العقيدة المهدوية في عصر الإمام موسى الكاظم عليه السلام / الحلقة الثالثة
العقيدة المهدوية في عصر الإمام موسى الكاظم عليه السلام/ الحلقة الثالثة
السيد محمد القبانجي
مواجهة أدعياء المهدوية:
يمكن حصر التيّارات المنحرفة التي ادَّعت المهدوية في زمان الإمام موسى الكاظم عليه السلام في ثلاث فِرَق تختلف بعضها عن البعض الآخر في سعة الانتشار، وضيقه، وعمق الشبهة وسطحيّتها، وكلّها قد واجهها الإمام عليه السلام وبيَّن زيفها وضلالها، فانقرض البعض وبقي الآخر ليومنا هذا، ولنستعرض هذه الفِرَق بشكل مختصر:
1) الناووسية:
وهي الفرقة التي تبنَّت مهدوية الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال النوبختي في (فِرَق الشيعة): (ففرقة منها قالت: إنَّ جعفر بن محمّد حيّ لم يمت ولا يموت حتَّى يظهر ويلي أمر الناس وأنَّه هو المهدي، وزعموا أنَّهم رووا عنه أنَّه قال: إنَّ رأيتم رأسي قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدّقوه فإنّي أنا صاحبكم، وأنَّه قال لهم: إنْ جاءكم من يخبركم عنّي أنَّه مرَّضني وغسَّلني وكفَّنني فلا تصدّقوه، فإنّي صاحبكم صاحب السيف. وهذه الفرقة تسمّى الناووسية، وسُمّيت بذلك لرئيس لهم من أهل البصـرة يقال له: فلان بن فلان الناووس).
2) الإسماعيلية:
وهي الفرقة الشيعية التي ادَّعت إمامة إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في حياة أبيه، وزعمت غيبته وعدم وفاته، رغم كلّ المشاهدات والتصـريحات والإخبارات بموته في حياة الصادق عليه السلام، قال النوبختي في (فِرَق الشيعة): (وفرقة زعمت أنَّ الإمام بعد جعفر بن محمّد ابنه إسماعيل بن جعفر وأنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه وقالوا: كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس لأنَّه خاف فغيَّبه عنهم، وزعموا أنَّ إسماعيل لا يموت حتَّى يملك الأرض يقوم بأمر الناس وأنَّه هو القائم لأنَّ أباه أشار إليه بالإمامة بعده وقلَّدهم ذلك له وأخبرهم أنَّه صاحبه والإمام لا يقول إلَّا الحقّ فلمَّا ظهر موته علمنا أنَّه قد صدق وأنَّه القائم وأنَّه لم يمت. وهذه الفرقة هي الإسماعيلية الخالصة).
3) الواقفة:
وهي الفرقة التي وقفت على إمامة الإمام موسى الكاظم عليه السلام ولم تعترف وتقرّ بإمامة الإمام على الرض عليه السلام، وادَّعت غيبة الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وأنَّه حيّ لم يمت، قال النوبختي في (فِرَق الشيعة): (وقالت الفرقة الثانية: إنَّ موسى بن جعفر لم يمت وأنَّه حيّ ولا يموت حتَّى يملك شرق الأرض وغربها ويملأها كلّها عدلاً كما ملئت جوراً وأنَّه القائم المهدي، وزعموا أنَّه خرج من الحبس ولم يرَه أحد نهاراً ولم يعلم به، وأنَّ السلطان وأصحابه ادَّعوا موته وموَّهوا على الناس وكذبوا، وأنَّه غاب عن الناس واختفى، ورووا في ذلك روايات عن أبيه جعفر بن محمّد عليه السلام أنَّه قال: هو القائم المهدي فإن يدهده رأسه عليكم من جبل فلا تصدّقوا فإنَّه القائم).
ومن الملفت للنظر أنَّ بداية نشوء هذه الفرقة وبداية تشكّلها كان في عصـر الإمام موسى الكاظم عليه السلام وفي أواخر حياته، فليس من الصحيح القول إنَّها نشأت وتشكَّلت بعد شهادته عليه السلام، ولذلك نتحفَّظ على ما جاء في كتاب (الغيبة) للطوسي قدس سره: (...ثمّ دُفِنَ عليه السلام ورجع الناس، فافترقوا فرقتين: فرقة تقول: مات، وفرقة تقول: لم يمت)، فإنَّ الملاحِظ في تأريخ هذه الفرقة يرى وبوضوح أنَّها نشأت في أيّام حبس الإمام عليه السلام، ولذلك حينما عرض جثمانه الشـريف على جمهور الناس نودي عليه: (هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنَّه لا يموت، فانظروا إليه).
