أُسس الاعتقاد بوجود الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
وآليّات مقاومة إنكاره
مرتضى علي الحِلّي
مدخلٌ تمهيديٌ:
من المعلوم بداهةً عند العقلاء، وحتّى في عادة الناس عُرفاً أنَّ البناء مُطلقاً يجب أن يقوم على أسسٍ مكينة، ليرتفع عليها بسلامة، بما تتكفّل بقاءه، بخلاف ما لو قام على أُسس ضعيفة تجعله عرضةً للانهيار وبسرعة، ومن هنا عرضَ القرآن الكريم إلى هذا المعنى بشقَّيْه المادي والمعنوي، قال تعالى:
﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (التوبة: ١٠٩)، وما نسعى إلى تقديمه في هذا المدخل التصوري في محاور البحث، هو بيان أهميّة الجهات المعنوية والمعرفيّة والسلوكيّة في تمكين الأسس الاعتقادية بوجود الإمام المهدي وإمامته (عجّل الله فرجه) وآثار كلّ جهةٍ منها، ومدى القدرة والصلابة في عدم الرضوخ للشُبهات التي تعرض عليها، وضرورة الاستبصار وامتلاك ثقافة التمييز، وعدم الخلط في الأمور الحادثة، والتي لها سنخ علاقة بأسس الاعتقاد وتمكينها أو انهيارها.
وإذا تمكّنا من الوقوف على مشارف تلك الجهات المُقوّمة لأسس الاعتقاد بوجود الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ووجوب إمامته، وبقائه حيّاً، فإنّا سنتعرّف على موانع الوقوع في الانحراف، وذلك باعتماد رؤية الأئمة المعصومين (عليهم السلام) والذين قدّموا لنا خيارات في التعاطي القويم مع العقيدة المهدوية في عصريها - عصر الغيبة الصغرى وعصر الغيبة الكبرى - ممّا ينبغي الأخذ بها منهجاً وسلوكاً.
وممكن أن نستظهر التراتبية البنائية في قوامة الأُسس الاعتقادية الحقّة من منطوق بعض الآيات القرآنية الشريفة، والتي بيَّنَت ذلك بقصد التمكين لبنيويَّة الشخصية المؤمنة وهَديها للحَراك المستقيم في إطار الانتظار والتمهيد بشكل عام، لِما عرضته الأصول الاعتقادية من علاقة مكينة بهذا المعنى المطلوب والمبحوث، قال تعالى:
﴿لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى وَاليَتامى وَالمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ (البقرة: ١٧٧).
إنَّ هذه الآية الشريفة تُعالج رؤية تتبنّى أولويّة رعاية معايير الاهتمام بجانب دون آخر من غير إعمال للتراتبية الأوّلية في حَراك البناء والتأسيس، على مستوى شخصيّة الفرد أو شخصيّة المُجتمع القيميّة، كما يظهر في الاهتمام بمسألتي العبادات والاعتقادات، وأيّهما أحقّ بالترتيب والعناية، والقرآن الكريم قد قدّم رؤيته القويمة في ذلك، من حيث لزوم مراعاة معايير التقديم والترتيب البنائي، بما يضمن الوصول للمطلوب العقدي وتحقيق الغرض، فرداً واجتماعاً، إذ بيَّن أنَّ البِرَّ الحقيقي والواقعي، يُمثّل سمةَ التوسع اعتقاداً وعملاً في الخير والصلاح والطاعة والإحسان، وكلّ وجهٍ له علاقة بالمدلول، وأهمّها الإيمان بالأصول الاعتقادية الأولية والضرورية في بنيوية الشخصية المُوقِنَة، وما يتفرّع منها من أصول اجتماعية وتطبيقية، تجمع بين بُعدَي تأمين البناء الذاتي للفرد والبناء الاجتماعي عامةً، وعلى نحوٍ تكون فيه السمة الاعتقادية هي البارزة في الآثار والمواقف والخيارات، فضلاً عن آثار العبادات.
والآية الشريفة بيِّنَةُ في هذا المعنى الذي نقصده، وهو ضرورة مُراعاة التراتبية البنائية في الأسس الاعتقادية أصولاً وفروعاً، والمنطوق القرآني حجّة بظهوره ودلالته، فكلّ الجهات القيميّة والاعتقادية والاجتماعية والتطبيقية قد سطّرتها الآية الشريفة بلون الأولويّة، حتّى أنّها قد ختمت بيان مفهوم البِرِّ واختزاله بالإيمان بما ذكَرتْ بقوله تعالى: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾، مما يعني أنَّ المطابقة بين إعمال الأصول الاعتقادية والفروع العبادية يأتي بحسب مراعاة تراتبية البناء، مِمّا ينتج في الواقع إنساناً موقناً وتقيّاً وصالحاً في وجوده وحَراكه بشكل عام، وينبغي الالتفات إلى أنَّ الإيمان بالأُسس الاعتقادية يجري في جميع مُنطبقات الجامع العام بمثل ما يجري في الجامع الاعتقادي نفسه، وهو الإيمان بأصل وجود الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وإمامته، فيما هو الهدف من البحث، ومحاوره، وقد أشار شيخ الطائفة المفيد (رحمه الله) إلى هذا المعنى العقائدي وانطباقه البنائي بمصداقه الأوّل، وهو المعصوم(١) (عليه السلام) - والذي أيضاً ينطبقُ على أصالة الاعتقاد بوجود الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ووجوب إمامته الحقّة - في صدد جوابه عن سؤال وجِّه إليه في تفسير قوله تعالى:
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة: ١١٩)، واستدّل بقوله تعالى - من الآية محلّ البحث -:
﴿لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى وَاليَتامى وَالمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ (البقرة: ١٧٧).
وقال: (فجمع الله تبارك اسمه وتعالى هذه الخصال كلها، ثم شهدَ لمن كملَت فيه بالصدق والتقى على الإطلاق، فكان مفهوم معنى الآيتين الأولى، وهذه الثانية أن اتبعوا الصادقين الذين باجتماع هذه الخصال التي عددناها فيهم، استحقوا هذا الإطلاق عليهم ولم نجد أحداً من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اجتمعت فيه هذه الخصال إلّا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فوجب أنّه الذي عناه الله سبحانه بالآية، وأمر فيها باتِّباعه والكون معه فيما يقتضيه الدِّين، وذلك أنه ذكرَ الإيمانَ به (جل اسمه وتعالى) واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) أوّلَ الناس إيماناً به، وبما وصف بالأخبار المتواترة بأنه أوّل مَن أجاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الذكور)(٢).
وقد عرض الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل لتفسير الآية الشريفة: ﴿لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ﴾ (البقرة: ١٧٧).
بما هو صريحٌ في أهميّة التراتبيّة البنائية في الأصول والأسس الاعتقادية ودخالتها الرئيسة في صناعة الإنسان المؤمن، ونقتصر على ذكر اقتباسات ممّا تقدّم به، لتكون شاهداً على هذه الحقيقة، ولزوم مراعاة أهميتها تطبيقاً وخياراً، وقال ما نصّه: (ثم يُبيِّن القرآن أهم أصول البرّ والإحسان، وهي ستة، فيقول: ﴿وَلكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ - هذا هو الأساس الأول: الإيمان بالمبدأ، والمعاد، والملائكة المأمورين من قبل الله، والمنهج الإلهي، والنبيين الدعاة إلى هذا المنهج، والإيمان بهذه الأمور يضيء وجود الإنسان، ويخلق فيه الدافع القوي للحركة على طريق البناء والأعمال الصالحة.
إلى أنْ ذَكرَ: ثم تؤكد الآية على أهمية الأسس الستة، وعلى عظمة مَن يتجلى بها، فتقول: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾، صدقهم يتجلّى في انطباق أعمالهم وسلوكهم مع إيمانهم ومعتقداتهم، وتتجلّى تقواهم في التزامهم بواجبهم تجاه الله وتجاه المحتاجين والمحرومين وكل المجتمع الإنساني، والملفت للنظر أنَّ الصفات الست المذكورة تشمل الأصول الاعتقادية والأخلاقية والمناهج العملية، فتضمنت الآية كل أسس العقيدة، وكذلك أشارت إلى الإنفاق والصلاة والزكاة بين المناهج العملية، وهي أسس ارتباط المخلوق بالخالق، والمخلوق بالمخلوق، وفي الحقل الأخلاقي ركّزت الآية على الوفاء بالعهد، وعلى الصبر والاستقامة والثبات، وهي أساس كل الصفات الأخلاقية السامية)(٣).
