المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه) حقيقة ثابتة
شاء المرجفون أم أبوا
الشيخ خالد البغدادي
المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه) هو حقيقة ثابتة شاء المرجفون ذلك أم أبوا، فقد صدع بها الشيعة وأهل السنّة في كتبهم.
قال ابن حجر في (فتح الباري): (تواترت الأخبار بأنّ المهدي من هذه الأُمَّة وأنّ عيسى يصلّي خلفه)(١).
وجاء عن ابن قيم الجوزية في كتابه (إغاثة اللهفان): (والأُمم الثلاث تنتظر منتظراً يخرج في آخر الزمان، فإنهم وعدوا به في كلّ ملّة، والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى بن مريم من السماء لكسر الصليب، وقتل الخنزير، وقتل أعدائه من اليهود، وعبّاده من النصارى، وينتظرون خروج المهدي من أهل بيت النبوة، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً)(٢).
وجاء عن ابن تيمية في كتابه (منهاج السنّة النبوية): (إنّ الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي، أحاديث صحيحة، رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم)(٣).
وصرّح الشيخ الألباني في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) الجزء الرابع، الصفحة ٤٣ بأنّ منكر عقيدة المهدي وخروجه التي تواتر ذكرها في الأحاديث الصحيحة هو كمن أنكر ألوهية الله (عزَّ وجلَّ).
إنَّما الكلام في أنَّ المهدي (عجّل الله فرجه) هل هو مولود أم أنّه سيولد في آخر الزمان وحين ظهوره المبارك؟
يوجد قولان:
قال أهل السنّة إنّه سيولد عند ظهوره.
بينما تقول الشيعة الإمامية إنّه مولود وهو حيّ غائب، وقد أثبتوا دعواهم هذه بأدلة كثيرة منها نص والده (عليه السلام) عليه في أحاديث صحيحة(٤) ورؤية القابلة له وجملة من أصحاب أبيه وأدلة خاصة توجب القطع بولادة الحجة بن الحسن (عليه السلام) أمّا من غير الشيعة فمن اعتراف علماء أهل السُنّة وعلماء الأنساب بولادته المباركة، وعلى سبيل المثال نذكر هنا بعض الأقوال التي صدحت بالولادة والغيبة من علماء أهل السنّة:
فقد شهد علماء الأنساب والمتخصصون من أهل السنة بولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وأنّه ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، ونذكر منهم بحسب التسلسل الزمني:
١ - النسابة الشهير أبو نصر سهل بن عبد الله بن داود بن سليمان البخاري، من أعلام القرن الرابع الهجري، والذي كان حياً سنة (٣٤١ هـ)، وهو من أشهر علماء الأنساب المعاصرين لغيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) الصغرى التي انتهت سنة (٣٢٩ هـ).
قال في (سر السلسلة العلوية): (وولد علي بن محمد التقي (عليه السلام) الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) من أُم ولد نوبيّة تدعى: ريحانة، وولد سنة إحدى وثلاثين ومائتين وقبض سنة ستين ومائتين بسامراء، وهو ابن تسع وعشرين سنة.. وولد علي بن محمد التقي (عليه السلام) جعفراً وهو الذي تسميه الإمامية جعفر الكذاب، وإنّما تسميه الإمامية بذلك؛ لادِّعائه ميراث أخيه الحسن (عليه السلام) دون ابنه القائم الحجة (عليه السلام)، لا طعن في نسبه) انتهى.
٢ - النسابة العمري المشهور من أعلام القرن الخامس الهجري والذي قال ما نصّه في (المجدي في أنساب الطالبيين: ١٣٠): (ومات أبو محمد (عليه السلام) وولده من نرجس (عليها السلام) معلوم عند خاصة أصحابه وثقات أهله، وسنذكر حال ولادته والأخبار التي سمعناها بذلك، وامتُحن المؤمنون بل كافة الناس بغيبته، وشره جعفر بن علي إلى مال أخيه وحاله فدفع أنْ يكون له ولد، وأعانه بعض الفراعنة على قبض جواري أخيه) انتهى.
