تحت الأضواء
تحت الأضواء
بحــوث ومقـالات للرد على ما يثار من تشكيكات وشبهات في العقيدة المهدوية من على شاشات الفضائيات المأجورة
الإخفـــاء بين سنة الله وإنكار الجاحدين
الشيخ حميد الوائلي
إنّ مما لا ينبغي الشك فيه أنّ التاريخ وبشكل عام كتب بعين السلطان وسمعه، وبقلم المأجورين، ولم ينل من الحقيقة إلاّ جزءا يسيرا، مع ذلك نجد العقلاء يتابعون التاريخ بشكل حثيث، وهذا الديدن العقلائي أرشد إليه القرآن الكريم عندما قال إن في قصص الماضين عبرة لأولي الألباب (لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) فالحديث القرآني عندما يصف أصحاب اللّبّ وهو مركز العقل ومحوره هم الذين ينظرون إلى التاريخ نظرة التفحص والأخذ منه رغم أنّ التاريخ لم يكن منصفا مع البشرية على طول مراحلها لأنّ عين الرقابة كانت مسلطة على أقلام العلماء ومروجة للأقلام المزيفة لأنّ تكتب ما تشتهيه لا ما يقع من أحداث.
وهذا يجعلنا نعيش حالة هي أشبه بالمفارقة، فمع الجزم بكون التاريخ مزوراً تكون العبرة والاعتبار فيه من نصيب العقلاء _بل خيرتهم_ ولكن الحقيقة تقول ان ليس ثمة مفارقة إذا تم النظر إليها وأعطيت استحقاقها، وقد دلت الشواهد الكشفية في العصر الحديث على أن التاريخ وإنْ كان قد زيف إلاّ أنّ الحقائق تضمنت _رغم أنوف المزيفين_ تلك الجمل المزيفة وعكست من خلالها روح الحقيقة وإنْ لم تكن قد كتبت بألفاظ تأخذ بيد جميع الناس للوقوف عندها, أي تلك الحقيقة.
ولكن الذي يؤسف له أننا نجد في أيامنا هذه من يقرأ التاريخ بالمقلوب متعمّداً فيصدّر الحقائق على أنّها أوهام ويقلب الأوهام فيشكّل منها حقائق, بعد أن تفشت حالة الجهل _وللأسف_ في أغلب المجتمعات واقتصر الناس في التعرف على الحقائق على المظاهر وما تعكسه الصور دون الغوص في الحقائق والتنقيب فصرنا أبعد ما نكون عن أولي الألباب أولئك الذين لابدّ أن يكونوا من المنقّبين.
وأريد أن أشير بكلامي هذا إلى بعض الكتّاب الذين يفتضح جهلهم بأدنى قراءة لما يكتبون، فترى أحدهم يقول إنّ الله تعالى أمر صاحب الزمان عليه السلام بالإختفاء فأرسل هذا الأمر بكتاب مختوم بخواتيم الذهب، فكان سبب هذا حرمان الناس من فيض الإمام عليه السلام وهدايته وإرشاده، فإذا كان الإختفاء خوفا من الأعداء فنقول لم خلق الله الأعداء؟ وإذا خلقهم لم أعطاهم القدرة على إيذاء الإمام عليه السلام؟ وإذا أعطاهم القدرة على ذلك لمِ لمَ يعط الإمام عليه السلام القدرة على المدافعة؟ _كما قال عبد العزيز الدهلوي في كتابه (التحفة الإثنى عشرية)_
فهذا الكلام الصادر من هذا الشخص يمثل بشكل واضح تلك القضية التي تحدثنا عنها والتي تعكس لنا في هذا الزمان كيفية قراءة التاريخ، ولابدّ لنا من أن نقرأ هذا الركام المتناثر من التاريخ ونتفحص فيه لنتمكن من الوصول إلى الحقيقة وألاّ سنغرق في بحر الدجل والأوهام والتصدير المزيّف من قبل وعّاظ السلاطين.
