الصيحة (قراءة في أعماق الصوت)
الشيخ حسين الأسدي
مقدّمة:
حدث عالمي، ديني، ينتظره الجميع، على اختلاف بينهم في الصغرى بعد تسليم الكبرى، أو قل: على اختلاف بينهم في المصداق الذي سيتحقَّق ذلك الحدث على يديه.
فالمسلمون جميعاً، بل والموحِّدون، ومن يدين لله تعالى بدين سماوي، إن لم نأخذ بعين الاعتبار الديانات الوضعية التي آمنت به، كلّها تنتظر ذلك اليوم الذي تتحقَّق فيه المدينة الفاضلة، نعم، قد اختلفوا في شخص الذي سيبني تلك المدينة الفاضلة والجنَّة الأرضية.
إنَّه اليوم الموعود، يوم انتصار العدل وسيادته على الظلم والجور.
هيامٌ نجده عند الكثير ممَّن اهتمّوا بذلك الحدث، وعشقٌ جعل منهم لا يفترون يذكرونه ويتمنَّونه.
جهود كثيرة، بُذِلَت، ليعرف الشخص متى سيقع ذلك الحدث.
وهل هناك من طريقة لمعرفة قرب حدوثه؟
إنَّه البحث عن علامات الظهور و مؤشِّراته، تلك العلامات التي لم يهملها التراث الديني، وأعطاها من صفحاته قدراً معتدّاً به.
وهي مختلفة فيما بينها من حيث دلالتها على الظهور أو تشخيص المنقذ. وفي قربها أو بعدها نسبياً عن يوم الظهور الرسمي المنتظَر.
ومهما اختلفت تلك العلامات في درجة دلالاتها، فإنَّه يمكن القول: إنَّ هناك علامة بارزة من حيث المضمون والإشارات والدلالة على قرب الظهور، إنَّها علامة (الصيحة).
هذا البحث لا يُراد له أن يبحث في أسانيد روايات الصيحة، ولا الخوض في كلِّ دلالاتها، وإنَّما هو بحث علمي بحت، حول زاوية من زواياها، والتي تعتبر من مميّزات الصيحة ومن المفاصل الفارقة فيها، والتي يمكن أن تجعلها أهمّ علامات الظهور على الإطلاق، وهي كذلك.
إنَّها تلك اللغة، التي سيصيح بها جبرائيل من السماء: أنَّ الحقَّ مع علي عليه السلام، تلك اللهجة التي تُخرِج الفتاة من خدرها وتوقظ النائم، وتدخل البيوت عنوة.
إنَّها تلك الجملة التي يفهمها الجميع، على اختلاف مشاربهم ولغاتهم التي ربَّما تتجاوز الآلاف، الكلُّ يفهمها في اللحظة التي تطرق أسماعهم. يفهمونها، ويعونها، فتخبت قلوب العارفين إليها.
وهذا هو مركز البحث.
فإنَّه يحقُّ لباحث أن يسأل:
كيف يفهم الجميع - على اختلاف لغاتهم - معنى واحداً من جملة واحدة بلفظ واحد؟
ما هي الطريقة التي يتمُّ من خلالها إفهام الجميع لمضمون تلك الجملة؟
ما هي ماهية تلك الألفاظ التي ستطرق أفهام الجميع في لحظة واحدة؟
يمكن في هذا المجال تقديم تصوّرات ثبوتية، قد يساعد بعضها الدليل الإثباتي، وقد يبقى بعضها في حيِّز الإمكان، وقد يُستَدلُّ على بطلان بعضها الثالث.
والذي يمكن تصوّره في هذا المجال هو التالي:
التصوّر الأوّل:
أن تكون تلك الألفاظ الصادرة حين الصيحة، سنخ ألفاظ من شأن الجميع أن يفهموا معانيها بمجرَّد سماعها، أي إنَّها ألفاظ من النوع الذي يدلُّ على معناه بمجرَّد سماعه.