وتجدر الإشارة إلى أنَّ تمكين أسس الاعتقاد بوجود الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) والإذعان بإمامته وبقائه حيّاً إلى آخر زمان تكليفه يرتبطُ ارتباطاً وثيقاً بأصل الإيمان بوجود اللهِ تبارك وتعالى وتوحيده وعدله وحكمته، وقد فصّلنا هذا المعنى القويم في بحث مستقل وسابق(٤)، وما من شبهة أو إنكار أو انحراف يعرض للإنسان بوجهة ما يؤمن به أو يلحد فيه، إلّا ويأتي من عدم إدراكه للترابط الوثيق بين الأصول الاعتقادية بعضها ببعض، كما هو محلّ القصد من البحث، وذلك لأنَّ أسس الاعتقاد الديني تقوم على الاختيار والإيمان، بعد النظر العقلي فيها، وهذا المعنى يُمثّل تكليفاً يأخذ بالإنسان للاهتداء بنفسه وعلى بصيرة مِن أمره، دون إلجاء بحسب ما ثبتَ في علم الكلام ومُسلّماته العقديّة، من أنَّ الله تعالى قد عرضَ دينه الحقَّ على الإنسان بواسطة أنبيائه ورسله وحججه من الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وهداهم، ودعاهم للإيمان طوعاً، وقد أقام الحجّة البالغة عليهم، وقد بيَّن العلاّمة الحلّي (رحمه الله) هذا الثابت الكلامي في شرح تجريد الاعتقاد، حيث ذكرَ نصّاً: (وأمّا الهداية فالله تعالى نصبَ الدلالة على الحقِّ وفَعَلَ الهدايةَ الضرورية عند العقلاء، ولم يفعل الإيمانَ فيهم، لأنَّه كلّفهم به ويُثيبُ على الإيمان)(٥).
وتفصيل البحث يقع في جهات ثلاث، وهي:
الجهة الأولى: مُميِّزات الاعتقاد القويم بوجوده وبإمامته.
الجهة الثانية: لزوم إدراك الترابط العقدي بين وجود الله سبحانه ونصبه للأئمة المعصومين (عليهم السلام)، ومُراعاة تلك التراتبية البنائية.
الجهة الثالثة: مُقتضيات الوقوع في الشُبهات والموانع من ذلك.
الجهة الأولى: مُميِّزات الاعتقاد القويم بوجوده وبإمامته.
ويمكن تبويبها بما يلي:
أوّلاً: من المعلوم عقائديّاً أنّه يجب تحصيل اليقين بأصول الدين، ومنه الاعتقاد الجازم بوجود الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ووجوب نصبه عند كلّ مُكلَّف، بحيث يكون إيمانه مَبنيّاً على أساس الدليل، والمقصود الدليل هنا هو: (اليقين بالمعنى الأخص، وهو الاعتقاد المُطابق للواقع، الذي لا يحتمل النقيض لا عن تقليد، بحيث لا يشمل الجهل المركّب ولا الظن ولا التقليد - وهذا اليقين يتقوّم مفهوماً بعنصرين:
العنصر الأوّل: أن ينضمَّ إلى الاعتقاد بمضمون القضيّة (الأصل الاعتقادي - مثلاً وجوب نصب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) عقلاً -) اعتقادٌ ثانٍ - وهو عدم خلو الأرض من حجّة مجعولة إلهيّاً - ويذعن بأنَّ ذلك المُعتَقَد به لا يُمكن نقضه.
والعنصر الثاني: أن يكون هذا الاعتقاد الثاني لا يمكن زواله، لأنَّه مُسبّبٌ عن علّته الخاصة الموجبة له - أو ما يُمكن تسميّته ببرهان صادق وجزم قاطع - وهو ما يُساوق وجوب نصب الإمام المعصوم على الله تعالى عقلاً -)(٦)، وقد عرَضت الروايات المُعتبَرة إلى ضرورة الثبات على اليقين بوجود الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وإمامته الحقّة وغيبته، وحذّرت مِمّا يُخالف هذا اليقين بالشكِّ أو الكفر أو الانحراف عن جادة الاعتقاد المستقيم: (فعن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنَّ عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) إمامُ أمتي وخليفتي عليها من بعدي، ومِن ولده القائم المُنتَظَر الذي يملأ اللهُ به الأرضَ عدلاً وقسطاً، كما مُلِئَت جوراً وظلماً، والذي بعثني بالحقّ بشيراً إنَّ الثابتين على القول به في زمان غيبته لأعزّ من الكبريت الأحمر»، فقام إليه جابر بن عبد الله الأنصاري فقال: يا رسول الله وللقائم مِن ولدك غيبة؟ قال: «إي وربّي، ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤١]، يا جابرُ إنَّ هذا الأمر من أمر الله وسرّ من سرّ الله، مَطوي عن عباد الله، فإيّاك والشّك فيه فإنَّ الشّك في أمر الله (عزَّ وجلَّ) كُفر»(٧).
ثانياً: إنَّ مِن أوَّل أُسس المعرفة اليقينيّة بأصول الدّين هو: (ركوزها في اعتقاد المُكلّف، بحيث إذا سألته عن شيء - من الاعتقاد الضروري - أجابَ بما هو الحقّ فيه، وإن لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على ألسنة الخواص ويكفي في معرفة الأئمة (عليهم السلام) معرفتهم بنسبهم المعروف، والتصديق بأنّهم يهدون بالحقِّ، ويجبُ الانقياد إليهم والأخذ منهم)(٨)، وتتجلّى المعرفة اليقينيّة بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وجوداً واعتقاداً بأنَّه: (الإمام الثاني عشر، حيٌّ موجود من حين ولادته، وهي سَنة خمس وخمسين ومئتين إلى آخر زمان التكليف، لأنَّ كلَّ زمان لابُدَّ فيه من إمام معصوم، لعموم الأدلّة، وغيره ليس بمعصوم، فيكون هو الإمام، وأمّا الاستبعاد ببقاء مِثله فباطل، لأنَّ ذلك ممكن، خصوصاً وقد وقع في الأزمنة السالفة في حقّ السعداء والأشقياء ما هو أزيد مِن عمره (عجّل الله فرجه)، وأمّا سبب خفائه فإمّا لمصلحة استأثر الله بعلمها أو لكثرة العدو وقلّة الناصر، لأنَّ حكمته تعالى وعصمته (عجّل الله فرجه) لا يجوز معهما منع اللطف، فيكون مِن غير العادة، وذلك هو المطلوب)(٩).
وإنَّ معرفة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) والإيمان بوجوده وبقائه حيّاً إلى آخر زمان تكليفه هي مِمّا ينبغي أن يُعْلَم بمقتضى حكم العقل النظري، والذي يدرك استقلالاً وجوب نصب الإمام على الله تعالى، وحتّى في الروايات الصحيحة بحسب مباني علم الرجال يوجدُ تصريح بذلك، فقد روي في الصحيح عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ [البقرة: ٢٦٩](١٠) قال: «معرفة الإمام واجتناب الكبائر التي أوجب الله عليها النار»(١١).
ثالثاً: ينبغي عقلاً أن يتميَّز الاعتقاد اليقيني بمعرفة ووجود الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ووجوب إمامته بضرورة إدراك أنَّ بابَ العلِم غير مُنسَدّ في ذلك، وقد نبّه على ذلك المُدقّق الأصولي الفقيه الشيخ الآخوند صاحب الكفاية في رفضه وردّه لفاعليّة الظنّ والأخذ به في أصول الدّين فقال: (نعم يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن، من باب وجوب المعرفة لنفسها، كمعرفة الواجب تعالى وصفاته، أداءً لشكر بعض نعمائه، ومعرفة أنبيائه، فإنّهم وسائط نعمه وآلائه، بل وكذا معرفة الإمام (عليه السلام)، على وجه صحيح(١٢)، فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيّه لذلك، ولاحتمال الضرر في تركه)(١٣)، وفي الرواية الصحيحة المعروفة (عن هشام بن سالم، عن زرارة قال: قلتُ لأبي جعفر، الإمام الباقر (عليه السلام): أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخَلق؟ فقال: «إنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) بعثَ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الناس أجمعين رسولاً وحجّةً لله على جميع خلقه في أرضه، فمَن آمن بالله وبمحمّد رسول الله واتّبعه وصدّقه، فإنَّ معرفة الإمام منّا واجبةٌ، ومَن لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتّبعه ولم يصدِّقه ويعرف حقّهما فكيف يجب عليه معرفة الإمام، وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقّهما»، قال: قلتُ: فما تقول فيمن يؤمن بالله ورسوله ويصدّق رسوله في جميع ما أنزل الله، يجب على أُولئك حقّ معرفتكم؟ قال: «نعم، أليس هؤلاء يعرفون فلاناً وفلاناً»؟ قلتُ: بلى، قال: «أترى أنَّ اللهَ هو الّذي أوقع في قلوبهم معرفة هؤلاءِ، واللهِ ما أوقع ذلك في قلوبهم إلّا الشيطان، لا واللهِ ما ألهم المؤمنين حقّنا إلّا الله تعالى»(١٤).
