المهدوية والعدل
المهدوية والعدل
إدريس هاني
ارتبط ذكر المهدي عليه السلام بالعدل في صورته الفعلية. فلمّا كانت غاية بعثة الأنبياء والرسل، أنْ يقيموا العدل بين الناس، لقوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). فإنّ العنوان البارز في دولة المهدي العظمى، هو العدل بالفعل. فسوف يسخّر المهدي كل إمكانياته التي وضعها البارئ تعالى بين يديه لخدمة الناس بالعدل والقضاء على الجور.
إذا كان تعاقب الأنبياء رحمة للأمم، فإنّ خاتمية الرسالات لا ترفع رحمة التذكير والهداية لمزيد من الباعثية وتكثيف للحجة.. إنّ وجود المهدي يؤكد على منتهى العدل الإلهي.
ولقد أظهرت قصة الخضر عليه السلام، كيف أن العدل الإلهي تمثّل في سلوكه الذي خفيت أسراره على النبي موسى عليه السلام، حتى كاد موسى يستشكل على ما بدا من ظاهره إجراماً في حق الإنسانية. لكن عدل الله القائم على العلم المطلق، لا على العلم المنقوص، أو الجهل المركّب هو من سيجعل الكثير ممن سيعاصر المهدي عليه السلام يأخذه العجب حتى يقول: لو كان ابن فاطمة لرحم.
سوف يحدث المهدي زلزالاً في دنيا الفساد قبل أن تقر عين البشرية بالسلام.
إن وجود مهدي يحقّق العدل بعلمه لا بالظن، هو تجلٍّ للعدل الإلهي، حيث البشرية تتجه وجهة تجعلها تيأس من غلبة الظنون التي افتقدت معها كل حقوقها. وحيث ستجرب كل الخيارات، حتى تدرك البشرية أن لا مجال لإقامة العدل إلا على أساس العلم والحكم الواقعي واتباع أمر من يهدي بأمر الله.
إن ما ينقص العالم اليوم هو العدالة. وفي ظل هذه الفظاعات التي تقض مضجع الأمم قاطبة، أصبح السؤال وارداً: إن كان الله عادلاً، فكيف لا يلطف بعباده الذين أصبح العدل في عيونهم أشبه بالخيال في ظل النظم الظالمة. وكيف تتحقق العدالة الكونية في ظل تحكم عالمي بالثروة، وتهميش كارثي لأغلبية المعمورة. حتى بدا واضحاً أن التسليم بالظلم أمراً لا مرية فيه في عصرنا الموسوم بهذه الجبرية الظالمة والجبروت المغشوش. وسوف يكون المخرج الوحيد لهذا الانسداد الأعظم في فرص العدالة ثورة كونية لا يمكن أنْ يقوم بها إلّا مؤتمِر بأمر الله، ومعززاً مشروعه بالمعجزات والحجج القاهرة. فعدله يتعدى إلى كل البشرية وكل المستضعفين في الأرض. إنّه وسيلة تحقيق النموذج البشري الأكثر عدالة في تاريخ النوع. وللإمام المهدي عليه السلام كل الشروط والوسائل لتنفيذ أمر الله بنشر العدل وملء الدنيا به بعد أن ملئت جوراً. وأهم تلك الشروط التمكين في الأرض والعلم الواقعي. ومتى اجتمع الشرطان معاً لم يتأخر عنهما تحقيق العدالة. وتتجلى مظاهر العدل المهدوي في الأبعاد التالية بحسب المستفاد من الروايات المتكاثرة في المقام. إن عصر الظهور هو عصر القضاء على كل الآفات التي سببها الجهل وضعف التمكن. فالمهدي يأتي بالعلم الضروري للقضاء على ما أعجز الطب، ومن العلم ما أعجز العلماء. أي ما معناه أن ثمة عدالة ووفرة على صعيد التقدم العلمي والنظام التربوي والتغطية الصحية. بل سيملك من أسباب السماوات والأرض ما يرفع به قصور وسائل الإنتاج عن استخراج الثروة الكافية للنوع من الأرض وما تعجز القوانين عن ضبط العدالة بين بني البشر. وهذا يؤكد على أن الإمام المهدي سيوفر من العلم التكويني والتشريعي ما يرفع العقبات عن طريق تحقيق العدالة الاجتماعية. لاسيما العدالة الاقتصادية، وهي أساس المشكل الاجتماعي الذي وجدت في طريقه قوانين وسياسات محكومة بقانون الندرة. وحيث أن الإمام المهدي سيحل الإشكالية القائمة على أساس مضاعفات التطور الديمغرافي على الثروة، من خلال استثمار أمثل للثروة