ويمكن تفسير هذا التصوّر بأحد تفسيرين:
التفسير الأوَّل: نظرية ذاتية دلالة الألفاظ على معانيها:
هناك بحث في علم الأُصول حول الكيفية التي تدلُّ وفقها الألفاظ على معانيها؛ فإنَّ ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الألفاظ تدلُّ على معانٍ معيَّنة، ووفق تلك الدلالة حصل التفاهم وتبادل الأفكار بين أبناء البشر، والبحث المهمّ هنا، هو السؤال عن كيفية دلالة الألفاظ المخصوصة على معانٍ معيَّنة.
وقد اختلف الأُصوليون في نوع تلك الدلالة وحقيقتها، وقد يُعنْوَِن الأُصوليون هذا البحث بـ (حقيقة الوضع)، والمهمُّ في نوع تلك الدلالة رأيان:
الرأي الأوَّل: نظرية ذاتية الدلالة:
نُسِبَ إلى عبّاد بن سليمان الصيمري وأصحاب التكسير القول بأنَّ دلالة اللفظ على المعنى إنَّما نشأت من مناسبة ذاتية(١)؛ أي إنَّ دلالة اللفظ على المعنى هي كدلالة الدخان على وجود النار(٢).
وحالها يكون حال من يحسُّ بالبرودة عندما يضع يده على الثلج، أو بالحرارة عندما يضع يده على النار.
وهذا يعني أنَّ دلالة الألفاظ على معانيها أو السببية القائمة بين الوجودين الذهنيين للفظ والمعنى، هي دلالة وسببية ذاتية، بحيث لا تحتاج إلى جَعْل جاعل أو وَضْع واضع، أي إنَّها لا تحتاج إلى سبب خارج عن حاقِّ اللفظ، فاللفظ بذاته هو سبب لانتقاش المعنى في ذهن السامع، من دون حاجة لأن ينضمَّ إليه شيء خارجي(٣).
الرأي الثاني: نظرية الوضع والاعتبار:
تقوم هذه النظرية على أساس أنَّ العلاقة بين اللفظ والمعنى ليست ناشئة من مناسبة ذاتية، وهي لا يكفي فيها اللفظ وحده، بل لا بدَّ من إدخال عنصر خارجي ومؤثِّر آخر غير نفس اللفظ في تكوين تلك الدلالة، وذلك العنصر الخارجي هو ما يُطلَق عليه أُصولياً بـ (الوضع)، فدلالة اللفظ على المعنى (ناشئة من الوضع الذي يمارسه الواضع، الذي يعتبر هذا اللفظ لذاك المعنى).
وقد اختلف الأُصوليون بعد ذلك في الكيفية التي بواسطتها تمَّت عملية الوضع ودلالة اللفظ على المعنى على ثلاث نظريات، هي:
١ - نظرية أو مسلك التعهّد: وهو مختار السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) وجماعة من المحقِّقين قبله، وخلاصتها: (أنَّ هذا الأمر الخارجي الذي نُسمّيه بالوضع، والذي ببركته وبسببه صار اللفظ سبباً لانتقاش المعنى، وللدلالة على المعنى، هذا الوضع، هو عبارة عن تعهّد من قِبَل الإنسان اللغوي، بأنَّه متى ما قصد تفهيم المعنى الفلاني، أتى باللفظ الفلاني من أجل تفهيمه)(٤).
٢ - نظرية أو مسلك الاعتبار: وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في بيان وتصوير هذا الاعتبار على ثلاثة اتِّجاهات، ولا يهمّنا التعرّض لتفاصيلها الآن(٥).
٣ - نظرية أو مسلك الجعل الواقعي: فالوضع هنا عبارة عن جعل السببية الواقعية بين اللفظ والمعنى، أي جعل اللفظ سبباً للمعنى(٦).
وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ من اختار النظرية الثانية في نوع دلالة اللفظ على المعنى، كان قبلاً قد استدلَّ على بطلان نظرية ذاتية دلالة اللفظ على المعنى، وقد ذكروا لبطلانها التالي:
إنَّ لازم كون الدلالة تلك ذاتية، هو أنَّ كلَّ من يسمع اللفظ المعيَّن فإنَّه سيفهم المعنى المراد منه، والوجدان قاضٍ بأنَّ من لا يعلم بالوضع فإنَّه لا يستطيع أن يفهم معاني الألفاظ التي يسمعها.
وبعبارة أُخرى: إنَّ لازم ذاتية الدلالة هي أن يفهم أصحاب كلِّ لسان لغة أيِّ قوم آخرين، فكما يحسُّ الجميع بالبرودة عند وضع اليد على الثلج، كذلك يفترض أن يفهم جميع البشر معنى أيّ لفظ بمجرَّد سماعه، والوجدان قاضٍ ببطلان هذا اللازم.
فلو كانت الدلالة ذاتية (لما اختلف الناس باختلاف علمهم بالوضع، وجهلهم بالوضع، فلو كان اللفظ بنفسه سبباً لانتقاش المعنى في الذهن، إذن لما اختلف العالم بالوضع عن الجاهل بالوضع بشيء)(٧).
تطبيق نظرية ذاتية الدلالة على لغة الصيحة:
حيث إنَّ البحث هنا ثبوتي - أي إنَّنا غضضنا النظر عن مثبتات النظرية المدَّعاة -، فيمكن أن نتصوَّر فهم جميع البشر للغة الصيحة في آنٍ واحدٍ وفق نظرية ذاتية دلالة اللفظ على المعنى.
فإنَّه لو كانت دلالة الألفاظ على معانيها من هذا القبيل، أي دلالة ذاتية، بحيث ينتقل الذهن من حاقِّ الألفاظ إلى تلك المعاني المقصودة منها والموضوعة لها. فحينئذٍ، يكون تعقّل فهم الجميع للصيحة واضحاً جدّاً.
التفسير الثاني:
أن تكون تلك الألفاظ الصادرة حين الصيحة، هي سنخ ألفاظ يشترك جميع بني البشر في فهم معانيها، بحيث تكون مستعملة لدى جميع الناس بمعنى واحد على اختلاف لغاتهم.
فهذه الألفاظ لها صورة لفظية معيَّنة، لكن جميع البشر يفهمون منها معنىً واحداً على اختلاف لغاتهم وثقافتهم ومشاربهم العلمية.
وهذا التصوّر لا مانع منه ثبوتاً، بل قد يُؤيَّد بوجود بعض الألفاظ التي يفهم جميع البشر معانيها بمجرَّد سماعها، وقد يقال: إنَّ منها كلمة (ماما) وما شابه، وبالنسبة لكلمة (ok) أو (yes) التي يفهمها اليوم أغلب الناس في العالم.
وقد يساعد على هذا التفسير ما نراه اليوم من القفزات العلمية والتطوّر الحضاري، فيمكن أن نتصوَّر أنَّه ستوجد على مرِّ الأزمنة وتطاول الأيّام لغةٌ خاصَّةٌ، تكون مشتركة الاستعمال بين جميع أفراد البشر، كما هو اليوم شأن الكثير من المفاهيم المشتركة المستعملة في الأجهزة الحديثة.
إلاّ أنَّه تصوّر ثبوتي ولا مثبت له.
على أنَّ تصوّر هذا الأمر ممكن وقريب في لفظ واحد مثلاً أو لفظين كما تقدَّم التمثيل له، أمَّا أن يكون ذلك في جملة كاملة متكوِّنة من ألفاظ عديدة، وتشير إلى معانٍ مستوحاة من عمق التاريخ، ومعانٍ عقائدية على أساسها انقسم الناس إلى فِرَق ومذاهب، فهذا أمر بعيد حسب المعطيات التي نراها اليوم.
لكنَّه على أيَّة حالٍ، تصوّر ممكن في حدٍّ نفسه.
