شرح دعاء الندبة / الحلقة الحادية والثلاثون
شرح دعاء الندبة/ الحلقة الحادية والثلاثون
رابطة إحياء دعاء الندبة
ما زال الحديث متواصلاً وشرح فقرات هذا الدعاء الشريف، دعاء الندبة، وقد وصل بنا الحديث إلى شرح الفقرة التالية: (أَيْنَ الْمُنْتَظَرُ لإِقامَةِ الاَْمْتِ وَاْلعِوَجِ).
في هذا المقطع الندبي المبارك والمقطع الذي سيليه توجد مجموعة من المفاهيم فضلاً عن الأبحاث المرتبطة بها والذي ينبغي الوقوف عليها بشكل مفصل ولا يسع استقصائها في هذا الشرح المختصر، فالمقطع يتحدّث عن الإمام المهدي عليه السلام وأنّه المنتظر لتصحيح دين الله تعالى بعد انحرافه واعوجاجه والذي يرجوه الناس ويرجون ظهوره لأجل أنْ يزيل عنهم الجور والعدوان الذي وقع عليهم من أعداء الدين.
فإنّ الإنسان المؤمن الذي ينتظر إمامه الغائب ويترقّب مجيئه في كل لحظة وآنٍ، ولا يشكّ في أنّ هذا التوقّع بظهوره عليه السلام هو من أفضل العبادات وأقربها إلى الله سبحانه وتعالى.
وإنّ الإنسان المؤمن لو كان على موعد يترقّب فيه مجيء إنسان يعود عليه بالخير والنفع ولا يعمل متى يجيء فسيكون انتظاره وتوقّع مجيئه دائمي ولا يملّ من هذا الانتظار أو ييأس لأنّه على يقين بأنّ الشخص الموعود به لا يكذب وأنّه سوف يقضي حاجته ويرفع كربه، والمهدي عليه السلام هو وعد الله الذي لا يخلفه، إذ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَيُخْلِفُ الْمِيعَادَ)، فينبغي لنا إذا صدّق قلبنا ونيّتنا العمل أنْ نكون دائماً وفي كل لحظة على استعداد وترقّب لظهور مولانا الإمام الغائب عليه السلام.
هذه هي أدنى مرتبة من مراتب الانتظار وهناك مراتب أُخرى له، فهناك فرق كبير بين شخص ينتظر الإمام عليه السلام ويترقّب حضوره ولكنّه لا يعمل عملاً يعجّل ويسهّل ويسرّع في حضور من يترقّبه،وشخص آخر يقوم بعمل أو عملين أو بعض الأعمال التي من شأنها أنْ تسرّع في فرج ومجيء من ينتظر، بينما هناك شخص ثالث يعمل بكل وسعه، بل وفي بعض الأحيان يهدر وقت راحته ومطعمه وأُنسه، وحتّى ماله ونفسه في سبيل أنْ يتعجّل فرج الغائب المنتظر،وبين الحدّ الأوّل والثاني في الانتظار مراتب كثيرة جداً، وكل واحدة منها لها أجرها وفضلها وثوابها، بل ولها آثارها المقرّبة من الإمام عليه السلام.
والقرب من الإمام عليه السلام له مراتب كثيرة أيضاً، نظير ما كان القرب من أمير المؤمنين عليه السلام وبقيّة الأئمة عليهم السلام من أصحابهم، فلكل واحد مرتبته ومقامه، ونشوء ذلك كله بسبب ما يقوم به من أعمال تقرّبه إلى الإمام عليه السلام، ففرق بين من يسمع بالانتظار،وبين شخص رهن كل وجوده وبذل ما عنده وهو على حالة التلهّف والترقّب للإمام عليه السلام في سبيل أنْ يمنّ الله سبحانه عليه،وأنْ يكون سبباً في تعجيل ظهور صاحب العصر والزّمان عليه السلام.
من هنا جاء قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ: (أفضل العبادة انتظار الفرج). وهذه العبادة كما في الصلاة حيث يختلف المُصلّون وتختلف صلاة كل واحد منهم فكذلك الانتظار،ومن هنا جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبشّراً الثابتين المنتظرين القائلين بإمامته في غيبته: (أنهم أعزّ من الكبريت الأحمر). وأنّ هذا الأمر هو (سر من أسرار الله)، ويحذّر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: (إيّاك والشكّ فيه فإنّ الشك في أمر الله عزوجل كفر).
وقد سئل الإمام الجواد عليه السلام عن سبب تسمية الإمام المهدي بالمنتظر، فقال عليه السلام: (لأنّ له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون ويستهزئ بذكره الجاحدون).
فهذه الأحاديث الشريفة تشير إلى تلك المراتب العظيمة والمقامات الجليلة التي يمتاز بها المنتظرون، هذا في الانتظار وحده.
امّا إذا لاحظنا الدعاء المبارك وكيف يجعل خطابه للإمام عليه السلام سائلاً، عنه وعين الدّاعي لا يكاد يستقرّ فيها الدمع وهي تخاطبه عليه السلام (أَيْنَ الْمُنْتَظَرُ لإِقامَةِ الاَْمْتِ وَاْلعِوَجِ)، فالدعاء لم يذكر المنتظَر بمعزل عن تلك الوظيفة الشريفة التي سيقوم بها ويمارس من خلالها تثبيت العدل وفسح المجال أمام المؤمنين لأداء شعائر الدّين وممارستها،فبعد أنْ يظهر عليه السلام رافعاً راية الإسلام بتلك القوة الإلهية، واليقين الذي لا يزعزعه شك، يتّجه صوب هذه الشريعة المقدّسة ليقوّم انحناءها ويسوّي انحرافها ويصحّح أخطاءها،ويرجع القرآن (عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) لأنّه (أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) ومن يسبقه الى ذلك وهو قرين القرآن وصنوه (إنّي مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما تمسكتم بهما وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)، فيقيم الصلاة ويميت الإنحراف ويساوي كل اعوجاج وارتفاع وضعف وشك انشأه الوضّاعون والكذّابون والمنتحلون في الدّين حتّى ننظر إلى شريعة سيد المرسلين و(لَاتَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا).
فالدعاء المبارك يريد أنْ يرسّخ في ذهن القارئ أنّك تنتظر شخصاً هو لصفاته يستحق الانتظار وبذل كل ما في الوجود في سبيل ظهوره، فكيف به إذا كان منتظَراً لأجل إقامة الحقّ وإماتة العوج والباطل.
اللهمَّ عجِّل فرجه وأيّده بالنّصر وجدّد به ما امتحي من دينك واصلح به ما بُدّل من حكمك وغيّر من سنّتك حتى يعود دينك به وعلى يديه غضّاً جديداً صحيحاً لا عوج فيه ولا بدعة معه.
فانتظار لهكذا شخص حريّ به أنْ يكون كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه: (أفضل العبادة بعد المعرفة انتظار الفرج).
فلا صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا نوافل أفضل من عبادة الانتظار.