ارسل سؤالك المهدوي:
المسار
عصر الغيبة

(١١٩١) هل يسكن الإمام (عجّل الله فرجه) المدينة المنورة؟

هل يفهم من هذه الرواية أن الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) يسكن المدينة المنورة (طيبة أو رضوى).
ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام): لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة، ولابد له في غيبته من عزلة، ونِعْمَ المنزل طيبة، وما بثلاثين من وحشة.
وفي دعاء الندبة: أبرضوى أو غيرها أم ذي طوى، فإن رضوى: جبل بالمدينة، يروى أنه (عجّل الله فرجه) قد يكون هناك.
وربما أيضاً يستفاد من هذه، عن أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: يفقد الناس إمامهم، يشهد الموسم فيراهم ولا يرونه.


بسم الله الرحمن الرحيم
لا يمكن الجزم بتعيين مكان محدد يستقل بوجود الإمام (عجّل الله فرجه) فيكون معزولاً فيه دون غيره على نحو دائم، فقد ورد في بعض زياراته (عجّل الله فرجه): الغائب عن الأبصار والحاضر في الأمصار. [المزار الكبير لمحمد بن جعفر المشهدي: ص107]
وما ورد أيضاً في دعاء الندبة: (بنفسي أنت من مغيب لم يخل منا)، مضافاً لما ورد في كلام الإمام الصادق (عليه السلام) مما يوحي بحركة الإمام (عجّل الله فرجه) وانتقالاته المستمرة في البلدان والأوطان، فقد جاء في الخبر الذي رواه سدير عنه: فما تنكر هذه الأُمة أن يكون الله (عزَّ وجلَّ) يفعل بحجَّته ما فعل بيوسف، أن يكون يسير فيما بينهم ويمشي في أسواقهم ويطأ بسطهم وهم لا يعرفونه، حتَّى يأذن الله (عزَّ وجلَّ) له أن يُعرِّفهم نفسه. [الغيبة للشيخ النعماني: ص167]
ولا يخفى أن الجزم بمكان الإمام (عجّل الله فرجه) والتعرف عليه لا ينسجم مع مقتضى غيبته وخفاء عنوانه، بل هو ما ورد التشديد في النهي عنه الأمر الذي نهى عنه الإمام (عجّل الله فرجه) سفراءه أن يرشدوا إليه الآخرين، فقد روى علي بن صدقة القمي (رحمه الله) قال: خرج إلى محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) ابتداء من غير مسألة ليخبر الذين يسألون عن الاسم: إمّا السكوت والجنة، وإمّا الكلام والنار، فإنهم إن وقفوا على الاسم أذاعوه، وإن وقفوا على المكان دلوا عليه. [الغيبة للشيخ الطوسي: ص364]
وكذلك ما جاء من الزجر الشديد في التوقيع الشريف في حق (أبي العباس الخجندي) ومحاولاته في الوصول لمكانه (عجّل الله فرجه)، فقد روى الشيخ الطوسي (قدس سره) في كتابه الغيبة عنه قال: حدثنا أبو العباس الخجندي وكان قد ألـحَّ في الفحص والطلب، وسار في البلاد، وكتب على يد الشيخ أبي القاسم بن روح (رضي الله عنه) إلى الصاحب (عجّل الله فرجه) يشكو تعلق قلبه واشتغاله بالفحص والطلب، ويسأل الجواب بما تسكن إليه نفسه، ويكشف له عما يعمل عليه، قال: فخرج إليَّ توقيع نسخته: من بحث فقد طلب، ومن طلب فقد دل، ومن دلَّ فقد أشاط، ومن أشاط فقد أشرك. قال: فكففت عن الطلب وسكنت نفسي، وعدت إلى وطني مسروراً والحمد لله. [الغيبة للشيخ الطوسي: ص323]
ومع ذلك فقد كثر البحث في هذا الموضوع مؤخراً وكثر السؤال عنه خصوصاً بعدما أثيرت بعض التساؤلات والاستفسارات التي ترتبط بشكل وآخر بالافتراضات والتصورات التي تُطرح في طبيعة المكان الذي يمكن أن يكون مستقَراً للإمام (عجّل الله فرجه) وسكناً له، مع الأخذ بنظر الاعتبار حقيقة الانكشاف التام لجميع بقاع الأرض في عصرنا الحالي والرصد الأمني والاجتماعي الدقيق للأفراد والأشخاص، وللإجابة عن هذه الإشكالية وجدت عدة نظريات مختلفة حاولت أن تقدم الإجابة عن ذلك بين من يقول إنه (عجّل الله فرجه) يعيش في المدن والمجتمعات البشرية بشكل سري مع ما يلزم ذلك من الكلفة والمشقة للحفاظ على خفاء عنوانه (عجّل الله فرجه)، وبين من يقول إنه يعيش في عالم برزخي خارج عن عالمنا المشهود، وبين من يحكي قصة الجزيرة الخضراء وما تضمنته من عجائب وتفاصيل غريبة، وبين من يزعم أن الإمام (عجّل الله فرجه) قد يكون ساكناً فيما يسمى بـ(مثلث برمودا) بسبب ما يُرى فيه من حوادث تتَّسم بالغموض والألغاز انتشرت في أوساط العامة.