والتدفق في الإنتاج وتجاوز اقتصاد الندرة الذي هو سبب كل فظاعات العدالة الاجتماعية. كما أنه سيتجاوز المعضلة القاضية بالتمييز بين الموقف العلمي والرياضي من عملية الإنتاج والموقف الأخلاقي الإنساني من عملية التوزيع، من خلال أن عالم الوفرة لا يتيح هذا الفصل التعسفي الذي هو ناتج عن واقع الندرة والجشع. إن عصر الظهور عصر أخلاقي لا فصل فيه بين العلم والأخلاق. حيث انتفاء الحاجة إلى هذا الفصل التعسفي. إن بلوغ الثروة والرفاهية بالسوية لكل الناس، يرفع أي حاجة للاستعباد والاحتكار وغيرها من الآفات التي تؤيد النظم الاقتصادية الظالمة. مع عصر الظهور ستتحقق مقولة علي بن أبي طالب عليه السلام: (لو كان الفقر رجلاً لقتلته). وحيث أكد أمير المؤمنين على قاعدة تفسر سبب انهيار العدالة الاجتماعية، لما قال: (ما وجدت نعمة موفورة إلا وبجانبها حق مضيع). ففضلاً عن أن ذلك دعوة إلى تقليص الفجوة بين الفقر والغنى، إلا أنه أكد على أن واقع اقتصاد الندرة لا يساعد على التحقيق المطلق للعدالة الاجتماعية. لذلك فإن الفقر حتى بمعناه الأقل ضرراً في حكومة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام ظل قائماً. فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام كلفوا بأن يحكموا بالظواهر، فإن الإمام الحجة عليه السلام مكلف بالحكم بالباطن. والحق أن الإمام الحجة سيقتل الفقر وينتصر للفقراء وسيعم الخير الدنيا حتى لا يظل هناك ما يدعو أحداً للكفر. من هنا فلن يكفر بعده إلا أهل الشقاوة الذاتية كما لا يخفى. إذا ضممت إلى ذلك العدالة في الصحة والحرية وباقي الحقوق الأُخرى وحمايته بالتمكين المتاح للإمام الحجة لردع الاعتداء والاستكبار ودحر كل معتدٍ على قيم العدالة الاجتماعية، فسندرك أي معنى ستأخذه هذه العدالة. لا يحتاج الإنسان في زمن الظهور إلى إسراف في النظريات الاقتصادية طالما أن قصة الاقتصاد السياسي تبدأ من واقع الندرة والجشع الذي يفوق ما تنتجه الأرض. ولذلك، كان عصر الظهور هو عصر الاقتصاد في النظريات الاقتصادية، حيث فائض الثروة النظيفة يتم تلقائياً وبأقل إجراءات وقائية. إن العدالة الاجتماعية لا تعني التفقير الاجتماعي والقضاء على حق الفرد، بل إن المهدي سيزيح كل العقبات التي تجعل الاقتصاد متى قام على العدالة الاجتماعية كان ذلك مؤشراً على تراجع الوفرة الاقتصادية. لا شك أن النظام الاقتصادي العالمي اليوم يقوم على وسائل في الإنتاج غير نظيفة، فانّه يقوم على سوء التوزيع ونمط في الإنتاج احتكاري، يستند إلى المنافسة غير الشريفة وشل اقتصادات أغلب المعمورة لصالح الاحتكارات الكبرى في بلاد الشمال. مثل هذا الوضع الذي تتطلع الشعوب إلى تغييره لصالح معادلة في العلاقات الاقتصادية قائم على العدالة ودحر سياسات الاحتكار والاستتباع الاقتصادي، سيكون هو عنوان دولة المهدي العظمى. بل إن ذلك هو مصداق نشره العدل في الأرض والقضاء على الفجور، وأوله الفجور الاقتصادي. وإذا كان عنوان دولته الإيمان والتوحيد ونبذ الكفر، فذلك مصداق على أن دولته تأخذ بمبدأ الشكر القائم على إظهار النعم وتوزيعها على قدر يفيض على الناس حتى يستغنوا. وحيث ان من مظاهر الكفر والظلم، خراب العمران بسياسات التفقير، وحيث جربت البشرية كل أشكال النظم الاقتصادية وأنماط الإنتاج، أصبح واضحاً أن لا مخرج من هذا الشكل من الظلم الاقتصادي إلا دولة المهدي التي تملك وحدها أن تعمر الأرض عمراناً لا خراب فيه. إنها دولة الوفرة والعدالة الاجتماعية على أساس اقتصادي فعال ووسائل إنتاج نظيفة وسياسة في التوزيع بالغة العدالة.