن اصطلاح الشر بقولهم: (هو عدم ملائمة الشيء الطبع)(23).
وعلى أساس ذلك يشمل مفهوم الشرّ كلّ مصاديق السوء والفساد والمُنفّرات والرذائل والبلايا، وكلّ ما يُستَهجن ويُذَمَّ.
وأمّا في البحث الفلسفي والحكمي فطُرِحَت مسألة الشرور على أنّ وجودها يُشكّل خللاً ومنافاة في نظام التكوين والصنع والعدل الإلهي والحكمة.
وقد عرض الشيخ جعفر السبحاني هذه المنافاة والاستفهامات قائلاً بما نصّه: (إنَّ مسألة البلايا والمصائب والشرور من المسائل المشهورة الذائعة الصيت في الحكمة الإلهية، ولها صلة بالمباحث التالية:
1 - إذا كان الدليل على وجود الخالق المُدبّر هو النظام السائد في الكون، فكيف يُفسّر وجود بعض الظواهر غير المتوازنة العاصية عن النظام، كالزلازل والسيول والطوفانات، فإنّها من أبرز الأدلة على عدم النظام.
2 - لو كان الصانع تعالى حكيماً في فعله، مُتقناً في عمله واضعاً كلَّ شيء في محلّه، مُنزّهاً فعله عما لا ينبغي، فكيف تُفسّر هذه الحوادث التي لا تنطبق مع الحكمة، سواءٌ أفُسّرت بمن يصنع الأشياء المتقنة أو من يكون فعله منزها عمّا لا ينبغي.
3 - إذا كان الخالق عادلاً وقائماً بالقسط، فكيف يجتمع عدله سبحانه مع هذه الحوادث التي تبتلع النفوس البريئة في آنٍ واحدٍ، وتخرب الديار وتدمرها، إلى غير ذلك)(24).
تفكيك هذه الإشكالات الثلاثة وتقييمها:
إنَّ من المؤكّد عقلاً ومنطقاً أنَّ فَهم وقوع الحوادث الكونية أو الأرضية بصورة صحيحة وموضوعية ينبغي أن لا ينطلق من حكم الإنسان وفق معاييره النفسية ومصالحه الشخصية وبمعزل عن مصلحة النظام العام في الكون والحياة والجوانب الأخرى والأغراض التي تُلحَظ على أنّها مُنتظمة وحكيمة وهادفة تبعاً لسلسلة العلل والمعلولات والأسباب والمُسبّبات، التي يجري عليها نظام الكون والوجود معاً.
ونكتفي بتقييم هذه الإشكالات والاستفهامات بتبويب الشيخ جعفر السبحاني لها تحليلاً وتوجيهاً، حيث ذكر في معرض الإجابة:
(إنَّ وصف الظواهر المذكورة بأنَّها شاذة عن النظام، وأنَّها شرور لا تجتمع مع النظام السائد على العالم أوّلاً، وحكمته سبحانه بالمعنى الأعم ثانياً، وعدله وقسطه ثالثاً، ينبع من نظرة الإنسان إلى الكون من خلال نفسه، ومصالحها، وجعلها محوراً وملاكاً لتقييم هذه الأمور، فعندما ينظر إلى الحوادث ويرى أنّها تعود على شخصه وذويه بالإضرار، ينبري من فوره إلى وصفها بالشرور والآفات، وما هذا إلّا لأنّه يتوجّه إلى هذه الظواهر من منظار خاص ويتجاهل غير نفسه في العالم، من غير فرق بين مَن مضى مِن غابر الزمان ومَن يعيش في الحاضر في مناطق العالم أو سوف يأتي ويعيش فيها.
ففي النظرة الأولى تتجلى تلك الحوادث شرّاً وبليةً، ولكن هذه الحوادث في الوقت نفسه وبنظرةٍ ثانيةٍ تنقلب إلى الخير والصلاح وتكتسي خِلَع الحكمة والعدل والنظم...
لأنَّ الحوادث حلقات مترابطة متسلسلة في سلسلة ممتدة، فما يقع الآن منها يرتبط بما وقع في أعماق الماضي وبما سيقع في المستقبل في سلسلة من العلل والمعاليل والأسباب والمُسبّبات...)(25).
وحقيقة أنَّ الشرَّ أمرٌ نسبي وقياسي مفروغٌ منها بالنظر العقلي الدقيق في مُجريات الحوادث في هذا العالم، وللسيّد الطباطبائي توجيهٌ قيّم لهذه النسبية، نصّه: (ولأن وجود الشرّ أمرٌ نسبي، لا نفسي، فما يتحقق من الشرّ في العالم كالموت والمرض والفقر والنقص وغير ذلك إنّما هو شرٌّ بالنسبة إلى مورده، وأمّا بالنسبة إلى غيره وخاصة النظام العام الجاري في الكون فهو من الخير الذي لا مناص عنه في التدبير الكلّي، فما كان من الخير فهو مما تعلّقت به بعينه العناية الإلهية، وهو مراد بالذات، وما كان من الشرّ فهو مما تعلّقت به العناية لغيره وهو مُقتضي بالعرض)(26).
وأمّا في النظر القرآني فهناك إثبات نسبة معيّنة تبعاً لدور الإنسان نفسه في التَسبّب في إحداث الشرور والنقص، بل حتى في الإخلال بالنظام الحياتي الآمن والعادل والصالح ومساحات الخير الكبيرة فيه، من حيث ارتكابه الذنوب والمعاصي والأخطاء والظلم والفساد والعدوان والتكذيب وغير ذلك، بما يدفع الإشكالات والمنافاة بين وقوع هذه الحوادث وبين عدل الله تعالى وحكمته ولطفه وتدبيره، قال الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم: 41).
وأيضاً قد بيّن القرآن الكريم الدور الإيجابي التسبيبي للإنسان في استنزال البركات والخيرات والفيوضات الإلهية لو آمن واتّقى، ولكنّه يتقاعس عن هذا الدور، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: 96).
