العقيدة المهدوية في عصر الإمام موسى الكاظم عليه السلام / الحلقة الثانية
العقيدة المهدوية في عصر الإمام موسى الكاظم عليه السلام/ الحلقة الثانية
السيّد محمّد القبانجي
لم يكتف الإمام موسى الكاظم عليه السلام بالأقوال المؤكّدة للعقيدة المهدوية، بل مارس عملياً الغيبة واستخدم نفس الطرق التي سيستخدمها الإمام المهدي عليه السلام أثناء غيبته الصغرى، فقد غاب الإمام موسى الكاظم عليه السلام في بداية إمامته عن أعين الناس متخفّياً عن السلاطين والجلاوزة، كما يذكر ذلك ابن شهر آشوب في (مناقبه) حينما قال: دخل موسى بن جعفر عليه السلام بعض قرى الشام متنكّراً هارباً.
أمَّا حبسه وسجنه عليه السلام فهو ابتعاد عن الناس بشكل قهري، وهو غيبة عنهم بشكل من الأشكال، وقد امتدَّت لسنوات عدَّة ولكنَّه عليه السلام لم ينقطع عن جمهوره وأتباعه، بل كان يراسلهم بشكل دائم، فقد أوصل لنا التراث الكثير من التواقيع الشـريفة وبمواضيع متنوّعة كانت تخرج من الحبس تشمل العقائد وفروع الدين حتَّى النصّ على ولده الإمام علي الرض عليه السلام.
بل إنَّه عليه السلام استعمل آلية الوكلاء أيضاً لزيادة التواصل مع الأتباع، يذكر الشيخ القرشي رحمه الله في كتابه (حياة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام): (أقام عليه السلام جماعة من تلامذته وأصحابه، فجعلهم وكلاء له في بعض المناطق الإسلاميّة، وأرجع إليهم شيعته لأخذ الأحكام الدينية منهم، كما وكَّلهم في قبض الحقوق الشـرعية لصـرفها على الفقراء من الشيعة، وإنفاقها في وجوه البرّ والخير.
فقد نصَّب المفضَّل بن عمر وكيلاً له في قبض الحقوق، وأذن له في صرفها علىٰ مستحقّيها.
وكذلك أقام له كلَّاً من حبّان السـرّاج، وزياد بن مروان القندي، وعلي بن أبي حمزة، وغيرهم. وقد وصلت لهؤلاء أموال ضخمة من الشيعة، إلَّا أنَّهم خانوا الله ورسوله، فاشتروا بها الضياع والقصور، وذهبوا إلى الوقف، وأنكروا إمامة الرض عليه السلام).
وروى الطوسي رحمه الله بسنده عن يونس بن عبد الرحمن، قال: (مات أبو إبراهيم عليه السلام وليس من قوّامه أحد إلَّا وعنده المال الكثير، وكان ذلك سبب وقفهم وجحدهم موته، طمعاً في الأموال، كان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار، وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار...).
ولعلَّ انحراف بعضهم طمعاً في الأموال التي عندهم، فادَّعوا غيبته وعدم موته عليه السلام هو مرآة عاكسة لما سوف يحدث في عصـر الغيبة الصغرى التي وقعت في الإمام المهدي عليه السلام من ادّعاء بعضهم للنيابة لمصالح دنيوية ولتكون للأُمَّة تجربة سابقة يمكن الاستفادة منها لتصحيح المسارات.
إنّ المتأمّل في حياة الإمام موسى الكاظم عليه السلام يجد وبوضوح أنَّه عليه السلام لم يكتف بتأصيل وتثبيت العقيدة المهدوية في قلوب المؤمنين من خلال التصـريح بشخص الإمام المهدي عليه السلام، وبيان علاماته والتعريف بعصـره كما مرَّ سابقاً، بل تصدّىٰ عليه السلام لمحاولات التحريف في الحقيقة المهدوية من خلال عدَّة طرق سار عليها تتمثَّل في:
التصريح والإخبار بإمامة نفسه القدسيّة:
بالرغم من الظرف القاهر الذي كان يعيشه الإمام موسى الكاظم عليه السلام والتقيّة المكثَّفة التي كانت تحيط به، حيث كان طاغوت عصـره يتربَّص به لقتله كما جاء في رواية أبي أيّوب النحوي، قال: بعث إليَّ أبو جعفر المنصور في جوف الليل، فأتيته فدخلت عليه وهو جالس على كرسي وبين يديه شمعة وفي يده كتاب، قال: فلمَّا سلَّمت عليه رمى بالكتاب إليَّ وهو يبكي، فقال لي: هذا كتاب محمّد بن سليمان يخبرنا أنَّ جعفر بن محمّد قد مات، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون _ ثلاثاً _، وأين مثل جعفر؟ ثمّ قال لي: أُكتب، قال: فكتبت صدر الكتاب، ثمّ قال: أُكتب إنْ كان أوصى إلى رجل واحد بعينه فقدّمه واضرب عنقه، قال: فرجع إليه الجواب أنَّه قد أوصى إلى خمسة وأحدهم أبو جعفر المنصور ومحمّد بن سليمان وعبد الله وموسى وحميدة.