٣ - الفخر الرازي الشافعي (ت ٦٠٦هـ)، قال في كتابه (الشجرة المباركة في أنساب الطالبية) تحت عنوان: أولاد الإمام العسكري (عليه السلام) ما هذا نصه: (أمّا الحسن العسكري الإمام (عليه السلام) فله ابنان وبنتان: أمّا الابنان، فأحدهما: صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)، والثاني موسى درج في حياة أبيه. وأمّا البنتان: ففاطمة درجت في حياة أبيها، وأم موسى درجت أيضاً) انتهى.
٤ - محمد أمين السويدي (ت ١٢٤٦هـ) قال في (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب): (محمد المهدي: وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين، وكان مربوع القامة، حسن الوجه والشَّعر، أقنى الانف، صبيح الجبهة) انتهى.
٥ - نسابة المدينة المنورة: أنس بن يعقوب الكتبي (معاصر)، صرّح في كتابه (الأصول في ذرية البضعة البتول) بالنسب كاملاً للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وأنّه ابن الحسن العسكري (عليه السلام)، حيث قال: (محمد المهدي: وهو محمد المهدي بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)) انتهى.
وصرّح في موضع آخر بغيبته واختفائه، حيث قال: (ومن الثابت عند أهل العلم من متقدمين ومتأخرين انقطاع خبره، وعدم معرفة قبره ولا مكانه) انتهى.
فهذه أقوال جملة يسيرة من علماء الأنساب المشهورين من أهل السنّة على مر القرون يثبتون الولادة الميمونة للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وأنّه ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
وأمّا اعتراف المحدثين والعلماء من أهل السُنَّة بهذه الولادة فحدِّث ولا حرج، فقد أحصى السيد ثامر العميدي في كتابه (دفاع عن الكافي) (١٢٨ عالماً) من علماء أهل السنة من فقهاء ومحدّثين ومفسرين وغيرهم، وعلى مر القرون، ممن اعترف بهذه الولادة المباركة.
ونذكر هنا جملة منهم مع الإشارة إلى المصدر والصفحة فقط، وحسب التسلسل الزمني:
١ - ابن الأثير الجزري (ت٦٣٠هـ) في كتابه (الكامل في التاريخ ٢٧٤:٧، آخر حوادث سنة ٢٦٠هـ).
٢ - ابن الخشّاب البغدادي المؤرّخ (ت ٦٤٣هـ) في (تاريخ مواليد الأئمة (عليهم السلام): ٦).
٣ - محمّد بن طلحة الشافعي (ت ٦٥٢هـ) في (مطالب السَّؤول في مناقب آل الرسول: ٨٨).
٤ - محمّد بن يوسف الكنجي الشافعي (ت ٦٥٨هـ) في (البيان في أخبار صاحب الزمان (عجّل الله فرجه): ٣٣٦).
٥ - ابن خلِّكان (ت ٦٨١هـ) في (وفيات الأعيان ١٧٦:٤، الرقم ٥٦٢).
٦ - شمس الدين الذهبي (ت ٧٤٨هـ) في كتبه: العبَر، وتاريخ دول الإسلام، وسير أعلام النبلاء (العبر ٣١:٣. تاريخ دول الإسلام ١١٣ حوادث سنوات (٢٥١-٢٦٠هـ). سير أعلام النبلاء ١١٩:١٣، الرقم ٦٠).
٧ - ابن الوردي (ت ٧٤٩هـ) في ذيل تتمّة المختصر، المعروف بـ تاريخ ابن الوردي (نقل ذلك عنه الشبلنجي في نور الأبصار ١٨٦).
٨ - ابن الصبّاغ المالكي (ت ٨٥٥هـ) في (الفصول المهمة: ٢٧٣).
٩ - عبد الوهّاب الشعراني (ت ٩٧٣هـ) في اليواقيت والجواهر (اليواقيت والجواهر ١٤٥:٣).
١٠ - ابن حجر الهيتمي الشافعي (ت ٩٧٤هـ) في (الصواعق المحرقة: ٢٠٧).
١١ - الشبراوي الشافعي (ت ١١٧١هـ) في (الإتحاف بحبّ الأشراف: ٦٨).
١٢ - القندوزي الحنفي (ت ١٢٩٣هـ) في (ينابيع المودّة ينابيع المودّة ٣٠١:٣-٣٠٦، الباب ٧٩).
١٣ - مؤمن بن حسن الشبلنجي (ت ١٣٠٨هـ) في (نور الأبصار: ١٨٦).