وفي اعتقادنا أنَّ هذا الدور الإيجابي الصالح منوطٌ في الأصل بوجود الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، ومنهم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) كواسطة من وسائط نزول الفيض الإلهي من البركات والخيرات، وكأمانٍ لأهل الأرض يحفظهم من اختلال النظام، ويدفع عنهم الشرور والبلايا وحتى العذاب، وهذا المعنى أكّدت عليه الروايات المأثورة في ما رواه الشيخ الثقة الصدوق (رضي الله عنه) عن الإمام الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه محمّد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين (عليهم السلام)، قال: «نحن أئمة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغرّ المُحجّلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يمسك اللهُ السماءَ أن تقعَ على الأرض إلّا بإذنه، وبنا يمسك الأرضَ أن تميدَ بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وتنشر الرحمة، وتخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها»، ثم قال: «ولم تخل الأرضُ منذ خلق اللهُ آدمَ من حجّة الله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعةُ من حجّة الله فيها، ولولا ذلك لم يُعبّد الله»، قال: سليمان، فقلتُ للصادق (عليه السلام): فكيف ينتفع النّاس بالحجّة الغائب المستور؟ قال: «كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب»(27).
والتاريخ البعيد الذي حكاه القرآن الكريم قصصاً وعبِرَةً هو الآخر يثبت دور الأنبياء (عليهم السلام) في تأمين نُظم التكوين والتشريع والتدبير والهداية للنّاس أجمعين ومواجهتهم وقدرتهم على دفع الشرور التي تسبّب بها الطغاة والفراعنة والظالمون في أممهم، والتي منها ما واجهه الأنبياء أنفسهم كالطوفان بالنسبة للنبي نوح (عليه السلام) والحرق بالنسبة للنبي إبراهيم (عليه السلام) وكذلك بقية الأنبياء من أولي العزم، والّذين سنذكر نماذجَ منهم في المطلب الثاني الآتي وكيفية معالجة الشرور والحوادث التي تخلّ بالنظام وحياة النّاس كافة.
المطلب الثاني: نماذج من معالجات الأنبياء للشرور - المصاديق والمعطيات:
إنَّ وقوع الشرور وحدوثها هو أمر نسبي وقياسي كما تقدّم بيان ذلك، وأسبابه مختلفة باختلاف المناطات والموارد، فتارة يكون منوطاً بقوانين الكون والوجود القائمة على الأسباب والمُسبّبات وأخرى يرتبط بتسبّب الإنسان نفسه بإحداث الشرور والكوارث والنواقص والمصائب أو تقصيره في مواجهتها وتلافيها، أو يكون مناط الوقوع هو استحقاق إنزال العذاب بالنّاس العاصين والمعتدين، كما حكى ذلك القرآن الكريم في سوره الشريفة بكثرة.
ولقد ذكر القرآن الكريم نماذجَ من بعض مصاديق الأنبياء (عليهم السلام) ممّن استحقّ قومهم العذاب.
1 - نموذج قوم نوح ووقوع الطوفان بهم، وتمكّن النبي نوح (عليه السلام) من انقاذ مَن آمن وركبَ السفينة:
قال اللهُ تعالى: ﴿حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (هود: 40-41).
وهذه القصة الشهيرة المعروفة تاريخيّاً، وهي في أوّل مسيرة الإنسان وتكليفه في الأرض تختزل الإجابات الشافية والردود الكافية للإشكالات المزعومة المُدّعاة بتنافي عدل الله تعالى ولطفه وحكمته مع وقوع الشرور والكوارث وما شاكل، فالله تعالى بقدر ما هو عادل ولطيف هو حكيم أيضاً، ولن يُفوّت أغراضه أو يفعل قبيحاً أو يخلّ بواجبٍ أو يظلم أحداً، وعندما ينزل العقابَ بقومٍ فإنّه ينزله بما يُناسب ذنوبهم واستحقاقهم الفعلي، وذلك لإدامة دورة الحياة وفق نظام الحقّ والعدل والإنصاف ودفع الباطل والظلم والإجحاف.
وأيضاً ليُبيّن للإنسان أنَّه لا يُقبل منه الإخلال بنظام الحياة بالانحراف في فكره ووسائله وأهدافه كما يُصنع في الحروب المدمّرة.
وهناك نماذج أخرى لبعض الأنبياء ممّن واجهوا شروراً كونية وبشرية وطبيعية بحكم أسبابها المختلفة، وتمكّنوا من تجاوزها وتخليص مَن آمن بهم منها، كالنبي إبراهيم (عليه السلام) في مواجهته لقومه ومحاولة إحراقه ومواجهته لشرّ النمرود ودحضه، وكذلك النبي موسى (عليه السلام) وأدواره المتعدّدة والتي تضمّنت حلقاتٍ في معالجة الشرور الكونية وشرور الفراعنة وشرور قومه، وهكذا النبي عيسى (عليه السلام) وتوظيف قدراته الربّانية في إحياء الموتى ومعالجة المرضى والعاهات، نعرض عن تفاصيل هذه المصاديق اختصاراً.
2 - نموذج النبي الأكرم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
لقد واجه الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شروراً جمّةً، فإن الحروب والقتل بين أبناء قومه ووأد البنات والشرك وغيرها فضلاً عن الشرور الناجمة عن جهل قومه بما في الإسلام من خير وبركة ومحاربتهم له.
إلّا أنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واجه هذه الشرور بالرفق بقومه ومداراتهم وصبره وكظم غيظه، وبالدعاء لهم بالمغفرة والاستغفار لهم، وهذه كلّها تمثّلات لخصوصية الأمان التكويني والتشريعي المجعولة في شخصه العظيم، والتي كان لها أثرها الكبير في مواجهة التحدّيات ومعالجة الشرور وتربية الأمّة وتزكيتها وأخذها إلى جوانب الخير والعدل والحقّ والاستقامة، قال تعالى: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الأنفال: 33)، وهو (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يُمثّل الخيرَ في حياته وحتّى بعد وفاته، وعنْ أَبِي عَبْدِ الله الإمام الصادق (عليه السلام)، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إِنَّ لَكُمْ فِي حَيَاتِي خَيْراً وفِي مَمَاتِي خَيْراً، قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ الله أَمَّا حَيَاتَكَ فَقَدْ عَلِمْنَا، فَمَا لَنَا فِي وَفَاتِكَ؟ فَقَالَ: أَمَّا فِي حَيَاتِي فَإِنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قَالَ: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ وأَمَّا فِي مَمَاتِي فَتُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ فَأَسْتَغْفِرُ لَكُمْ»(28).
