(١٣٣٠) لماذا لم يقم الإمام المهدي (عجل الله فرجه) بتصحيح كتاب الكافي الشريف؟
وجَّه أحد أهل الخلاف لنا سؤالاً وكان جوابنا عليه التالي فما هو تقييمكم لجوابنا وفقكم الله؟
قالوا: لماذا لم يقم الإمام المهدي (عجل الله فرجه) بتصحيح كتاب الكافي الشريف؟
قلنا: ولماذا لم يقم النبي الخاتم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتأليف كتاب صحيح لسنته الشريفة، وهو الذي قال ستكثر الكذابة عليّ؟
وجواب الأول: هو أن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أرجع المؤمنين إلى العلماء وقال: هم حجتي عليكم، كما أرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المؤمنين إلى الأئمة (عليهم السلام)، وربما يكون عدم تأليف هكذا كتاب حتى لا يشارك القرآن الكريم كتاب آخر بصفته أي بكونه صحيحاً من أوله لآخره ومحفوظ من التغيير والتحريف والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
جوابكم النقضي محكم وهو وارد على صاحب الشبهة، على أن هذا المستشكل إن كان يعتبر تدوين الحديث وتصحيحه أمراً مهماً وجديراً بنا، فعليه أن يقدم الجواب عن سيرة الخلفاء التي منعت بعد رحيل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تدوين الحديث وتصحيحه...
فقد ذكر الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين: (بل الكتب والتصانيف محدثة لم يكن شيء منها في زمن الصحابة وصدر التابعين وإنَّما حدث بعد سنة مائة وعشرين من الهجرة وبعد وفاة جميع الصحابة وجملة التابعين (رضي الله عنهم)) [إحياء علوم الدين الغزالي، ج1، ص134] فإن كان التدوين أمراً حسناً وصحيحاً فعلام منعه الأولون من السلف؟ وإن كان أمراً سيئاً فلا معنى للإشكال والاعتراض بطبيعة الحال، هذا الجواب يبقى جواباً نقضياً لا يحل الإشكال أو يرده، بل قد يزيده غموضاً وتعقيداً لأنه يتضمن الطعن في شرعية سؤال السائل وإشكاله، ولا يقدم الجواب العلمي فيما لو كان السائل مستفهماً عن الحق وطالباً لاستيضاحه، وأنتم حاولتم أن تقدموا جواباً آخر يبتني على فكرة أن عدم تصحيح الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لكتاب الكافي أو غيره لئلا يشارك القرآن الكريم في صحته وسلامته، وهذا الجواب بلا شك ليس بصحيح لأن السنة النبوية تتشارك فعلاً مع القرآن الكريم في حجيته وأهميته وهما لا يفترقان في التأسيس والتأصيل، يقول تعالى: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ ولا يخفى أن حفظ حديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتدوينه هو من ضمن أسباب الأخذ والالتزام به، ولأجل ذلك شجَّع الأئمة (عليهم السلام) أصحابهم كتابة الحديث وتقييده لئلا يضيع هذا التراث الثمين.
فقد روي عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا. [الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص52] وروى المفضل بن عمر، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اكتب وبث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلّا بكتبهم. [الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص52]
ومن هنا دأب أصحاب الأئمة (عليهم السلام) على كتابة تلك الأحاديث وتقييدها تحريرياً حتى عُرف عند الطائفة مصطلح (الأصول الأربعمائة) وهي عبارة عن الكتب التي ألَّفها هؤلاء الأصحاب بسماع من الإمام المعصوم (عليه السلام) بشكل مباشر ومن غير واسطة، كما عرفه بذلك العلامة المامقاني في مقباس الهداية ج3، ص24.