ولم يكن يصـرّح عليه السلام بإمامته بعد شهادة أبيه الإمام جعفر الصادق عليه السلام إلَّا من خلال الكناية والتلميح، كما ذكر في رواية هشام بن سالم أنَّه قال عليه السلام: (لا إلى المرجئة، ولا إلى القدرية، ولا إلى الزيدية، ولا إلى المعتزلة، ولا إلى الخوارج، إليَّ إليَّ)، فقلت: جُعلت فداك مضـى أبوك؟ قال: (نعم)، قلت: مضـى موتاً؟ قال: (نعم)، قلت: فمن لنا من بعده؟ فقال: (إن شاء الله أن يهديك هداك)، قلت: جُعلت فداك، إنَّ عبد الله يزعم أنَّه من بعد أبيه، قال: (يريد عبد الله أن لا يعبد الله)، قال: قلت: جُعلت فداك فمن لنا من بعده؟ قال: (إن شاء الله أن يهديك هداك)، قال: قلت: جُعلت فداك، فأنت هو؟ قال: (لا، ما أقول ذلك)، قال: فقلت في نفسـي لم أصب طريق المسألة، ثمّ قلت له: جُعلت فداك، عليك إمام؟ قال: (لا...).
ولكن بعد اشتهار أمره صـرَّح عليه السلام أكثر من مرَّة بخلافته وإمامته للأُمَّة كما جاء في رواية أبي بصير، قال: سمعت العبد الصالح عليه السلام يقول: (لـمَّا حضـر أبي الموت قال: يا بني لا يلي غسلي غيرك، فإنّي غسَّلت أبي، وغسَّل أبي أباه، والحجَّة يغسِّل الحجَّة)، قال: (فكنت أنا الذي غمَّضت أبي، وكفَّنته، ودفنته بيدي، وقال: يا بني، إنَّ عبد الله أخاك يدَّعي الإمامة بعدي، فدعه، وهو أوَّل من يلحق بي من أهلي)، فلمَّا مضـى أبو عبد الله عليه السلام أرخى أبو الحسن ستره، ودعا عبد الله إلى نفسه. قال أبو بصير: جُعلت فداك، ما بالك حججت العام، ونحر عبد الله جزوراً؟ قال: (إنَّ نوحاً لـمَّا ركب السفينة وحمل فيها من كلّ زوجين اثنين، حمل كلّ شيء إلَّا ولد الزنا فإنَّه لم يحمله، وقد كانت السفينة مأمورة، فحجَّ نوح فيها، وقضـى مناسكه)، قال أبو بصير: فظننت أنَّه عرَّض بنفسه، وقال: (أمَا إنَّ عبد الله لا يعيش أكثر من سنة)، فذهب أصحابه حتَّىٰ انقضت السنة، قال: (فهذه فيما يموت)، قال: فمات في تلك السنة.
فالاستدلال على إمامته وإظهار المعاجز على يديه عليه السلام خير دليل على نفيها عن غيره من إخوته مثل إسماعيل وعبد الله الأفطح.
شبهة التوقيت والجواب عنها:
سؤال: (متى الفرج؟) أو (هل أنت المهدي أو القائم يا ابن رسول الله؟) طالما طُرِحَ على مسامع أهل البيت عليهم السلام عموماً، وليس الإمام موسى الكاظم عليه السلام خلواً من التعرّض لمثل هذا السؤال، فقد مرَّ نفيه عليه السلام عن نفسه القدسية القائم الذي يملاؤها قسطاً وعدلاً حينما سأله يونس بن عبد الرحمن: (يا ابن رسول الله، أنت القائم بالحقّ؟).
وكما نفى عليه السلام شبهة التطبيق المهدوي عليه، فكذا نفى عليه السلام التوقيت، ففي رواية علي بن يقطين وهي رواية مهمّة تدلّل على الحكمة من عدم التوقيت لئلَّا ييأس الناس وتقسو قلوبهم، قال: قال لي أبو الحسن عليه السلام: (الشيعة تربى بالأماني منذ مأتي سنة)، قال: وقال يقطين لابنه علي بن يقطين: ما بالنا قيل لنا فكان، وقيل لكم فلم يكن؟ قال: فقال له علي: إنَّ الذي قيل لنا ولكم كان من مخرج واحد، غير أنَّ أمركم حضـر، فأعطيتم محضة، فكان كما قيل لكم، وإنَّ أمرنا لم يحضـر، فعلَّلنا بالأماني، فلو قيل لنا: إنَّ هذا الأمر لا يكون إلَّا إلى مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة لقست القلوب ولرجع عامّة الناس من الإسلام ولكن قالوا: ما أسرعه وما أقربه تألّفاً لقلوب الناس وتقريباً للفرج).
وجعل عليه السلام الركيزة الأساس في العقيدة المهدوية هي انتظار الفرج وعدم الاستعجال في التطبيق والتوقيت، فقال: (... وأفضل العبادة بعد المعرفة انتظار الفرج).