والذي يمكن أن نستظهره من رواياتنا والأحاديث التي رويت عن أهل البيت (عليهم السلام) أن الإمام (عجّل الله فرجه) يعيش في عالمنا هذا وفي أرضنا هذه، فقد جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام) في سياق حديثه عن تعدد العوالم قوله: كلما مضى منا إمام سكن أحد هذه العوالم حتى يكون آخرهم القائم في عالمنا الذي نحن ساكنوه. [بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار: ص425]، وهو أيضاً مؤدى ما دل على وجه الشبه بينه وبين بعض الأنبياء (عليهم السلام) مع ما يستلزم ذلك من لابدية افتراض وجوده بيننا بشكل فعلي، وإلّا لما صحت تلك الوجوه بينه وبينهم (عليهم السلام)، فقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): في القائم سُنة من موسى، وسُنة من يوسف، وسُنة من عيسى وسُنة من محمد (صلى الله عليه وآله)، فأمّا سُنة موسى فخائف يترقب، وأمّا سُنة يوسف فإن إخوته كانوا يبايعونه ويخاطبونه ولا يعرفونه، وأمّا سُنة عيسى فالسياحة... . [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص28]
وأمّا القول بأنه (عجّل الله فرجه) يعيش في جزيرة خضراء أو في مثلث برمودا أو يسكن بين ظهرانينا فهو لا يعدو أن يكون إمّا حديث خرافة أو مما لا دليل يُعتمد عليه من نقل ولا عقل، وعلى ضوء كل ما تقدم فإن ما نستقربه بل وما يظهر من الروايات أن للإمام (عجّل الله فرجه) بعض الأماكن التي لها نوع ارتباط وصلة به (عجّل الله فرجه) أكثر من غيرها، كما ورد ذلك بالنسبة للمدينة المنورة فيما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): لابدَّ لصاحب هذا الأمر من عزلة، ولابدَّ في عزلته من قوَّة، وما بثلاثين من وحشة، ونِعْمَ المنزل طيبة. [الغيبة للنعماني: ص194]، مع الإيمان بأن هذا المكان لابد أن يكون محمياً ومحفوظاً من قبله تعالى، لا يُتاح لأحد أن يقف عليه أو يسنح وصوله إليه، كما قد يرشّح هذا المعنى مما ورد في لقاء ابن مهزيار حينما وصل إلى مكان الإمام (عجّل الله فرجه) وكلام الخادم معه: انزل فها هنا يذل كل صعب ويخضع كل جبار. ثم قال: إن هذا حرم لا يدخله إلّا ولي، ولا يخرج منه إلّا ولي. [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص468]
ولابد أن يكون هذا المكان بعيداً عن التشكلات والتجمعات السكانية ضرورة أن المعجزات تبقى هي الاستثناء في مجمل حركة الأحداث الجارية وتقدّر بأقدار المصلحة التي لا تحصل ضمن السنن الطبيعية والقوانين المتعارفة، وهذا ما نستكشفه بوضوح في خبر ابن المهزيار، فيما رواه عن الإمام (عجّل الله فرجه) بقوله: يا بن المهزيار، أبي أبو محمد عهد إليَّ أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم، وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلّا وعرها، ومن البلاد إلّا عفرها. [الغيبة للشيخ الطوسي: ص266]
