التمهيد المهدوي: آل كاكويه دولة البُنى التحتية للدول الشيعية
التمهيد المهدوي
انّ انتشار مذهب أهل البيت حالة حتمية سيؤول إليها أمر البشرية لا محالة، وان مسألة تحقيقها امر بات قريبا؛ لاسباب كثيرة، من ابرزها الفكر الضخم والاطروحة المفعمة بعلاج المشاكل البشرية المزمنة، فالدين المحمدي يمثل حالة التواصل الحيوي مع مبادئ السماء وإلى يومنا هذا من خلال ولي الله الأعظم الحجة بن الحسن عليه السلام.
ونحن في ((صدى المهدي)) سنفرد لهذه الظاهرة الحتمية صفحة خاصة نتناول خلال اعمدتها انتشار التشيع فكراً وعقيدة في أغلب بلدان العالم والذي يسهم ان شاء الله في تهيئة الأرضية المناسبة والجو الملائم للظهور المبارك لصاحب العصر والزمان عليه السلام.
دول شيعيّة
آل كاكويه دولة البُنى التحتية للدول الشيعية
(1007-1051) م - (398_513) هـ
هيئة التحرير
لو أجلنا النظر في الدول التي قادت الأُمم على طول خط الزمان لوجدنا أنّ الغالبية العظمى من الجمهور (وخصوصاً ما قبل المئة سنة الاخيرة) تتوجّه عقائدياً وفكرياً باتجاه ما تتبنّاه الدولة، وهذا وإنْ كان يعدّه الكثير مثلبة إلاّ أنّ له فوائد كثيرة، منها أنّه لو كان النظام السياسي الذي يحكم رقعة جغرافية نظاماً عادلاً فكرياً وعقائدياً لوجدنا أنّ هناك انتشاراً لمذهب أهل البيت عليهم السلام بعيدا عن سطوة الطغاة، فما بالك لو كان النظام الحاكم هو من يتبنّى فكر مذهب أهل البيت عليهم السلام نظاماً وعقيدة في إدارة الدولة.
وقد رصدت صحيفة (صدى المهدي عليه السلام) في أعداد سابقة بعضاً من هذه الدول وسلّطت الضوء على الاستقرار السياسي الذي عاشه الناس ابانها، فضلاً عن الانتعاش العلمي، ورواج الفكر والأدب بين كنفيها، ناهيك عن العمران وشيوع الامن في البلاد المجاورة لها.
وهذا يعطينا دلالة (قربت أو بعدت) على ان تبنّي أهل البيت عليهم السلام السياسي هو من أصلح الأنظمة إنْ سيّس به العباد.
ومن بين الدول التي نسلّط الضوء عليها في هذا العدد هي دولة (آل كاكويه) تلك الدولة التي إنْ أردنا أنْ نعبّر عنها بعبارة مختصرة وتفي بالغرض نقول: إنّها (دولة البُنى التحتية للدول الشيعية التي قامت في المناطق الخاضعة لسلطتها)، فآثار العمران ماثلة الى اليوم في الأُسس التي شيّدت من قبل قادة هذه الدولة، في بناء المدارس والمعاهد والمساجد التي رفدت الأُمّة الإسلامية بطاقات علمية كُبرى اسهمت فيما بعد بإنشاء أعظم الحوزات العلمية والمعاهد الفكرية.
شجرة حكام ال كاكويه
إنّ الكثير من الأحداث التي عاشتها هذه الدولة مع الدويلات المحيطة بها سنغفلها، لأنّها بشكل او آخر دائرة بين الكر والفر في الحروب والمعارك، فسنة تتوسع وسنة تضيق، وسنة تكون هذه المنطقة تحت حكمهم وسنة تنحسر وهكذا.
وإنْ كنّا لا نغفل الإشارة إلى الاحداث العظام لقرن من الزمان عاشته دولة (آل كاكويه)، مما اسهم كطول فترة في تأسيس قاعدة جماهيرية كثيراً ما دافعت عن هذه الدولة ضد هجمات الغزاة رغم الاغداق من الأعداء، بل وانّ سكّ العملة في هذه الدولة يعتبر من أبرز الشواخص الاقتصادية والسياسية والأمنية، فدولة تسكّ عملتها بنفسها لابدّ انْ تكون ذات نفوذ سياسي قوي يمنع الآخرين من التسلّط عليها واستخدامها من خلال عملتهم، ويعكس نمو اقتصاد أهل هذه الدولة لسك عملتها، فضلاً عن البعد الامني الكبير الذي لولاه لما امكن أنْ تسكّ العملة، فايّة دولة تعيش الاضطراب الأمني يصعب عليها ان توفر لرعاياها عملة باسمها وفي حدود بلدها دون ضغوط تمارس من المتنفذين داخلياً او خارجياً.
