(١٠٨٤) كيف يتعامل الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مع المخالفين لدولته؟
من أهم عناوين القيام المبارك للحجة بن الحسن (عجّل الله فرجه) هو إقامة دولة العدل الإلهي، بل يكاد يكون هو الهدف من القيام المبارك.
وهنا يرد سؤال: هل هنالك أخبار تشير إلى دعوة من الإمام (عجّل الله فرجه) للديانات الأخرى، وكذلك للملحدين وغيرهم للإسلام؟ وما حكم من لا يقبل الدعوة ويبقى على عقيدته؟ بل حتى المخالف من المذاهب الأخرى حتى وإن لم يكن حربياً؟
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك تصوران متناقضان في بيان طبيعة تعامل الإمام (عجّل الله فرجه) مع المخالفين عموماً.
الأول منهما: يذهب إلى أن سيرة الإمام (عجّل الله فرجه) مع هؤلاء تعتمد القوة والعنف والاستئصال التام.
والتصور الثاني والذي هو على النقيض من التصور الأول: يذهب إلى أن الإمام (عجّل الله فرجه) لن يتجاوز مع المختلفين معه الحوار ومحاولات الإقناع، والسبب في ذلك الاقتصار على بعض الروايات دون البعض الآخر أو اقتطاع المضمون عن سياقه، فالذي يقرأ مثلاً ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): إِذَا تَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْقَائِمَ فَلْيَتَمَنَّه فِي عَافِيَةٍ فَإِنَّ اللَّه بَعَثَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله) رَحْمَةً ويَبْعَثُ الْقَائِمَ نَقِمَةً. [الكافي للشيخ الكليني: ج8، ص233]، أو ما روي عنه (عليه السلام): ما تستعجلون بخروج القائم؟ ما هو إلّا السيف والموت تحت ظل السيف. [الغيبة للشيخ النعماني: ص239]، ثم يقصر النظر على مثل هذه الأحاديث، فإنه من الطبيعي سيرى في حركة الإمام (عجّل الله فرجه) حركة انتقامية إجرائية لن تتسامح أو حتى لا تدع مجالاً للرجوع أو التوبة.
وأمّا من يقرأ كمثل ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): يستخرج التوراة وسائر كتب الله من غار بأنطاكية فيحكم بين أهل التوراة بالتوراة وبين أهل الإنجيل بالإنجيل وبين أهل الزبور بالزبور، وبين أهل الفرقان بالفرقان. [علل الشرائع للشيخ الصدوق: ج1، ص161]، أو ما روي عنه (عليه السلام): إذا قام قائمنا (عليه السلام) وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم. [كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص675]، وأمثال هذه الروايات فسيرى أن حركة الإمام (عجّل الله فرجه) لن تتجاوز ظاهرة الإقناع والإرضاء للآخرين.
والحال أن كلا القراءتين لم يصيبا الواقع ولم يعتمدا المنهج العلمي الذي يتجاوز القراءة المجتزئة للأخبار أو يتجاوز النزعة الذاتية والمؤثرات المسبقة التي تدفع صاحبها للميل لهذا الرأي أو الرأي الآخر، مع أن الرؤية الكلية والإلمام بجميع مفاصل ما ورد في سيرة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وطبيعة تعاطيه مع الخصوم أو المخالفين واضحة في كون السيرة المهدوية لا هي حركة متمحضة بسفك الدماء والقتل ولا هي متمحضة باللين والاسترضاء، وإنما هي جمع بين الأمرين من غير أن تتمحض في أحدهما على حساب الآخر، فالحكمة الإلهية اقتضت أن تحكم عالم الكون بالشدة في موضعها والرفق في موضعه فلا تتعامل مع الناس جميعاً على مقياس واحد، ضرورة أن الناس متفاوتون في الإدراك والوعي وفي التسليم والتمرد وفي الخطأ والعمد، ولا يمكن والحال هذه أن يوضع الجميع في سلة واحدة أو يؤخذوا بسبيل واحد.
