أساليب اتصال الإمام عليه السلام بالأمّة
أساليب اتصال الإمام عليه السلام بالأمّة
يوسف مدن/ صاحب كتاب بناء الشخصية في خطاب الإمام المهدي عليه السلام
استعمل الإمام المهدي عليه السلام وسائل محدودة متوفرة في فترة غيبته الصغرى، وذلك لتوجيه الأمّة وتثقيفها وتوعيتها, ومما لا شك فيه أنّ هذه الآليات ستكون أكثر تنوعاً وأكثر تأثيراً وفاعلية بعد ظهوره المبارك, لهذا يتوقع أنه عليه السلام سيعمل بأقصى ما لديه للاستفادة الكاملة من الوسائل الاعلامية والثقافية والتربوية الجديدة لتدعيم ومتابعة مهمته الإرشادية التربوية, والأمل معقود على تعدد وسائل التوجيه وتنوّعها في المستقبل, فإن الإمام المهدي، سيستخدم وسائل عصره في المواجهة مع خصومه.
وما يهمنا في هذه الدراسة هو التعيين الفعلي للوسائل التي توفرت لديه عليه السلام, والإشارة إلى تأثيرها الفعّال في توجيه الأمّة, بالرغم من استمرار تأثير هذه الآليات حتى عصرنا.
ووإنّ محدودية وسائل التوجيه آنذاك _أي خلال فترة الغيبة الصغرى_ لم تمنع من خدمة الأهداف وتحققها, وما تزال هذه الوسائل جديدة، وإنّ تنوعها يعطي الوسائل المحدودة مجالاً أوسع لزيادة فاعليتها في تحقيق تلك الأهداف, فآلات المطابع وأجهزة الحاسب والتلفاز مكّنت الإنسان المسلم من زيادة طبع ونشر وتداول الأدعية والمراسلات وغيرها.
وإذا كان بعض هذه الأساليب قديماً وتقليداً دينياً معروفاً في الثقافة السائدة في عصره عليه السلام, فإنّ قسماً منها أصيل في تاريخ الأنبياء ولكن انقطع عنه الناس فترة من الزمن, فأحياه الإمام عليه السلام بعد انقطاع, وجعله أسلوباً متأصلاً في الممارسة العبادية لمتابعة أوضاع الأمّة ومواجهة الأمور المستجدة, ومن هذه الأساليب تعيينه للسفارة في أثناء غيبته الصغرى, وكذلك تعيينه لخط المرجعية الدينية وتوصيفة شخص الفقيه وما هي مهامه الإرشادية للجماهير المسلمة في فترة غيبته عليه السلام.
وسوف نشير إلى بعض هذه الأساليب:
أولاً: السفارة:
فقد عيّن الإمام نواباً ليكونوا همزة وصل بينه وبين قواعده الشعبية الواسعة الممتدة في أرجاء العالم الإسلامي الكبير,وظل عمر السفارة خلال فترة غيبته الصغرى في حدود سبعين عاماً هجرياً متتابعاً, وهي المدة التي بدأت بوفاة الإمام الحسن العسكري سنة (260هـ) حتى (329هـ).
وتوالى على السفارة أربعة نواب أدوا مهامهم الشرعية في الإرشاد والتوجيه نيابة عن الإمام عليه السلام في ظروف سرية صعبة, ومع ذلك تمكنوا من إيصال التوجيهات,وتبليغ الأحكام والتعليمات الصادرة منه عليه السلام إلى أكبر عدد ممكن من قواعده الشعبية الموالية لقيادته.
واتباع السفارة للأسلوب السري المنظم جعلها تقوم بمهامها ومسؤولياتها دون أنْ تثير السلطة ضدها، أو على الأقل لم تعطها فرصة مضايقتها بشكل يعيق مهامها التكليفية, وفي الوقت نفسه خففت السفارة حدة الضغوط, والقلق, والتوتر التي كانت تكتوي بها قواعد الإمام المهدي عليه السلام ومواليه ومؤيدوه.
وتولت السفارة أيضاً مهمة قبض الأموال واستلامها, وحملها من الموالين للإمام عليه السلام, وتوزيعها بين القواعد الشعبية, كما بذلت جهدها الشرعي الضخم في نقل الأسئلة وأجوبة المسائل, وحل المشكلات الحاضرة, ونقل الأدعية والزيارات,’ والمكاتبات, والرسائل منه عليه السلام إلى جماهيره ثم تداولها ونشرها وتثقيف الناس بها.
وبالإضافة إلى ذلك, فالنواب أنفسهم كما يذكر الشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي، تصدوا بصبر وشجاعة لحل المشاكل العلمية, والدخول مع سائر الاتجاهات الفكرية والمذهبية الأخرى في حوار عقائدي دفاعاً عن الذات المنتظرة وتوجيهاً لها نيابة عن الإمام المهدي عليه السلام.
إنّ السفارة حققت ثلاثة أمور:
1_ تهيئة أذهان الأمّة للغيبة الكبرى التي مازلنا نعيشها منتظرين صابرين.
2_ رعاية السفارة لشؤون الموالين للإمام في غيبته الأولى, وحفظ مصالحهم.
3_ القيام بمسؤوليات التوجيه والإرشاد وحل مشكلات المسلم ونشر ثقافة الانتظار وتداولها على امتداد فترة الغيبة الكبرى.