١٤ - خير الدين الزركلي (ت ١٣٩٦ هـ) في كتابه (الأعلام ٨٠:٦.).
وراجع بقية الأسماء (وهم بالعشرات) في المصدر المتقدم.
هذا، وقد أحصى الشيخ مهدي فقيه إيماني في كتابه (المهدي (عجّل الله فرجه) في نهج البلاغة) ما يزيد عن (١٠٠) شخصيّة من علماء أهل السنّة، صرّحت بولادته (عجّل الله فرجه)، فراجع ما أفاده.
أمّا الروايات من مختلف المصادر السنية والشيعية معاً، فقد أحصى بعض المحققين المعاصرين (آية الله العظمى الشيخ الصافي الكلبايكاني) أكثر من ثلاثة آلاف وسبعمائة رواية وردت بحقّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في مختلف أحواله، من مختلف المصادر، وهي تدل بالدلالة المطابقية والالتزامية، وبعد الجمع العرفي بين المرويات، على ولادته (عجّل الله فرجه)، وإليك تفصيلها:
١ - الروايات التي تبشّر بظهوره (عجّل الله فرجه) (٦٥٧ رواية).
٢ - الروايات التي تبيّن أنّه يملأ الأرض عدلاً وقسطاً (١٢٣ رواية).
٣ - الروايات التي تثبت أنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه) من أهل البيت (عليهم السلام) (٣٨٩ رواية).
٤ - الروايات التي تبيّن أنّه (عجّل الله فرجه) من ولد أمير المؤمنين (عليه السلام) (٢١٤ رواية).
٥ - الروايات التي تثبت أنّه (عجّل الله فرجه) من ولد فاطمة الزهراء (عليها السلام) (١٩٢ رواية).
٦ - الروايات التي تقول إنّه من ولد الإمام الحسين (عليه السلام) (١٨٥ رواية).
٧ - الروايات التي تقول إنه التاسع من ولد الإمام الحسين (عليه السلام) (١٤٨ رواية).
٨ - الروايات التي تقول إنه من ولد علي بن الحسين (عليهما السلام) (٨٥ رواية).
٩ - الروايات التي تقول إنه من ولد محمّد الباقر (عليه السلام) (١٠٣ رواية).
١٠ - الروايات التي تقول إنه من ولد الصادق (عليه السلام) (١٠٣ رواية).
١١ - الروايات التي تقول إنه السادس من ولد الصادق (عليه السلام) (٩٩ رواية).
١٢ - الروايات التي تقول إنه من ولد موسى بن جعفر (عليهما السلام) (١٠١ رواية).
١٣ - الروايات التي تقول إنه الخامس من ولد موسى بن جعفر (عليهما السلام) (٩٨ رواية).
١٤ - الروايات التي تقول إنه الرابع من ولد علي بن موسى الرضا (عليه السلام) (٩٥ رواية).
١٥ - الروايات التي تقول إنه الثالث من ولد محمّد بن علي التقي (عليه السلام) (٩٠ رواية).
١٦ - الروايات التي تقول إنه من ولد علي الهادي (عليه السلام) (٩٠ رواية).
١٧ - الروايات التي تقول إنه ابن أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السلام) (١٤٦ رواية).
١٨ - الروايات التي تقول إنه الثاني عشر من الأئمّة وخاتمهم (١٣٦ رواية).
١٩ - في ولادته (عليه السلام) وتأريخها وبعض حالات أمّه (٢١٤ رواية).
٢٠ - في أنّ له غيبتين (١٠ روايات).
٢١ - في أنّ له غيبة طويلة: (٩١ رواية).
٢٢ - في أنّه طويل العمر جدّاً (٣١٨ رواية)(٥).
وممن صرَّح بتواتر روايات ولادته (عجّل الله فرجه) جملة كبيرة من علماء الشيعة الإمامية، نشير إلى بعضهم:
قال العلامة الحلّي في (منهاج الكرامة): (وقد تواترت به الشيعة في البلاد المتباعدة خلفاً عن سلف من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال للحسين (عليه السلام): «هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة، تاسعهم قائهم، اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملؤ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(٦).
وجاء في كتاب (الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف) لابن طاووس: (ونقل إلينا سلفنا نقلاً متواتراً أنّ المهدي (عليه السلام) المشار إليه وُلد ولادة مستورة)(٧).