ومن المؤكد أن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) كبقية آبائه الطاهرين (عليهم السلام) هو مظهر الحكمة الإلهية وصفاته الحسنى وهو الذي روي عنه (عجّل الله فرجه) ما ورد في أول دعاء الافتتاح في صفة الباري تعالى: وأيقنت أنك أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة. [مصباح المتهجِّد للشيخ الطوسي: ص577]، وإذا علمنا أن الدولة المهدوية هي دولة الله تعالى في أرضه وحكومة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هي التجلي الأبرز لحكومة الله تعالى كما ورد ذلك عن الإمام الصادق (عليه السلام): ما زال مذ خلق الله آدم دولة لله ودولة لإبليس، فأين دولة الله أما هو إلّا قائم واحد. [تفسير العياشي لمحمد بن مسعود العياشي: ج1، ص199]، فمن المؤكد بعد ذلك عدم القبول بالرأيين السابقين أو المصير إليهما في تفسير الحركة والنهضة المهدوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم.
والذي نراه واضحاً ونستفيده من مجمل الروايات والأحاديث من دون أن نلغي بعضها على حساب البعض الآخر والرؤية التي تتَّسق وتنسجم مع طبيعة الحكمة الإلهية أن طريقة الإمام (عجّل الله فرجه) تعتمد في التعاطي مع المختلفين معه على مستويين مختلفين تبعاً لطبيعة الأفراد وسلوكياتهم.
المستوى الأول: تعامله مع الظالمين والمجرمين المعاندين والذين لهم السهم الأكبر فيما عانت منه البشرية على الدوام، فلن تكون مواقفه (عجّل الله فرجه) معهم تقبل الحلول الوسطية، بل لابد من القضاء عليهم وإزالتهم تماماً كما يزيل الطبيب الجراح الغدد السرطانية التي تفتك بجسم الإنسان المريض، سواء كانوا من أهل الديانات السماوية أو من غيرهم، من المسلمين كانوا أو من غير المسلمين، أو من المنسوبين للتشيع زوراً، أو من غير المنسوبين لهم، فالعناوين العارضة والتي لا واقع لها لن تشكل ملاكاً أو أساساً تتفاوت فيه أو تتباين مواقف الإمام (عجّل الله فرجه) معها.
وهذه الرؤية وحدها كفيلة بالرد على أولئك الذين تضيق رؤيتهم وتصوراتهم في تفسير العقيدة المهدوية عند أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) واعتبارها أملاً شيعياً للانتقام من خصومهم ومخالفيهم كيفما كان، ولو كان الأمر كما ظنوا لم تكن مصادرنا الحديثية تروي عن إمامنا الصادق (عليه السلام) قوله: لو قام قائمنا بدأ بكذابي الشيعة فقتلهم. [رجال الكشي لمحمد بن عمر الكشي: ج2، ص589] أو ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديثه لمالك بن ضمرة: يا مالك ابن ضمرة، كيف أنت إذا اختلفت الشيعة هكذا [وشبك أصابعه وأدخل بعضها في بعض]؟ فقلت: يا أمير المؤمنين ما عند ذلك من خير؟ قال: الخير كله عند ذلك يا مالك، عند ذلك يقوم قائماً فيقدم سبعين رجلاً يكذبون على الله وعلى رسوله فيقتلهم ثم يجمعهم الله على أمر واحد. [الغيبة للشيخ النعماني: ص214]
ونفس هذه المصادر الحديثية التي تحدثت عن قتل بعض المنسوبين للتشيع من أهل الفتن والأهواء والدجل هي ذاتها التي روت أن الإمام (عجّل الله فرجه) يقتل ذراري قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) ولن يبقي منهم أحداً كما ورد ذلك في حديث الإمام الصادق (عليه السلام): لرضاهم بفعل آبائهم وافتخارهم بذلك [علل الشرائع للشيخ الصدوق: ج1، ص229]، فأمثال هؤلاء من الممسوخين فطرةً وإنسانيةً لا معنى للقول بمهادنتهم أو محاولة استمالتهم، وفي هذا المستوى الأول - والذي ما زال الكلام فيه -، يمكن أن نفهم الكثير من الروايات والأخبار التي أشارت إلى كون الإمام (عجّل الله فرجه) يُبعَث نقمة لا رحمة، أو أنه لا يأخذ منها إلّا السيف ولا يعطيها إلّا السيف، أو ما دل في الأخبار على غلق باب التوبة، كما أن هذا المستوى الأول يبرهن لنا أن كل الأعمال والتصرفات الإجرامية في زمن الغيبة الكبرى ستكون مرصودة ومتابعة من قبل الإمام (عجّل الله فرجه) ويترتب عليها الأثر في عصر الظهور، ولن يكون حالها كحال أول بعثة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي رفع شعار ومبدأ (الإسلام يجبُّ ما قبله) وبذلك أيضاً يكون واضحاً لدينا ما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في سياق حديثه عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) والسبب في مغايرة سيرته لسيرة جده (صلّى الله عليه وآله وسلم) في قوله: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) سار في أمته باللين، كان يتألف الناس والقائم (عليه السلام) يسير بالقتل بذلك أمر في الكتاب الذي معه. [الغيبة للشيخ النعماني: ص236]
