(١٢٤٠) كيف وَثِقَ الإمام (عجّل الله فرجه) بالسفراء وهم غير معصومين؟
هنالك شبهة لبعض المخالفين تطرح وهي: النبي موسى (عليه السلام) وهو من أولي العزم لم يحسن الاختيار من قومه للميقات لأنهم لم يكونوا مؤمنين، فكيف وثق الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بالسفراء الأربعة وهم غير معصومين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
النواب الأربعة هم السفراء الذين مثّلوا الواسطة بين الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وبين الشيعة إبّان الغيبة الصغرى وكانوا من وجوه الطائفة وأصحاب الأئمة المعروفين والمعتمد عليهم، ويشهد لهم التاريخ الطويل والتجربة العملية التي تميزت بعمق الإخلاص وقوة التحمل والصبر على البلاء، حتى أدركوا أعلى مراتب التشيع والولاء لأهل البيت (عليهم السلام) وصاروا مصداقاً لقول أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى اطَّلع إلى الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أولئك منا وإلينا. [الخصال للشيخ الصدوق: ص635]
وافتراض عدم عصمتهم لا يقدح في وثاقتهم وصدقيتهم فيما يبلغونه عن الناحية المقدسة، لاسيما بعد أن أكد الأئمة (عليهم السلام) في أكثر من موضع على تلك الوثاقة والمصداقية التي تميزوا بها، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الكليني (رحمه الله) في الكافي عن الإمام العسكري (عليه السلام): العمري وابنه ثقتان، فما أدَّيا إليك عني فعنّي يؤديان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعمها فإنهما الثقتان المأمونان. [الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص330]
ولا يخفى أن هذه التوصيفات التي يطلقها الإمام (عجّل الله فرجه) لا تكون إلّا لمن أخلص وصفى وتمخض إيمانه وولاؤه، ولا يمكن أن تصدر جزافاً أو اعتباطاً، بل لمن ثبت إيمانه وصدق يقينه بالهداية الإلهية التي لا تترك مجالاً للارتداد أو الانحراف، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ﴾، وقد شهد الأئمة (عليهم السلام) لبعض أصحابهم بهذه الشهادة والتي تحكي عن هذا الثبات وهذا الرسوخ في الدين وتشهد لهم بالطاعة والانقياد التام والتسليم، فقد جاء عن زرارة، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) وذكرنا حمران بن أعين، فقال: لا يرتدّ والله أبداً، ثمّ أطرق هنيئة ثمّ قال: أجل لا يرتدّ والله أبداً. [الغيبة للشيخ الطوسي: ص346]
ولا يخفى أن مثل هذا الجزم واليقين من قبلهم (عليهم السلام) بهؤلاء الأصحاب لم يكن ناشئاً من ملاكات ظنية أو تكهنات يمكن أن تقبل الصواب أو الخطأ، بل بإشارة من السماء وعلامة يراها المعصوم فيهم لا يرقى إليها الشك والريب، فقد ورد مستفيضاً في الأخبار الشريفة أن الله تعالى اختص الأئمة (عليهم السلام) بمعرفة أحوال أصحابهم وشيعتهم، فقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: إن كنت لا أعرف الرجل إلّا بما أبلغ عنهم فبئس النسب نسبي. [بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار: ص382]
وروي عنه أيضاً (عليه السلام): إن كنت إنما أتول الرجل وأبرء منهم بأقاويل الناس فبئست النسبة. [بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار: ص382]
وجاء عنه (عليه السلام): إن الرجل ليدخل إلينا بولايتنا وبالبراءة من أعدائنا فنرى مكتوباً بين عينيه مؤمن أو كافر، قال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ نعرف عدونا من ولينا. [بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار: ص378]
وكل ذلك بتوفيق وتسديد إلهي يعصمهم الله تعالى به ثم يأذن لهم بذلك (جلَّ وعلا)، والشاهد على ذلك ما ورد في التوقيع الذي صدر من الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) إلى الشيخ المفيد والذي جاء في بعض فقراته: أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة وتكليفك ما تؤديه عنا إلى موالينا قبلك أعزهم الله بطاعته، وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته. [الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج2، ص322]