وهنا يثبت القرآن الكريم الحقيقة الواقعية والخارجية التي تتجلّى بكون المعصوم من نبيّ أو إمام هو بمثابة الأمان والمانع من وقوع العذاب وتدارك الشرور حال الاستحقاق في هذه الأمة.
ولقد استعمل الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جلّ طاقاته وإمكاناته الروحية والتربوية لتجنيب هذه الأمّة من وقوع العذاب بها ودفع الشرور عنها، والعمل على تربيتها وفق أسلوب الرحمة والرفق والرأفة والعفو والاستغفار والأخلاق والطاعات وتجنّب القبائح والمحرّمات، قال تعالى: ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: 159)، ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: 128).
ولقد حرص عليهم في إزالة كلّ مقتضيات وقوع الشرور بهم كونيّاً إلّا ما كانوا أنفسهم سبباً فيه، كما في بعض شواهد وحوادث وقعت آنذاك.
وإنَّ الاعتقاد بأنَّ النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته المعصومين الأطهار، ومنهم خاتمهم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يُمثّلون الأمان لأهل الأرض أماناً تكوينيّاً وتشريعيّاً ولطفيّاً أمرٌ صرّح به مُحدّثو ورواة الفريقين من السنّة والشيعة في نقلهم أحاديث الأمان وبطرق كثيرة، وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: «قال رسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض»(29).
وللشيخ لطف الله الصافي الگلبايگاني تعليق في هذا المعنى الاعتقادي المهمّ نذكر مقتطفاتٍ منه - قال: (أقول: روى أحاديث الأمان بطرق كثيرة وألفاظ متقاربة، جمعٌ كثير من أعلام أهل السنة عن أمير المؤمنين علي وأنس وأبي سعيد الخدري وجابر وأبي موسى وابن عباس وسلمة بن الأكوع، لا حاجة هنا إلى إخراج ألفاظها وسرد أسماء مخرجيها أزيد من ذلك، قال ابن حجر: الآية السابعة - يعني من الآيات الواردة في أهل البيت (عليهم السلام) - قوله تعالى: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: 33] أشار (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى وجود ذلك المعنى في أهل بيته وأنّهم أمان لأهل الأرض، كما كان هو (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أماناً لهم، وفى ذلك أحاديث كثيرة.
أقول: إنَّ دلالة هذه الأحاديث على حجية مذاهب أهل البيت (عليهم السلام) وكونهم أماناً من الاختلاف لعصمتهم، ووجود من يكون أهلاً للتمسّك به منهم في كل زمان إلى قيام الساعة، وأنَّ المراد من أهل البيت الذين هم أمان لأهل الأرض أئمتهم، في غاية الوضوح، فإنّهم لم يختصوا بهذا التشريف من دون الناس إلّا لكونهم معدناً للعلوم النبوية والأحكام الشرعية والفضائل المحمودة، فلابُدّ أن لا يخلو الزمان ممّن يكون منهم موصوفاً بهذه الصفات وأهلاً لأن يكون مُشرّفاً بهذا التشريف، وأماناً لهذه الأمة المرحومة ولجميع أهل الأرض من الزوال والفناء والاختلاف)(30).
المحور الثاني - ويشتمل على أربعة مطالب، هي:
المطلب الأوّل: ثبوت الولاية التكوينية للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ومدى قدرته على معالجة الشرور والنواقص والعاهات:
المطلب الثاني: لماذا لا تتجلّى آثار الولاية التكوينية حسّاً للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في حماية شيعته والمؤمنين به من وقوع البلايا والشرور في عصر الغيبة الكبرى؟
المطلب الثالث: نظرية الأعواض في التفسير الاعتقادي ومعالجتها لإشكالية الشرور والنواقص والآلام وتحمّلها وعلاقتها بالعدل الإلهي وحكمته ولطفه.
المطلب الرابع: المُعطيات العقائدية والمُكتسبات العبادية والتربوية والنفسية والاجتماعية والأخروية من وقوع الشرور ومواجهتها.
المطلب الأوّل: ثبوت الولاية التكوينية للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ومدى قدرته على معالجة الشرور والنواقص والعاهات:
الولاية التكوينية هي أن يتمكّن الإمام المعصوم (عليه السلام) من التصرّف في العَالَم بإذن الله تبارك وتعالى وحوله وقوّته، كما ثبت ذلك من قبل للأنبياء (عليهم السلام) كموسى وعيسى وغيرهما، ليُمثّل بذلك تجلّياً لقوله سبحانه: ﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82)، ﴿وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 73)، ﴿وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24).
وفي منظومتنا الاعتقادية اليقينية أنَّها ثبتت للأئمة المعصومين (عليهم السلام)، ومن نماذجها الظاهرية حادثة ردّ الشمس الشهيرة للإمام علي (عليه السلام)، وكذا أعملها بقية الأئمة الأطهار (عليهم السلام) في وقائع معروفة مذكورة في مظانها، فالإمام المعصوم (عليه السلام)، وأعني هنا في مقام البحث مصداقاً الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو واسطة فيض الوجود والخير والبركات والكمال بين الله سبحانه وخَلقه، وعندنا في المأثور الصحيح والمعتبر ما يُثبت الولاية التكوينية له (عليه السلام)، كما ورد في دعاء الندبة المشهور «أين السببُ المتّصل بين الأرض والسماء»(31)، وكذلك ما ورد عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «لَوْ أَنَّ الإِمَامَ رُفِعَ مِنَ الأَرْضِ سَاعَةً لمَاجَتْ بِأَهْلِهَا كَمَا يَمُوجُ البَحْرُ بِأَهْلِه»(32).
وأيضاً ما ورد في التوقيع الشريف المعروف عن صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه): «وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيبتها عن الأبصار السحاب، وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء...»(33).