دولة آل كاكويه بدايات التأسيس:
يعود تأسيسها إلى أواخر القرن الرابع الهجري، أي في حدود سنة 398هـ على بعض النقولات التاريخية بينما يُرصد تاريخيا أنّ البدايات هي في أوائل القرن الخامس الهجري، حيث يذكر (الكامل) لابن الاثير انّه في حدود سنة 416هـ استولى أبو جعفر بن كاكويه على همدان وملكها هي وما حولها، وتذكر في البين قصة في ذلك يفصّلها ابن الاثير في الجزء التاسع من تاريخه (الكامل). ثم انّ أبا جعفر لما ملك همدان سار إلى الدينور وملكها ثم إلى سابور وبعد ذلك قبض على امراء الديلم الذين في همدان وسجنهم بقلعة عند اصبهان وأخذ أموالهم واقطاعهم وأبعد كل من فيه شر من الديلم، وأبقى عنده من يعلم أنْ لا شر فيه، فقامت هيبته وخافه الناس وضبط المملكة.
مسجد قدمكاه
ثم بدأ يتحرك نحو بعض الدويلات الاخرى المحيطة به، ويذكر ابن الاثير أنّه في نفس هذه السنة أي 416هـ تزوج السلطان مشرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه والذي حكم من سنة 412-416 هـ في بغداد بابنة علاء الدولة بن كاكويه على صداق مقداره خمسين ألف دينار، فيما تولّى العقد السيد المرتضى قدس سره، وهذا يعكس البعد الشرعي للدولتين معاً فإنّ السياسة الشرعية للدولتين كانت على أقل تقدير تحترم المراجع الكبار للطائفة الشيعية فضلاً عن أنّها تتبرك وتتشرف بأنْ تكون عقود زواجها ومراسم بناء بيوتها الجديدة ومناكحها على يد المرجعية، حيث أنّ تولي السيد المرتضى العقد بنفسه له من الدلالات المهمّة في كشف بعض الاحداث التي كانت في تلك الحقبة.
آل كاكويه التسمية والحكام:
(كاكويه) أحد عشائر الديلم ويذكر بعض المؤرخين انّها مأخوذة من (آل بويه) _وآل بويه أسرة حكمت على منهج التشيع لآل البيت عليهم السلام أجزاء كبيرة من العراق وإيران وبعض المناطق التي تخضع الآن لعدد من الدول، وسيأتي الحديث عن دولتهم في عدد لاحق_.
دولة آل كاكويه مرت بثلاث مراحل، المرحلة الأُولى مرحلة بداية نشوء الدولة والسعي إلى الاستقلال، والمرحلة الثانية مرحلة مرت بها الدولة بين التوسعة والصراعات الداخلية، والمرحلة الثالثة هي مرحلة استقرار نفوذها في مكان محدّد، ثم أفول نجمها، وقد شخّص بعض الباحثين تواريخ تلك الحقب على التوالي: الأولى منها (398-420هـ)، والثانية (421-443هـ)، فيما كانت الثالثة (443-536هـ).
انطلاقة الدولة كانت وكما أشرنا على يد علاء الدولة أبو جعفر محمد بن دشمنزيار الذي حكم ما يقارب الـ 35 سنة، وكانت بداية حركته وصعود نجمه وشق طريق التفكير في دولة مستقلة عن آل بويه هو دعم سعيدة خاتون والدة (مجد الدولة) بنت اسبهبد رستم بن مرزبان التي كانت هي الحاكم الفعلي للدولة البويهية في أيام مجد الدولة أبو طالب رستم بن علي رابع سلاطين الدولة البويهية الذي خلف والده فخر الدولة سنة 387هـ، حيث كان يبلغ من العمر أربع سنوات وشهدت فترة حكم هذه المرأة استقطاع الكثير من أقاليم دولة آل بويه واستقلالها بالسلطة بعيداً عن حكم الدولة المركزية. والتي تعد من حيث النسب ابنة خال أبي جعفر بن كاكويه، وقد ساهمت في دعمه والدفاع عنه في منعطفات خطيرة.
