(١١٤) كيف نوفِّق بين أطروحة ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ وبين...
كيف نوفِّق بين أطروحة ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256] وبين ما ترويه الروايات بأن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سوف يحمل السيف (8 أشهر) ويقتل العرب (500 بعد 500) ويقتل ذراري قتلة الحسين (عليه السلام) لمجرد أنهم شاركوهم في النية، ولو أن شخصاً في المشرق رضي بقتل شخص في المغرب لكان الذي في المشرق شريك القاتل في المغرب، وأن الإمام (عجّل الله فرجه) سيحكم بحكم آل داوود أي يحكم بحكم الباطن، وما إلى ذلك.
كيف نوجِّه هذا الكمّ من الأحاديث في مقابل أطروحة ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256] والعقيدة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
هنالك خلط حاصل في السؤال إذ ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256] لا علاقة له ببقية المسائل المطروحة في السؤال، فإن قتل الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لذراري قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) وللعرب ولغيرهم إنما يكون جزاءً لدورهم التخريبي في بلاد المسلمين أو عموم العالم أيام حكمه (عجّل الله فرجه)، وروايات أحداث عصر الظهور الشريف تؤكد هذا المعنى، فإن المتتبع يرى أن حُكّام العرب كانوا وما زالوا يُكِنّون العداء لشيعة أهل البيت (عليهم السلام) وسيكون لهم دور سلبي بوجه تحرك الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وهذا يقتضي القيام بحركة مواجهة، نعم الرواية التي نصّت على أن الثأر للإمام الحسين (عليه السلام) سيكون من الذرية الخبيثة بسبب رضاهم بفعال آبائهم لم تصرّح أن ذلك سيكون بسبب مواقفهم العسكرية والسياسية الهدامة، ولكن كل الروايات التي تحدثت عن أحداث عصر الظهور تؤكد المعنى الذي قدمناه، ويمكن الجمع بين الروايات بالقول: إن علة قتله (عليه السلام) لهم أحد أمرين:
1) رضاهم بفعال آبائهم.
2) اشتراكهم في الحروب ضد الإمام (عجّل الله فرجه).
وأمّا مسألة حكم الإمام (عجّل الله فرجه) بحكم داود (عليه السلام)، فهي مسألة قضائية، وقد دلّت الأدلة على أن المعصومين (عليهم السلام) كانوا يحكمون على أساس ما تقوم به الأدلة ولا يستخدمون علمهم الغيبي في مسائل القضاء.
ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنما أقضي بينكم بالبينات والأَيمان.
أمّا القضاء في عصر الظهور فيكون من جهة الإمام (عجّل الله فرجه) بشكل آخر وهو حكمه بعلمه دون الحاجة إلى شهادة الشهود، وهذا أمر من مختصاته (عجّل الله فرجه).
فلا علاقة لقضية ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256] بهاتين القضيتين.
وقد حصل الاتفاق بين المذاهب الإسلامية كافة على أن القاضي يجوز له أن يحكم بعلمه فيكون العمل بحكم داود ليس خارجاً عن الحكم الإسلامي وإنما هو نمط خاص يدخل في ضمن صلاحيات القاضي.
إن مسألة حكم الحاكم بعلمه ليست خارجة عن الأطر العامة للقوانين الإسلامية، ونذكر في هذا المجال بعضاً من الكلمات:
قال السيِّد الخوئي (رحمه الله): (كما أنَّ للحاكم أن يحكم بين المتخاصمين بالبيِّنة وبالإقرار وباليمين، كذلك له أن يحكم بينهما بعلمه). [مباني تكملة المنهاج للسيد الخوئي: ج1، ص12، مسألة 8]
وهكذا عند العامَّة، حيث بنى الكثير منهم على صحَّة حكم القاضي بعلمه وعدم احتياجه إلى بيِّنة، بل إنَّه يجوز له مخالفة البيِّنة إذا علم الواقع، وننقل هنا بعض كلماتهم:
قال محيي الدين النووي: (... على الصحيح أنَّ القاضي يقضي بعلمه)، وقال في 20: 162: (... وإذا علم القاضي عدالة الشاهد أو فسقه عمل بعلمه في قبوله وردِّه...) [المجموع لمحي الدين النووي: ج12، ص150]
وقال زكريا الأنصاري: (... ولا يقضي (أي القاضي) بخلاف علمه وإن قامت به بيِّنة، وإلَّا لكان قاطعاً ببطلان حكمه، والحكم بالباطل محرَّم...). [فتح الوهّاب لزكريا الأنصاري: ج2، ص369]
وقال السرخسي: (... فإن عرف القاضي حرّيته اكتُفي بمعرفته، لأنَّ علم القاضي أقوى من الشهادة...). [المبسوط للسرخسي: ج9، ص108]
وأمّا آية ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256] فلا علاقة لها بحمل الإمام المهدي (عجل الله فرجه) السيف أو غيرها من المسائل، لأن المقصود منها نفي الإجبار التكويني على الدين، أو نفي الإجبار التشريعي على الاعتقاد باعتبار أن الاعتقاد أمر قلبي لا يمكن الإجبار عليه، وقد وضّح هذه الحقيقة السيد الطباطبائي حيث قال ما نصه:
وفي قوله تعالى: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، نفى الدين الإجباري، لما أن الدين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإن الإكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية المادية، وأمّا الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقاً علمياً، فقوله: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، إن كان قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينياً بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً إنشائياً تشريعياً كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي مُتَّكٍ على حقيقة تكوينية، وهي التي مرَّ بيانها أن الإكراه إنما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية. [تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ج2، ص342 – 343]
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)
: علي : مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)