وعليه فإن هذه الأصول المنقولة هي عبارة أخرى عن كتب ألَّفها الأئمة (عليهم السلام) بواسطة أصحابهم، ولذلك نحن نجد على سبيل المثال أن زرارة كان يأتي بألواحه ودفاتره، ويجلس عند الإمام الصادق (عليه السلام) يحدثه وهو يكتب نص تلك الأحاديث، كما روى ذلك الكشي في رجاله. [رجال الكشي لمحمد بن عمر الكشي: ج1، ص355]
والذي ينبغي الالتفات إليه أن كل الكتب والمصادر الحديثية المعتمدة عندنا من الكافي الشريف للكليني أو كتاب من لا يحضره الفقيه والاستبصار للصدوق أو التهذيب للطوسي هي عبارة عن تجميع لتلك الأحاديث المتفرقة في الأصول الأربعمائة، ولذلك استغنى الشيعة بهذه الكتب الأربعة عن تلك الأصول وأصبحت هي المرجع الحديثي للفقهاء والعلماء، نعم تبقى قضية يمكن أن تكون محلاً للسؤال والاستفهام وهي لماذا لم يتصدَّ الأئمة (عليهم السلام) بأنفسهم إلى تأليف الكتب وتدوينها ثم نشرها بين الناس بأسمائهم؟
وللجواب عن هذا السؤال ينبغي الالتفات بعناية إلى الواقع الذي كان يعيشه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) خصوصاً والشيعة عموماً، فيما لو صدر هذا الكتاب وذلك لأن المقصود والغاية من هذا الكتاب هو بيان أفكار أهل البيت (عليهم السلام) وعقائدهم وأحكامهم الشرعية بكل وضوح وانكشاف من غير إبهام ولا غموض، والحال أن الواقع السياسي والأمني الجائر آنذاك لم يكن يسمح بهذه الخطوة، بل ولا أقل منها، بل ستشكل المبرر والذريعة للقضاء على التشيع وأهله بعد أن كانت السلطات الظالمة آنذاك تدعو لقراءة خاصة للدين ترى أن مخالفتها خروجاً من نفس الدين وسبباً كافياً لهدر دم المخالفين لهم، فقد روى عنبسة بن مصعب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لولا أن يقع عند غيركم كما قد وقع غيره لأعطيتكم كتاباً لا تحتاجون إلى أحد حتى يقوم القائم. [بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار: ص498]
فإن الإمام الصادق (عليه السلام) يبيِّن أن الذي يمنعه من هذه الخطوة هو ما ذكرناه سابقاً، بل أن الأقل من ذلك كان يشكل إشكالية كبرى قد تأتي بالضرر الكبير على الشيعة وتؤدي إلى القضاء عليهم.
والحال أن التقية وإخفاء الحقيقة في الظروف التي تؤدي إلى هلاك المؤمنين واستباحة دمائهم أمراً عقلائياً فضلاً عن كونه حكماً شرعياً قد نصَّ عليه القرآن الكريم، وتظافرت فيه الأحاديث الشريفة، وجرت عليه سيرة أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كعمار بن ياسر وغيره.
ومن هنا فإن وجود كتاب يؤلفه أحد الأئمة (عليه السلام) ثم يصبح منهجاً عاماً لكل الشيعة سوف يؤدي إلى فقدانهم المبادرة وإمكانية الخروج عن تعاليم ذلك الكتاب وهو ما يؤدي إلى انكشافهم التام والواضح لأعدائهم فيسهل تشخيصهم ورصدهم وهو الأمر الذي لم يرده الأئمة (عليهم السلام) شفقة ورعاية لهم، ولذا روى الكليني بسند معتبر عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت: يا بن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يا زرارة، إن هذا خير لنا وأبقى لنا، ولكن ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم. [الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص65]