وقد أقرّ العلامة المجلسي في (بحار الأنوار) ما قاله السيد ابن طاووس في هذا الجانب(٨).
وفي كتاب الأربعين للشيخ الماحوزي: (إجماع الشيعة رضوان الله عليهم، وتواتر أخبارهم بولادته صلوات الله عليه وعلى آبائه، على نحو ولادة إبراهيم وموسى (عليهما السلام)، وغيرهما مما اقتضت المصلحة تستر ولادته، وقد استفاضت الأخبار عنهم باسمه ونسبه...)(٩).
وفي كتاب (عقائد الإمامية) للشيخ المظفر: (هذا المصلح المهدي هو شخص معين معروف ولد سنة (٢٥٦ هجرية) ولا يزال حيّاً، هو ابن الحسن العسكري واسمه محمد. وذلك بما ثبت عن النبي وآل البيت من الوعد به وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه)(١٠).
وفي كتاب (محاضرات في الإلهيات) للشيخ السبحاني: (كلّ من كان له إلمام بالحديث، يقف على تواتر البشارة عن النبي وآله وأصحابه بظهور المهدي في آخر الزمان - إلى أن يقول: - معتقد الشيعة بفضل الروايات الكثيرة هو أنّه ولد في سرّ من رأى عام (٢٥٥) بعد الهجرة النبوية، وغاب بأمر الله سبحانه سنة وفاة والده عام (٢٦٠هـ) وسوف يظهره الله سبحانه ليتحقق عدله)(١١).
وفي (تنزيه الشيعة الاثني عشرية) لأبي طالب التجليلي التبريزي: (أنه قد وردت نصوص متواترة على أن المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً هو ابن الحسن العسكري (عليهما السلام)، فقد ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في التصريح عليه ستّون نصّاً، وعن أبيه الحسن العسكري (عليه السلام) في التصريح على ولده المهدي اثنان وأربعون نصّاً، وعن سائر الأئمة (عليهم السلام) نصوص كثيرة، فراجع)(١٢).
وفي (مقالات تأسيسية) للسيد الطباطبائي: (إنّ بين أيدينا أخباراً متواترة من طريق العامة والخاصّة عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) تحدثنا عن حياة الإمام الغائب وسيرته، ومن معالم هذه السيرة يتبيَّن أنَّ هذا الإمام ابن الإمام الحسن بن علي العسكري.. ولد بسامراء)(١٣).
وأيضاً ممن صرَّح بتواتر غيبته (عجّل الله فرجه)، والتي يستفاد منها بالدلالة الالتزامية ولادته (عجّل الله فرجه)؛ لأنّ الغيبة هي فرع الولادة، جملة كبيرة من علماء الشيعة الإمامية، نذكر بعضهم:
قال النعماني في كتابه (الغيبة): (هذه الروايات التي قد جاءت متواترة تشهد بصحّة الغيبة...)(١٤).
وفي كتاب (الغيبة) للشيخ الطوسي: (والأخبار في هذا المعنى [أي الغيبة] أكثر من أن تحصى، ذكرنا طرفاً منها لئلا يطول بها الكتاب... على أنّ هذه الأخبار متواتر بها لفظاً ومعنى)(١٥).
وفي (كمال الدين) للشيخ الصدوق: (فالتصديق بالأخبار يوجب اعتقاد إمامة ابن الحسن (عليه السلام) على ما شرحت، وأنّه قد غاب كما جاءت الأخبار في الغيبة، فإنّها جاءت مشهورة متواترة)(١٦).
وفي (منتخب الأنوار المضيئة) للسيد بهاء الدين النجفي: (وقد تواترت الأخبار ورويت الآثار عن الله تعالى والنبي والأئمة الأحد عشر الأطهار، بالنصّ على إمامته وظهوره بعد غيبته)(١٧).
وفي تاج المواليد (المجموعة) للشيخ الطبرسي يقول: (وأمّا غيبته (صلوات الله عليه) فقد تواترت الأخبار بها قبل ولادته، واستفاضت بدولته قبل غيبته، وهو صاحب السيف من أئمة الهدى (عليهم السلام)، والمنتظر لدولة الإيمان) انتهى(١٨).