وفي هذه الرواية تأكيدٌ على الترابط الوثيق بين الأصول الاعتقاديّة الواجبة، ومنها معرفة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وضرورة تحصيلها باليقين، الذي يُراعي التراتبيَّة البنائية في الأخذ بها.
رابعاً: وجوب امتلاك عناصر التمييز عِلْماً، والأخذ بالبصيرة والاستماع للحقِّ سلوكاً في اتِّباع الإمام المعصوم (عليه السلام) بوصفه الهادي للحقِّ والأحقَّ بالاِتِّباع مِن غيره، أو مِمَّنْ ﴿لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى﴾ (يونس: ٣٥)، وقد شدَّدَ القُرآن الكريم على هذه الحقيقة الاعتقادية، واللازم توفّرها في بنيويَّة الإنسان المؤمن، وبَيّن ذلك في تأسيسه لمُصحِّحات الاتَّباع بشكل عام كالعِلم والبصيرة والاستماع بوجهَتي المَبدأ والمُنتهى في الحراك الإنساني بين التابع والمتبوع، كما في قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء: ٣٦)، إذ إنَّ العِلم هو مناط حراك الإنسان وشرط تكليفه، فبِه يستبصِر الأشياء ويطلبها أو يتجنّبها، وعنه تصدر الخيارات الأخرى، ومِن حيث البصيرة فقد جعل القُرآن الكريم مُصحِح ومفهوم البصيرة مُقوّماً بُنيويّاً في حراك الإنسان العالِم، وذلك استزادةً في قيام الحُجّة الواضحة والبيِّنة، ودفعاً للشك والريبة بعد حدوث العِلم وبقائه، كما في قوله تعالى المُؤسِّسِ لهذا المُصحح القُرآني السديد: ﴿قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ (يوسف: ١٠٨).
وأمّا بالنسبة لمُصحِح الاستماع، والذي يعني الإصغاء بتدبّرٍ وتعقُلٍ، وتلقي واعي، فقد عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ (الحَاقة: ١٢)، وفي قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الألبابِ﴾ (الزمر: ١٧-١٨).
إنَّ القرآن الكريم قد اشترط على المُعتَقِد أن يأخذَ بعناصر ومُقوّمات الحراك الصحيح، ومن أهمّها التمييز عِلْماً والأخذ بالحقِّ اتّباعاً، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (يونس: ٣٥).
وهنا وبحكم إيماننا واعتقادنا بأنَّ الإمام المعصوم هو الهادي المنصوب إلهيّاً، وأنَّ مصداقه الحقَّ هو الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ينبغي بنا أن نعرِف مفهوم الهُدى، والذي يُقال لمعنيين، هما:
الأوّلُ: (نصْب الدِلالة على الحقِّ، وتبيينه والتعريف به والإرشاد إليه.
فالهُدى: هو الرشاد والدِلالة، يُؤنَّثُ ويُذكَّرُ، يُقال: هَداهُ اللهُ للدّينِ هُدًى.
وقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ (السجدة: ٢٦)، أي: أو لَم يُبَيِّنْ لَهم، وهَدَيْتُهُ الطَريقَ والبَيتَ هِدَايَةً، أي عَرَّفته، هَذه لغَةُ أهلِّ الحجَازِ)(١٥).
الثاني: فِعْل الهُدى في الإنسان حتّى يعتقد الشيءَ على ما هو به، وهو ما يُسمّى بـ(الاهتداء الفطري).
وهذان المعنيان، يُدَبِّرُهُما اللهُ تعالى ويُقَدِّرهُما في خلقه، ﴿قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾ (طه: ٥٠)، وفي شأن ذلك ذكرَ الفخر الرازي أنَّ: (العقول مُضطرِبةٌ والحقُّ صعبٌ، والأفكار مختلطةٌ، ولم يسلم مِن الغلط إلّا الأقلّون، فوجب أنَّ الهِداية وإدراك الحقِّ لا يكون إلّا بإعانة الله (عزَّ وجلَّ) وهِدايته وإرشاده)(١٦).
وهو ما يعني أنَّ مفاد قوله تعالى: ﴿قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ (يونس: ٣٥) هو (أنَّ الله تعالى قد نصب الدِلالة على الحقِّ، وفَعلَ الهِدايةَ الضروريّة في العُقلاء)(١٧).
وبهذا يتبيَّن أنَّ مفهوم الهِداية إمّا أن يكون بمعنى نصْب الدِلالة المُوصِلة إلى المطلوب، يُقال: هدَيتُ الأعمى، أي أوصلته إلى مَقصده، وهذا المعنى يستلزم الوصول إلى المَطلوبِ، أو أنَّ الهِداية هِي إراءَةُ وكشف الطريق المُوصِلِ إلى المطلوب وحسب، كأَن يصِف له الطريقَ دون أَن يستلزِم ذلك الوصول إلى المطلوب والمَقصد، وبعد أن يتكفَّل الله تعالى أمر الهداية إراءةً وفِعْلاً، يجعل لها مُصحِحات الإتّباع بوجهة الحقِّ، ذلك لأنَّ الحقَّ هو مفهومٌ ثابتٌ وعامٌ، ومِقياسٌ مُطلقٌ يشملُ ويزِن كُلَّ شيءٍ، قال تعالى: ﴿وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ﴾ الأعراف: ٨-٩).
ووزان الحقِّ هو وزانٌ تكويني وتشريعي، قامتْ به السماواتِ والأرضِ، ﴿خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (النحل: ٣)، ﴿وَبِالحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾ (الإسراء: ١٠٥).
وقد جعله الله تعالى قِسطاساً مُستقيماً، تحقيقاً للعدل، ﴿وَزِنُوا بِالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ﴾ (الشعراء: ١٨٢)، ممّا يقتضي ذلك مِن الإنسان أن يكون على قدَرٍ عقلي وإيماني وسلوكي مكين، يستطيع معه مِن أن يأخذ وِجهة الحقِّ هدايةً وخِيرَةً في كُلّ شيءٍ، ويدور مع الحقِّ حَيثُما دار، وجوداً وعدماً، فأرشدت للوجود في قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ﴾ (يونس: ٣٥)، والعدم في قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (يونس: ٣٥).
وكذلك قد أرشد ونصَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حقِّ الإمامِ علي (عليه السلام) حيث قال: «عَليُّ مع الحَقّ والحَقُّ مع عُليّ يَدورُ حيثمَا دَارَ»(١٨)، بياناً منه وتقريراً لحقيقة الأخذ بوِجهَة الحقِّ، عَقيدةً وهِدايةً، وهو ما يعني أنَّ للحقِّ تمثّلاً بفردٍ، يجدرُ بنا معرِفته قبل معرِفة غيره، حتّى يتبيّن لنا أُفُقه في أنفسِنا لهِداية الإراءة وصولاً للمطلوب فِعلاً، وحين يختار الإنسان وِجهَةً ما في الاتّباعِ، فمِن الواجب عليه أن يُراعي وصف الهِداية ووِزانها في الحقِّ حملاً وواقعاً ثُمَّ يتَّبع، لأنَّ من لا يتوفّر فيه وصف الهِداية مُطلقاً، يكون فاقداً للقدرة على الإراءة للحقِّ مِن أوّل الأمرِ، أو الإيصال إلى آخره.
وهنا نذكرُ بياناً قيِّماً للعلاّمة الحلّي في كتابه الشهيرِ (الألفين) يتعلّق بالمُرتكزين العقدي والعقلي في تنصيب الإمام الربّاني الجعلِ والغرضِ وضرورة الأخذ بالحقِّ اعتقاداً واتّباعاً، ونصّه: (الإمام هو هادٍ، يجب اتّباعه، وكُلُّ مَن كان كذلك لا يحتاج إلى هادٍ، فالإمام لا يحتاج إلى هادٍ، أمّا الصُغرى فلما تقدّم، فِي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ (الرعد: ٧)، وأمّا الكُبرى فلقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾، فإذا ثَبت أنَّ الإمامَ هادٍ، لا يُهْدَى امتنع عليه الخطأُ، فَثبتَ المطلوب... والإمام هادٍ لا يَهديه أحدٌ في زمنِ وجوب اتّباعه، وهو زمانُ إمامته، وكُلُّ مَن كان كذلك، فهو يعلم الأحكامَ يقيناً، ويمتنع منه فِعل القبيح، والإخلال بالواجب)(١٩).
