(٩١٥) كيف تكون حكومة الإمام (عجّل الله فرجه) زمن الظهور؟
الحكم الديني هو الحكم القائم على الشريعة الإسلامية أو أي شريعة دينية أخرى هو حكم غير عادل، لأنه ينحاز لفئة معينة من الناس على حساب بقية الناس، يعني أنه حكم لا يعترف بمبدأ المواطنة والمساواة، بل يكرّس العنصرية والطائفية، والمتدين نفسه إذا كان من الأقلية فهو لا يريد الأكثرية يحكمونه حسب دينهم، بل يريد حكماً عادلاً، وهذا لا يمكن تحقيقه سوى في الدولة المدنية. فكيف سوف تكون حكومة الإمام (عجّل الله فرجه) زمن الظهور؟
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد في سؤالكم عدة جهات وموضوعات، وكل واحد منها له جوابه المفصل، والذي يبتني على مقدمات وأسس فكرية تنطلق من الرؤية الشاملة للإسلام تجاه مبدأ الحاكمية والإنسان والمجتمع، وما دام الأمر كذلك فلا يمكن ممارسة عملية الفصل بين هذه المسائل أو الركون إلى نظرة تجزيئية تلحظ بعضها دون البعض الآخر، وبطبيعة الحال فإن الأجوبة التي نقدمها في المركز والتي تبتني على الاختصار والإيجاز لا تكون بديلاً عن الكتب والأبحاث الكثيرة التي ألّفها علماؤنا وتكفّلت بالردّ حول هذه الاطروحات مفصلاً.
وبعد هذه المقدمة لابد أن يكون واضحاً لديكم عدم وجود قانون وضعي أو بشري على مر التأريخ الإنساني يتبنى الانفتاح على جميع الأفكار أو التسامح مع الآخر المختلف، وإنما تبقى المسألة في الدائرة النسبية والمقيدة، لسبب بسيط وهو: أن الفكر البشري ذاته مختلف في فهمه وتنظيره لما يوصل الإنسان لسعادته وكماله، لا سيما إن هذا الاختلاف الفكري في عمقه الحقيقي يمتد إلى المبادئ التصورية لمعاني الحرية والعدالة والانحياز ومعايير التقييم والتكريم، بل والاختلاف واقع حتى في مفهوم الوطن والمواطنة.
وهذا كله حاصل في البعد النظري لتلك المدارس الفكرية، أما إذا بلغنا إلى المستوى العملي والواقعي ومدى التطابق بين هذا وذاك، فالحديث طويل وذو شجون.
ومن هنا ينبغي الالتفات إلى إن الرؤية الإسلامية تجاه هذه القضايا إنما تتمحور حول ركيزة أساسية، وهي: العبودية لله تعالى، ونحن كما نؤمن بتوحيد الله تعالى في وجوده وذاته، نؤمن كذلك بسلطنته وحاكميته المطلقة على عباده، ولا نجامل أو نداهن في هذه العقيدة، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ونؤمن كذلك أن مفهوم الحق والعدل إنما يؤخذ من شريعته تعالى، لا من الأفكار البشرية والوضعية الضيقة، ضرورة أن القوانين والأحكام إنما هي في حقيقتها وصفات علاجية للأمراض الاجتماعية والإنسانية، وما لم ندرك حقيقة الإنسان وماهيته فإن كل المعالجات التي توضع لهذا الإنسان ستبقى عرضة للثغرات والأخطاء، والتي قد تنتهي به إلى هلاكه ودماره، وما احتار الفكر البشري في شيء حيرتَه في تشخيص ماهية الإنسان ونوازعه، بل نجد أن الفكر البشري كلما ارتقى وتطور وجد أن ماهية هذا الإنسان تزداد غموضاً وضبابية بالنسبة إليه، حتى ألّف العالم الفرنسي الكسيس كارل كتابه المعنون بـ(الإنسان ذلك المجهول) الحاصل على جائزة نوبل.
وما دام الأمر كذلك فلا يصح للعاقل الفطن أن يتعامل بسطحية مع بعض البهارج البراقة للأفكار المناوئة للدين وحاكميته، فإن الانتكاسات الحضارية والاجتماعية لا تظهر في سنة أو سنتين أو حتى عشر سنين، إذ إن مخرجات السنن التاريخية ونتائجها تختلف في امتدادها الزمني عن قوانين علم الطبيعة - كالفيزياء والكيمياء - ذات التفاعل السريع، فلا ينبغي اقتطاع فترة زمنية معينة لفكرة وضعية واعتبارها مقياساً حتمياً لصحة تلك الفكرة وعبقريتها، فإن كل الحضارات البشرية على اختلافها تمرّ بفترة من الازدهار والتطور، تمثّل - فيما تمثّله - شهر عسل لها، وما تلبث أن تتقهقر نزولاً في قاع أخطائها التي تراكمت على مر سنين عمرها، حتى أصبحت الإنسانية في أكثر مراحل التاريخ أشبه بفأر المختبر الذي يخضع للتجارب المتعددة، وكلما جاءت حضارة لاحقة لعنت أختها السابقة، وهكذا دواليك.
وهذا ما هو عين ما استشرفته الآيات القرآنية والروايات الشريفة، يقول تعالى: ﴿حَتَّى إذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾ وروى النعماني في كتابه الغيبة عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: ما يكون هذا الأمر حتى لا يبقى صنف من الناس إلّا قد ولوا على الناس حتى لا يقول قائل: إنا لو ولينا لعدلنا، ثم يقوم القائم بالحق والعدل. [الغيبة للشيخ النعماني: ص282، ب14، ح53]
وروى كذلك الشيخ الطوسي في كتابه الغيبة عن الإمام الباقر (عليه السلام): إن دولتنا آخر الدول، ولم يبق أهل بيت لهم دولة إلّا ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. [الغيبة للشيخ الطوسي: ص473، ح493]
ولا يخفى عليكم أن الفكرة التي أوضحناها لا تعني بالضرورة الدفاع عن كل من يرفع شعار الدين وحاكميته ولو مع ظلم الرعية واستضعافهم، أو تقسميهم إلى طوائف عرقية أو قومية، بل الجميع متساوون أمام القانون والشريعة، ولا فضل لأحد على آخر إلّا بمقدار التزامه بالعقيدة فكرة وسلوكاً، فإن الفكرة الدينية بسبب عمقها في الضمير الإنساني وتجذّرها فقد تعرضت هي الأخرى للاستغلال والتزييف في كثير من الأحيان من قبل الحكام والسلاطين، وفي التاريخ شواهد وصور لا تخفى على المطالع والقارئ، وبنفس المقدار لا تخفى كذلك مواقف أئمتنا (عليهم السلام) وعلماء الامامية من تلك الظواهر المنحرفة، ولأجل ذلك لا يتردد أحد منهم في مقام التخيير بين الدولة المدنية والدولة الظالمة (ولو رفعت شعار الدين) أن يفضل الخيار الأول على الثاني، لا لشرعيتها في ذاتها، بل لأن الموقف العقلائي في مقام التزاحم يستوجب الركون إلى أقل الضررين وأهون الأمرين، لحفظ المقدار الممكن من الحقوق والنظام، ولا يسري هذا المعنى في كل الأحوال لنجعل من مدنية الدولة البديل الأفضل عن دولة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لإيماننا المطلق أن سعادة وكمال الإنسان لن يتم إلّا على يده وقيادته (عجّل الله فرجه).
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)
: محسن البصري : مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)