ومن أعلام أهل السنّة ممن صرّح بغيبته (عجّل الله فرجه) وبقائه حيّاً إلى أن يأذن الله بظهوره المبارك العلامة الأوحد - كما يصفه الذهبي - محمد بن طلحة الشافعي الذي قال في كتابه (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول):
(وأمّا عمره: فإنه ولد في أيام المعتمد على الله، خاف فاختفى وإلى الآن، فلم يمكن ذكر ذلك إذ من غاب وإن انقطع خبره لا توجب غيبته وانقطاع خبره الحكم بمقدار عمره ولا بانقضاء حياته، وقدرة الله واسعة وحكمه وألطافه بعباده عظيمة عامة، ولوازم عظماء العلماء أن يدركوا حقائق مقدوراته وكنه قدرته لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، ولا نقل طرف تطلعهم إليه حسيراً وحده كليلاً، وأملى عليهم لسان عجزهم عن الإحاطة به وما أوتيتم من العلم إلّا قليلاً.
وليس ببدع ولا مستغرب تعمير بعض عباد الله المخلصين، ولا امتداد عمره إلى حين، فقد مد الله تعالى أعمار جمع كثير من خلقه من أصفيائه وأوليائه ومن مطروديه وأعدائه، فمن الأصفياء: عيسى (عليه السلام)، ومنهم الخضر، وخلق آخرون من الأنبياء طالت أعمارهم، حتّى جاز كل واحد منهم ألف سنة أو قاربها كنوح (عليه السلام) وغيره.
وأمّا من الأعداء المطرودين: فإبليس، وكذلك الدجال، ومن غيرهم كعاد الأولى، كان فيهم من عمره ما يقارب الألف، وكذلك لقمان صاحب لبد.
وكل هذه لبيان اتِّساع القدرة الربانية في تعمير بعض خلقه، فأي مانع يمنع من امتداد عمر الصالح الخلف الناصح إلى أن يظهر فيعمل ما حكم الله له به؟) انتهى(١٩).
وهذا المعنى من البيان الذي صدع به العلامة محمد بن طلحة الشافعي هنا هو الموافق عملياً لما صرَّح به علماء الأنساب - الذين تقدّم ذكرهم - في حقّ الإمام محمد بن الحسن العسكري (عليه السلام).. فقد صرّح النسابة العمري المشهور من أعلام القرن الخامس الهجري في كتابه (المجدي في أنساب الطالبيين) ما نصّه: (ومات أبو محمد (عليه السلام) وولده من نرجس (عليها السلام) معلوم عند خاصة أصحابه وثقات أهله، وسنذكر حال ولادته والأخبار التي سمعناها بذلك، وامتُحن المؤمنون بل كافة الناس بغيبته، وشره جعفر بن علي إلى مال أخيه وحاله فدفع أنْ يكون له ولد، وأعانه بعض الفراعنة على قبض جواري أخيه) انتهى.
وها هو الفخر الرازي الذي بعد أن أثبت وجود أبناء وبنات للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ينص على وفاتهم في حياة أبيهم واحداً واحداً، ثم يترك التعرُّض لذكر وفاة الإمام محمد بن الحسن (عجّل الله فرجه) بالمرَّة، ولا يشير إلى شيء من ذلك البتة، قال في كتابه (الشجرة المباركة في أنساب الطالبية) تحت عنوان: أولاد الإمام العسكري (عليه السلام) ما نصّه: (أمّا الحسن العسكري الإمام (عليه السلام) فله ابنان وبنتان: أمّا الابنان، فأحدهما: صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)، والثاني موسى درج في حياة أبيه. وأمّا البنتان: ففاطمة درجت في حياة أبيها، وأم موسى درجت أيضاً) انتهى.
وها هو نسابة المدينة الشريف أنس بن يعقوب الكتبي يقول في كتابه (الأصول في ذرية البضعة البتول): (ومن الثابت عند أهل العلم من متقدمين ومتأخرين انقطاع خبره، وعدم معرفة قبره ولا مكانه... - إلى أن يقول: - ومن التحاليل السابقة والتي استقصيناها من الكتب المعتمدة التي تؤكد لنا صحة اختفاء الإمام المهدي في سنّ مبكر وعدم ظهوره، فلم يكن له عقب بالإجماع، وهذا ما أثبتته كتب الأنساب والمشجرات المتقدمة المعتمدة، بأن ليس له عقب بإجماع كبار النسابين، وبذلك لم يعرف مكانه ولا ذراريه) انتهى.
