عقيدة المخلّص في التراث الإنساني / الحلقة السابعة
عقيدة المخلّص في التراث الإنساني/ الحلقة السابعة
الأسعد بن علي قيدارة
رابعاً: المخلّص في النظريات الوضعية:
يأخذ الحديث عن فكرة المخلّص في النظريات الوضعية منحى يتّجه فيه البحث نحو الصيغة التي تحقّق السعادة للإنسان، وتدفع مسيرة المجتمع البشري إلى نمط من العيش يكفل العدالة على الأرض، ويضمن المستقبل السعيد.
فهل يمكن، حقّاً، للإنسانية أنْ تتجاوز معاييرها الأنانية الضيّقة، ونزعاتها الحيوانية من أجل المال، والسلطة، والنفوذ، والشهوات، لتسلّم زمام أمرها إلى مخلّص يسمو بها إلى آفاق موعودة مأمولة؟.
يمكن أنْ نصوغ الإجابة عن هذا السؤال على لسان أهمّ النظريات الوضعية، لنرى إلى أي مدى أدركت هذه النظريات حقيقة الخلاص، وطبيعة المخلّص؟
النظرية الأولى: القانون هو المخلـّص:
حسب هذه النظرية فإنّ التاريخ الطويل للبشرية الحافل بالتجارب والمشاكل سيقودها إلى فكر قانوني متطوّر، وذلك بفضل الإحاطة التفصيلية الدقيقة بالقضايا والإشكالات التي تواجه الحياة الاجتماعية، والتي توفّرها طبيعة الحياة من جهة، والجهود التي تبذلها مراكز القرار والتشريع والقانون في إيجاد الصيغ الملائمة للتنظيم من جهة أخرى.
وباستقراء تاريخ القانون نلاحظ الثراء العلمي والتكامل المطرد في نتاجه، -وقد وصل القانون في العصر الحاضر إلى مراقٍ عليا، حتّى أصبح من أدقّ العلوم الإنسانية، وإذا كنّا نجد فيه بعض النواقص والاختلافات بين المفكّر ينفي جملة من حقوله، فإنّ التكامل التدريجي للقانون خلال التجارب الطويلة كفيل بأنْ يزيل هذه النواقص، ويزيد في إدراك الفكر القانوني لذينيك المرحلتين الأساسيتين، مما يفتح أمام القانون فرصة الوصول التدريجي إلى إدراك العدل الحقيقي والتذليل الكامل للبشرية- ،ومع بلوغ القانون العدل الحقيقي، والفهم الكامل للعدل يمكن حينئذٍ تنظيم المجتمع وفق هذه الصيغة القانونية الراقية، ويتحقّق بذلك المجتمع السعيد.
ويرد على هذه الأطروحة جملة من المناقشات:
أوّلاً: إنّ الإنسان من الصعب أن يدرك المصالح الواقعية، ويحيط بالعدل الكامل؛ لأنّه بحكم تركيبته التكوينية تتجاذبه ميول ذاتية تدفعه نحو المصلحة الشخصية، أو نحو الانحياز إلى العرق واللون والطائفة والطبقة...،فمن المتعذّر أن يتجرّد الإنسان من كلّ هذه الانتماءات ليشرّع قانوناً عادلاً من جميع الجهات، وهذا يفسّر لنا تنصيص الإسلام على أنّ التشريع بيد الله عزّ وعجل.
ثانياً: لو فرضنا أنّ الإنسان بلغ هذه الدرجة التي تخوّله سنّ قوانين موضوعية تشخّص العدل الأكمل فتوصل إلى المصالح الواقعية للفرد والمجتمع، فمن الصعوبة بمكان أن يتوافر مجتمع يتحرّر بدوره من كلّ العوائق لتطبيق هذه الأطروحة.
ثالثاً: إنّ سلطة القانون مهما أوتيت من نفوذ فلن تستطيع أن تراقب الإنسان في كلّ جزئيات حياته، ولن يقدر أن يمنح الإنسان الشعور بالمسؤولية التي تجعله يراقب نفسه فيكلّم وقف وعند كلّ منعرج ضماناً لتطبيق العدالة.