ويتحصّل مِن كلام العلاّمة الحلّي (رحمه الله): أنَّ الإمام المعصوم هو مَن يهدي للحقّ إرشاداً وإيصالاً، وحقيقٌ بالاتّباع، قولاً وفِعلاً وتقريراً، لما ثبت عندنا مِن حُجيَّة سُنّة المعصومِ مُطلقاً، وقد بيّن العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي، صاحب تفسيرِ الميزان الشهير دليل وجوب اتّباعِ الحقِّ اعتقاداً وسلوكاً والهادي إليه، فقال: (إنَّ مِن المُرتكزِ في الفطرة الإنسانِية، وبه يحكم العقل أنَّ مِن الواجب على الإنسان أن يتبّعَ الحقَّ، حتى أنَّه إن انحرف في شيءٍ مِن أعماله عن الحقِّ واتّبع غيره لِغلطٍ أو شُبهةٍ أو هوى، فإنّما اتّبعه لحسبانه إيّاه حقّاً والتباسِ الأمرِ عليه، ولذا يعتذر عنه بما يحسبه حقّاً، فالحقُّ واجب الاتّباعِ على الإطلاق، ومِن غير قيدٍ أو شرطٍ، والهادي إلى الحقِّ واجبٌ اتّباعه لما عنده مِن الحقِّ، ومِن الواجب ترجيحه على مَن لا يهدي إليه أو يهدي إلى غيره، لأنَّ اتّباع الهادي إلى الحقِّ اتّبَاعٌ لِنفسِ الحقِّ، الذي معه وجوبُ اتّباعه ضروري)(٢٠).
الجهة الثانية: لزوم إدراك الترابط العقدي والتكويني بين وجود الله (عزَّ وجلَّ) وتوحيده وعدله ونصبه للأئمة المعصومين (عليهم السلام):
وتفصيل هذا المطلب يقع في أمورٍ مُهمّة جِدّاً للوقوف على حقيقة هذا الترابط المَكين، دون تفكيك وتجزئة في الإيمان أو الإنكار، ومن المعلوم بداهةً أنَّ اللهَ تبارك وتعالى موجودٌ وحيٌّ وباقٍ وواحدٌ وعادلٌ وحكيم وعالمٌ، ولا يفعل القبيح، ولا يخلّ بالواجب، وأفعاله سبحانه مُعلّلَةٌ بالأغراض العائدة إلى عباده وخلقه، ومن العبث والقبيح أن يترك الخالق خلقَه دون أن يبعثَ إليهم الأنبياء والرسل وينصبَ لهم الحُججَ من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وهذا الثابت الاعتقادي الأصيل عقلاً ونقلاً يتمثّل بحُسن البعثة ووجوبها ووجوب نصب وتعيين الأئمة نصّاً، وهو ما أكّده علماء الكلام، حيث (ذهبت الإمامية ومَن وافقهم مِن المعتزلة، إلى أنَّ الله تعالى لا يفعل القبيح، ولا يَخلّ بالواجب، بل جميع أفعاله تعالى حِكمة وصواب، ليس فيها ظلم، ولا جور، ولا عدوان، ولا كذب، ولا فاحشة، لأنَّ الله تعالى غنيٌّ عن القبيح، وعالم بقبح القبيح، لأنّه عالمٌ بكلّ المعلومات وعالم بغناه عنه، وكل مَن كان كذلك فإنّه يستحيل عليه صدور القبيح عنه، والضرورة قاضيةٌ بذلك أنَّ الله تعالى إنّما يفعل لغرض، وحِكمة، وفائدة، ومصلحة ترجع إلى المُكلّفين، ونفع يصل إليهم)(٢١).
الأمر الأوّل: ويرتبط بضرورة إدراك حُسن البعثة ووجوب نصبِ الأئمة (عليهم السلام) عقلاً، ومعرفة فوائدها واقعاً، لكونها الواسطة البشرية المعصومة التي تصلُ الإنسانَ بخالقه وربّه تكليفاً وسبيلاً، ممّا تجعله يجني فوائدَ عظيمةً، ومن هذه الفوائد والمصالح الفعليّة ما يلي:
١ - تحقيق تعاضد العقل النظري(٢٢)، والذي يدرك وجودَ الله تعالى وتوحيده وقدرته وعلمه وعدله وحكمته على نحو الاستقلال والحُكم والبرهان، مع ما تقدّمه البعثة من أدلّة وحيانيّة وقرآنية ومعجزات تُفيدُ في تكميل وتطمين النفس الإنسانية في حراكها الاعتقادي وبيان مسائل الأصول الاعتقادية تفصيلاً.
٢ - إنَّ ما لا يستقل العقلُ بمعرفة حُسنه وقُبحه من الأفعالِ والأمور يُعرَفُ من خلال بعثة النبي ونصبِ الإمامِ المعصوم، ومعلومٌ إدراكاً أنَّ بعض الأفعال حسنة وبعضها قبيحة، ومع وجود البعثة الشريفة يحصل للإنسان التعرّف على معرفة الحسن والقبح اللَّذَيْن لا يستقل العقلُ بمعرفتهما دون الرجوع للشرع، وكذلك الحال بالنسبة للعقل فقد يدرك أنَّ بعض الأشياء نافعةٌ لنا، مثل كثير من الأغذية والأدوية وبعضها ضارٌّ لنا مثل السموم، ولكنّه لا يدرك منافع الأشياء وأضرارها كلّها فيحتاج إلى جهةٍ عُليا مشرفةٍ على الحقائق والواقع تبلغه بها، وهي الجهة الباعثة للأنبياء والرسل والتي تنصب الأئمةَ تعييناً لتحقيق أغراضها ومقاصدها في إصلاح الإنسان وتسديده في هذه الحياة وإيصاله للمطلوب.
٣ - إنَّ من فوائد البعثة ونصبِ الإمام المعصوم نصّاً وعقلاً هو التعرّف على كيفيّة الارتباطِ بالخالق والإله الواحد عبادةً، فالعقل لوحده لا يمكن له أن يستقل بمعرفة كيفيّات العبادات الشرعيّة ولا يهتدي إليها ما لم يأخذها من الشرع نفسه، فضلاً عن عجزه عن معرفةِ كيفيّة شكر المُنعم الحقيقي.
٤ - إنَّ الله تعالى قد خلقَ الإنسانَ وجعله نوعاً مُمَيَّزاً ومُكرّماً في هذه الحياة، لا كغيره من الحيوانات، بل رفعَ سنخَ التعايش الطبعي البشري وجعل له نظاماً تاماً وكاملاً يتكفّل بترتيب أولوياته وإشباع حاجاته، ومن خلال المشاركة والتعاون مع بقيّة أفراد نوعه، ولكن وبحكم القوى الموجودة في طبيعته الخلقيَّة يحصل التدافع والتجاذب والتنافر المَضاد لِحكمة الاجتماع الإنساني وأغراضه، فلابُدَّ من معصوم يوَجِّههم للاجتماع النافع والصالح القائم على أُسس البر والتقوى والخير، ووفق ضوابط يقرّها ينبغي اتِّباعها لزاماً لتحقيق الاستقرار وحفظِ الأنفس والمصالح والتكامل وصولاً للغايات الشريفة، وهذا ما يمكن تحصيله من حكمة البعثة ونصب الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
٥ - إنَّ أشخاص البشر متفاوتة في إدراك الكمالات النفسيّة والتربويّة وتحصيل المعارف الضرورية واقتناء الفضائل الأخلاقية اللازمة، وبعض أفراد الإنسان قد يكون مستغنياً عمَّن يُعينه على ذلك لقوّة نفسه وكمال إدراكه وشدّة استعداده للاتصال بالأمور العالية، ولكن بعضهم عاجزٌ عن ذلك بالكلية، وبعضهم متوسّط الحال، وتتفاوت مراتب الكمال في هذه المرتبة بحسب قربها من أحدِ الطرفين وبعدها عن الآخر، وفائدة النبي المبعوث أو الإمام المعصوم المنصوب هي تكميل الناقص من أشخاص النوع الإنساني وبحسب استعداداتهم المُختلفة في الزيادة والنقصان، وفي القابليات، وفي التلقي قدرةً، وفي الاستقامة سلوكاً.