فها هي أدلتنا على ولادة إمامنا المهدي (عجّل الله فرجه) واستمرار وجوده وغيبته من طرق الفريقين معاً تشهد بالولادة والغيبة، فبأي حديث بعد هذا التواتر يؤمنون؟!
قد يقال: أنتم تقولون إنّ تنصيب الأئمة هو لطف، الهدف منه هو هداية الناس وإيصالهم إلى الغرض المطلوب، فأين هذا اللطف والإمام المهدي غائب منذ ألف عام ويزيد؟!
الجواب: لم تكن غيبة الإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه) من عند نفسه وبرغبته، بل هي مشيئة الله تعالى التي اقتضت ذلك بعد أن فشل المسلمون في التعاطي مع أحد عشر إماماً من آبائه (عليهم السلام)!
فقد قام المسلمون الأوائل بإقصاء الإمام الأوّل - أمير المؤمنين (عليه السلام) - لمدة خمسةٍ وعشرينَ عاماً عن ممارسة دوره الفعلي في قيادة الأُمَّة، بعد أن تحايَلوا على الاستيلاء على منصبه، فيما ثبت له من حديث الغدير والتفاف البعض عليه من الذين سارعوا إِلى تنصيب خليفة لهم في سقيفةِ بني ساعدة والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يُدفن بعد، وهو ما شهد به عالم كبير من علماء أهل السنّة، الإمام الغزالي، الذي قال في كتابه (سر العالمين):
(لكن أسفرت الحجّة وجهها، وأجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته في يوم غدير خم، باتّفاق الجميع، وهو يقول: «من كنت مولاه فعلي مولاه». فقال عمر: بخ بخ يا أبا الحسن، لقد أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. فهذا تسليم ورضى وتحكيم, ثمّ بعد هذا غلب الهوى لحب الرياسة، وحمل عمود الخلافة، وعقود البنود، وخفقان الهوى في قعقعة الرايات، واشتباك ازدحام الخيول، وفتح الأمصار؛ سقاهم كأس الهوى، فعادوا إلى الخلاف الأول، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً) انتهى(٢٠).
وبعد هذا الاحتيال على النصّ النبوي قاموا بالهجوم على داره وأرادوا إحراقهُ على من فيه وكانت فيه البِضعةُ الزّهراء (عليها السلام)(٢١)، وثمّ عند تَسنّمه المسؤوليّة - بعد مدّة الإقصاء هذه - قامَ عليه النّاكثون والقاسطون والمارقون حتّى اغتالوهُ صدّيقاً شهيداً وهو في محرابه ساجدٌ يصلّي!
ثمّ جاءَ بعدهُ ابنهُ الحسن (عليه السلام) وهو - كذلك - لاقى من خذلان الأُمّة الذي لاقاه حتّى اضطرّ إِلى أن يصالح ألدّ أعداء الدّين وهو معاويةُ بن أبي سفيان، قائدُ الفئة الباغية بنصِّ حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المعروف عن عمّار بن ياسر بأنّه تقتلهُ الفئةُ الباغيةُ الدّاعيةُ إِلى النّار وقد قُتِلَ عمّار على يد جيش معاوية في صفّين.. ولم يتركوا الإمام الحسن (عليه السلام) حتّى سقوهُ السُّم على يد زوجتهِ جعدة بتحريضٍ من معاوية، كما يذكر ذلك صريحاً ابنُ عبد البرّ(٢٢)!
أمّا الإمام الحسين (عليه السلام) ففاجعتهُ أشهر من أن تذكرَ أَو يشارَ إليها، وقد بكتْ عليه السّماواتُ والأرضُ وبكاهُ حتّى محجرُ الحَجر، كما يذكرُ ذلك السّيوطي وغيره.
وأحاديثُ غدر الأُمّة وقتلِها لهؤلاء الأئمّة واضحةٌ وصريحةٌ ولا يمكنُ التّحايل أَو التّلاعب بها بأيّ حال من الأحوال.
فقد روى الحاكمُ في مستدركه بسندٍ صحيح عن أبي إدريس الأودي عن علي (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ ممّا عهدَ إليَّ النبيُّ أنَّ الأُمَّة ستغدرُ بي بعده»(٢٣).
