شرح دعاء الندبة / الحلقة التاسعة والثلاثون
شرح دعاء الندبة/ الحلقة التاسعة والثلاثون
رابطة إحياء دعاء الندبة
ما زال الحديث متواصلاً وشرح فقرات هذا الدعاء الشريف، دعاء الندبة، وقد وصل بنا الحديث إلى شرح الفقرة التالية: (أَيْنَ طامِسُ آثارِ الزَّيْغِ وَالاَْهْواءِ، أَيْنَ قاطِعُ حَبائِلِ الْكِذْبِ (الكَذِبِ) وَالاِْفْتِراءِ، أَيْنَ مُبيدُ الْعُتاةِ وَالْمَرَدَةِ، أَيْنَ مُسْتَأصِلُ أَهْلِ الْعِنادِ وَالتَّضْليلِ وَالاِْلْحادِ).
يتحدث المقطع الآنف الذكر سائلاً عن مكان ومحل رجل الإله المخلص في الأرض ليقصده الداعي ويبث له شكواه، عن عالم الظلم والتجبر الذي ملأ الأرض، عن عالم الوحوش الذي ساد على هذه البسيطة وأصبح يتحكم بمقدراتها، ويمنع فيض السماء من القيام بدوره.
سيسأل الداعي من رجل الزمان، بكل طاقته التي انبثقت من الطاقة الإلهية المطلقة، أنْ يخلّص البشرية وينجيها من الجور السائد عليها، ويطلب منه بما يملك من مؤهلات ومقدرات أنْ يمحي بقايا ما رسمه الزائغون عن الحق، ويخرب آثار المائلين إلى الباطل، فيعمد إلى طمس ودفن تلك البقايا من أعلام الفئة التي اتبعت الشيطان واستهواها إبليس اللعين، فذهب بها الحب الباطل والاعتقاد المنحرف والاهواء الفارغة إلى الزيغ عن الصراط، والوقوع في حيرة التغريب والإفساد في هذه الأرض، بعد أنْ تململوا وحاروا فابتعدوا عن الهدى، فصارت حيرتهم سبيلاً للشيطان لأنْ يصيّدهم بحبائله ويوقعهم بمخالفة الاستقامة، والجنوح إلى الكذب والتضليل والافتراء، فاندرست في نفوسهم مصابيح الهدى الفطرية، وانمحت من قلوبهم أنوار الانقياد للهدى الجبلية، فصاروا باتباعهم آثار وأعلام أهل الخلاف والانحراف، سنّة يسير عليها اللاحقون ممن فرغت قلوبهم من حب الله تعالى فصاروا أئمة ضلال يقتدي بهم أصل الزيغ ويتبعون آثار أهوائهم لأنهم لا عقل لهم، وبتراكم الزمن أصبحوا أعلاماً تقود كل متمايل ومرتجف إلى ضلالهم.
فيأتي الداعي ليطلب من رجل الاستقامة أن يعّدل الاعوجاج ولو بأن يطمس تلك الاثار التي أصبحت أعلاماً يتبعها أهل الزيغ والاهواء، وأنْ لا تأخذه بهم رحمة ورأفة ولين، لأنّ ما هم عليه لا ينفع معه إلا القطع والاستئصال بعد أنْ صار سلوكهم فضلاً عن فكرهم وعقيدتهم هو تعمد الكذب وصناعة الافتراء لمن علق بهم من الأذناب، لأجل ابعاد اتبعاهم عن الهداية، وتسويل النفوس لمن ضعفت همته وقعدت به عقيدته لاتباعهم.
إنَّ هؤلاء المفترين لابد من إعدامهم وقطع نهارهم لتغرب شمسهم بيد المبيد المنتقم، هؤلاء لا ينفع معهم أي دواء إلا الإبادة والإهلاك لشدة إقبال نفوسهم على الفساد وقوة عقد قلوبهم على الرذيلة، فقد تمردوا على كل السنن التي تدعوهم للهداية، وصموا أسماعهم وابصارهم وقلوبهم عن الاستماع، فأضحوا لا يقبلون الموعظة، ولا يحبون إلا الفساد والرذيلة والدعارة، فعتوا وتمردوا وطغوا، لخبث نفوسهم وشدّانية أرواحهم.
