ارسل سؤالك المهدوي:
المسار
عصر الغيبة

(٩٣٢) ... فقيل: مات أو هلك، لماذا سيقول الناس ذلك؟

عن الإمام الصادق (عليه السلام): إذا استدار الفلك، فقيل: مات أو هلك، في أي واد سلك؟
لماذا سيقول الناس ذلك؟ ومن هم القائلون؟


بسم الله الرحمن الرحيم
هذه المقولة وردت في لسان عدة روايات وأحاديث، وهي تحكي عن بعض ما سيتمخض ويتولد عن سنة الامتحان والتمحيص التي تلازم غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وما ينتج عنها، فإن واحدة من أهم أهداف الغيبة الكبرى هي ما يُعبر عنه بمرحلة (التصفية والغربلة) لاصطفاء وانتخاب الأنصار للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) عند ظهوره، ضرورة أن الدولة المهدوية بما تمثله من كونها المشروع الإلهي في الأرض والذي خُطّط له ليحقق النموذج الأعظم لتطبيق معنى العدالة والقسط وينتهي ويتلاشى بقيامه كل معاني الظلم والانحراف، وهو الأمر الذي يتوقف بطبيعة الحال على وجود نخبة مؤمنة تضطلع وتتحمل مسؤولية هذا الدور الجسيم على أكمل وجه، ولأجل ذلك ستمضي عجلة الامتحان والاختبار الإلهي على مستويين أو مرحلتين:
المرحلة الأولى: ما عبرت عنها الروايات بمرحلة التمييز والتفريق، وهذه المرحلة ستكون شاملة لجميع الناس لفرز المؤمن عن غيره والصالح عمن سواه، يقول تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾، وورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في سياق حديثه عن ولده الإمام المهدي (عجّل الله فرجه): وليغيبن عنهم تمييزاً لأهل الضلالة. [الغيبة للشيخ النعماني: ص143]
المرحلة الثانية: مرحلة التمحيص والغربلة وهي مرحلة متأخرة عن المرحلة الأولى وستكون خاصة بالمؤمنين والمنتمين لشيعة أهل البيت (عليهم السلام) يقول تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وورد عن الإمام الباقر (عليه السلام): لتمحصن يا شيعة آل محمّد تمحيص الكحل في العين. [الغيبة للشيخ النعماني: ص214]
ولذلك نجد في كثير من الأحيان الروايات الشريفة تعطف ظاهرة التمحيص بعد التمييز للتغاير بين المرحلتين، فقد روى الكليني عن المنصور بن الوليد عن الإمام الصادق (عليه السلام): يا منصور، إن هذا الأمر لا يأتيكم إلّا بعد إياس لا والله لا يأتيكم حتى تميزوا، لا والله لا يأتيكم حتى تمحصوا. [الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص370]، وورد عنه (عليه السلام): والله لا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى تميزوا وتمحصوا. [قرب الإسناد لعبد الله بن جعفر الحميري: ص369]، وورد عن الإمام الباقر (عليه السلام): والله لتميزن والله لتمحصن والله لتغربلن كما يغربل الزؤان من القمح. [الغيبة للشيخ النعماني: ص213]
وكما أن الغربلة والتصفية ينتج عنها الفائزون والرابحون، سينتج عنها أيضاً الفاشلون والخاسرون، وهذه ظاهرة نلاحظها بجلاء ووضوح في الكثير من مواضع التأريخ وشواهده سواء في الأمم السابقة أم الأمة الإسلامية، فكم ممن عاصروا الأنبياء السابقين (عليهم السلام) أو نبينا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، أو حتى الأئمة (عليهم السلام) زلت بهم الأقدام بعد الثبات وبعد الإيمان ولأجل أنّ قانون التمحيص والتمييز في مستواه الثاني أشد وآكد منه في مستواه الأول تُحدّثنا الروايات أن القلة فقط هم الذين سيعبرون هذه المرحلة.
فقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام): أما والله لا يكون الذي تمدون إليه أعينكم حتى تميزوا أو تمحصوا حتى لا يبقى منكم إلّا الأندر. [الغيبة للشيخ الطوسي: ص337]، وفي رواية الشيخ المفيد في الإرشاد عنه (عليه السلام): حتّى تميّزوا وتمحّصوا ولا يبقى منكم إلّا القليل. [الإرشاد الشيخ المفيد: ص375]
وبعد ذلك لا نتفاجأ إذا حدثتنا الروايات والأحاديث أن بعض من ينتسب لهذا الخط قد ينقلب على عقبيه أو يخرج عن دائرة اتّباعهم (عليهم السلام) لينتهي به الحال في آخر المطاف إلى الانحراف، مبرراً سقوطه وفشله بإنكار أصل العقيدة المهدوية أو فكرة المهدي الموعود (عجّل الله فرجه) ليقول بلسان حاله أو مقاله (هلك بأي واد سلك)، وهي مقولة بطبيعة الحال لا تصدر إلّا ممن كان مؤمناً بوجوده وبغيبته (عجّل الله فرجه) في مرحلة ما، وإلّا فإن المنكرين والمكذبين له ما كانوا ليقولوا عنه ذلك بعد أن كانوا غير مؤمنين به من أول الأمر، ولذا ورد في بعض الروايات ما يُفهم منها نسبتها للفئة الثانية دون الأولى.
فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): فإذا استدار الفلك قلتم: مات أو هلك وأي واد سلك. [تفسير العياشي لمحمد بن مسعود العياشي: ج2، ص282]، وورد عنه أيضاً (عليه السلام): فإذا اشتد القتل، قلتم: مات أو هلك أو أي واد سلك. [بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج53، ص60]
والذي يؤيد هذا المعنى بوضوح أن الروايات فسّرت استدارة الفلك بالاختلاف الذي سيقع بين المحسوبين على خط التشيع، فقد سُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن معنى ذلك فقال (عليه السلام: اختلاف الشيعة بينهم. [ الغيبة للشيخ النعماني: ص159]، وهو الأمر الذي استفاضت الروايات في الإشارة إليه والتحذير منه باعتباره أشد مراحل الاختبار والتمحيص، وهو الذي سيقع في الفترة المتاخمة لعصر الظهور، وكحلقة أخيرة من حلقات الامتحان والغربلة.
فقد روى النعماني عن مالك بن ضمرة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا مالك ابن ضمرة! كيف أنت إذا اختلفت الشيعة هكذا، وشبك أصابعه وأدخل بعضها في بعض، فقلت: يا أمير المؤمنين ما عند ذلك من خير؟ قال: الخير كله عند ذلك يا مالك، عند ذلك يقوم قائما فيقدم سبعين رجلاً يكذبون على الله وعلى رسوله فيقتلهم، ثم يجمعهم الله على أمر واحد. [الغيبة للشيخ النعماني: ص214]
وفي كل الأحوال الذي نفهمه من هذه الكلمة أنها جاءت كناية عن سقوط البعض ممن يُحسب على التشيع في فتنة البصيرة والمعرفة قبل أن تكون في السلوك أو الادّعاء، وأن الذي يجري إنما هو كشف للبواطن والحقائق ليحيى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، ولا نجاة في ذلك إلّا لمن صلحت سريرته وثبت يقينه وصبر في منعطفات الفتن والابتلاء بالتسليم والرضا بكل ما جاء به أهل البيت (عليهم السلام)، ولا يتحصل هذا المعنى ولا يتحقق إلّا بالعلم والعمل، فقد ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في سياق حديثه عن الغيبة الكبرى أنه قال: فيطول أمدها حتى يرجع عن هذا الأمر أكثر من يقول به، فلا يثبت عليه إلّا من قوي يقينه وصحت معرفته ولم يجد في نفسه حرجاً مما قضينا وسلم لنا أهل البيت. [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص324]
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)

عصر الغيبة : ٢٠٢١/٠٣/١٨ : ٣.٥ K : ٠
: أحمد : مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
التعليقات:
لا توجد تعليقات.