ولنقف الآن عند هذه الفقرة من خلال مجموعة من المحاور:
الأول: هل يصح منا أن نُنظَّر لله سبحانه وتعالى؟ وان نعلمه ما يفعل؟
الثاني: من أين تؤخذ الحقيقة؟
الثالث: كيف يأخذ المعتِقد عقيدته وأي كلام يكون حجّة له أو حجّة عليه؟
المحور الأول:
يتفق جميع الإلهيين في أن الله سبحانه وتعالى إله قادر عالم متفرد واحد يُنَظَّر ولا يُنَظَّر له، يرزق ولا يُرزق، يقدر ولا يقدر عليه، يعلم ولا يعلَّم، يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره، وهذه هي عقيدة الإلهيين في الله سبحانه وتعالى, نعم من لا ينتمي إلى المدرسة الإلهية يقول في الذات الإلهية غير ذلك ولكنّه في الحقيقة لا ينظر للفكر الإلهي ولا يحسب على الإلهيين بخلاف ما لو كان الشخص إلهيا أي أنّ تفكيره ورؤاه منبثقة عن ذلك الإيمان بوجود خالق بهذه الصفات، فكل فكرة أو فعل لا ينسجم مع تلك العقيدة يخرجه _وإن أبى الخروج_ عن حيز الإلهيين وهذه من القضايا التي لا تحتاج في إثباتها إلى أكثر من الالتفات إليها, ويتفرع عليها أنّ كل شخص وإنْ كان في حالة المناظرة والجدل يجب ان لا يتهم المشتركات أو ينظَّر في ساحة المشتركات بطريقة يفهم منها الاستهزاء والسخرية، ويفهم منها التهوين والاستخفاف فإنّ هذا الفعل يوجب خروجه عن حد وزي الإلهيين، ويصنف على الطائفة الأخرى, فإنّ لبس جلباب التنظير والمناظرة لا يتيح للشخص المناظر أنْ يخرج عن زيه الأول وردائه المنبثق عن تبعيته لله فيفسح له المجال في التكلم بما يشاء بل لابدّ أنْ يكون كلامه منضبطا تحت هذا الإطار وداخل هذه الحوزة, والكلام الذي سمعناه والمقطع الذي قرأناه قبل قليل يكشف وبشكل واضح لا لبس فيه أن هناك جرأة كبيرة على الله سبحانه وتعالى لا تبررها _وبأي شكل من الإشكال_ الخلافات الفكرية أو العقائدية مع الطرف الآخر.
فعبارة لم يخلق الله الأعداء, ولِم ولِم ولِم, تكشف عن خلفية فكرية وعقائدية يتمتع بها صاحب هذا المقطع تعكس لنا أنّ الإيمان الذي ينادي به ويدافع عنه هو إيمان أجوف لا يحمل تلك الحقيقة التي يريدها الله سبحانه وتعالى من المؤمنين به وهي الخضوع والتضعضع له على أية حال كان، وبأي لباس ورداء تمثل ذلك المتخضع.
وفي الحقيقة إننا إذا أخذنا هذه القضية وطبقناها على كثير ممن ينتقد مذهب أهل البيت عليهم السلام ويروّج لأفكار ضلالية انحرافية نجدهم يتجاوزون الحد، ويقعون في مخالفات المحذور الفكري والعقائدي إذ يتجرؤون على الله سبحانه وتعالى وعلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فضلا عن أهل بيته عليهم السلام وكأن هناك إلهين، إله لهذا المذهب واله لذلك المذهب، ونبي لهذا المذهب ونبي لذلك المذهب، وأهل بيت لهذا النبي وأهل بيت لذاك النبي، ومجرد أن أكون مناظرا لهذه الطائفة فإنّه لا يتيح لي أن أتجاوز على هذه الذوات المقدسة وأنْ أجحف القول وأغلظ الكلام وأتجرأ على حد المرسوم لي، والذي أخذته عن عقيدة وعن تفكّر.
وهذه القضية من القضايا التي ينبغي أن يلتفت إليها مع هؤلاء ويحاسب عليها بدقة فإنّ ارتداء زي المناظرة لا يعني بأية حال من الأحوال نزع الزي الذي نتعبد به إلى الله ونقتفي من خلاله اثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الكرام عليهم السلام.
وهذا بحد ذاته مؤشر يكشف لنا عن حقيقة الزعم الذي نسمع عنه كثيرا من أنّ هؤلاء يفعلون ويقولون من أجل الدفاع عن التوحيد وحماية حصونه بينما هم في الحقيقة أوّل من يدك تلك الحصون ويتجرأ على ساحة التوحيد.
