ارسل سؤالك المهدوي:
المسار
عصر الغيبة

(١٧٠) العلامات الحتمية تخضع للبداء

هل العلامات الحتمية تخضع للبداء أيضاً، ولو كانت تخضع لماذا سمّيت حتمية؟


بسم الله الرحمن الرحيم
نفهم مما ذكرتم أن أساس الإشكال هو أن البداء في المحتوم ينافي حتميته، لأن معنى البداء في شيء هو العدول عنه، فحتمي الوجود يصبح بواسطة البداء غير حتمي، وكذلك العكس.
وعلى هذا فلا يبقى ثمة فرق بين المحتوم وغيره، فلا معنى لهذا التقسيم.
فنقول في الجواب: ذكرت عدة محاولات لتفسير ذلك والإجابة عن هذا التساؤل.
المحاولة الأولى: ما ذكره العلامة المجلسي حيث قال (رحمه الله): (يُحتمل أن يكون المراد بالبداء في المحتوم: البداء في خصوصياته لا في أصل وجوده كخروج السفياني قبل ذهاب بني العباس ونحو ذلك). [بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج52، ص251]
إلّا أنه يمكن أن يقال: إن سياق الرواية التي تتحدث عن حتمية نفس الحدث، وعروض البداء فيه نفسه، يأبى عن صرف البداء إلى الخصوصيات ولا أقل من أنه خلاف الظاهر.
المحاولة الثانية: لذا يمكن أن نأتي بمحاولة ثانية للإجابة عن هذا السؤال.
وقبل ذلك نذكر أقسام العلامات فنقول: للعلامات قسمان:
القسم الأول: العلامات غير الحتمية أو الموقوفة.
القسم الثاني: العلامات الحتمية.
والقسم الثاني: فيه نوعان:
النوع الأول: حتمية يمكن أن لا تقع، أي أنْ لا تتعلق بها المشيئة الإلهية مثل (السفياني واليماني والنفس الزكية والخسف).
النوع الثاني: حتمية يستحيل عدم وقوعها مع تعلق القدرة الإلهية بها مثل (القائم (عجّل الله فرجه)).
ولبيان هذا نقول:
أمّا العلامات من القسم الأول أي غير الحتمية أو الموقوفة فهي العلامات التي يكون الإخبار عنها بمعنى تحقق المقتضي للأحداث والوقائع من دون التعرض لشرائطها وموانعها، فقد تتحقق تلك وتفقد هذه، فيوجد الحدث وقد لا.
وهذا نظير بيت بُني على ساحل البحر، وكان البناء من القوة بحيث يستطيع البقاء مائة سنة، ولكن إذا ضربته مياه البحر، أو تعرض لعاصفة عاتية، أو لزلزال، فسوف ينتهي عمره في أقل من نصف هذه المدة، فيصح الإخبار عن المدة الأولى من دون تعرض لذلك المانع المعارض أو الذي يعرض له.
ومن الأمثلة لهذا القبيل بعض الروايات قد صرَّحت بأن الرجل ليصل رَحِمَه وقد بقي من عمره ثلاث سنين، فيصيّرها الله (عزَّ وجلَّ) ثلاثين سنة، ويقطعها وقد بقي من عمره ثلاثون سنة فيصيرها الله ثلاث سنين ﴿يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ﴾ [الرعد: 39].
ومنه ما روي في الكافي عن محمد بن عبيد الله قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيرها الله ثلاثين سنة ويفعل الله ما يشاء.
وما روي من أن إذاعة الناس، وعدم كتمانهم قد أوجب تأخير ظهور ذلك الرجل الذي سوف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً إلى وقت أخر. [الكافي للشيخ الكليني: ج2، ص150، باب صلة الرحم، ح3]
ومن ذلك ما روي في كتاب الغيبة للنعماني عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: ما لهذا الأمر أمد ينتهي إليه ويريح أبداننا؟ قال: بلى، ولكنكم أذعتم فأخره الله. [الغيبة للنعماني: ص299، ب16، ما جاء في المنع والتوقيت والتسمية لصاحب الأمر (عليه السلام)، ح1]
وعن إسحاق بن عمار الصيرفي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قد كان لهذا الأمر وقت وكان في سنة أربعين ومائة، فحدثتم به وأذعتموه فأخره الله (عزَّ وجلَّ). [الغيبة للنعماني: ص303، ب16، ما جاء في المنع والتوقيت والتسمية لصاحب الأمر (عليه السلام)، ح8]
وعن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) يقول: يا ثابت، إن الله تعالى قد كان وقت هذا الأمر في سنة السبعين، فلما قتل الحسين (عليه السلام) اشتد غضب الله فأخره إلى أربعين ومائة، فحدثناكم بذلك فأذعتم وكشفتم قناع الستر فلم يجعل الله لهذا الأمر بعد ذلك وقتاً عندنا ﴿يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ﴾ [الرعد: 39]، قال أبو حمزة: فحدثت بذلك أبا عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: قد كان ذلك. [الغيبة للنعماني: ص303- 304، ب16، ما جاء في المنع والتوقيت والتسمية لصاحب الأمر (عليه السلام)، ح10]