٦ - في البُعد الأخلاقي والتربوي يحتاجُ طبيعي الإنسان، - أفراداً واجتماعاً - إلى مُكمِّل وموجّه ومُرشد، وذلك بحكم تفاوت الناس في مراتبهم الأخلاقية، فتمسُّ الحاجةُ إلى مَن يُعلّمهم ويزكيهم في حَراكِ الأخلاق والسياسات والتدبير بحيث تنتظم أمور الإنسان في مجتمعه وبلده ومنزله، هذا فضلاً عن أنَّ الأنبياء المبعوثين والأئمة المنصوبين المعصومين (عليهم السلام) يعرفون الأغراض والأهداف التي خُلِق من أجلها الإنسان، وسبلَ الوصول إليها بالعمل الصالح والطاعة وامتثال التكاليف الواجبة، مّما يُحققُ ذلك اللطفَ بالعباد، وذلك ببيانهم للمصالح والثواب والعقاب حرصاً منهم عليهم.
٧ - ولقائل أن يقول: كما قالتْ البراهمة(٢٣) قديماً بعدم حُسن البعثة وانتفائها وعدم الحاجة إليها، بأنَّ النبي إمّا أن يأتي بما يوافق العقولَ أو بما يُخالفها، فإن جاء بما يوافق العقولَ لم يكن به حاجةٌ، ولا فائدة فيه، وإن جاء بما يُخالف العقولَ وجب ردّ قوله.
وواقعاً هذه شبهة قديمة جديدة تُثار اليوم من أتباع المنهج العقلي الصرف، والذي يؤمن بنظرية حذف دور الشرع في تفكير الإنسان أو التدخل في توجيهه، وهي شبهة ومقولة باطلة، كما تقدّم آنفاً من فوائد عظيمة للبعثة ونصب الأئمة (عليهم السلام) في تعضيد وتأكيد دور العقل القويم وإدراكه في الأمور والمسائل التي يعجز عن فهمها أو معرفتها أو الحكم فيها، أو حتّى إنْ جاء الشرع بما يوافق العقولَ فتبقى الحاجة قائمةً من باب التأكيد لدليل العقل المُستقل وإضفاء الشرعية عليه، زيادةً وتقريراً، أو قد يجيء الشرع بما لا تقتضيه العقول إدراكاً، ولا تهتدي إليه سبيلاً، وإن لم يكن مُخالفاً لها، ممّا يدفع ذلك إلى أن تقرّ العقولُ بعجزها إجمالاً، كما هو الحال في تشريع العبادات، والتي لا يهتدي العقل إلى تفصيلها أو حتّى معرفة أغراضها.
الأمر الثاني: بعد أن تقررت هذه الفوائد العظيمة للبعثة ووجوب نصب الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فيما تقدّم، ينبغي أن يدرك العقل أنَّ البعثة واجبة، وكذا نصب الإمام واجبٌ عقلاً، لأنّها تشتمل على اللطف في التكليف العقلي، ومنه معرفة واجب الوجود (الله تبارك وتعالى)، والبعثة شرطٌ في التكليف السمعي (العبادات)، وكل ما كان كذلك فهو واجب عقلاً، وأمّا وجه كون البعثة أو نصب الإمام لطفاً في التكاليف العقليّة، فلأنَّ العبادات المُتلقاة من النبي والمواظبة عليها هي باعثةٌ على معرفة المعبود - واجب الوجود - الواجبة عقلاً، فتكون البعثة بذلك واجبةً ولطفاً مُحقَّقاً وواقعاً، وكذلك الحال بالنسبة للثواب والعقاب وتفاصيلهما، فهي لا تُعلَم إلّا من جهة البعثة، وقد أكّد علماء الكلام وطبقاً للقاعدة المعروفة عندهم (أنَّ التكاليف السمعية ألطافٌ في التكاليف العقلية) على أنَّ الإنسان إذا كان مواظباً على امتثال الواجبات السمعية وترك المناهي الشرعية كان مِن فِعْلِ الواجبات العقلية والانتهاء عن المناهي العقلية أقرب، وهذا معلوم بالضرورة لكلّ عاقلٍ(٢٤).
الأمر الثالث: إنَّ مِمّا ينبغي بالعقل النظري القويم إدراكه أنَّ وجوب البعثة عامٌ في كلّ وقت، وبحسب ما ورد في قواعد علم الكلام الإسلامي بأنَّ:
(دليل وجوب البعثة عقلاً يُعطي العموميّة)، (وقال الإمامية: إنَّه تجب البعثة في كلّ وقتٍ، بحيث لا يجوز خلو زمان من شرعِ نبيٍّ - واستدّل المصنّف المحقِقّ الطوسي (رحمه الله) على وجوب البعثة في كلّ وقتٍ بأنَّ دليل الوجوب يُعطي العموميَّة، أي أنَّ دليل وجوب البعثة يعطي عمومية الوجوب في كلّ وقتٍ، لأنَّ في بعثته زجراً عن القبائح وحثّاً على الطاعة فتكون - البعثة - لطفاً، ولأنَّ فيه تنبيه الغافل وإزالة الاختلاف ودفع الهرج والمرج، وكلُّ ذلك من المصالح الواجبة، التي لا تتم إلّا بالبعثة فتكون واجبةً في كلّ وقت)(٢٥).
وبوحدة الملاك والجعل في وجوب نصب الإمام على الله تعالى عقلاً، - وتقرّرها باللطف الإلهي - إلى وجوب وجود إمام في كلّ زمانٍ، وأن لا تخلو الأرض من حجّة لِما يتوقّف عليه حفظُ نظام اجتماع النوع الإنساني بالزجر عن القبائح ومنع التنازع، وربطهم بالشرع الحكيم، سواءً أكان الإمام ظاهراً أو مغموراً، فالتكليف العقدي باقٍ على وجوبه العقلي وبعمومه، وقد صرّح بذلك الشيخ الطوسي (رحمه الله) في بعض كتبه الاعتقادية، حيث ذكرَ ما نصّه:
(وإنّما يجب على الله تعالى خَلْقُ الإمام وإيجابه علينا طاعته، ليتمكّن مِن التصرّف - بالأمر والنهي والتأديب -، فإذا لم يمكنه لم يجب سقوط التكليف عنّا، لأنَّا نكون أتينا مِن قِبَلِ نفوسنا، فإذا ثبتت هذه الجملة فلا يلزم إذا كان الإمام غائباً أن يسقط التكليف عنا، لأنا أتينا مِن قِبَل نفوسنا، بأن أخفناه وأحوجناه إلى الاستتار، ولو أطعناه ومكّناه لظهر وتصرّف فحصل اللطف... وأولياء الإمام ومَن يعتقد طاعته فاللطف بمكانه حاصلٌ لهم في كلّ وقتٍ عند كثير من أصحابنا، لأنَّهم يرتدعون بوجوده مِن كثير من القبائح، ولأنّهم لا يأمنون كلَّ ساعةٍ مِن ظهوره وتمكينه، فيخافون تأديبه، كما يخافونه وإن لم يكن معهم في بلدهم، بينهم وبينه بُعد، بل ربما كانت الغَيبَة أبلغ، لأنَّ معها يجوز أن يكون حاضراً فيهم، مُشاهداً لهم وإن لم يعرفوه بعينه)(٢٦).
الأمر الرابع: بعد تقرَّر وجوب البعثة في كلّ وقتٍ يجب وجود شريعة لها بحكم لطف اللهِ تعالى بعباده وعنايته، وهذه الشريعة تكون المرجع الشرعي الكلّي اليقيني في توجيه حياة الإنسان خاصةً وعامةً، بما يكفل له استقراره وأمنه وحقوقه ومصيره، وبعد ختم النبوة الشريفة لابُدّ لها من حافظٍ معصوم منصوب يتمكّن من إجرائها وجوداً، لأنَّ الشريعة الإلهيّة لا يمكن عقلاً تفويضها إلى أشخاص النوع الإنساني كيف ما كان، دون ضوابط وشروط واقعية واعتبارية، وأنّه بإهمال حفظها - وهو أمر غير معقول وغير مقبول في العادة والتاريخ - يقع النزاع بينهم في كيفية وضعها وتطبيقها مِمَّا لا يُحقق الغرضَ المطلوب منها، فيجبُ عقلاً أن توكل إلى جهة مأمونة منصوبة منصوصة عيناً، وهي جهة المعصوم الحافظ لها والمشرف عليها(٢٧).
الجهة الثالثة: مُقتضيات الوقوع في الشُبهات...