وقد بيّنَ علماء الكلام والفقه في مذهبنا الإمامي الاثني عشر هذا الثابت الاعتقادي الديني في مجمل أبحاثهم الكلامية والفقهية والتفسيرية، وقد ذكر الشيخ النائيني (طاب ثراه) ما نصّه: (فاعلم أنَّ - الولاية التكوينية التي هي عبارة عن تسخير المكوّنات تحت إرادتهم ومشيتهم بحول الله وقوته، كما ورد في زيارة الحجّة (أرواحنا له الفداء)، بأنّه ما من شيءٍ إلّا وأنتم له السبب، وذلك لكونهم (عليهم السلام) مظاهر أسمائه وصفاته تعالى، فيكون فعلهم فعله وقولهم قوله، وهذه المرتبة من الولاية مختصة بهم، وليست قابلة للإعطاء إلى غيرهم، لكونها من مقتضيات ذواتهم النورية ونفوسهم المقدّسة، التي لا يبلغ إلى دون مرتبتها مَبلغ)(34).
وأشار إليها السيّد الخوئي (طاب ثراه) على نحو الاختصار في بيان بحثه عن ولاية النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأوصيائه (عليهم السلام)، فقال: (فالظاهر أنَّه لا شبهة في ولايتهم على المخلوق بأجمعهم، كما يظهر من الأخبار، لكونهم واسطةً في الإيجاد، وبهم الوجود، وهم السبب في الخَلق، إذ لولاهم لما خَلق الناس كلهم، وإنّما خلقوا لأجلهم، وبهم وجودهم، وهم الواسطة في الإفاضة، بل لهم الولاية التكوينية لما دون الخالق، فهذه الولاية نحو ولاية الله تعالى على الخلق ولاية إيجادية)(35).
وللسيّد كاظم الحائري بيان لطيف في توضيح معنى الولاية التكوينية الثابتة للمعصومين (عليهم السلام) والمُسَلّمة طبق المفهوم الروائي، ونصّه: (فمجموع هذه الروايات - الدالة على ثبوت الولاية التكوينية للأئمة المعصومين - لا شكّ في أنّها تعطي معنى مُسَلّماً عند أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو أنّ قيام العالم ووجود العالم وسبب الحياة في العالم كلّه مرتبط بالإمام المعصوم، ولولاه لما كان شيء من هذا القبيل)(36).
هذا في ما يتعلّق ببيان مفهوم الولاية التكوينية وثبوتها للأئمة المعصومين وقائمهم وخاتمهم الإمام المهدي (عليهم السلام).
وأمّا في ما يتعلّق بخصوص مدى قدرة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في توظيف هذه الولاية التكوينية الخاصّة به في دفع الشرور التي يمكن أن تقع على أتباعه ومواليه وأمته، سواء أكانت شروراً كونية أم شروراً بشرية، فالثابت اعتقاداً في الروايات المعتبرة إمكان ذلك ووقوعه حتى في زمن غيبته الكبرى، فضلاً عن عصر ظهوره وقيامه الشريف يقيناً.
عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري قال: دخلتُ على أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام)، وأنا أريد أن أسأله عن الخلف [من] بعده، فقال لي مُبتدئاً: «يا أحمد بن إسحاق، إنَّ الله تبارك وتعالى لم يخل الأرضَ منذ خلق آدم (عليه السلام)، ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجّة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه يُنزل الغيث، وبه يُخرج بركات الأرض».
قال: فقلتُ له: يا بن رسول الله فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض (عليه السلام)، مسرعاً فدخل البيت، ثم خرج وعلى عاتقه غلام، كان وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين، فقال:
«يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على الله (عزَّ وجلَّ) وعلى حججه ما عرضتُ عليك ابني هذا، إنّه سَمي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكنيه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئَت جوراً وظلماً»(37)، ولفظة «به يدفع البلاء عن أهل الأرض» تختصر الإجابة الشافية عن حقيقة قدرته وولايته ورعايته (عجّل الله فرجه) للمؤمنين به والمنُتَظِرين له.
وفي رواية أخرى تُثبِت دوره (عجّل الله فرجه) في دفع البلاء عن شيعته خاصةً، عن إبراهيم بن محمد العلوي قال: حدثني طريف أبو نصر، قال: دخلتُ على صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)، فقال: «عليَّ بالصندل الأحمر فأتيته به»، ثم قال: «أتعرفني»؟ قلتُ: نعم، فقال: «مَن أنا»؟ فقلتُ: أنت سيّدي وابن سيّدي، فقال: «ليس عن هذا سألتك»، قال طريف: فقلتُ: جعلني الله فداك فبيّن لي، قال: «أنا خاتم الأوصياء، وبي يدفع الله (عزَّ وجلَّ) البلاءَ عن أهلي وشيعتي»(38).
ولربّما يَتصوّر مُتصوّر ما أنَّ معنى الولاية التكونية هنا يقتصر على دعاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، خاصةً وهو في طور الغيبة الكبرى، فكيف يكون سبباً مباشراً لدفع البلاء والشرور والأخطار عن أمّته وشيعته، وهو غير منظور الوجود حسّاً وعياناً؟ وفي هذه الرواية المعتبرة ما يدل على حضوره الفعلي في التأثير والتدبير ومعالجة الحوادث دون أن يلتفت إليه أحد أو أن يعرفه، عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، يَقُولُ: «إِنَّ فِي صَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ شَبَهاً مِنْ يُوسُفَ (عليه السلام)»، قَالَ: قُلْتُ لَه: كَأَنَّكَ تَذْكُرُه حَيَاتَه أَوْ غَيْبَتَه، قَالَ: فَقَالَ لِي: «ومَا يُنْكَرُ مِنْ ذَلِكَ هَذِه الأُمَّةُ أَشْبَاه الخَنَازِيرِ - إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ (عليه السلام)، كَانُوا أَسْبَاطاً أَوْلَادَ الأَنْبِيَاءِ تَاجَرُوا يُوسُفَ وبَايَعُوه وخَاطَبُوه وهُمْ إِخْوَتُه وهُوَ أَخُوهُمْ فَلَمْ يَعْرِفُوه، حَتَّى قَالَ: أَنَا يُوسُفُ وهَذَا أَخِي فَمَا تُنْكِرُ هَذِه الأُمَّةُ المَلْعُونَةُ أَنْ يَفْعَلَ الله (عزَّ وجلَّ) بِحُجَّتِه فِي وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ كَمَا فَعَلَ بِيُوسُفَ إِنَّ يُوسُفَ (عليه السلام)، كَانَ إِلَيْه مُلْكُ مِصْرَ وكَانَ بَيْنَه وبَيْنَ وَالِدِه مَسِيرَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَه لَقَدَرَ عَلَى ذَلِكَ لَقَدْ سَارَ يَعْقُوبُ (عليه السلام)، ووُلْدُه عِنْدَ البِشَارَةِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ بَدْوِهِمْ إِلَى مِصْرَ، فَمَا تُنْكِرُ هَذِه الأُمَّةُ أَنْ يَفْعَلَ الله جَلَّ وعَزَّ بِحُجَّتِه كَمَا فَعَلَ بِيُوسُفَ أَنْ يَمْشِيَ فِي أَسْوَاقِهِمْ ويَطَأَ بُسُطَهُمْ حَتَّى يَأْذَنَ الله فِي ذَلِكَ لَه كَمَا أَذِنَ لِيُوسُفَ، قَالُوا: أإِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ، قالَ: أَنَا يُوسُفُ»(39).