وعن البوصيري في (إتحاف الخِيَرة المهَرة) في حديث جبرئيل للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحقّ الحسين (عليه السلام): «إنّ أمّتك ستقتله». قال البوصيري: رواهُ عبد بن حميد بسند صحيح(٢٤).
نقول: هذا هو شأنُ ثلاثةٍ من كبار أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وهم قد قلّدهم رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أوسمةِ الفضل ما لم يقلّد غيرَهم، ومع ذلك لقوا من هذه الأُمّة ما لقوه، فما بالكَ بمن هم دونهم من أئمّة العترة الطّاهرة من الّذينَ عانوا من الاضطهاد والتضيّيق ما عانوه حتّى قضوا حياتَهم بين:
- مُراقبٍ مُضطهد، كالسّجاد والباقر والصّادق (عليهم السلام).
- ومَسجون مُعذّب، كالإمام الكاظم (عليه السلام).
- مسجون القصور - غريب عن الأهل والبلد، كالرّضا (عليه السلام).
- ومنفي محتجزٍ، كالجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام).
فماذا تتوقّعُ أن يكون مصيرُ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) فيما لو بقيَ بين ظهراني هذه الأُمّة التي لم تتوانَ عن قتلِ وغدرِ واضطهادِ أهل بيت نبيّها (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما استطاعوا؟!
من الواضحِ جدّاً أن استمرارَ حضور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بينَ ظهراني هذه الأُمّة معناه أن ينتهيَ إِلى ما انتهى إليه آباؤه الطّاهرون من القتلِ أَو الحبس أَو النفيّ والاضطهاد، ومن هنا اقتضتْ حكمةُ المولى سبحانه تغييبَ هذا الإمام الهادي المهدي (عجّل الله فرجه) حتّى تصلَ الأُمّة إِلى درجة تعرفُ معها أهميّة وجود إمامٍ من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بين ظهرانيها فتلتفُّ حولهُ وتمتثلُ أوامرهُ ولا تفرّط فيه كما فرّطتْ في حقّ آبائه من قبل!
ولكن متى يكون ذلك؟!
الجوابُ: يكون ذلك بعد أن يفشلَ الجميعُ في قيادة الأُمّة، وبعد أن تتوالى عليها صنوفُ الخيبة والحرمان نتيجةً لتحكيمها تيّارات الضّلال من ملوكٍ فاشلين ورؤساءَ انتهازييّن وقوميّين كافرين وداعشيّين متطرفين وغيرهم، فيطلبونهُ حينئذٍ لينقذَهم ممّا هم فيه من مِحَن وعذاب.
تقول الرّواية عن أمّ سلمة: سمعتُ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «يكون اختلافٌ عند موت خليفة، فيخرجُ من بني هاشم فيأتي مكّة، فيستخرجهُ النّاسُ من بيته بين الرّكن والمقام، فيجهز إليه جيشٌ من الشّام حتّى إِذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فيأتيهِ عصائبُ العراق وأبدالُ الشّام، وينشأُ رجلٌ بالشّام أخوالُه من كلب، فيجهزُ إليه جيش فيهزمهم الله فتكون الدّائرةُ عليهم، فذلك يوم كلب، الخائبُ من خابَ من غنيمة كلب، فيستفتحُ الكنوز، ويقسم الأموال، ويلقي الإسلام بجرّانه إِلى الأرض، فيعيشونَ بذلك سبع سنين». أَو قال: «تسع».
قال الهيثمي: رواهُ الطبراني في الأوسط، ورجاله رجالُ الصحيح(٢٥).
فلاحظ قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «فيستخرجه النّاس من بيته»، أَيّ إنّ النّاسَ تصلُ إِلى مرحلةٍ من الاختلافِ ما إن تسمعُ بخروجه، كما تقول الرواية: «فيخرج من بني هاشم فيأتي مكّة»، حتّى تأتي إليه الأُمّة بنفسها تطلبهُ وتستخرجهُ من بيته ليحكمَ فيها بالحقّ.