المحور الثاني:
بإعتبارنا بشر فإننا جميعا نتجه صوب الحقيقة ونحاول جاهدين، الوقوف عليها، وقد وفرت لنا الأديان وخصوصا الشريعة الإسلامية المقدسة ومنهج أهل البيت عليهم السلام السبل الكفيلة لتحصيل الحقيقة، ولكن إذا ابتعدنا عن ذلك كله ونظرنا إلى القضية من بعد قرآني صرف، أو بعد حواري باعتبار أننا في وقفة حوارية مع شخص يتهم العقيدة التي نؤمن بها ويحاول تزييفها والاستهزاء بها, وبطبيعة الحال فإنّ المنظور إليه في الرد على أمثال هؤلاء أن يكون ما يعتقدون به حجة بينهم وبين الله سبحانه وتعالى وهو القرآن والسنة, تلك السنة التي كتبت بايد بعيدة عن أجواء الوحي، وتشكلت بصورة سلطوية وتحت نفوذ المال والقدرة المنتزعة من أصحابها ظلما وجورا, ولكن مع ذلك ولأجل إثبات الحقيقة لابدّ أن نسلك هذا الطريق وان كنا لا نؤمن به حجة فيما بيننا وبين الله سبحانه وتعالى.
فنقول لأمثال هؤلاء إنّ القضايا لابدّ أنْ ينظر إليها على أنها منهج بشري في التفكير من بعدين، الأول أصل ثبوت القضية وهنا نأتي لنتكلم عن أن خوف أولياء الله سبحانه وتعالى من أعداء الأنبياء والأولياء، هل هو حالة عقلائية وحالة شرعية أرسى قواعدها القرآن وذكرت شواهدها السنة النبوية أم أنها حالة بعيدة عن الأجواء الإسلامية, فإذا وجدنا أن حالة الخوف من أعداء الله، وان الله سبحانه وتعالى لم ييسر لأوليائه النصر من خلال إعجازه وإنما تركهم والظروف الطبيعية لتحقيق الإنجازات التي يطمحون إليها فإنه لا ينبغي بعد ذلك أن نوجه السهام صوب مذهب أهل البيت عليهم السلام ونقول لهم لِم خلق الله أعداء المهدي عليه السلام ولم لم يخلق القدرة عنده عليه السلام للدفاع عن نفسه، ولمِ لم يخلق الضعف في أعداء المهدي عليه السلام ولم لم يخلق القوة فيه وفي أتباعه عليه السلام, إنّ هذه المقولات لا يمكن أن تصدر من شخص قد اطلع على التاريخ الإسلامي ولاحظ القصص الإسلامية التي رصدها القرآن لأولي الألباب ليتمكن تمعنا في اكتشاف الحقائق، فهذا موسى وإبراهيم وجل الأنبياء، نجدهم فضلا عن خاتمهم صلى الله عليه وآله وسلم قد شردوا واعتدي عليهم، وكانوا ضعافا أمام أعدائهم ولم تكن لديهم القدرة ولا القوة التي نتجت عن الإعجاز الإلهي، نعم بعض منهم تمكن وانتصر، وبعض منهم خسر في كثير من حروبه، بل بعض منهم لم يتمكن من أن ينشر دعوته في بيته فضلا عن خارج ذلك البيت، فكان في بيت بعض الأنبياء أعداء للأنبياء ولا يؤمنون بهم كما في حالة نوح، ولوط وغيرهما من الأنبياء، وبعض من الانبياء كانت حالة الاستخفاف به منتشرة ومستشرية في بيوتهم كما في حال يعقوب عليه السلام وابنائه الذين ما فتئوا يستهزئون به وبصبره على فقد ولده, ولم يلجأ لا يعقوب ولا نوح ولا موسى ولا عيسى عليهم السلام ولا حتى محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قدرة الله سبحانه وتعالى الخارقة واياديه الغيبية للانتصار من الظلمة، بل نجد البخاري في كتابه (الحج) باب فضل مكة وبنيانها ينقل لنا حديثاً: (لولا حداثة قومك ....... لنقضت البيت ثم لبنيته على اساس ابراهيم) فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخشى قومه حديثي الإيمان، وليس قومه المشركين والكفار، بل أولئك الذين آمنوا عن خوف من سطوته، نجد أنه يخشاهم ويعطل أمراً إلهيا لأجل تلك الخشية، وما ذلك إلا لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل مع القضايا من منطلق الواقع والقدرة التي تتيحها له ظروفه الموضوعية لا اعتمادا على القدرة الغيبية والمدد الإلهي المطلق.
