تمهيدنا
كيف نكون إلهيين؟
رئيس التحرير
منذ أن خُلِقَ الإنسان وله هدف.
بعد معرفة الهدف تبدأ المعاناة متمثلةً في كيفية الوصول إليه، وفي من الذي يعيننا على هذا الوصول.
منهجان متغايران:
* منهج إلهي: صرّح بالهدف بوضوح، كما في قوله تعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: ٥٦)، كما وصرّح بإيصاله إلى الناس بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (القصص: ٥١).
وقد ورد في الحديث عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قَوْلِه: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ﴾ [التوبة: ١١٥]، قَالَ: «حَتَّى يُعَرِّفَهُمْ مَا يُرْضِيه ومَا يُسْخِطُه»(١).
* منهج بشري، لا يملك ذلك الوضوح حيث يصرِّح أتباعه بين الحين والآخر بضعف أدواتهم المعرفية عن وضع الأجوبة المناسبة للأسئلة الكبرى في حياة البشرية.
الإلهي، ولسبب أو آخر تدخّل فيه البشري فلم يبقَ منه إلّا اسمه عند جملة من الأديان والمذاهب فصار اسمه إلهياً وواقعه بشرياً.
قال تعالى: ﴿يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ﴾ (البقرة: ٧٥).
وهذا كان أحد أسبابه تداخل مساحات البشر وتدخلهم في المساحة الإلهية التعبدية.
* ضرورة تحديد المساحات:
لابد أن نحدد مساحة البشر في الدين وأدوات حركة الإنسان في المنظومة الدينية وإلّا فسوف يتحول الدين من إلهي إلى بشري، ونفقد مع هذا التحول إمكانية الوصول إلى الهدف المنشود.
نحن في هذا المذهب والدين الحق نرى أن من يحدد الدين هو الله تعالى، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى...﴾ (الشورى: ١٣)، وليس للبشر - بمعزل عن الله - دور فيه، قال تعالى: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ (الحشر: ٧).
* الدين كمنظومة يتركب من قواعد وهي العقيدة وقوانين وهي التكاليف الشرعية وقيم وآداب وهي الأخلاق.
ويبتني على أسس في تحقيق هذه المنظومة، وهي الشريعة الإلهية.
* يشكِّل الإيمان بالغيب والطاعة ووجود الواسطة في الاتصال من ركائز المنظومة الدينية الأساسية.
ففي الروايات الشريفة وردت العديد من النصوص المتضمنة لبيان هذا المعنى، منها:
عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قَالَ: «إِنَّا لَمَّا أَثْبَتْنَا أَنَّ لَنَا خَالِقاً صَانِعاً مُتَعَالِياً عَنَّا وعَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَ، وكَانَ ذَلِكَ الصَّانِعُ حَكِيماً مُتَعَالِياً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَاهِدَه خَلْقُه ولَا يُلَامِسُوه فَيُبَاشِرَهُمْ ويُبَاشِرُوه ويُحَاجَّهُمْ ويُحَاجُّوه، ثَبَتَ أَنَّ لَه سُفَرَاءَ فِي خَلْقِه يُعَبِّرُونَ عَنْه إِلَى خَلْقِه وعِبَادِه ويَدُلُّونَهُمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ ومَنَافِعِهِمْ ومَا بِه بَقَاؤُهُمْ وفِي تَرْكِه فَنَاؤُهُمْ، فَثَبَتَ الآمِرُونَ والنَّاهُونَ عَنِ الحَكِيمِ العَلِيمِ فِي خَلْقِه والمُعَبِّرُونَ عَنْه جَلَّ وعَزَّ وهُمُ الأَنْبِيَاءُ (عليهم السلام) وصَفْوَتُه مِنْ خَلْقِه، حُكَمَاءَ مُؤَدَّبِينَ بِالحِكْمَةِ، مَبْعُوثِينَ بِهَا غَيْرَ مُشَارِكِينَ لِلنَّاسِ عَلَى مُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي الخَلْقِ والتَّرْكِيبِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ مُؤَيَّدِينَ مِنْ عِنْدِ الحَكِيمِ العَلِيمِ بِالحِكْمَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كُلِّ دَهْرٍ وزَمَانٍ مِمَّا أَتَتْ بِه الرُّسُلُ والأَنْبِيَاءُ مِنَ الدَّلَائِلِ والبَرَاهِينِ لِكَيْلَا تَخْلُوَ أَرْضُ الله مِنْ حُجَّةٍ يَكُونُ مَعَه عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِه وجَوَازِ عَدَالَتِه»(٢).
* لابد لتحقيق الدين وتجسيده أن نؤمن بالغيب وهو الرسول ومن يخلفه من الإمام (عليه السلام) على ما يأتي في الرواية قريباً، وأن نحقق الواسطة في الوصول، والطاعة في الالتزام بالمنظومة.