يقول السفاريني الحنبلي في كتابه: لوامعُ الأنوار البهيّة عن دولة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه): (يعملُ بسنّة النبي لا يوقظ نائماً، ويقاتلُ على السُّنّة لا يترك سُنّةً إلّا أقامها ولا بدعةً إلّا رفعها، يقومُ بالدّين آخر الزمان كما قام به النبيّ أوّله، يملكُ الدّنيا كلّها كما ملكَ ذو القرنين وسُليمان بن داود، يكسرُ الصّليب ويقتل الخنزير ويردُّ إِلى المسلمين أُلفتَهم ونعمتَهم، يملأُ الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، يحثو المالَ حثواً ولا يعدّه عداً، يقسمُ المالَ صحاحاً بالسّوية، يرضى عنه ساكنُ السّماء وساكنُ الأرض والطّير في الجو والوحش في القفر والحيتان في البحر) انتهى(٢٦).
أمّا دعوى أنّ غياب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مخالفٌ لِلّطف، والنّاس بحاجةٍ إليه؟!
نقول: كذلك النّبوّة هي لطفٌ أيضاً، ومع ذلك حصلتْ الغيبات من الأنبياء عن أقوامهم، كما في غيبة نبي الله موسى (عليه السلام) وغيبة نبي الله يونس (عليه السلام)، بل حصلَتْ عند غياب بعضهم - كغيبة موسى (عليه السلام) - أمورٌ خطيرةٌ جداً، وهي عبادة النّاس العِجل، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ﴾ (البقرة: ٥١)، وهنا نسأل: هل كان الله سبحانه وتعالى يعلم حين استدعى نبيّه موسى (عليه السلام) للمناجاة وغيّبهُ عن قومه، أنّهم سيعبدون العِجلَ من بعده أَم لا؟!
فإن قلتم: إنّه لا يعلم فقد كفرتم، وإن قلتم هو يعلم، فهذا معناهُ لا توجد منافاةٌ بين اللّطف وغيبة النبيّ أَو الإمام عن قومه!
فإن قالَ قائل: إنّ موسى (عليه السلام) قد استخلف على قومه أخاهُ هارون (عليه السلام) ولم يتركهم هملاً!
قلنا: كذلك إمامنا المهدي (عجّل الله فرجه) قد استخلف سفراءهُ الخاصّين به في فترةِ غيبتهِ الصّغرى، ثمّ استخلف سفراءهُ العامّين، وهم الفقهاء العدول، في فترة غيبته الكبرى، ولم يترك أمرَ الأُمّة هملاً من بعده، فاللّطف من هذه النّاحية لم ينقطع تماماً.
الهوامش:
(١) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر ٦: ٤٩٤.
(٢) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: ١٠٩٧.
(٣) منهاج السنّة النبوية ٨: ٢٥٤.
(٤) «وولد له ولد سمّاه محمد سنة خمسة وخمسون ومائتين» [الكافي: ج١، ص٥١٤].
(٥) راجع: منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه)، ثلاثة مجلدات، آية الله العظمى لطف الله الصافي الكلبايكاني.
(٦) منهاج الكرامة: ١٧٧.
(٧) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: ١٨٣.
(٨) انظر: بحار الأنوار ٥١: ١٠٧.
(٩) الأربعون: ٢١١.
(١٠) عقائد الإمامية: ٧٨ و٧٩.
(١١) محاضرات في الإلهيات ٣٨٩ و٣٩٠.
(١٢) تنزيه الشيعة الاثني عشريه ٢: ٥٦١.
(١٣) مقالات تأسيسية: ٢٧١.
(١٤) الغيبة للنعماني: ١٦٣و١٦٤.
(١٥) الغيبة للطوسي: ١٦٧-١٧٤.
(١٦) كمال الدين: ٣٩.
(١٧) منتخب الأنوار المضيئة: ٤٥.
(١٨) تاج المواليد: ٥٦.
(١٩) مطالب السؤول: ٤٨٩.
(٢٠) مجموعة رسائل الإمام الغزالي، كتاب سر العالمين: ٤٨٣.
(٢١) يذكرُ ذلك بسندٍ صحيح ابنُ شيبةَ في مُصنّفه: ٥٧٩.
(٢٢) الاستيعاب: ١، ٢٣٣.
(٢٣) المستدرك على الصحيحين ٣: ١٥٠، صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(٢٤) إتحافُ الخِيرة المهَرة بزوائد المسانيد العشرة: ٢٣٨.
(٢٥) مجمع الزوائد ٧: ٣١٥.
(٢٦) لوامع الأنوار البهيّة ٢: ٧٥، ٧٦؛ وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ٤: ٣٨.