معنى الشبهة:
إنَّ الشُبهةَ هي الالتباس والخلط في الأمور بغيرها(٢٨)، كالتباس الحقّ بالباطل ومزج الباطل بالحقّ، و(الشُبهة ما امتزج مِن الحقّ والباطل وأُلبس المجموعُ بصورة الحقّ، ولذلك سُمّي شُبهة لاشتباهه بالحقّ، وأمّا الباطل الصرف الذي لا يكون معه شيءٌ مِن الحقّ فليس بشبهة، إذ لا يخفى على العاقل وجه فساده)(٢٩)، وكما قال تعالى: ﴿وَلا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالباطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: ٤٢)، وهي غالباً ما تحدث بسبب الجهل واتّباع الهوى والشيطان وابتداع الأحكام بما يُخَالَفُ فيهَا كتابُ الله، وقد بيَّن هذا المعنى الإمام علي (عليه السلام) حيث قال: «إِنَّمَا بدْءُ وُقُوعِ الفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ الله ويَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً عَلَى غَيْرِ دِينِ الله فَلَوْ أَنَّ البَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى المُرْتَادِينَ ولَوْ أَنَّ الحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ البَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْه السُنُ المُعَانِدِينَ ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه ويَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ الله الحُسْنى»(٣٠).
ومن المعلوم عقلاً أنَّ لكلّ معلول علّةً، على مستوى الوجود التكويني أو على مستوى الوجود الاعتباري، وأسباب ومُقتضيات الوقوع في الاعتقادات الفاسدة والباطلة أو الشُبهات الدينية هي من هذا الباب، بمعنى أنَّ لها عللاً، ودوافعاً معلومةً، وممكن الوقوف عليها بالتبويب العقلي والمنطقي التالي:
أوّلاً: (الجهل): بقسميه البسيط والمُركّب، وهو عدم العِلم ونقيضه، مِمّن له الاستعداد للعِلم والتمكّن منه، فالجهل البسيط: (هو عدم الاعتقاد بشيءٍ، لا اعتقاداً صالحاً ولا اعتقاداً فاسداً، ويُقال له: الغباوة - والجهل المُركّب - هو الاعتقاد بشيء اعتقاداً فاسداً، ويُقال له: الغيِّ والغواية والضلالة، وهذا أشدّ من الأوّل - الجهل البسيط -؛ لأنّه من الأمراض المُهلكة للحياة القلبية والأسقام المُبطلة للحقيقة الإنسانية؛ إذ المُتّصف به لا علم له، مع ادِّعائه أنّ ذلك الاعتقاد الفاسد علمٌ مُطابق للواقع، وإعجابه به لتسويلات شيطانية وتخيّلات نفسانية وتمويهات وهميّة، فيمنعه ذلك عن الرجوع إلى الحقّ، وهو مٍن شرار الناس، رماه إبليس إلى غاية مقاصده بقول الزور، وحداه إلى سبيل المَهالك وأودية الشرور)(٣١).
وأيضاً قد وضّح الشيخ المظفّر (رحمه الله) بيان مفهوم الجهل وبيّن قسميه وذكرَ أنَّ: (الجهل البسيط: هو أن يجهل الإنسان شيئاً، وهو ملتفتٌ إلى جهله، فيعلم أنّه لا يعلم، كجهلنا بوجود السكان في المريخ، فإنّا نجهل ذلك ونعلم بجهلنا، فليس لنا إلّا جهل واحد، والجهل المركب: هو أن يجهل شيئاً، وهو غير ملتفت إلى أنَّه جاهل به، بل يعتقد أنّه مِن أهل العلم به، فلا يعلم أنّه لا يعلم، كأهل الاعتقادات الفاسدة، الذين يحسبون أنَّهم عالمون بالحقائق، وهم جاهلون بها في الواقع، ويسمون هذا مُركّباً، لأنه يتركب مِن جهلين: الجهل بالواقع والجهل بهذا الجهل، وهو أقبح وأهجن القسمين، ويختص هذا في مورد التصديق، لأنه لا يكون إلّا مع الاعتقاد)(٣٢).
إذن يثبت أنَّ الجهل بقسميه، وبحسب مفهومه ودلالته اصطلاحاً يكون سبباً للوقوع في الشُبهات أو الخوض فيها، وخاصة في ما يتعلّق بالأصول الاعتقادية ومسائلها التفصيلية، ويكون مانعاً من قبول الحقّ والهداية، قال تعالى: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهِلُونَ﴾ (الزمر: ٦٤)، حيث وصف القرآن الكريم مَن لا يؤمن بالأصل الاعتقادي الحقِّ ويُخالفه بالجاهل، سواءً أكان عن شبهةٍ أو غيرها من تكذيب أو استكبار، وكذلك أكّد أميرُ المؤمنين علي (عليه السلام) وحذّر من الجهل في باب الاعتقادات الحقّة، والتي تُوجِب عدم العُذر فيها فقال: «عَلَيْكُمْ بِطَاعَةِ مَنْ لَا تُعْذَرُونَ بِجَهَالَتِه»(٣٣)، ويعني (عليه السلام) عَلَيْكُمْ بطاعة الله تعالى والرسول والأئمّة المنصوبين المعصومين (عليهم السلام)، فإنّ النّاس لا يُعذرون بجهالة هؤلاءِ، ولا يُقبَل لهم عذرٌ، لأنَّ الإمام منصوبٌ ومعصومٌ في اعتقادنا الحقّ وواجب الطاعة، فلا يُعذر أحدٌ مِن المُكلّفين في الجهل بوجوب طاعته ومعرفته.
وقد روى الشيخ الثقة الصدوق (حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق (رضي الله عنه) قال: حدثني أبو علي بن همام قال: سمعت محمد بن عثمان العمري (قدس الله روحه) يقول: سمعت أبي يقول: سئل أبو محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) وأنا عنده عن الخبر، الذي روي عن آبائه (عليهم السلام): أنَّ الأرض لا تخلو من حجّة لله على خلقه إلى يوم القيامة وأنَّ مَن مات ولم يعرف إمام زمانه ماتَ ميتةً جاهلية، فقال (عليه السلام): «إنَّ هذا حقّ كما أنَّ النهار حقّ»، فقيل له: يا بن رسول الله فمَن الحجّة والإمام بعدك؟ فقال: «ابني مُحَمّد، هو الإمام والحجّة بعدي، مَن مات ولم يعرفه مات ميتةً جاهليةً، أَمَا إنَّ له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقاتون، ثم يخرج فكأني أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة»(٣٤).
وينبغي بالإنسان أن يتعقّل، ويقبل الاعتقادات الحقّة، ويؤمن بها عن علم، لأنَّ جهله بها لا يجعله معذوراً فيما بلَغَه وأُنذِرَ به، وقد ورد هذا المعنى المُهمّ جِداً في كتاب الاحتجاج (عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري أنه قال: خرج توقيع من الناحية المُقدّسة، حرسها الله تعالى، بعد المسائل:
«بسم الله الرحمن الرحيم، لا لأمره تعقلون، ولا مِن أوليائه تقبلون، حكمةٌ بالغةٌ، فما تغن النذرُ عن قوم لا يؤمنون»(٣٥).
ثانياً: (الشك): يُعرّفُ الشَّك لغةً بأنّه نقيضُ اليقين، فيُقال لقد شككْتُ في كذا وكذا، وجمعه شكوك(٣٦)، والشكَّ بالأمر أي التردّد فيه، والارتياب وعدم حصول اليقين، ويأتي الشكُّ بمعنى احتمال الوقوع واحتمال العدم(٣٧)، وهو ليس من أقسام التصديق، بل هو من أقسام الجهل.
وبهذا المعنى المُتقدّم لمفهوم الشكّ يكون سبباً لوقوع الإنسان في الشبهات، بل لوقوعه في الكفر بالاعتقادات الحقّة، ممّا يَهلَك في نفسه، وفي إيمانه، وفي دينه، وقد حذّرَ القرآن الكريم من خطورة الشكّ، وبيَّنَ آثارَه المُدمِّرَة على كافة أصول الاعتقادات الدينية، سواء في اللهِ تعالى أو في رسله، أو في الآخرة والحساب، أو في إمامة الأئمة المعصومين، ونصبهم الحقّ، أو شكّ في غيبَة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وحتميّة ظهوره الشريف، أو غير ذلك.
قال تعالى: ﴿لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الأَوَّلِينَ * بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾، (الدخان: ٨-٩)، ﴿وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالأَرضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ (إبراهيم: ٩-١٠)، ﴿قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾، (هود: ٦٢)، ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ﴾ (النمل: ٦٦).
وإنَّ أحدَ مُقتضيات الوقوع في الشُبهات العقائدية المُعاصِرة هو الشكُّ في أصل وجود الإمام المعصوم المنصوب، وبقائه حيّاً إلى آخر زمان تكليفه، كما هو الحال مع إمام الزمان الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ففي رواية عن الإمام مُحَمّد الجواد (عليه السلام) يسأله أحدُ أصحابه (قُلتُ له: يا بن رسول الله ولِمَ سُميَّ القائمُ؟ قال: «لأنّه يقوم بعد موت ذكره، وارتداد أكثر القائلين بإمامته»، فقلتُ له: ولِمَ سُميَّ المُنتظر؟ قال: «لأنَّ له غيبة تكثر أيامها ويطول أمدها، فينتظر خروجه المُخلصون، وينكره المُرتابون - أي الشكّاكون -، ويستهزئ بذكره الجاحدون ويكثر فيها الوقّاتون، ويهلك فيها المستعجلون، وينجو فيها المسلمون»(٣٨).