المستوى الثاني: وهو ما يمكن تسميته بالتعاطي المرحلي والتدريجي، وهذا المستوى يختص بالفئات الضالة والتائهة عن جادة الصواب والرشاد والتي زاغت عن طريق الحق وأهله، سواء كانوا من المخالفين من أهل الإسلام أو من غيرهم أو كانوا من أصحاب الديانات أو لم يكونوا كذلك، وإنما السبب في اختلاف التعامل مع هؤلاء أن الجامع الذي يجمعهم هو القصور المعرفي وعدم اتِّصافهم بالعناد، وبطبيعة الحال أن أكثرية الناس قد يكونون من هذه الفئة، فالبيئة المنحرفة وأصدقاء السوء والتربية غير السوية كلها تؤثر بشكل وبآخر على خيارات الإنسان وسلوكياته حتى إذا أفقدته الرؤية والوضوح في العقيدة صار من الحكمة أن يتم التعامل معه بشكل يغاير التعامل مع من تمرَّس في الجريمة أو انقلب على تمام فطرته.
وفي تقرير هذا المستوى سوف نفهم ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) حينما سأله عبد الحميد الواسطي عن موقف الإمام (عجّل الله فرجه) مع فرقة المرجئة وهي إحدى الفرق المنحرفة عن أهل البيت (عليهم السلام) فيما لو تابوا عند ظهور الإمام (عجّل الله فرجه)، فقال (عليه السلام): من تاب، تاب الله عليه. [الكافي للشيخ الكليني: ج8، ص81]، مع التأكيد على أن هؤلاء المرجئة على انحرافهم العقائدي الكبير ليست لهم خصوصية تميزهم عن باقي الفرق الضالة والمنحرفة، بل أنهم مجرد مثال لكل الفئات والمذاهب التي شذّت وجنحت عن طريق الهداية، وهنا أيضاً يمكن أن نفهم الحكمة من نزول عيسى (عليه السلام) في آخر الزمان ومؤازرته للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في عصر الظهور، فليس ذلك إلّا لأجل هداية أهل الكتاب من اليهود والنصارى من أصحاب الديانات الأخرى، وهو المعنى الذي بشَّر به الإمام الباقر (عليه السلام): إن عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا فلا يبقى أهل ملة يهودي ولا نصراني إلّا آمن به قبل موته ويصلي خلف المهدي. [تفسير القمي لعلي بن إبراهيم القمي: ج1، ص158]
وعلى ضوء ما تقدم من البيان وبالتفصيلات التي ذكرناها سوف يتضح لنا طبيعة تعامل الإمام (عجّل الله فرجه) مع المخالفين عموماً وبنفس الوقت يتضح لنا الجمع بين الروايات والأخبار والتي قد تبدو متعارضة للوهلة الأولى، وسيكون واضحاً لدينا أيضاً الجواب عن السؤال الأخير الذي طرحتموه فيمن لا يقبل دعوة الإمام (عجّل الله فرجه) وعدم الانقياد له، فالوظيفة الملقاة على عاتق الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هي وظيفة خاصة به ادَّخره الله تعالى لها تقوم على هدف محدد وهو تأسيس دولة الحق والعدل، ولا يمكن بأي حال أن تتسامح أو تدع مجالاً للانحراف والزيغ، سواء على الصعيد الاعتقادي أو السلوكي، وهي لن تدخر وسعاً في إقامة الحجة والبرهان على الناس بالمعجزات أو بالحوار، وتعطي لكل أحد الفرصة للرجوع والتوبة مع الأخذ بنظر الاعتبار التفصيل الذي ذكرناه فيما سبق بين المستوى الأول والثاني ومراعاة الاختلاف الواقع بين طبيعة كل منهما، وعلى كل حال باب التوبة ما زال مفتوحاً للجميع ما دمنا في عصر الغيبة الكبرى، فإذا ظهر الإمام (عجّل الله فرجه) جاءت المزايلة وتم التعامل مع كل أحد بحسب شأنه وطبيعة استعداده.
ودمتم برعاية المولى صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)
: أبو محمد الأمير : مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)