(ليقومَ الناسُ بالقسط)
(ليقومَ الناسُ بالقسط) غاية إلهيّة، حتمية التحقق، وعد غير مكذوب
مرتضى علي
قال تعالى في محكم كتابه العزيز:
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
إنّ هذه الآية الشريفة جمعت في متنها الشريف غايات وأغراضاً ونعلم أن الله تعالى لايُفوّت أهدافه التي يرسمها في نظامه، وكل أفعاله هادفة ومُعللة بالأغراض الحكمية والتي بتمامها تعود لمصلحة وصلاح الإنسان في هذه الحياة الدنيا وتاليتها الآخرة الدار النهائية والموطن الأخير .
فإرساله سبحانه للرسل عليه السلام وببينات واضحات تؤيد دعاويهم في وحدانية الله تعالى ولزوم عبادته وطاعته وإنزاله سبحانه لكل امة كتاب في وقتها ينبغي على البشرية الأخذ منه، ومُردفا إياه بالميزان، وهو كناية عن التشريعات والسنن المعتدلة والعادلة في تطبيقاتها ومعطياتها الحياتية، كل ذلك يستدعي الإيمان بحقيقة قيام الناس بالقسط.
أو لربما ترمز لفظة الميزان إلى إمام الوقت والإنسان في كل زمان ومكان وهذا مااسست له الروايات الصحيحة في تطبيقاتها لمفهوم الميزان على الإمام المعصوم عليه السلام كما ورد أنّ علياً عليه السلام هوالميزان في القرآن.
ومن هذا الباب يكون الإمام المهدي عليه السلام هو ميزان وقتنا هذا ووقت الإمامة الخاتمة والأخيرة في سلسلة المعصومين عليه السلام.
والمهم هو أن ندرك أنّ الغاية الألهية التي حددتها الأية الشريفة يجب أن تأخذ صفة السريان الواقعي والعملي في كيانية الحياة كلها، أخلاقها وفكرها وإجتماعها وسياستها وثقافتها وكل مفردة مفردة.
وهذا ما تطلبه اليوم الشعوب العقلانية غير المتدينة بدين ولكنها أدركت بفطرتها ووعيها أن العدل والقسط مطلب فطري بشري يجب تحقيقه عمليا.
وهنا تتبين حكمة الله تعالى في إنتقائه للفظة الناس وهي كلمة تشمل كل فرد إنساني بغض النظر عن دينه. المهم هو أن يسعى الناس للتعاطي فيما بينهم على اساس القسط والعدل عمليا في حياتهم.
نعم ان الآية في ظاهرها أوكلت مهمة تطبيق القسط وشؤونه إلى الرسل في وقتهم، ولكن هذا لايعني تنحية أغراض الله تعالى وأهدافه من قيام الناس بالقسط عن جدول العمل التغييري والبقاء مكتوفي الأيدي متفرجين راكدين في نقطة معينة.
ان الامر ليس كذلك، لأنّ عبارة (ليقومَ الناسُ بالقسط) فيها شمة تحريك وبعث وإثارة ونهضة بدليل إسناد فعل القيام إلى الناس أنفسهم وهذا مستند قوي في ضرورة أن يؤمن الناس كافة بهذه الحقيقة الدينية، ومن ثمّ ترجمة هذا الإيمان إلى واقع ملموس يبدأ من طرح مفاهيم العدل وبثها ثقافة بين عموم الناس.
ومن أهم الوسائل الفعلية التي نتمكن معها من تطبيق القسط بين الناس هو تنشيط ٍ النظام القضائي والجزائي والعمل على منحه صفة العدالة والأعتدال معا. كي يكون بدوره العادل إن طُبِّق بصورة صحيحة مقدمة إعدادية تؤهل للتأسيس لدولة العدل الإلهي القادمة والتي _يقينا_ أنها ستتقدر بأقدار ظروف ومقتضيات عصرها، وبعبارة أوضح أنّ دولة العدل الألهي تتطلب وجود مرتكزات قبلية عادلة ومشروعة من مؤسسات دولة وكفاءات أفراد ونخب فكرية وثقافية تعمل على تسريع مهمة الظهور وإنجاح مشروع الإمام المهدي عليه السلام بصورته البشرية.
نعم نحن لاننكر قطعا ما سيكون لله تعالى من دور غيبي لنصرة الإمام المهدي عليه السلام في إنجاح قيام الناس بالقسط والقضاء على الظلم ولكن هذالا يعني أنّ الدولة المهدوية ستخرج عن أقدارها البشرية طالما هي في أرض الحياة الدنيا، ومعلوم أن التكليف في زمن الظهور الشريف للإمام المهدي عليه السلام باقٍ والناس ملزمون بالإمتثال له، فمن هنا تبقى حاجة دولة المهدي عليه السلام إلى العنصر البشري طبيعية في تطبيقاتها كافة.
والذي يُعزز فهمنا بلزوم تحقق قيام الناس بالقسط في نهاية المطاف هو نص ذكره الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة/الخطبة /185. في وصف الله تعالى(الذي صدق في ميعاده وارتفع عن ظلم عباده وقام بالقسط في خلقه وعدل عليهم في حكمه).
وفي وقفة تحليلية للمفاهيم التي وردت في هذا النص يتضح الأمر جليا،فالله تعالى صادق الوعد (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) فوعده _يقينا_ يتحقق مهما تأخر، وهو سبحانه لا يظلم عباده بتركهم يتجرعون ظلم البشر والطواغيت (وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأْبْصارُ)
وهو أيضا ذاته تعالى قائما بالقسط تكوينا وتشريعاً (قائما بالقسط) وإنه تعالى(يأمر بالعدل) فكيف لايروم تحقيقه فعلياً.
ونحن إذا ما أردنا جرّ الناس إلى الدين الحق فما علينا إلا أن نخاطبهم من منطلق معيارية العدالة في الأشياء وأنّ العدالة هي معيار الدين وقوامه، فالدين يأمر بكل عدل وعادل في مفاهيمه وتطبيقاته. والقرآن الكريم حكى حقيقة العدالة التي عاشها الناس في بدايات التأريخ البشري وحتى قبل بعثة الإنبياء وذلك في قوله تعالى: (كانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَالله يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)،وهذا يعني ان الناس كانوا على شريعة الحق مذ زمن آدم عليه السلام وحتى بعثة النبوات إلهياً، ففي فطرتهم أنوجد عنصر الإجتماع البشري أنذاك، ولكن حالما اختلفوا بانحرافهم عن الفطرة والعدالة بعث لهم الله تعالى الإنبياء، والقرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة البشريةفي قوله تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)، فالناسُ مفطورون تكوينا على العدل والإيمان به وسيرجعون كذلك في نهاية نضج الإنسان فكريا وسلوكيا
وهذا ما لايختلف عليه إثنان من العقلاء في شرقها وغربها، فلو حدثتَ أحدهم بالعدل وطموح تحقيقه في هذه الحياة لوافقك رأساً وإن كان على غيردينك لأنه يُدرك فطريا حقانية العدل ومشروعيته.
وأخيرايجب أن تنحصر وظيفتنا نحن المؤمنون بمشروع الإمام المهدي عليه السلام بتوعية الناس أيّا كانوا بمفاهيم العدل والقسط وضروراتهما حياتيا بصورة نكسب معها مؤيدين عقلانيين يدعمونا في تعجيل الظهور الشريف للإمام المهدي عليه السلام.