ثانياً: الوكلاء:
رافقت السفارة طريقة اتصال أخرى, فالإمام المهدي عليه السلام عين عدداً من الوكلاء ليقوموا بطريقة غير مباشرة بمهمة الاتصال بين المؤمنين بقيادته وبين سفرائه.
وقد ثبت بالأحاديث الشريفة, والنقل التاريخي وجود وكلاء آخرين غير السفراء الأربعة_للإمام المهدي عليه السلام ينتشرون في مختلف البلاد الإسلامية التي فيها أناس من شيعة الإمام ويحتاجون إلى وجود قنوات بينهم وبينه عليه السلام.
ثالثاً: المرجعية:
بعد انتهاء فترة النيابة والسفارة لجأ الإمام المهدي عليه السلام إلى أسلوب آخر لم تعرفه الجماهير مسبقاً, فابتكر وسيلة جديدة، حيث عين فيها فقهاء الأمّة على خط ومذهب أهل البيت عليهم السلام قادة لقواعده الشعبية, ليكونوا أداة اتصال جماهيرية غير مباشرة به, وليؤدّوا مهامهم الإرشادية للأمّة.
وتجاوبت جموع الشيعة في كل مكان وعصر مع المرجعية منذ لحظة تأسيسها، والذين بلغوا ذروة اجتهادهم في التوجيه المعرفي والسلوكي لأفراد الأمّة, وهذه صانت المرجعية وحدة الموالين للإمام المهدي عليه السلام.
وعلى هذا ليست المرجعية الدينية فكرة ابتكرها علماء الشيعة كما يذهب إلى ذلك كاتب إسلامي معروف, وإنما منشؤها توجيه مباشر من الإمام المهدي عليه السلام وبتوجيه نصي يتناقله الرواة الشيعة وهو: (وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا, فإنهم حجتي عليكم, وأنا حجة الله) و (من كان من العلماء صائناً لدينه مخالفاً لهواه, فللعوام أن يقلّدوه).
فالمرجعية وفق هذا النص نسيج فكر الإمام عليه السلام لانجاز المهام الإرشادية التي ابتغاها.
رابعاً: الرسائل والمكاتبات:
وهو أسلوب قديم لتثقيف القواعد الشعبية المؤيدة له, ولقد استعمل هذا الأسلوب الأنبياء, والأولياء, وعباد الله الصالحون, والحاكمون, وما يزال حتى الآن وسيلة اتصال بين كل الأطراف المختلفة.
والرسائل المكتوبة التي بعثها الإمام عليه السلام نوعان:
أ_ رسائل كاملة مكتوبة ومدونة للمرجعية التي تشرف على قيادة مواليه عليه السلام في فترة غيبته الكبرى, حيث وجّه الإمام المهدي عليه السلام رسالتين مشهورتين للشيخ المفيد رحمه الله الذي تصدى للقيادة والمرجعية.
ب_ ورسائل أخرى تمثل إجابة على المشاكل والمسائل، مثل مسائل الأسدي, والحميري وغيرهما, ومنها إجابات عنه عليه السلام عن المسائل المحددة, وتنقل هذه المسائل والإجابات إلى الناس وبخاصة قواعده الشعبية.
خامساً: الأدعية:
ولما كان من الصعب إيصال أفكاره عليه السلام, وتعاليمه, وقيمه, ومفاهيمه الأخلاقية لقواعده الشعبية كافة بسبب غيبته, وتعامله غير المباشر معهم, اتخذ الإمام الدعاء إحدى وسائله لرسم سياسة التوجيه للأمة, وأداة للمعرفة.
وقد استعمل الإمام المهدي عليه السلام الدعاء أداة للتوجيه الاجتماعي والنفسي, وطريقاً لعلاج النفس من آفاتها, وعيوبها وذنوبها تمهيداً لتزويدها بالسمات الأخلاقية السوية, وإمداد الفرد بالمفاهيم العقائدية والاجتماعية السليمة التي تعينه على مواجهة حركة الحياة وفق قواعد صحيحة.
لقد اتخذ الإمام عليه السلام من الدعاء أسلوباً فعالاً في إنجاز التربية العبادية للمجتمع في فترة غيبته, لأنّ الدعاء يتضمن مفاهيم عقائدية, وقيم تشكل الإطار الأخلاقي المرجعي للذات, وهو يشحذ النفس بالهمة والإرادة الحاسمة, وبالإضافة إلى ذلك يمثل الدعاء طريقة روحية لتفريغ الشحنات الانفعالية من النفس, وهي جميعاً أمور تجعل منه طريقة نفسية تقوم بوظيفة مزدوجة, وبناءً وقائياً للشخصية وعلاجاً لما فيها من أمراض.
والدعاء مناجاة خفية بين الإنسان وربه, وهو أفضل صورة للتعبير عن الإحساس بالآخرين, ولهجاً بالشعور بالغير, فقد أكدت الروايات أهمية شيوع الروح الجماعية في الدعاء, وقد عرف عنه عليه السلام عدد من الأدعية المنسوبة إليه التي تجسد الإحساس بالجماعة, وبخاصة دعاؤه في الاهتمامات العامة, فهذا الدعاء يمثل قمة الاهتمام بالغير.
إن الإمام المهدي عليه السلام مارس عدداً من الأدعية التي ينسبها الرواة والمؤرخون إليه, مثل دعاء التوحيد, ودعاء الاهتمامات العامة, ودعاء السمات, والميثاق, والحكمة والفرج للعلوي، وأدعية أخرى.