رابعاً: إنّ القول بأنّ الفكر القانوني يتجه نحو التوحّد زعم باطل، والدليل على ذلك تشعّب المدارس القانونية، واختلافاتها العديدة في تشخيص المصالح والمفاسد وضبط البنود، -وإذا لم توجد الوحدة في الفكر القانوني كان من المتعذّر وجود المجتمع العالمي العادل تحت ظلّ القانون البشري بأية حال من الأحوال-.
النظرية الثانية: التقدّم العلمي هو المخلـّص:
تقوم هذه النظرية على اعتبار التقدّم العلمي هو السبيل لتحقيق مجتمع السعادة، فبواسطة التقنيات المعاصرة نستطيع أن نضاعف الإنتاج الزراعي والغذائي ونكفل بالتالي حاجات المجتمع، ونقضي على الفقر والمجاعة والخصاصة، وبفضل التقدّم الطبّي قد يصل الإنسان في المستقبل القريب إلى علاج لأكثر الأوبئة استعصاء، وهذه التقنيات وغيرها مكّنتا لإنسان من حياة مرفهة مريحة بعيدة عن المنغّصات والمتاعب، والتطوّر الإعلامي من جهته جعل الأرض قرية كونية يتابع المرء فيها عبر الشبكات الاتصالية كلّما يحدث في أية بقعة من بقاع الأرض، بل أصبح النتاج الثقافي والعلمي والأدبي متاحاً للجميع في أوقات قياسية، ولم تتخلّف الأنشطة الاقتصادية والتجارية التي استفادت من هذه الثورة المعلوماتية،فاندفعت أشواطاً كبيرة إلى الأمام.
والعلم حسب ما تتنبّأ به الدراسات المستقبلية مازال يخطّط لمستقبل باهر قد لا نصدّق بعض ملامحه، حيث تتحكّم الهندسة البيولوجية في أولادنا، وفي إنتاجنا الحيواني والنباتي، ويفجّر الذكاء الصناعي زوبعة لا غاية لصداها، وتقوم حضارة إنسان الفضاء،ويحقّق الطبّ حلما لإنسان في التعمير عقوداً طويلة...
وفي ضوء هذه التوقّعات يمكن القول بأنّ العلم يكفل للبشرية المستقبل السعيد، وأنّه مخلّص المجتمع الإنساني مما يعيشه من تخبّط وفوضى وفاقة وحروب...
ولكنّنا نناقش هذه الأطروحة من عدّة وجوه:
أوّلاً: إنّنا لا ننكر أهمّيّة التقدّم العلمي والإنجازات العلمية التي غيّرت معالم حياة الناس وجلبت لهم الراحة والحياة المرفهة، ولكن ذلك لا يعني البتة أنّ العلم وحده كفيل بتحقيق السعادة المرجوة، فإنّ العلم يؤمِّن حاجات الإنسان في جانبها التقني والفنّي، ويساعد على حسن تدبير حاجاته من مأكل و ملبس ومشرب و وسائل نقل و...، غير أنّ العلم لا يؤمِّن الجانب القيمي والتنظيمي من حياة الإنسان، فهو لا يمنحه رؤية في الحياة ولا يطرح لنا مشروعاً اجتماعياً، ولا صيغة تنظيمية،ولا تشريعاً ينظّم علاقة الإنسان، ومن باب أولى أنّه يهمل علاقة الإنسان بالله عزّ وجل وبالغيب؛ لأنّ ميدان العلم هو التجربة والمحسوسات دون الماورائيات.
ثانياً: إنّ العلم كما قدم اختراعات وابتكارات خدمت البشر، كذلك يقدّم كلّ يوم وسائل تهدّد البشرية بالفناء والدمار، فالمخزون الهائل من أسلحة الدمار الشامل الذي يهدّد حياة البشرية هو نتاج التقدّم العلمي والتقنيات العالية في تصنيع السموم والأسلحة الكيماوية... وصنع أدوات التعذيب، والتفنّن في وسائل الإغراء وإشاعة الفساد،كلّها من -بركات- العلم.
إنّ العلم يبقى أداة فعّالة بيد الإنسان، يمكن أن يساهم في إرساء السعادة والعدل، كما يمكن أن يفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل، من هنا فإنّ هذه الأطروحة المادّية لا تمثّل المخلّص حقّاً، ولا يمكن إلا أن تبوء بالفشل.