وقد نبّه الإمامُ علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى أنَّ الشكّ كُفرٌ، ومُهلكٌ لصاحبه في نفسه، وفي دينه، وركّز على علاجه بضرورة لزوم اليقين، وتجنّب الشكِّ وتركه، فروي عنه أنّه قال: «أهلك شيء الشكّ والارتياب، أملك شيء الورع والاجتناب - عليك بلزوم اليقين وتجنّب الشك، فليس للمرءِ شيءٌ أهلك لدينه مِن غلبةِ الشكّ على يقينه - شرُّ القلوب الشاك في إيمانه - الشك كُفرٌ»(٣٩).
ثالثاً: (عدم الاستيعاب): عدم استيعاب وفَهم بعض المسائل العقائدية المندرجة تحت الأصل الجامع لها، من ضرورة التصديق بها، وعدم إنكارها، كما في قضيّة أصل الإيمان بوجود الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وغيبته، وما يتعلّق به اعتقاداً وانتظاراً وتمهيداً، ووقوع الشكّ في إمكان طول عُمرِه مثلاً، أو حتميّة ظهوره وقيامه بالحقِّ، وانتشار دعاوى الحركات الضّالة، التي تتقمّص أدوارَ العقيدة المهدويّة بصُوَر مختلفة، والتأثّر بالحرب الفكريّة المُعاصِرَة المُضادّة المعادية للاعتقادات الحقّة، والتي تستهدفُ الأتباعَ بإثارة الشُبهات في عقولهم للتأثير على إيمانهم وزعزعته من أصله، فهذه الإشكاليّات تستدعي من الإنسان المؤمن أن يتسلّح بالعِلم والإيمان الراسخ وبالبرهان واليقين والثبات والصبر وعدم الرضوخ للضغوط الإعلامية، فالواقع الاعتقادي لا يَتبدّل عمّا هو عليه، من حيث الوصف والظاهر، وإن أنكره مَن أنكر، وإن كفَرَ به مَن كفر، فالوصول إلى المطلوب من قريب أو من بعيد يحتاج إلى تقرير يقيني وثبوتي في العقول والنفوس لِما نعتَقِد به، وعدم شكٍّ بِما آمنّا به أوّلاً، وهذا المعنى قد عالجه الأئمة المعصومون (عليهم السلام) فيما يخصّ معرفة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وانتظاره والتعاطي معه اعتقاداً ومنهجاً وطريقاً (عن عمر بن أبان قال: سمعتُ أبا عبد الله الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يقول: «اِعرف العلامةَ، فإذا عرفته لم يضرك، تقدّم هذا الأمرُ أو تأخر، إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ﴾ [الإسراء: ٧١]، فمَن عرفَ إمامَه كان كمَن كان في فسطاط المُنتَظَر (عجّل الله فرجه)»(٤٠).
وإنَّ الذي يدفعُ رسوخ الشُبهَةِ في ذهن الإنسان المُتلقي لها هو نظرُه وتفكيرُه في براهين الواقع وحوادثه المُتشابهة، والتي تخضع لنفس السننِ والقوانين الوجودية في هذه الحياة، ولذا قال الفلاسفة أنَّ الوقوع أدلُّ دليلٍ على الإمكان، بمعنى أنَّ ما يقعُ من تحقّقٍ لحوادثٍ مُعيّنةٍ هو بنفسه دليلٌ على عدم استحالتها، وكذلك ما يُماثلها من حيث الوصف والظرف والحُكم، وهذا النظر والتفكير يُقدّم نتائجاً قويمة في حَراكِ الإيمان وقراره في الذهن عند الإنسان، فمثلاً أنَّ في اعتقادنا، بل في اعتقاد جميع أتباع الديانات السماوية من اليهود والنصارى، وفي كتبهم وشروحها، أنَّ النبيَّ نوحاً قد عمَّر طويلاً بما يُجاوزُ الألفَ سنةً عندهم، وعندنا بما يُجاوزُ الألفي سنة، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قضية تبليغه قومَه رسالتَه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ ألفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ﴾ (العنكبوت: ١٤).
وأيضاً رُوِيَ ذلك المعنى عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنّه قَالَ: «عَاشَ نُوحٌ (عليه السلام) ألفَيْ سَنَةٍ وثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، مِنْهَا ثَمَانُمِائَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وألفُ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً وهُوَ فِي قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ، وخَمْسُمائَةِ عَامٍ بَعْدَ مَا نَزَلَ مِنَ السَّفِينَةِ ونَضَبَ المَاءُ، فَمَصَّرَ الأَمْصَارَ وأَسْكَنَ وُلْدَهُ البُلْدَانَ، ثُمَّ إِنَّ مَلَكَ المَوْتِ جَاءَهُ وهُوَ فِي الشَّمْسِ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ فَرَدَّ عَلَيْهِ نُوحٌ (عليه السلام) قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا مَلَكَ المَوْتِ؟ قَالَ: جِئْتُكَ لِأَقْبِضَ رُوحَكَ، قَالَ: دَعْنِي أَدْخُلْ مِنَ الشَّمْسِ إِلَى الظِّلِ، فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ، فَتَحَوَّلَ ثُمَّ قَالَ: يَا مَلَكَ المَوْتِ كُلُّ مَا مَرَّ بِي مِنَ الدُّنْيَا مِثْلُ تَحْوِيلِي مِنَ الشَّمْسِ إِلَى الظِّلِ فَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ، فَقَبَضَ رُوحَهُ (عليه السلام)»(٤١).
فهذه المُعطيات الواقعية والقرآنية والروائية في شأن تعمير الإنسان، ووقوع ذلك بكثرة في غابر الأزمان، تُعزّزُ إيماننا واعتقادنا بإمكان طول عمر الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ووقوعه، والذي لم يبلغ بعمره ما بلغه النبي نوح (عليه السلام) وهذه أولوية قطعية وعقلية في يقينية القبول بإمكان ذلك، وصحة وقوعه وتحققه في الخارج الموضوعي.
وعلى أساس ما تقدّم من بيان لمقتضيات الوقوع في الشبهات الدينية العقائدية والفكرية، والتي أوّلها الجهل، وثانيها الشك، وثالثها عدم فَهم بعض المسائل العقدية المتعلّقة بالقواعد والأصول الجامعة، تجدرُ الإشارة إلى أنَّ هذه الأمور إنّما يمكن دفعها بإيجاد الموانع المنهجية والعقدية عند الإنسان المؤمن والمُتلقي والباحث، وذلك باِتِّباع العِلم واليقين والفَهم القويم في التعاطي مع مسائل العقيدة المهدوية الحقّة أو أصولها المكينة، فالله تبارك وتعالى قد تعبّدنا وكلّفنا شرعاً وعقلاً بشروط العِلم والبيان والالتفات والوعي والإذعان، قال تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء: ٣٦).
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (القصص: ٥١)، ﴿قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: ١٠٤)، ﴿لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ (الحاقة: ١٢).
إذن ينبغي إدراك أنَّ العِلْمَ وضرورته عقلاً في أصول الاعتقاد هو المانع الأوّل من حصول الجهل المُقتضي للوقوع في الشُبهات والزيغ والضلالة، وذلك لأنَّ العلمَ هو ما يُناطُ به الالتزام العقدي والقلبي والعقلي في أصول الدِّين، كما هو في الإيمان بوجود اللهِ تبارك وتعالى والشهادة بتوحيده وعدله والإيمان بالنبوة والإمامة والمعاد، وهذا الالتزام العقدي والقلبي والعقلي هو واجب مِن باب وجوب شكر المنعم الحقيقي والواقعي، وهو اللهُ تعالى الخالق والعادل والهادي، فيجب على المُكلَّف تحصيل العلم بذلك، وإذا لم يحصل العلمُ فكيف يتحقق الالتزام والإيمان والعمل؟
وكذلك في بقيّة التعاطي مع المسائل العقائدية المندرجة تحت الأصول الدينية، فيحتاجُ فيها الإنسان المؤمن إلى التصديق والإذعان، وعدم الشكّ أو الإنكار، وقد نبَّه إلى ذلك السيّد الخوئي (قدّس سرّه)، في إجابته عن دور العقل في القضايا الاعتقادية وطريقه إليها فقال:
(الأصول الاعتقادية على قسمين: منها ما يجب معرفته عقلاً أو شرعاً كمعرفة الله (عزَّ وجلَّ) ومعرفة أنبيائه وأوصيائه وأنّهم أئمة معصومون، وأحكام الشرع عندهم، وتأويل القرآن وتفسيره لديهم، وأمّا سائر الخصوصيات الواردة فيكفي التصديق بها، ولا يجوز إنكار ما ورد في علمهم وسائر شؤونهم (عليهم السلام) حتّى إذا لم يكن في البين رواية صحيحة، فضلاً عن وفور الرواية الصحيحة، والله العالم)(٤٢).