خارطة دولة الكاكويه
لقد حكم آل كاكويه اصفهان وهمدان، وفي آخر حقبة من حكمهم استقروا في يزد دون غيرها، وهي الحقبة الثالثة التي اشرنا لها وكان حكّامها أبو منصور علي فرامرز الذي بدأ في أيامه انحسار دولة آل كاكويه إلى يزد، وخلفه في يزد علاء الدولة أبو كاليجار واستمر حكمه إلى 513هـ وعلى بعض النقولات 536هـ والتي اعتمدناها.
وحكم بعد علاء الدولة ظهير الدين ابو منصور فرامرز وحكم من سنة 433-433هـ اذ تنازع معه اخواه أبو حرب وأبو كاليجار على مملكة أبيهم، فكانت النتيجة أنْ أخذ أبو حرب (نطنز) و(كاشان) وأخذ أبو كاليجار (نهاوند).
فيما كان الحاكم الرابع هو أبو منصور علي فرامرز ويلقّب بـ (مؤيد الدولة).
امّا الخامس من حكّام هذه العائلة فهو علاء الدولة أبو كاليجار الذي حكم من (488-513)هـ.
ويذكر ابن الاثير في الكامل أنّ هناك فتنة كبيرة اعاقت علاء الدولة عن التوسع والاستقرار الكامل في دولته وهي (فتنة الغز) وكانت فتنة عظيمة أثّرت على البلاد بشكل كبير وكانت بين كر وفر (إذ اقتطعت الكثير من البُلدان على مدى حروب متتالية)، بينهم وبين حكّام هذه الدولة، وقد ذكر ابن الاثير تفاصيل هذه الفتنة في احداث سنة 418 في تاريخه الكامل في الجزء التاسع.
آل كاكويه وابن سينا
من أبرز الآثار التي تمتّعت بها دولة آل كاكويه انّها استجلبت كبار العلماء وحظيت بخدمتهم فقدّموا الخدمات الجليلة لهذه الدولة، اذ يذكر السيد محسن الامين في (اعيان الشيعة) انّ علاء الدولة بن كاكويه كانت بينه وبين الشيخ الرئيس (ابن سينا) مكاتبات انتهت الى الانحياز اليه والقيام بخدمته، ومن طريف ما يذكر أنّ الشيخ الرئيس اتمّ كتاب الشفاء الذي يقع في عشرين جزءً، في يومين بلا كتاب يحضره ولا أصل يرجع إليه، ثم كان ينظر في كل مسألة ويكتب شرحها، فيكتب في كل يوم خمسين ورقة حتى اتى على جميع الطبيعيات والإلهيات خلا كتابي الحيوان والنبات.
ويذكر الشيخ الأمين أنّ تاج الدولة أبو سعيد تتش بن ألب أرسلان حاكم دمشق ومؤسس سلجوقية الشام من (458-487 هـ) لمّا علم بمكاتبة علاء الدولة للشيخ الرئيس جدّ في طلبه وقد دلّ بعض الاعداء عليه فأخذه وحبسه في قلعة فردجان، فانشأ هناك قصيدة قال فيها (دخولي في اليقين كما تراه ... وكل الشك في أمر الخروج) والظاهر ان علاء الدولة أخرجه، إذ يذكر ابن الاثير في الكامل أنّه في سنة 421هـ في شهر شعبان توفي ابو علي ابن سينا وكان موته باصبهان عندما كان يخدم علاء الدولة جعفر بن كاكويه.
هذا ويذكر السيد الأمين أنّ الجوزجاني تلميذ ابن سينا ينقل هذه الحكاية: أنّه جرى في ليلة بين يدي علاء الدولة الخلل الحاصل في التقاويم المعمولة بحسب الارصاد القديمة فأمر الامير الشيخ بالاشتغال برصد هذه الكواكب واطلق له من الأموال ما يحتاج إليه وابتدأ الشيخ به وولاّني (أي الجوز جاني) اتخاذ آلاتها واستخدام صنّاعها حتّى ظهر كثير من المسائل، فكان يقع الخلل في أمر الرصد لكثرة الاسفار وعوائقها ثم أقدم في حال الرصد آلات ما سبق إليها وصنّف فيها رسالة، وبقيت أنا ثمان سنين مشغولاً بالرصد.
