شرح دعاء الندبة / الحلقة الثالثة والثلاثون
شرح دعاء الندبة/ الحلقة الثالثة والثلاثون
رابطة إحياء دعاء الندبة
ما زال الحديث متواصلاً وشرح فقرات هذا الدعاء الشريف، دعاء الندبة، وقد وصل بنا الحديث إلى شرح الفقرة التالية: (أَيْنَ الْمُتَخَيَّرُ لإِِعادَةِ الْمِلَّةِ وَالشَّريعَةِ).
وفي البداية نحبّ أنْ نبيّن معاني الكلمات التي وردت في هذا المقطع الندبي المبارك، اللهم اجعله لنا نوراً في قبورنا، فـ(أين) يؤيّن تأييناً يسأل بها عن المكان، و(الْمُتَخَيَّرُ) اسم مفعول من تخيّر أي اصطفاه وتحرّى انتقاءه بدقّة واختار الأفضل، أمّا (إِعادَةِ) فهي مصدر (أعاد) أي أرجع الشيء إلى حالته الأولى ومجراه الطبيعي.
أمّا (مِلَّةِ) فمن أمللت الكتاب أمليته ومنه طريق مملول أي مسلوك، فيما (الشريعة) هي مورد الماء الذي يستقى منه وتقال أيضاً للعَتَبَة.
بيان إجمالي: يسأل هذا المقطع المبارك على لسان الدّاعي عن الشخص الذي انتقته السماء واصطفته ليُرجع ما شرّعه الله تعالى إلى طريقه وحالته الأولى على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يتضمن هذا المقطع عدّة أبعاد:
البعد الأخلاقي: يتحدّث لنا عن انّنا نعيش في زمن بعيد أيّما بعد عمّا كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليه السلام وعلى هذا لابدّ أنْ نسأل أنفسنا لكي نرجعها إلى حالتها الطبيعية: أنّ الأئمّة عليه السلام كيف كانوا يعيشون، وما هي طريقتهم وشريعتهم وملّتهم، فينفتح أمامنا باب وسيع لابدّ أنْ ندخله بدراية وتفحّص، لنقف بعد ذلك على منهج واضح يسلك بنا درباً ينتهي إلى نجاتنا وفوزنا، فالإنسان الذي لا يدري أسيرُه سير استقامة أو اعوجاج هو بالحقيقة لا يمتاز عن البهائم إن لم يكن منها أضل (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
البعد العقائدي: ويحكي لنا حال سائل يسأل اثناء ممارسته لطقس عبادي قربي: أنّ الأُمّة التي لا تتمسك باختيار الله سبحانه وتعالى وتبتعد عنه، هل يمكن لها أنْ تكون أُمّة متشرّعة منضبطة، أو أنّها ملّة لا تؤمن بالله تعالى، فيجب أنْ تُتارك ولا يسار خلفها، قال تعالى: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، فهكذا ملّة غير مؤمنة بالله سبحانه وتعالى لا تنتج ديناً يجب على الناس اتباعه والتزام قوانينه، فإنّ الذي ينتج الدّين القويم هو الله تعالى حيث قال: (ديناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهيمَ حَنيفاً)، فإذا كانت الشَّريعة هي القوانين الإلهية التي نظمتها السماء بشكل يحفظ للإنسان وصوله للكمال، فلا ينبغي بل لا يجوز مخالفتها والخروج عليها، فإذا انساقت الأُمّة على خلاف ذلك جاء مورد هذا المقطع ومحله، إذ لو كانت الأُمّة سائرة خلف ملّة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم متعبدة بشريعة ربّها لما كانت هناك حاجة لأنْ نستفهم عن مكان المتخيّر لإعادة الملّة والشريعة إلى نصابها، لأنّها في نصابها.
فهذا المقطع دليل على الانحراف الذي وقع بعد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الأُمّة، قال تعالى: (فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ).
وخلاصة ذلك إنّ هذا السؤال من الدّاعي يكشف عن حديث فكري وعقائدي في أنّ الأمة لم تستقم وتركت الثقلين ومالت عنهما إلى سواهما، فاستدعى أنْ يتخيّر الله سبحانه وتعالى الأفضل في هذه الأُمّة تخيّراً دقيقاً فاحصاً، فيصطفيه وينتقيه لأجل ان يرجع مسار الأُمّة المنحرف إلى نصابه الطبيعي، وهذا يستدعي أنْ نسأل سؤالاً عن ماهيّة هذا الشخص الذي تخيّرته السماء لأجل إنقاذ الأرض من التمادي في الانحراف والخروج عن الجادّة، وهو بطبيعته نفس سؤال السائل في هذا الدعاء (أَيْنَ الْمُتَخَيَّرُ...؟) ويأتي الجواب على لسان الكثير من الروايات.
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خطبة له يوم الغدير قال: (ألا أنّ خاتم الأئمة منّا القائم المهدي ألا أنّه الظاهر على الدّين ألا أنّه المنتقم من الظالمين ألا أنّه فاتح الحصون وهادمها... ألا أنّه النّاصر لدين الله).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً قال: (المهدي من ولدي تكون له غيبة وحيرة تضل فيها الأُمم يأتي بذخيرة الأنبياء فيملؤها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً).
وعنه (عجّل الله فرجه الشريف): (...اللهم جدّد به ما امتحى من دينك واحيي به ما بدّل من كتابك وأظهر به ما غيّر من حكمك حتى يعود دينك به وعلى يديه غضاً جديداً خالصاً مخلّصا لا شك فيه ولا شبهة معه ولا باطل عنده ولا بدعة لديه).