وفي رواية أخرى: فعليك يا بنى بلزوم خوافي الأرض وتتبع أقاصيها، فإن لكل ولي لأولياء الله (عزَّ وجلَّ) عدواً مقارعاً وضداً منازعاً، ... فلا يوحشنك ذلك. [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص448] وكذلك هو مضمون ما جاء في التوقيع الشريف للشيخ المفيد (رحمه الله): نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح، ولشيعتنا المؤمنين في ذلك، ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا يحيط علمنا بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم. [الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج2، ص325]
وتتفق هذه الروايات وما تعطيه من مؤشرات في مجملها العام مع طبيعة العلاقة بين مسكن الإمام (عجّل الله فرجه) وبين ما ورد في حق جبل رضوى أو ذي طُوى، فقد جاء في غيبة الشيخ الطوسي: عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: خرجت مع أبي عبد الله (عليه السلام) فلما نزلنا الروحاء نظر إلى جبلها مطلاً عليها، فقال لي: ترى هذا الجبل؟ هذا جبل يدعى رضوى من جبال فارس أحبنا فنقله الله إلينا، أما إن فيه كل شجرة مطعم، ونِعْمَ أمان للخائف مرتين، أما إن لصاحب هذا الأمر فيه غيبتين: واحدة قصيرة والأخرى طويلة. [الغيبة للشيخ الطوسي: ص163]
وما رواه النعماني في كتابه الغيبة عن إسماعيل بن جابر، عن الإمام الباقر (عليه السلام): يكون لصاحب هذا الأمر غيبة في بعض هذه الشعاب - وأومأ بيده إلى ناحية ذي طوى -. [الغيبة للشيخ النعماني: ص187]
وما رواه أيضاً عنه (عليه السلام) برواية أبي بصير: أن القائم يهبط من ثنية ذي طوى في عدة أهل بدر - ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً - حتى يسند ظهره إلى الحجر الأسود، ويهز الراية الغالبة. قال علي بن أبي حمزة: فذكرت ذلك لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)، فقال: كتاب منشور. [الغيبة للشيخ النعماني: ص329]
وبعد هذه الأحاديث الثلاثة التي تحدثت عن جبل رضوى وذي طوى يصبح واضحاً لدينا ما جاء في دعاء الندبة وما تضمنه من الحديث حولهما (أبرضوى أو غيرها أم ذي طوى)، كما يتسنى ضم الاثنين من دون تزاحم وتعارض في كون الأول مقاماً له (عجّل الله فرجه) في بدايات الغيبة، والثاني مقاماً له (عجّل الله فرجه) في نهاياتها، مع ضرورة التنويه على أن كل الأحاديث السابقة وما ورد في دعاء الندبة لا تقتضي بالضرورة حصر مكان الإمام (عجّل الله فرجه) في مكان محدد لا يخرج عنه أبداً، كيف وقد دلّت الأخبار التي ذكرناها سابقاً على سياحته في الأرض وانتقاله المستمر بين الناس والبلدان لاسيما مع إيماننا التام بما يمتلكه الإمام (عجّل الله فرجه) من الولاية التكوينية والقدرة على طي الأرض في قطع المسافات بين البلدان، ولكن لا تعني تلك التنقلات المستمرة والحركة الدؤوبة استغناءه (عجّل الله فرجه) عن المكان والمستراح الذي يؤوي إليه بعيداً عن أعين الظالمين، فقد روى المفضل، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن لصاحب الأمر بيتاً يقال له: بيت الحمد فيه سراج يزهر منذ يوم ولد إلى يوم يقوم بالسيف. [الغيبة للشيخ الطوسي: ص467]
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)

عصر الغيبة : ٢٠٢٢/٠٣/٣١ : ١.٨ K : ٠
: عابدين : مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
التعليقات:
لا توجد تعليقات.