كل ذلك لأن الدين لم ينبت في قلوبهم، ولم يسقوه بماء الهداية ليثمر لهم حبها وجميل الاستماع من الهداة.
هؤلاء لابد لهم من مستأصل يقطع جذورهم. لأنهم تجاوزوا كل قدر يمكن أنْ يرجعهم إلى صوابهم.
هؤلاء الضلاّل الملحدون أضاعوا أنفسهم وأضاعوا من أتبعهم، بما فعلوا بأنفسهم اوجبوا تيهانها عن الطريق وبعدها عن الجادة فخسروا وصاروا سبباً في خسران الآخرين. فصاروا خراباً دائماً أينما حلو.
لذا يسأل الداعي من الإمام المهدي عليه السلام أنْ يطمس على آثارهم لزيغهم عن الهدى وميلهم بأهوائهم إلى الضلال، فلا بد من قطع حبائل كذبهم وافترائهم، حتى لا يضلوا من الناس آخرين، ويطلب منه بإلحاح أنْ يبيدهم لعتوهم وتمردهم فيستأصل عنادهم وتضليلهم وإلحادهم.
وقد تحدثت الروايات الشريفة عن هذه المقاطع من الدعاء المبارك فقالت:
1- عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام في قوله تعالى (وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثينَ) قالا:
(إنّ هذه الآية مخصوصة بصاحب الأمر الذي يظهر في آخر الزمان ويبيد الجبابرة والفراعنة ويملك الأرض شرقاً وغرباً فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً).
2- عن الإمام العسكري لابنه المهدي عليهما السلام قال:
(...يا بُني! إنّ الله جل ثناؤه لم يكن ليخلي أطباق أرضه وأهل الجدّ في طاعته وعبادته لا حجّة يُستعلى بها وإمام يؤتمّ به ويُقتدى بسبيل سنّته ومنهاج قصده. وأرجو يا بُني أنْ تكون أحد من أعدّه الله لنشر الحقّ ووطء الباطل وإعلاء الدين وإطفاء الضلال... فعندها يتلألأ صبح الحقّ، وينجلي ظلام الباطل، ويقصم الله بك الطغيان، ويعيد معالم الإيمان).
3- عن الإمام الرض عليه السلام _في مجلس المأمون وقد حضره جماعة من علماء العراق وخراسان_ قال في معنى المودّة:
(...إنّ المودّة إنّما تكون على قدر معرفة الفضل، فلمّا أوجب الله تعالى ثقل ذلك لثقل وجوب الطاعة، فتمسّك بها قوم قد أخذ الله ميثاقهم على الوفاء، وعاند أهل الشقاق والنفاق وألحدوا في ذلك فصرفوه عن حدِّه الذي حدَّه الله عزّ وجلّ فقالوا: القرابة هم العرب كلّهم وأهل دعوته...).
4- عن الإمام الرض عليه السلام _وكان يأمر بهذا الدعاء لصاحب الأمر عليه السلام_:
(اللهمّ ادفع عن وليّك وخليفتك... واقتل به جبابرة الكفر وعُمده ودعائمه، واقصِم به رؤوس الضلالة وشارعة البدع ومميتة السنّة، ومقوّية الباطل، وذلّل به الجبّارين وأبِر به الكافرين وجميع الملحدين في مشارق الأرض ومغاربها وبرّها وبحرها وسهلها وجبلها، حتّى لا تدّع منهم ديّاراً ولا تُبقي لهم آثاراً...).
5- عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
(إنّ في كلّ خلف من أُمّتي عِدلاً من أهل بيتي ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وإنّ أئمتكم قادتكم إلى الله عزّ وجلّ، فانظروا بمن تقتدون في دينكم وصلاتكم).