وإنَّ حضوره الفعلي في التأثير والتدبير ودفع البلاء والشرور أمرٌ ممكن وجائز وغير مُستبعد رغم غيبته الكبرى.
المطلب الثاني: لماذا لا تتجلّى آثار الولاية التكوينية حسّاً للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في حماية شيعته والمؤمنين به من وقوع البلايا والشرور في عصر الغيبة الكبرى؟
لقد تقدّم في تمهيدات البحث أنَّ الله تبارك وتعالى أجرى أمرَه في الكون والخَلق وفق نظام الأسباب والمُسبّبات، ووفق الأغراض العائدة إلى العباد أنفسهم بمقتضى حكمته ولطفه وعدله سبحانه، وذكرنا أنَّ وقوع الشرور والبلايا أمر نسبي وقياسي بلحاظِ مقايسة مورد بمورد آخر، وأنَّ من الشرور ما يتسبّب بها الإنسان نفسه عمداً أو تقصيراً أو لعدم تلافيه مقدّماتها الموجبة لها، ومن الشرور والبلايا ما يكون سببه الاستحقاق أو العقاب أو إدامة دورة الحياة.
وإنَّ عدم استعمال الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لولايته التكوينية حسّاً وعياناً، بحيث تكون آثارها مشهودةً في الواقع وثابتةً له، إنّما هو لعدة وجوه، منها.
أوّلّاً: إنَّ مقتضى طبع وخصوصية الغيبة الكبرى يتطلّب ذلك، لما يحفظ أغراض وأهداف الغيبة نفسها، ويحفظ عنوانها ومعنونها، وعدم تجلي آثار الولاية التكوينية لا يعني الإهمال والنسيان، ففي التوقيع المبارك الصادر من الناحية المقّدسة، ورد ما يُشير إلى ذلك «إنّا غير مُهملين لمُراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللّاواء واصطلمكم الأعداء»(40).
ثانياً: إنَّ تحققّ آثار هذه الولاية التكوينية في الواقع ودورها في دفع الشرور والبلايا غير متوقّف عقلاً وتدبيراً على لزوم النسبة حسّاً وعياناً إلى الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فقد تحصل وتتجلّى وجداناً وإدراكاً وواقعاً دون الالتفات في نسبتها إلى الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لضرورة غيبته واستتاره وعدم الإذن له بالظهور، كما حصل للنبي يوسف (عليه السلام) وقصته مع إخوته، إذ ملكَ مصرَ والتقى بهم، ولم يعرفوه.
ثالثاً: إنَّ إعمال الولاية التكوينية حسّاً وشهوداً يلزم منه تحقّق الظهور والقيام المهدوي، وهذا ينافي استتاره وغيبته الكبرى.
رابعاً: في عقيدتنا أنَّ هناك تكاليف عقائدية وشرعية منوطة باختيار الإنسان وقدرته عليها وإيمانه بها طوعاً لا كرهاً واختباره وامتحانه، ولربّما يكون إعمال الولاية التكوينية حسّاً ومباشرةً وعياناً في كلّ صغيرةٍ وكبيرة موجبة لاهتداء النّاس لما تمثّله هذه الولاية التكوينية من إعجاز يخرق نظام الأسباب والمُسببّات الحاكمة عليهم.
والحال أنّهم مطالبون بالإيمان طوعاً والاهتداء اختياراً.
خامساً: هناك عدّة روايات معتبرة تُشير إلى أنَّ آثار الولاية التكوينية للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ستتجلّى حسّاً وعياناً يقيناً في عصر ظهوره وقيامه الشريف، بحيث ترتفع العاهات في وقته وترتفع الأمراض وتُدفع الشرور ويعمّ الأمن والخير والبركات، ويُستَبدّل الضعف بالقوّة في الجسم والعلم والعقل والمعرفة.
وهذا لعله يُمثّل نوعاً من أبرز مصاديق إظهار الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لقدراته وطاقاته التكوينية لشيعته ومُنتظريه ولتمكين دولته دولة العدل الإلهي من بسط العدل والقسط وإزالة الظلم والفساد والجور والشرور.
عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: «مَن أدرك قائمَ أهل بيتي مِن ذي عاهة برئ ومِن ذي ضعف قوي»، وعن أبي بكر عن عبد الأعلى بن أعين، قال: قمتُ من عند أبي جعفر الإمام الباقر (عليه السلام)، فاعتمدت على يدي فبكيت وقلتُ: كنتُ أرجو أن أدرك صاحب هذا الأمر ولي قوة، فقال: «أما ترضون أنَّ أعداءكم يقتل بعضهم بعضاً وأنتم آمنون في بيوتكم، أنّه لو كان ذلك أعطى الرجل منكم قوةَ أربعين رجلاً وجعل قلوبكم كزبر الحديد لو قذفَ بها الجبال لقلعتها وكنتم قومَ الأرض وخزّانها»(41).
وفي رواية أخرى عن حريز عن أبي عبد الله الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن علي بن الحسين (عليه السلام) أنّه قال: «إذا قام القائم أذهب الله عن كلّ مؤمنٍ العاهة، وردّ إليه قوته»(42).