الهوامش:
(١) تفسير القرآن المجيد، الشيخ المفيد: ص١٥٨، ط١، قم١٤٢٤هـ.
(فذكر سبحانه خصالاً تقتضي لصاحبها بمجموعها التصديق والصدق، ودلّ على أنّه عنى بالصادقين - اللَّذين أمروا باتّباعهم - من جمع الخلال التي عدّدناها دون غيره، وصحّ بذلك التمييز بين المأمور بالاتّباع والمدعوّ إلى اتّباعه، ولم نجد أحداً كملت له هذه الخصال المذكورة في القرآن من أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سوى أمير المؤمنين (عليه السلام) بتواتر الأخبار ودلائل معاني القرآن، ألا ترى، أنّه أعظم من آمن بالله واليوم الآخر، وأجلَّهم وأرفعهم قدراً، إذ كان أوّلهم إيماناً وكان مشهوداً له بالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وكان (عليه السلام) ممّن آتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وفي الرّقاب. وقد شهد بذلك له القرآن في قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾ (الإنسان: ٨)، وكان هو المعنيّ بذلك في هذه الآية على اتّفاق العلماء بتأويل القرآن، وكان (عليه السلام) ممّن أقام الصلاة وآتى الزكاة. وقد نطق القرآن بذلك فيه على الخصوص والإفراد حيث يقول سبحانه: ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ﴾ (المائدة: ٥٥)... وليس يمكن القطع باجتماع هذه الخلال لأحد سواه من الصحابة وغيرهم من الناس، فثبت أنّه هو الذي عناه الله تعالى بقوله: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة: ١١٩) وهذا نصّ على فرض اتّباعه والطاعة له والإيمان به في الدين من معنى المنزل في القرآن).
(٢) الفصول المختارة، الشيخ المفيد: ص١٣٩، ط٢، دار المفيد، ١٤١٤هـ.
(٣) الأمثل في تفسير كتاب اللهِ المنزّل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ج١، ص٥٠٠، ط١، منقحة.
(٤) انظر: المقومات البنيوية للدولة المهدوية المرتقبة والمتطلّبات الواقعية: مجلّة الموعود، العدد السادس، ص ٤٧ - ١٤٣٩هـ.
(٥) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلّامة الحلّي، ص٤٣٦، ط١٥، مؤسسة النشر الإسلامي، قم المشرّفة.
(٦) انظر، المنطق، العلّامة محمد رضا المظفّر: ج٣، ص٢٥٩، ط، قم، ١٤٢٥هـ. بتصرّف في العبارة.
(٧) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق: ص٢٨٨، ط، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - إيران، ١٤٠٥هـ.
(٨) فرائد الأصول، الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري: ج١، ص ٥٦٥- ٥٦٧، ط١٤، قم.
(٩) النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر، المقداد السيوري، ١١٨، ط٢، ١٤١٧هـ، دار الأضواء، بيروت.
(١٠) ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ﴾ (البقرة: ٢٦٩).
(١١) روضة المتقين في شرح مَن لا يحضره الفقيه، محمّد تقي المجلسي (الأوّل)، ج٩، ص٣٣٣، ط، قم.
(١٢) الوجه الصحيح: هو كون الإمامة منصباً إلهيّاً يحتاج إلى تعيينه، تعالى، ونصبه، لا أنّها من الفروع المُتعلّقة بأفعال المُكلّفين.
(١٣) كفاية الأصول، الآخوند الشيخ الخراساني: ص٣٢٩ - ٣٣٠، ط٢، ١٤١٢هـ، بيروت.
(١٤) الكافي، الكليني: ج١، ص ١٨٠، ط٣، طهران.
(١٥) صحاحُ اللغةِ، الجوهري، مادةُ هُدى.
(١٦) تفسير الرازي، فخر الدين الرازي: ج١٧، ص٩٠.
(١٧) كشف المُراد في تجرِيد الاعتِقاد، العلّامة الحليّ: ص٤٣٦، ط١٥، مُؤسسة النشر الإسلامي، قُم.
(١٨) الفصولُ المُختارةُ، المُفيد: ص٢١١، ط٢، بيروت.
(١٩) الألفين، العلّامة الحِلّي: ص٢٩٧-٢٩٨، الكويت ١٤٠٥هـ.
(٢٠) المِيزَانُ فِي تَفسيرِ القُرآن، السيد الطباطبائي: ج١١، ص٦١، ط، قم.
(٢١) نهج الحق وكشف الصدق، العلّامة الحلّي: ص٨٥ -٨٩، ط، قم.
(٢٢) انظر: المُعجم الأصولي، محمد صنقور، ج٢، ص٣٢٧.
(المراد من العقل النظري هو العقل المُدرك للواقعيات التي ليس لها تأثير في مقام العمل إلّا بتوسّط مقدمة أخرى، كإدراك العقل لوجود الله (جلَّ وعلا)، فإنَّ هذا الإدراك لا يستتبع أثراً عملياً دون توسّط مقدّمة أخرى كإدراك حقّ المولويّة وأنَّ الله (جلَّ وعلا) هو المولى الحقيق بالطاعة، وحينئذٍ يكون إدراك العقل لوجود الله (جلَّ وعلا) مستتبعاً لأثر عملي).
(٢٣) هم فرقة من مشركي الهند في قديم الأيام.
(٢٤) انظر:
١ - كشف المُراد في تجرِيد الاعتِقاد، العلّامة الحليّ: ص ٤٦٨-٤٧١، ط١٥، مُؤسسة النشر الإسلامي، قُم.
٢ - اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة، المقداد الأسدي السيوري الحلّي: ص٢٤٠-٢٤١، طبعة منقحة.
(٢٥) كشف المُراد في تجرِيد الاعتِقاد، العلّامة الحليّ: ص ٤٧٩، ط١٥، مُؤسسة النشر الإسلامي، قُم.
(٢٦) الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، الطوسي: ص١٨٦-١٨٥، قم، ١٤٠٠هـ.
(٢٧) انظر: اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة، المقداد الأسدي السيوري الحلّي: ص ٢٤٢-، طبعة منقحة.
(٢٨) لسان العرب، ابن منظور، مادة شبه.
(٢٩) شرح أصول الكافي، المازندراني: ج١٠، ص ٥٠٢، بيروت، ١٤٢١هـ.
(٣٠) نهج البلاغة، ت، د، صبحي الصالح: ص ٨٨، ط١، بيروت، ١٣٨٧هـ.
(٣١) شرح أصول الكافي، المازندراني: ج٢، ص٤٠، بيروت، ١٤٢١هـ.
(٣٢) المنطق، الشيخ محمد رضا المظفّر: ج١، ص١٧، ط١٢، قم، ١٤١٥هـ.
(٣٣) نهج البلاغة، ت، د، صبحي الصالح: ص٤٩٩، ط، بيروت، ١٣٨٧هـ.
(٣٤) كمال الدّين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق: ص٤٠٩، ط، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - إيران، ١٤٠٥هـ.
(٣٥) الاحتجاج، الطبرسي: ج٢، ص٣١٦، ط، النجف الأشرف، ١٣٨٦هـ.
(٣٦) لسان العرب، ابن منظور: مادة شكّ.
(٣٧) المنطق، الشيخ محمد رضا المظفّر: ج١، ص١٦، ط، قم، ١٤٢٥هـ.
(٣٨) بحار الأنوار، المجلسي: ج٥١، ص٣٠، ط٢، بيروت، ١٤٠٣هـ.
(٣٩) ميزان الحكمة، الريشهري: ج٢، ص١٤٩٨، نشر، دار الحديث، ط١.
(٤٠) الكافي، الكليني: ج١، ص ٣٧٢، ط٣، دار الكتب الإسلامية، ١٣٨٨هـ.
(٤١) الكافي، الكليني: ج ٨، ص٢٤٨، ط٢، دار الكتب الإسلامية، طهران.
(٤٢) صراط النجاة، السيّد الخوئي: ج٥، ص٢٢٧.