وكذلك ما جاء عن أبي محمد عيسى بن مهدي الجوهري والذي سأل من الإمام (عجّل الله فرجه) أن يدعو له بالثبات على الإيمان بعد أن تشرف برؤيته فقال له: لو لم يثبتك الله ما رأيتني. [بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج52، ص70]
ومع الالتفات لكل ما تقدم من هذه الأدلة الصريحة يصبح واضحاً لدينا عدم صوابية المقايسة بين من اختارهم موسى (عليه السلام) من أصحابه السبعين وبين من يختارهم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أبواباً ونواباً عنه كوسطاء للتبليغ عنه، فإن الله تعالى أوكل أمر اختيار هؤلاء السبعين لموسى (عليه السلام)، كما يظهر من نفس الرواية والتي جاء فيها: فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله (عزَّ وجلَّ) للنبوة واقعاً على الأفسد دون الأصلح، وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد علمنا أن الاختيار لا يجوز إلّا لمن يعلم ما تخفى الصدور وما تكن الضمائر. [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص462]
فإن الاختيار إذا اعتمد على الظاهر والمعلن من حال الإنسان (كما كان هو تكليف موسى (عليه السلام) كذلك) لن يحكي بالضرورة عن حال واقع الإنسان وحقيقته أو ما يمكن أن يصير إليه في المستقبل بعد أن كان غير معصوم من قبل السماء، ولذلك وجدنا أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) رفض أن يبلغ أبو بكر عنه آية البراءة لأهل مكة واستعاض عنه بأمير المؤمنين (عليه السلام) ضرورة أن المؤدي عن المعصوم إما أن يكون معصوماً مثله أو قد بلغ من الشأن والمقام ما يؤهله لممارسة هذا الدور على أكمل وجه، ولا يخفى أن خلاف ذلك يُشكل نقضاً للغاية والهدف المطلوب لو تم إيكاله وتفويضه لمن يُخشى عليه من الضلال والانحراف أو التقصير والتضييع، ولأجل ذلك نفهم أن قول الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في حق العمريين: فما أدَّيا إليك عنّي فعنّي يؤديان، وما قالا لك فعنّي يقولان.
لم يكن محاباة منه (عليه السلام) لهما أو مبالغة فيهما، أو خاصاً بهما دون بقية السفراء، بل يحكي عن حالة واقعية توفرت في أشخاص هؤلاء السفراء، بل إن مقتضى قاعدة اللطف تحتِّم أن يكون الواسطة عن المعصوم والقائم بهذا الأمر عنهم (عليهم السلام) منظوراً من قبل السماء ومؤيداً من قبلها، وأكبر شاهد على ما نقول إن هؤلاء السفراء قد أدوا فعلاً الدور الذي أنيط بهم ونجحوا في ذلك كل النجاح إلى أن انتهت سفارتهم ونيابتهم وغادروا الدنيا راضين مرضيين عند الله تعالى وعند أهل البيت (عليهم السلام)، كما ورد ذلك في فقرات زيارتهم التي رواها الشيخ الطوسي في التهذيب والتي جاء فيها: أشهد أنك باب المولى أدَّيت عنه وأدَّيت إليه ما خالفته ولا خالفت عليه، فقمت خالصاً وانصرفت سابقاً. [تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي: ج6، ص118]
وإذا كان هذا الأمر أي (الوثاقة والاستقامة) فيهم كان أمراً محسوماً بالنسبة للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ولأبيه الإمام العسكري (عليه السلام) بدلالة من الله تعالى وإعلامه، فلا عذر حينها لمن يتخلف عن الأخذ منهم والصدور عنهم لما يمثلونه من باب وطريق للأئمة المعصومين (عليهم السلام)، كما ورد ذلك صريحاً في توقيع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه): فإنَّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يؤدّيه عنّا ثقاتنا. [رجال الكشي لمحمد بن عمر الكشي: ج2، ص816]، وإنما ينتفي العذر وتقوم الحجة علينا بما صدر منهم وعلى أيديهم من المعجزات والكرامات والإخبارات الغيبية الكثيرة والتي تؤشر بوضوح لنا وللآخرين أن هؤلاء السفراء مختارون ومصطفون من قبله تعالى لهذه الوظيفة، وإلّا لاستحال كما ثبت في العقل والنقل أن يُجري الله تعالى لهم تلك المعجزات والكرامات التي تدلل على صدقهم وثبات حجيتهم.