سادساً: إنَّ مقتضى الاعتقاد بالغيبة الكبرى أن يكون المؤمن مُنتَظراً لفرج إمامه صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه) ومُعتقداً بيقينية ظهوره وقيامه بالحقّ والعدل، وهذا ما يجعله قادراً على مواجهة الشدائد والمصاعب والبلايا وتشوّقه لما أُعدّ له من أجرٍ عظيم وآثار مباركة، فإذا لم يدرك أو يشعر بآثار الولاية التكوينية والرعاية من لدن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) حسّاً وشهوداً فيكون قد ظفر بأجره وامتثل تكليفه، وقد يختار تحمّل البلاء مدّة عمره على أن يزول عنه في وقت الظهور لما ادُّخر له من الرعاية واللطف والتعويض والأجر الجزيل، وهذا المعنى الاعتقادي بيّنته الرواية المأثورة:
عن جابر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، أنّه قال: «يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فيا طوبى للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان، إنَّ أدنى ما يكون لهم من الثواب أن يناديهم البارئ (جلّ جلاله) فيقول: عبادي وإمائي آمنتم بسرّي وصدّقتم بغيبي، فأبشروا بحسن الثواب مني، فأنتم عبادي وإمائي حقّاً منكم أتقبل، وعنكم أعفو، ولكم أغفر، وبكم أسقي عبادي الغيث وأدفع عنهم البلاء ولولاكم لأنزلت عليهم عذابي»، قال جابر: فقلتُ: يا بن رسول الله فما أفضل ما يستعمله المؤمن في ذلك الزمان؟ قال: «حفظ اللسان ولزوم البيت»(43).
سابعاً: وجود الموانع كالذنوب والمعاصي وما شابه يحول دون الشمول بآثار الولاية التكوينية للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وبركاتها، وهذا ما نبّه عليه المقطع القيّم في ذيل التوقيع المبارك الصادر من الناحية المقدّسة لشيخ الطائفة المفيد (رضي الله عنه): «فما يحبسنا عنهم إلّا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته على سيدنا البشير النذير محمّد وآله الطاهرين وسلم»(44).
المطلب الثالث: نظرية الأعواض في التفسير الاعتقادي ومعالجتها لإشكالية الشرور والنواقص والظلم والآلام وتحمّلها وعلاقتها بالعدل الإلهي وحكمته ولطفه:
إنّ هذه النظرية العقدية الكلامية المحكمة عقلاً ونقلاً تتكفّل بتنزيه الله تبارك وتعالى عن الإخلال بالواجب أو فعل القبيح أو الظلم، وتقدّم تفسيراتٍ معقولةً ومقبولةً تضمن العوضَ الإلهي المُستَحَق والنفعَ المُدّخَر للإنسان الذي يواجه الآلام والمضار والشرور والأمراض والبلايا والظلم في هذه الحياة الدنيا، وقد عرضها مفصّلاً المحقق الخواجة نصير الدين الطوسي (رضي الله عنه) في كتابه تجريد الاعتقاد، وقال: (العوض هو نفعٌ مُستَحَقٌّ خالٍ عن تعظيم وإجلال - ويستحق عليه تعالى بإنزال الآلام وتفويت المنافع لمصلحة الغير وإنزال الغموم سواء استندت إلى علم ضروري أو مكتسب أو ظن، لا ما تستند إلى فعل العبد وأمر عباده بالمضار أو إباحته وتمكين غير العاقل)(45).
ومن المعلوم اعتقاداً أنَّ العوض الإلهي يفترق عن الثواب، إذ يجب في الثواب اقترانه بالتعظم، بخلاف العوض وكما تقدّم فإنّه خالٍ من التعظيم والإجلال.
ولطالما توجد هذه النظرية القيّمة في معالجة الإشكالات المُدّعاة على منافاة وقوع الشرور والآلام والبلايا والكوارث بالإنسان مع عدل الله سبحانه وحكمته فلن يبقى أيّ مسوّغٍ عقلي أو معرفي لهذه المنافاة المزعومة.
المطلب الرابع: المُعطيات العقائدية والمُكتسبات العبادية والتربوية والنفسية والاجتماعية والأخروية من وقوع الشرور ومواجهتها:
إنَّ من المُتيقّن به اعتقاداً وعقلاً في منظومتنا الكلامية الاثني عشرية أنَّ الله تبارك وتعالى يفعل لغرضٍ حكيمٍ، وأفعاله جميعها معلّلةٌ بالأغراض، وأنّه منزّه عن الإخلال بالواجب أو فعل القبيح، ولا يخلو أيُّ فعلٍ أو حدثٍ يقع في عالم الكون والحياة من وجه حكمة أو منفعة أو مصلحة أو فائدة أو هدفٍ وما شاكل، وإن اختلف تقييم الإنسان له من وجهة نظره المحدودة والنسبية والقياسية، بل وإن تضرّر منه شخصيّاً.
ويمكن إجمال هذه المعطيات والمكتسبات بنقاط، منها:
أوّلاً: تعزيز فكرة الامتحان الإلهي للإنسان واختباره، وتمحيصه عبر سلسلة تكاليف وأحداث يُمرّ بها، لتكميله وإيصاله للمطلوب منه ولإزالة غفلته وجعله منتبهاً لتأثير الله سبحانه في مجريات الأمور الوجودية والكونية والطبيعية والبشرية، والتي لا يمكن للإنسان أن يعزلَ نفسه عنها وعن آثارها في خضمّ حراكه وأغراضه وسعيه.
ثانياً: إنَّ مواجهة الشرور والبلايا والمصاعب تدفع الإنسانَ نحو إظهار قدراته وخبراته على تجاوز الأحداث وأسبابها وتلافيها مُجدّداً، وذلك بالابتعاد عن موجباتها ومقتضياتها من أوّل الأمر إن أمكن ذلك، أو وضع حلولٍ لها إن وقعت للتقليل من آثارها وأخطارها، كما يحدث في أمر الفيضانات والسيول ببناء السدود والخزّانات.
ثالثاً: إنّ وقوع الشرور وظهور آثارها قد تكون سبباً للنجاة ومدعاة للرجوع إلى الله تبارك وتعالى والحقّ والعدل والاستقامة والكفّ عن الإثم والعدوان، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم: 41).
رابعاً: تسديد رؤية الإنسان في تعاطيه مع الأحداث ومواجهتها، فحكمه على شيءٍ ما أصابه بالشرِّ وبمعزل عن علاقته بنظام الوجود والكون كليّاً حكم نسبي وضيّق لا يتّفق مع النظام الإلهي وأغراضه وحكمته والتي تعود بالفائدة والمصلحة إليه.