مضافاً إلى ذلك أن الناظر في كلام الأئمة (عليهم السلام) ومنهجيتهم في بيان العقائد والمفاهيم يرى بوضوح أن تلك المنهجية تعتمد على طبيعة المتلقي والسامع، فهناك من العقائد والأفكار التي يتحملها جميع الناس، وهناك من العقائد والأفكار الدقيقة والعميقة التي لا يتحملها إلّا الخواص، وهناك ما لا يطيقه إلّا خاصة الخاصة، ومن هنا روى الكليني عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قوله: والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله، ولقد آخا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بينهما، فما ظنكم بسائر الخلق، إن علم العلماء صعب مستصعب، لا يحتمله إلّا نبي مرسل أو مَلَك مقرب أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان. [الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص401]
فلو كان هناك كتاب واحد ومنهجية واحدة في البيان لأدّى ذلك إلى وقوع الفتنة والقلاقل بين نفس الموالين والمؤمنين بسبب اختلافهم في الاستعداد والقدرة على التحمل، ثم ينتهي الأمر بهم أن يكذب أحدهم الآخر أو يكفره أو يقتله على حدِّ تعبير كلام الإمام السجاد (عليه السلام)، وقد ورد في الحديث المعتبر الذي رواه الكليني نصيحة الإمام الصادق (عليه السلام) لعمر بن حنظلة وكان من خواصه قوله: يا عمر لا تحملوا على شيعتنا وأرفقوا بهم، فإن الناس لا يحتملون ما تحملون. [الكافي للشيخ الكليني: ج8، ص334]
وهذا ما يرشح أيضاً من كلام للإمام الصادق (عليه السلام) ذكره كأحد الموانع التي تمنعه من تأليف كتاب واحد جامع، فقد روى عبد الأعلى عنه: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَكْتُبَ كِتَاباً لَا يَخْتَلِفُ عَلَيَّ مِنْهُمُ اثْنَانِ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا كُنَّا قَطُّ أَحْوَجَ إِلَى ذَلِكَ مِنَّا الْيَوْمَ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَنَّى هَذَا ومَرْوَانُ وابْنُ ذَرٍّ. [الكافي للشيخ الكليني: ج8، ص223]
وهو يؤيد ما ذكرناه سابقاً، فقد شرح العلامة المجلسي هذا الحديث في كتابه مرآة العقول بقوله: قوله (عليه السلام): أَنَّى هَذَا ومَرْوَانُ وابْنُ ذَرٍّ. أي لا ينفع هذا في رفع منازعة مروان، والمراد به أحد أصحابه (عليه السلام) وابن ذر رجل آخر من أصحابه، ولعله كان بينهما منازعة شديدة لتفاوت درجتهما، واختلاف فهمهما، فأفاد (عليه السلام) أن الكتاب لا يرفع النزاع الذي منشأه سوء الفهم، واختلاف مراتب الفضل. [مرآة العقول للعلامة المجلسي: ج26، ص150]
وعليه فإن الموقف الحكيم والمنسجم مع طبيعة الظروف والمتلقين يحتم ذات الموقف الذي اتَّخذه الأئمة (عليهم السلام) في التعاطي مع فكرة التأليف أو التصحيح لكتاب دون كتاب آخر، لأنه لن يؤدي إلى النتائج المرجوة من عدم الاختلاف، بل قد تكون له انعكاسات أكثر ضرراً من المنفعة المبتغاة، على أن الأحكام والعقائد الضرورية التي تشكِّل المقوِّم الأساس لعقيدة المذهب الشيعي والتي لا يسع أحد جهلها أو التخلُّف عنها ثابتة ومستقرة في أتباع هذا المذهب، وهي أوضح من الشمس في رائعة النهار، ولن يزيدها وضوحاً تأليف كتاب أو تصحيحه بعد أن وصلت مضامينها إلينا بالتواتر واليقين، وأمّا تفصيلات الأحكام وفروع المعارف العقائدية والتي يمكن أن يقع فيها النظر والاختلاف فليست أمراً يغاير الإيمان أو يخرج الإنسان عنه فيما لو التزم المكلف المنهج الصحيح والمعهود من سيرة أهل البيت (عليهم السلام) ثم التسليم لهم فيما أمروا به من الرجوع إلى العلماء والفقهاء، وأدلَّ دليل على ذلك ما روي عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بعد أن سُئل عن حديثين مختلفين في بعض مسائل الفقه الجزئية، فورد التوقيع الشريف من الناحية المقدسة: (بأيهما أخذت من باب التسليم كان صواباً). [بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج2، ص277]
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)
: محمد عبد الخالق : مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)