إذن فالقضية عندما يراد الحديث فيها لابدّ أن ينظر فيها أولاً إلى أنّ الشريعة كيف بنت احكامها وكيف أسست للأنبياء خطوات اتخاذ القرار، ثم بعد ذلك نأتي ونتكلم مع الخصوم ونناظر ونحاور, أمّا ما فعله هذا من تهجم على الذات الالهية واستخفاف بالساحة القدسية ينم عن جهله بتاريخه وتراثه قبل جهله بتراث غيره وينم عن أنّّه من أولئك الذين لم يتفحصوا التاريخ فلم يكونوا في يوم من الأيام من أولي الألباب قط.
إذن الحقيقة التي نبحث عنها لها منابع بينة واضحة فمن أراد أن يستقي من منبع الحقيقة لابدّ أن يعلمها ويعلم سبلها، ليرد موردها وألا فإنّه سيتخبط بسراب يحسبه ماء، ولكنه إذا قربه لم يجد شيئا.
المحور الثالث:
نحن، المدرسة التي اتبعت نهج الوحي وطريق الولاية نعتقد أنّ العقيدة التي نؤمن بها قد رفدت بأدلة عقلية وأدلة إلهية افرزها القرآن وصرحت بها السنة، وإن الإمام المهدي الثاني عشر من أهل البيت عليهم السلام قد نصت الأخبار على غيبته وقد تعددت أسباب تلك الغيبة نتيجة لتنوع الظروف التي كان يعيشها عليه السلام وحيث أنه رجل السماء الإلهي فلابدّ أن تكون كل خطواته منسجمة مع إرادة السماء، كما نعتقد أن النص على غيبته بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما نص على ذلك حديث ابي الصلت الهروي وأكدت هذه الغيبة أخبار بلغت حد التواتر بل وألّفت في غيبته قبل وقوعها كتب رصدت الأحاديث التي ألقاها أهل البيت عليهم السلام على شيعتهم ليؤمنوا لهم حالة الالتزام العقائدي الصحيح والمنسجم مع الواقع الذي سيحدث إبّان غيبة إمامهم الثاني عشر, وهذه العقيدة الواضحة الناصعة التي تثبتها الأدلة النقلية فضلا عن عدم مانعيتها العقلية حيث أننا نتحدى بشكل واضح أي شخص يثبت لنا استحالة الغيبة واستحالة طول العمر, فمن بعدها العقلي أمر ممكن ومن بعدها الشرعي قد أرفد بالأدلة الكثيرة المتواترة، ومن بعدها الواقعي، قد رصدتها العيون والأقلام فعكستها لنا حقيقة بيّنة واضحة لا غبار عليها رغم أن كتابة التاريخ _وكما اشرنا_ لم تكن بمتيسرة خصوصا لأتباع هذا المذهب.
بل ونزيد في الأمر أكثر ونقول إن حالة الاتهام اللامبرر لهذه العقيدة بهذه الكيفية له مناشئ أخرى يراد التغطية عليها، كغيبة أعداء الله الذين فرضتهم عقيدة الجور والظلم أنهم جزء من الإيمان وأن عدم الإيمان بهم كفر كما نصت على ذلك بعض الفتاوي ودونت أخبار أمّهات الكتب ان الدجال ويأجوج ومأجوج غائبون، رغم عداوتهم، ورغم تجبرهم، ورغم تكبرهم على ذات الله وساحة قدسه, وان الإيمان بهذه الحقيقة تشكل جزءا ومحورا في عقيدة هؤلاء وحيث انهم يرون انه مخالف لنواميسهم المعوجة ويجب عليهم أن يؤمنوا به التجأوا إلى اتهام الآخر بالمماثل لما عندهم، وسبحان الله لا تجد أمراً يتهم به أتباع هذه المذهب مع كونه حقيقة وتقطع غائلة الشك فيه الأدلة البرهانية القطعية الا ووجد الأسوأ منه في نظر هؤلاء في مدوناتهم وأمهات كتبهم.