خامساً: ما نراه من آثار للشرور الواقعة يكشف عن إسهام الإنسان نفسه وبقدر كبير في صناعة الأحداث الضاّرة والمؤذية له وللمجتمع من تسببّه بالظلم والفساد والتقصير في وظيفته لمواجهة المشاكل المختلفة، كما في مسألة الاحتكار وأضراره الاقتصادية على الفقراء والمحرومين وضعاف الناس، وكذلك عدم تلافيه لأسباب الكوارث مثل السيول والفيضانات ببناء السدود والخزّانات، والحرائق والحروب والحيلولة دون وقوعها وغيرها.
سادساً: إنَّ البلايا والمصاعب والشدائد لها دور في إظهار وجوه الخير والفضائل والتعاون بين النّاس، وقد تأخذهم لمسيرة التكامل والتقدّم بعيداً عن وجوه التنازع والتدافع في محور الشرّ وآثاره.
سابعاً: في بعض الأحيان يغفل الإنسان عن أهمية تربية نفسه وأسرته ومجتمعه، فتأتي السُنَن الكونية بلون الاختبار والبلاء والامتحان لتربّيته تربيةً كونية، تجعله قادراً على مواجهة ما هو أصعب إذا تغيّرت أنماط معيشته وظروفه وأمنه من حيثيات متعددة.
ثامناً: إنَّ فَهمنا القويم لإشكالية الشرور وأسباب وقوعها ودخالة الإنسان في إحداثها وآثارها تجعلنا ندرك علّةَ وحكمةَ غيبةِ إمامنا المهدي (عجّل الله فرجه) ومدى تسبّب الظالمين بذلك، وللشيخ المفيد (طاب ثراه) توجيهٌ قيّم لعلّة الغيبة وظروفها وما يقارب هذا المعنى، فقال: (لكن إمام هذا الزمان (عليه السلام) لما كان هو المشار إليه بسلّ السيف، والجهاد لأعدائه، وأنّه هو المهدي الذي يُظهر اللهُ به الحقَّ، ويبيد بسيفه الضلال، كان الأعداء يترصدونه، ويبغون قتله، ويطلبون قتله وسفك دمه، وحيث لم يكن أنصاره متهيئين إلى وقت ظهوره، لزمته التقية، وفُرِضَت عليه الغيبة، إذ لو ظهر بغير أعوان لألقى نفسه بيده إلى التهلكة، ولو أظهر نفسه في غير وقته لم يأل الأعداء جهداً في استئصاله وجميع شيعته وإراقة دمائهم على الاستحلال)(46).
خلاصة البحث:
لقد ظهر ممّا تقدّم من ثنايا البحث أنَّ إمامة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) إمامةٌ واجبةُ عقلاً وفق اقتضاء عدل الله سبحانه وحكمته ولطفه في نظام الوجود والكون والإنسان والمجتمع، ليكون الإمام بذلك مَظهراً ومُظهِراً لعدل الله جلّ وعلا، المتنزّه عن الإخلال بالواجب أو فعل القبيح أو الظلم، وإنَّ من أهمَّ ما تفرّد به الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من بين مجموع الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) هو تميّزه بخصوصية بسط العدل والقسط الشامل في الأرض قاطبةً بعد ما مُلئَت ظلماً وجوراً، وأنّه رغم غيبته الكبرى وظروف استتاره إلّا أنّه لم يهمل أو ينسَ أمر شيعته ومواليه ومنتظريه، وذلك بشمولهم بلطفه ودعاءه ورعايته الخاصة والعامة، فضلاً عن إعمال ولايته التكوينية في مواردها المخصوصة، والتي هي من وسائط الفيض الإلهي والبركات بين الله تعالى وعباده، بما يكشف أنَّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أمانٌ تكويني قائم وواقع، وله دوره في دفع خطر الأعداء وآثار الشرور والبلايا عن الشيعة ومواليه، وأنَّ عدله مُدّخرٌ لهم وللمؤمنين في يوم ظهوره وقيامه بالحقّ والعدل والانتصاف.
وأمّا مسألة وقوع الشرور وزعم منافاتها لعدل الله تعالى وحكمته ونظامه فقد تبيّن تفسيرها الحقّ بما يكفل معالجة الزعم معالجة مقبولة ومعقولة وفق ضرورة فهم صحيح لأسباب حدوث الشرور ودخالة الإنسان فيها، أو كونها تأتّت وفق استحقاق العقاب والعذاب أو إدامة دورة الحياة، فضلاً عن نظرية الأعواض، والشرور نسبية وقياسية في الوقوع والتقييم، وأنَّ لمواجهتها أبعاداً ومعطياتٍ ومكتسباتٍ عبادية وتربوية وأخروية قد يلمسها الإنسان إذا تعاطى معها وفق معيار الدين ونظام الكون والوجود القائم على الأسباب والمُسبّبات.

الهوامش:

(1) القبيح هو الذي يُذَم فاعله في الدنيا ويُعاقب في الآخرة ويُمدح تاركه في الدنيا ويُثاب في الآخرة. والواجب هو الذي يُمدح فاعله في الدنيا ويُثاب في الآخرة ويُذم تاركه في الدنيا ويُعاقب في الآخرة. انظر: النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد، ص32، ط2، 1414هـ.
(2) الاقتصاد، الطوسي، ص47، ط، قم، 1440هـ.
(3) محاضرات في الإلهيّات، الشيخ جعفر السبحاني، ص164، تلخيص الشيخ علي الرباني الگلپايگاني، مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام).
(4) نهج الحقّ وكشف الصدق، العلّامة الحلّي، ص72، ط قم المقدّسة، 1421هـ ق.
(5) معجم المؤلّفات الإسلامية في الردّ على الفرقة الوهابية، عبد الله محمد علي، ص302، ط1، 1430هـ.
(6) الشافي في الإمامة، السيد المرتضى، ج1، ص294، ط 2، طهران.
(7) المعتزلة هي فرقة إسلامية تنتسب إلى واصل بن عطاء، أخذت بتقديم العقل على النقل، ومن أسمائها القدرية والوعيدية والعدلية، سُموا معتزلة لاعتزال مؤسّسها مجلس الحسن البصري بعد خلافه معه حول حكم الفاسق.