ومع كلّ هذه التيّارات المدَّعية للمهدوية الضاغطة في الساحة الإمامية وغيرها من دعاوى الإمامة كالفطحية، فإنَّ الإمام عليه السلام عمل بشكل مدروس لمواجهتها والتصدّي لها وبيان زيفها وبطلانها، وذلك من خلال عدَّة خطوات قام بها، وقد مهَّد له أبوه الإمام جعفر الصادق عليه السلام في بعضها كما في الإسماعيلية، حيث أكَّد عليه السلام وفاة إسماعيل ابنه ليقطع دابر المرجفين والمشكّكين.
ويمكن استعراض تحرّك الإمام موسى الكاظم عليه السلام في عدَّة خطوات قام بها:
الخطوة الأولى: النصّ على ولده الإمام علي الرض عليه السلام:
حيث تنوَّع النصّ عنه عليه السلام لولده في أكثر من مورد ومحفل، منها ما رواه الكليني قدس سره بسنده عن داود الرقّي، قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السلام: جُعلت فداك، إنّي قد كبر سنّي، فخذ بيدي من النار، قال: فأشار إلى ابنه أبي الحسن عليه السلام فقال: (هذا صاحبكم من بعدي).
ومنها ما رواه الصدوق قدس سره أيضاً بسنده عن عبد الله بن الحرث، قال: بعث إلينا أبو إبراهيم عليه السلام فجمعنا ثمّ قال: (أتدرون لِـمَ جمعتكم؟)، قلنا: لا، قال: (اشهدوا أنَّ عليَّاً ابني هذا وصيّي والقيّم بأمري وخليفتي من بعدي...).
وقد أثبت لنا التراث الروائي (49) رواية عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام في النصّ على ولده الإمام علي الرض عليه السلام.
الخطوة الثانية: الإخبار عن وفاته زماناً ومكاناً وكيفيّة:
فقد أخبر عليه السلام عن تحقّق موته في أمكنة عدَّة ولأشخاص مختلفين، ممَّا يقطع كلّ أسباب الشكّ والريب، ويمنع كلّ من يريد التصيّد وإلقاء الشبهات بحياته وعينه، وهذا ما نجده جليَّاً فيما رواه الصدوق قدس سره بسنده عن عمر بن واقد في حديث طويل، قال: ثمّ إنَّ سيّدنا موسى عليه السلام دعا بالمسيّب وذلك قبل وفاته بثلاثة أيّام وكان موكَّلاً به، فقال له: (...ارفع رأسك يا مسيّب واعلم أنّي راحل إلى الله عزّوجل في ثالث هذا اليوم)، قال: فبكيت فقال عليه السلام لي: لا تبكِ يا مسيّب، فإنَّ عليَّاً ابني هو إمامك ومولاك بعدي فاستمسك بولايته فإنَّك لن تضلّ ما لزمته...).
فالإعداد لهذه التظاهرة الكبرى كان أحد أهمّ أسبابها هو إشهار موته والإعلان عن وفاته عليه السلام ليقطع كلّ سبيل على المدَّعين والمنتحلين والذين في قلوبهم مرض ممَّن يذهب إلى غيبته وعدم وفاته وأنَّه هو المهدي المنقذ.
الخطوة الثالثة: نفيه المباشر أنْ يكون هو المهدي:
وذلك من خلال تصـريحه بأنَّ مهدي الأُمَّة يأتي بعده بسنين في قوله: (أمَا إنَّهم يفتنون بعد موتي، فيقولون: هو القائم، وما القائم إلَّا بعدي بسنين).
وكذا تصـريحه عليه السلام الذي يقول فيه: (أنا القائم بالحقّ ولكن القائم الذي يطهِّر الأرض من أعداء الله عزّوجل ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً هو الخامس من ولدي له غيبة يطول أمدها خوفاً على نفسه، يرتدُّ فيها أقوام ويثبت فيها آخرون...)، وغيرها من الإخبارات المتوحّدة في المضمون والمختلفة في الكيفية.