ومن الروايات الدالة على المضامين المتقدمة ما روي عن يحيى بن أبي القاسم، قال: سألت الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿الم * ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ [البقرة: ١-٣] فقال: «المتقون شيعة علي (عليه السلام)، والغيب فهو الحجة الغائب، وشاهد ذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرِينَ﴾ [يونس: ٢٠] فأخبر (عزَّ وجلَّ) أن الآية هي الغيب، والغيب هو الحجة، وتصديق ذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠] يعني حجة»(٣).
- وعن عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: عَلَى الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والحَجِّ والصَّوْمِ والوَلَايَةِ... ذِرْوَةُ الأَمْرِ وسَنَامُه ومِفْتَاحُه وبَابُ الأَشْيَاءِ ورِضَا الرَّحْمَنِ الطَّاعَةُ لِلإِمَامِ بَعْدَ مَعْرِفَتِه، إِنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ [النساء: ٨٠]، أَمَا لَوْ أَنَّ رَجُلاً قَامَ لَيْلَه وصَامَ نَهَارَه وتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِه وحَجَّ جَمِيعَ دَهْرِه ولَمْ يَعْرِفْ وَلَايَةَ وَلِيِّ الله فَيُوَالِيَه ويَكُونَ جَمِيعُ أَعْمَالِه بِدَلَالَتِه إِلَيْه، مَا كَانَ لَه عَلَى الله جَلَّ وعَزَّ حَقٌّ فِي ثَوَابِه ولَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ»، ثُمَّ قَالَ: «أُولَئِكَ المُحْسِنُ مِنْهُمْ يُدْخِلُه الله الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِه»(٤).
* هناك مرتكز آخر نلحظه متجسداً في المذهب الحق وهي العاطفة التي تعطي الطاقة لهذه المنظومة المتمثلة بالشعائر عموماً والشعائر الحسينية خصوصاً.
* العاطفة لكي تتحرك لابد أن يكون هناك شيء منتظَر، وإلّا فنفس العاطفة بما هي هي لا تروي غليل المتعطشين والمفجوعين، فلولا وجود المهدي (عجَّل الله فرجه) الموعود المنتظر، الذي يعطي للعاطفة رونق التحقق والأخذ بحق المظلومين والمستضعفين لما كان لهذه العاطفة أن تتحرك وتستمر وتعطي هذا الزخم الكبير على جميع الأبعاد.
فمن يرغب أن يصير إلهياً عليه أن يؤمن بالغيب، ومنه أن يؤمن بالمنتظَر بما يحويه هذا الاعتقاد من مضامين فكرية وأخلاقية.
وعليه أن يلحظ في كل خطواته قوانين الدين المقننة على يد الغيب والنازلة على صدر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والمبيَّنة على لسان الأئمة (عليهم السلام).
وعلى كل فردٍ منّا في ذات الوقت أن يهتم بأعلى درجات الاهتمام بالبعد الروحي والعاطفي المتمثل بالشعائر الدينية عموماً والحسينية خصوصاً، وما يمثله هذا البعد من ربط وجداني وعاطفي في حياة المؤمنين وتجسيد إيمانهم بالمنظومة الدينية.
* فالشخص الإلهي هو الملتزم بقانون الدين، المؤمن بالغيب، والمستحضر للطاقة العاطفية في الدين والتي من أبرزها كربلاء الحسين (عليه السلام).
الإلهي، هو المنتظِر لقضاء السماء لتحقيق العدل وأخذ الثأر لمأساة كربلاء كما في روايات العترة الطاهرة (عليهم السلام)، ومنها:
أ - في مقطع من الدعاء المعروف بالندبة: «... أين الطالب بذحول الأنبياء وأبناء الأنبياء، أين الطالب بدم المقتول بكربلاء، أين المنصور على من اعتدى عليه وافترى...»(٥).
ب - وفي مقطع من زيارة الإمام الحسين (عليه السلام): «... فأسأل الله الذي أكرم مقامك أن يكرمني بك، ويرزقني طلب ثأرك مع إمام منصور من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)...»(٦).
ج - وفي مقطع آخر: «... وأن يرزقني طلب ثأركم مع إمام مهدي ناطق لكم...»(٧).
د - وفي مقطع آخر من زيارة الإمام الحسين (عليه السلام): «... وأن يوفقني للطلب بثأركم مع الإمام المنتظر الهادي من آل محمد...»(٨).
الهوامش:
(١) الكافي: ج١، ص١٦٣، ح٥.
(٢) الكافي: ج١، ص١٦٨.
(٣) كمال الدين: ص١٨.
(٤) الكافي: ج٢، ص١٩، ح٥.
(٥) المزار - الشيخ محمد بن المشهدي: ص٥٧٩.
(٦) كامل الزيارات - الشيخ جعفر بن محمد بن قولويه: ص٣٢٩-٣٣٠.
(٧) نفس المصدر: ص٣٣٠.
(٨) مستدرك الوسائل - الشيخ النوري: ج١٠، ص٤١٣.