وقد عبَّرت الروايات عن هذا القسم تارة بـ(الموقوف) وأخرى بـ(ما ليس بمحتوم) ومنها: عن الفضل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن من الأمور أموراً موقوفة وأموراً محتومة، وأن السفياني من المحتوم الذي لابد منه. [الغيبة للنعماني، ص301]
وعن معلى بن خنيس، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من الأمر محتوم، ومنه ما ليس محتوم، ومن المحتوم خروج السفياني في رجب.
أمّا العلامات من القسم الثاني من النوع الأول:
فهي التي وصفتها الروايات بأنها حتمية إلّا إن مشيئة الله تتعلق بها فقد تتعلق المشيئة بوقوعها وقد تتعلق العدم وقوعها، وهذا هو معنى البداء فيها، من هذه الروايات:
عن حمران بن أعين عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) في قوله تعالى ﴿ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ [الأنعام: 2] فقال (عليه السلام): إنهما أجلان: أجل محتوم وأجل موقوف. فقال له حمران: ما المحتوم؟ قال: الذي لله فيه مشيئة. قال حمران: إني لأرجو أن يكون أجل السفياني من الموقوف. فقال أبو جعفر (عليه السلام): لا والله، إنه لمن المحتوم. [الغيبة النعماني، ص301]
أي هو الذي يكون الإخبار فيه عن تحقق العلة التامة بجميع أجزائها وشرائطها وفقدان الموانع، بحيث يصبح وجود المعلول -الحدث- أمراً حتمياً، لا يغيره سوى تدخل الإرادة الإلهية.
وذلك لأن تمامية العلة، لا تلغي قدرة الله سبحانه، وحاكميته المطلقة ولا تلغي حقه في التدخل حينما لا يصطدم ذلك التدخل بأي مانع آخر سوى ذلك، فهو لا ينافي عدله سبحانه، ولا حكمته ولا رحمته ولا غير ذلك من صفاته الربوبية جل وعلا.
ولا ينافي هذا أنه قد جرت عادته تعالى فيما نشاهده ونعيشه على عدم التدخل للحيلولة بين العلل ومعلولاتها، وعلى تسيير أمور الكون والحياة وفق طريقة معينة، وقانون عام ونظام تام، فمثلاً قد اعتدنا أن يسير توالد الناس، والموت والحياة على وتيرة واحدة، ويتم بالأسباب المعروفة.
كما أن ثبات الأرض والجبال وتماسكها وثقلها واستقرارها هو السُنة التي ألفناها وعرفناها في جميع مقاطع حياتنا.
ولكن مشيئة الله سبحانه، قد تلغي -بل هي سوف تلغي حتماً- هذه الحالة وبذلك تكون نفس مشيئته - وليس فقدان الشرط، ولا وجود الموانع - سبباً في توقف التوالد وفي صيرورة الجبال كالعهن المنفوش كما أنها سوف تمر مر السحاب، وسوف يموت الناس بنفخة الصور، ثم تكون نفخة أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، نعم، إن ذلك كله سيكون، من دون أن يحدث أي خلل أو نقص في العلة التامة، وقد سُمّي هذا القسم بـ(المحتوم) وعُبِّر عن تدخل المشيئة الإلهية فيه بـ(البداء) كما جاء عن داود بن القاسم قال: (كنا عن أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام)، فجرى ذكر السفياني وما جاء في الرواية، ومن أن أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: نعم.
قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم؟ قال: إن القائم من الميعاد، والله لا يخلف الميعاد). [الغيبة للنعماني: ص303]
أمّا علامات القسم الثاني من النوع الثاني:
وهي التي وصفتها الروايات بأنها حتمية، بل أعلى مرتبة من الحتمية وهي الميعاد، فإنها مع تعلق قدرة الله بها وبالمانع من حدوثها إلّا أن المانع لا يصدر منه كما لا يصدر القبيح منه كما في الرواية المتقدمة عن داود بن القاسم.
فإن الله قادر على القبيح وعلى الظلم إلّا أنه يستحيل صدورهما عنه ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ [الكهف: 49] لأن ذلك يتنافى مع عدل وحكمة الله سبحانه وتعالى، ومع كونه لا يفعل القبيح، وخلف الوعد أيضاً من هذا القبيل، إذن هذا القسم من قبيل ما يكون الإخبار فيه عن أمور حتمية الوقوع، ولا يتدخل الله سبحانه للتغيير فيها مع قدرته على ذلك، إذ إن ذلك يتنافى مع صفاته الكمالية.
وقيام القائم (عجّل الله فرجه) من هذا القبيل أي من الميعاد والله سبحانه لا يخلف الميعاد.
إذاً يتلخص من هذا:
إن البداء في القسم الأول بمعنى وجود المانع أو فقدان الشرط.
والبداء في القسم الثاني من النوع الأول بمعنى تعلق المشيئة بها.
والبداء في القسم الثاني من النوع الثاني: بمعنى تعلق القدرة بها إلّا أنه يستحيل عدم صدورها منه سبحانه وتعالى.
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)

عصر الغيبة : ٢٠١٣/٠٨/٢٧ : ٦.٠ K : ٠
: الشيخ محمد جواد السلامي : مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
التعليقات:
لا توجد تعليقات.