وهذا المعنى كان واضحاً في سيرة علماء الشيعة، بل وحتى من غير العلماء في كون ملاك التعاطي مع هؤلاء السفراء يبتني على ما يظهر على أيديهم من الخوارق والمعاجز تكون عابرة للعادة والمتعارف، وبذلك كانوا يغربلون أدعياء السفارة المزيفين عن أصحابها المحقين.
فهذا العالم الشيعي الكبير (ابن أبي العزاقر الشلمغاني) وصاحب التأليفات الكثيرة الذي عبر عنه النجاشي في ترجمته (كان متقدماً في أصحابنا) وصاحب الجاه والمنزلة عند الناس على حد قول أم كلثوم بنت أبي جعفر العمري لم يشفع له كل ما تقدم في قبول قوله بالسفارة والنيابة الخاصة عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بعيداً عن البينة والمعجزة التي تثبت صدق دعواه، فلما عجز عن ذلك وبان كذبه افتضح عند العام والخاص.
فقد روى ابن النديم البغدادي أن الشلمغاني حاول أن يستميل النوبختي ويحثه على اتِّباعه فقال لرسوله: ينبت صاحبك بمقدم رأسي الشعر حتى أؤمن به، فما عاد إليه رسول بعد هذا. [فهرست ابن النديم: ص225]
ولما عجز عن ذلك وافتضح، لم يكن بيده إلّا أن يدعو لمباهلة السفير الثالث (الحسين بن روح) عسى ولعل أن يؤثر على البسطاء من الناس ويغريهم بدعواه الباطلة، فقد روى علي بن همام، قال: أنفذ (أي أرسل) محمد بن علي الشلمغاني العزاقري إلى الشيخ الحسين بن روح يسأله أن يباهله وقال: أنا صاحب الرجل (أي الإمام المهدي (عليه السلام)) وقد أُمرت بإظهار العلم، وقد أظهرته باطناً وظاهراً، فباهلني، فأنفذ إليه الشيخ (رضي الله عنه) في جواب ذلك: أينا تقدم صاحبه فهو المخصوم، فتقدم العزاقري فقتل وصلب وأخذ معه ابن أبي عون، وذلك في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. [الغيبة للشيخ الطوسي: ص٣٣٥]، وهذه الحادثة تحكي عن كرامة جرت على يد السفير الثالث لابد أنها كانت بإرشاد من الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وإلّا كيف يعلم الحسين بن روح أن الشلمغاني سوف يموت قبله بثلاث سنين باعتبار أن وفاة السفير الثالث حصلت في سنة 326 هجرية.
ونفس الأمر تكرر مع الحلّاج أيضاً حين ادّعى الوكالة والسفارة عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وتم فضح دجله وكذبه أمام الناس بعد أن ظهر عجزه عن الإتيان بما يثبت دعواه، كما روى ذلك الشيخ الطوسي في كتابه الغيبة. [الغيبة للشيخ الطوسي: ص401]
وبنفس هذا السياق والمنهج الصارم كان يتعامل الشيعة والموالون مع السفراء الأربعة أيضاً، فلم يقبلوا منهم القول سواداً على بياض أو من غير تمحيص، بل امتحنوهم واختبروا صدقهم حتى اطمأنوا إلى صحة موقفهم وحجية قولهم، وهذا ما كان معلوماً وجلياً في تعامل الموالين والشيعة في التعاطي معهم، والسبب في قبول قولهم دون غيرهم من الأدعياء وأهل الأهواء، وقد أشار الطبرسي في كتابه الاحتجاج إلى هذه الحقيقة بقوله: ولم تقبل الشيعة قولهم (أي السفراء الأربعة) إلّا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كل واحد منهم من قبل صاحب الأمر (عليه السلام)، تدل على صدق مقالتهم، وصحة بابيتهم. [الاحتجاج الطبرسي: ج2، ص٢٩٧]
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)
: علي عبد الحسين : مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)