(8) الأشاعرة هي فرقة إسلامية سنّية المذهب تنتسب إلى المتكلم أبي الحسن الأشعري (260-324 هـ). ولها مقولات غريبة في بنيتها العقدية كمقولة الجبر وجواز الرؤية وتجسيم الله سبحانه وغيرها كثير.
(9) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: العلامة الحلي: ص418، طبع ونشر مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة السابعة المنقحة.
(10) كشف المراد في تجريد الاعتقاد، العلّامة الحلّي: ص490، ط15، منشورات جماعة المدرّسين في قم المقدّسة.
(11) النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد، ص39، ط 2، 1414هـ دار المفيد.
(12) الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، الشيخ الطوسي، ص185، ط، قم المقدّسة، 1440هـ.
(13) النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد، ص45، ط 2، 1414هـ دار المفيد.
(14) الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، الشيخ الطوسي، ص234، ط، قم المقدّسة، 1440هـ.
(15) مقتضى الأمانة العلمية أنَّ تحقيق صحة هذه الرواية الأولى والثانية التي سنذكرها منسوب إلى الشيخ نزار آل سنبل القطيفي في كتابه (معالم مهدوية) ص45، الطبعة الأولى، 1438هـ، تحقيق مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه). فليراجع.
(16) كفاية الأثر في النصّ على الأئمة الاثني عشر، الخزاز القمي، ص250، ط، قم المقدسة، 1401هـ.
(17) كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص78، الناشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - إيران.
(18) الغيبة، النعماني، ص69، ط 1، منشورات أنوار الهدى إيران - قم المقدسة.
(19) دعاء الافتتاح هو من الأدعية المُعتبرة والمشهورة في المجاميع الروائية؛ فقد ذكره الشيخ الطوسي في كتابه (تهذيب الأحكام) والسيد ابن طاووس الحسيني في كتابه (إقبال الأعمال) ونقله المحدّث الجليل الثقة الشيخ عباس القمّي في كتابه (مفاتيح الجنان).
وهو على النحو الآتي: عن محمد بن أبي قرة بإسناده، قال: حدثني أبو الغنائم محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله الحسني، قال: أخبرنا أبو عمرو محمد بن محمد بن نصر السكوني (رضي الله عنه)، قال: سألت أبا بكر أحمد بن محمد بن عثمان البغدادي (رحمه الله)، أن يُخرِج إليّ أدعيةَ شهر رمضان، التي كان عمّه أبو جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري رضي الله عنه وأرضاه يدعو بها، وهو قد أخذها عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) باعتباره سفيراً شرعياً عنه، فأخرجَ إليَّ دفتراً مجلداً بأحمر، فنسخت منه أدعية كثيرة، وكان من جملتها: ... وتدعو بهذا الدعاء أي: دعاء الافتتاح في كل ليلة من شهر رمضان؛ فإنَّ الدعاء في هذا الشهر تسمعه الملائكة وتستغفر لصاحبه، وهو: «اللّهم إنّي أفتتح الثناء بحمدك وأنت مسدّد للصواب بمنّك، وأيقنت أنك أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة، وأعظم المتجبّرين في موضع الكبرياء والعظمة...» يُنظر: ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، المجلسي، ج5، ص123، نشر مكتبة آية الله المرعشي - قم المقدسة.
(20) مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ص580، الطبعة الأولى،1411 ه‍، مؤسسة فقه الشيعة، بيروت، لبنان.
(21) يَحمل مصدر الكلمة (العدل) كلّ جوانب المفهوم المجرد وحيثياته، فهو أصل لكل الاشتقاقات، ومن ثم فمنه تُستمد المباني والمعاني الزائدة.
(22) مختار الصحاح، الرازي ص٣٥٤.
(23) التعريفات، الجرجاني ص١٠٩.
(24) الإلهيّات، الشيخ جعفر السبحاني، ص274، نشر- الدار الإسلامية - مصدر سابق.
(25) الإلهيّات، الشيخ جعفر السبحاني، ص276- 277، نشر- الدار الإسلامية.
(26) الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد حسين الطباطبائي، ج13، ص186، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة.
(27) كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص207، نشر - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - إيران.
(28) الكافي، الكليني، ج8، ص254، ط2، طهران.
(29) كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص205، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - إيران.
(30) أمان الأمّة من الضلال والاختلاف، الشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني، ص173، الطبعة الأولى، المطبعة العلمية - قم 1397 - ه‍.
(31) إقبال الأعمال، السيّد ابن طاووس، ج1، ص509، ط1، قم المقدّسة.
(32) الكافي، الكليني، ج1، ص179، ط3، دار الكتب الإسلامية، طهران.
(33) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ص485، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران.
(34) كتاب المكاسب والبيع، تقرير بحث النائيني، محمد تقي الآملي، ج2، ص332، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
(35) مصباح الفقاهة، السيّد الخوئي: ج3، ص280، منشورات مكتبة الداوري، قم، إيران.
(36) الإمامة وقيادة المجتمع، السيّد كاظم الحائري، ص153، الطبعة الأُولى 1416 هـ ق / 1995م.
(37) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ص383، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران.
(38) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ص441، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران.
(39) الكافي، الكليني، ج1، ص337، ط 3، طهران.
(40) الاحتجاج، الطبرسي: ج2، ص323، منشورات دار النعمان للطباعة والنشر.
(41) مختصر بصائر الدرجات، حسن بن سليمان الحلّي، ص116، الطبعة الأولى حقوق الطبع محفوظة للناشر، منشورات المطبعة الحيدرية في النجف 1370 ه‍ - 1950 م.
(42) الغيبة، ابن أبي زينب النعماني، ص332، الطبعة الأولى - 1422 ه‍. ق.
(43) كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص330، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - إيران.
(44) الاحتجاج، الطبرسي: ج2، ص325، منشورات دار النعمان للطباعة والنشر.
(45) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلّامة الحلّي، ص452 -453، ط 15، مؤسسة النشر الإسلامي، قم المقدّسة.
(46) رسائل في الغيبة، الشيخ المفيد: ج3، ص5.

البحوث والمقالات : ٢٠٢٢/٠٨/٢٨ : ٣.٣ K : ٠
: مرتضى علي الحلي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.