من آثار الدولة الكاكوية
وتشير هذه القصة المهمّة إلى الاهتمام الكبير لهذه الدولة الشيعية بالعلماء وبالعلم على اختلاف مناحيه ومشاربه رغم ضيق الخناق عليها وكثرة تكالب الاعداء لانتهاشها، فمن كونها خاضعة في الفقه لعلماء الشيعة إلى مستخدمة لكبار الفلكيين والرصّاد، إلى مضيافة لكبار الفلاسفة وغيرهم.
من آثار الدولة الكاكوية (إمام زادة أبو جعفر) في منطقة مصلى العتيق
آل كاكويه منجزات وآثار:
إنّ المنعكس إلينا من آثار آل كاكويه قليل جداً، وهذا هو الحال في الدول الشيعية، إذ هي محاربة فكرياً وسياسياً وعسكرياً وتاريخياً فيمنع أنْ تعكس آثارهم وآثار دولهم، ورغم ذلك قد انعكس لنا من آثارهم ما يكشف لنا عن عظمة هذه الدولة ومكانتها وإنجازاتها، وأولاها انّها سكّت عملة باسمها، وما لذلك من دلالات اشرنا لها، وكانت ثانيها تأسيس الحوزات كما في اصفهان وغيرها، فيما كانت الثالثة هي الاهتمام بالعلماء واستقدامهم، وكانت الرابعة الاهتمام بنشر الدين وتوسيع رقعته، فبنت المساجد وشيّدت دور العبادة حتى وصل احصاء بعض المدن الصغيرة والمحلات وهي (كروان) ان كان فيها خمسون مسجداً.
ومن بين أبرز ما أنجزته هذه الدولة أنّها احاطت اصفهان بسور عظيم بلغ طوله (15000) قدم، مما يعكس حالة العمران وسرعة البناء والإتقان.
وتعدّ من أبرز مكارم هذه الدولة ومضيافيتها انّها أسست الخانات المعدّة للزائرين والمسافرين والتي كانت تذبح فيها العشرات من الذبائح يومياً دلالة على كثرة المارين فيها والزائرين، وهو ما يعكس ازدهاراً كبيراً.
ومن بين الآثار التاريخيةالشاخصة إلى الآن والتي تُنسب الى دولة آل كاكويه:
1. مسجد الـ (قدمكاه): في منطقة مالمير؛ وتوجد في محرابه قطعتان من الصخر من القرن الخامس والسادس.
2. مسجد (كوجه دباغ خانه): مسجدٌ في منطقة معروفة بـ (لرد كيوان) الذي توجد في محرابه قطعة من صخرة قبر بتاريخ 540.
3. (امامزاده ابو جعفر) (أي قبر لسيد من ذريّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم): وهو محمد بن علي بن عبيد الله بن احمد بن علي العريضي بن جعفر الصادق عليه السلام: الواقع في منطقة مصلّى العتيق. هو من السادة العريضيين الذي كان مقيما في القرن الخامس في يزد.
من آثار الدولة الكاكوية (قبة الإثنى عشر إمام) في يزد
ابو جعفر توفي في سنة 424 وقبره من المزارات المعروفة والمجللة والمحترمة ويزوره الناس في يزد. هذه السلالة من السادة ذهبوا الى (نائين) وبقي منهم في تلك المدينة بقعة ومرقد باسم (سلطان سيد علي).
4. (كنبد دوازده امام) أي (قبة الاثني عشر امام): قبة منفردة من سنة 429 الهجرية قريبة من حسينية (فهادان)؛ الكتيبة الملوّنة الموجودة على الجدار من الجانب الشرقي دليل على أنّ القبة بنيت بأمر الاخوان (ابو يعقوب اسحاق) و(ابو مسعود بهشتي)، هؤلاء اولاد (نيال) كانوا من ضبّاط الجهاز الحكومي لـ (علاء الدولة).
5. (قدمكاه مزارون) أي (مقام قدم مزارون): آثار لغرفة في فرع أي (عكد) (فهادان)، توجد هناك صخرتان مكسورة ومحكوكة متعلّقة بالقرن السادس الهجري بالخط الكوفي.
6. مدرسة (دومنار): هذه البناية بنيت بواسطة (ابو جعفر علاء الدولة كرشاسب) في سنة 523 وبعد موته دفنوه فيها.
7. (امامزاده زيد بن موسى الكاظم): قطعتان من صخرة القبر من القرن الخامس والسادس الهجري توجد هناك وكتيبة بالخط الكوفي المتعلقة بسلالة السادة.
8.امامزاده سيد ابراهيم: في هذا المقام توجد ثلاثة قبور وصخور القبور من القرن الخامس الهجري.