التصوّر الثاني:
أن نفترض أنَّ البشرية جمعاء ترتقي في ثقافتها العامَّة، وتتطوَّر إدراكاتها العقلية، بحيث يصبح كلُّ فرد من أفرادها قادراً على فهم جميع لغات العالم بمجرَّد سماع ألفاظها، فتنعدم آنذاك الحاجة إلى المترجمين، لأنَّ كلَّ واحدٍ من البشر يفهم لغات العالم أجمع.
ويكون كلُّ فرد آنذاك أشبه بما يُسمّى اليوم بـ (المترجم الفوري) الذي سبق وأَنْ جُهِّز بجميع اللغات وما يقابلها من اللغات الأُخرى، والذي يمكنه بكبسة زر واحدة أن يترجم أيَّة لغة إلى أيَّة لغة أُخرى.
وآنذاك، فبأيَّة لغة صدرت ألفاظ الصيحة، فإنَّ كلَّ فردٍ فردٍ سيترجمها مباشرةً، وسيعرف المعنى الذي ترمي إليه.
إنَّ هذا التصوّر ممكن في حدِّ نفسه، وقد يُؤيَّد بما انتهى إليه العلم اليوم من أنَّ للعقل البشري قدرات عجيبة، وإمكانيات مذهلة، وأنَّ الناس اليوم لم يستعملوا من عقولهم إلاّ الأقلّ من القليل. فإنَّ له قدرات عجيبة، لو فُعِّلت فإنَّها تصنع المعجزات.
إنَّ العقل البشري يحتوي على أكثر من (١٥٠) مليار خليَّة عقلية، وقد كتب أحد الباحثين الأمريكيين في كتابه ((s) (f) (The sixe)) أنَّنا نستخدم فقط (١/٠%) من قدرة عقولنا(٨).
وقال الدكتور هربت من جامعة (هارفارد) بالولايات المتَّحدة الأمريكية في بحثه عن العقل البشري: إنَّ العقل البشري له القدرة على التركيز على سبعة معلومات، تزيد معلومتين أو تنقص. وإنَّ العقل اللاواعي عنده القدرة على استقبال أكثر من مليوني معلومة في الثانية الواحدة، وإنَّ سرعة تفكير الإنسان تزيد على سرعة الضوء التي هي (١٨٦) ميلاً في الثانية الواحدة. وأمَّا عن مخزون ذاكرة الإنسان، ففي كلِّ خليَّة عقلية يوجد مليون خليَّة أصغر منها تُدعى (سنابزس)، وإنَّ بداخل كلِّ (سنابزس) مليون خليَّة ذاكرة. ولحساب الذاكرة تحتاج أن تضرب مليون في مليون في (١٥٠) مليار(٩).
وكمثال عملي وواقعي على القدرة الهائلة للعقل البشري، هو ما يفعله الدماغ الخارق للألماني (روديغر غام)، فإنَّه يستطيع أن يجري عمليات حسابية رياضية تتكوَّن من (٤٠) رقماً بثواني عديدة، ليست أرقاماً عديدة وحسب، بل أرقاماً مع (أُس) رياضي يصل (٢٠)، بل وإلى (٤٠)! فمثلاً سُئِلَ عن (١٧٥٤)، فأعطى الجواب المتكوِّن من (٣٠) رقماً خلال ثوانٍ قليلة.
ولكن، يمكن استبعاد هذا التصوّر من جهة ما نراه اليوم من حدود الإدراك البشري، ومن جهة تكثّر لغات العالم، حتَّى قيل: إنَّها بلغت أكثر من (٦٠٠٠) لغة، فقد كشفت(١٠) منظَّمة الأُمم المتَّحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، أنَّ عدد اللغات التي يتحدَّث بها البشر في كافَّة أنحاء الأرض، تبلغ نحو ستَّة آلاف لغة، من بينها حوالي (٢٥٠٠) لغة مهدَّدة بالاندثار...، فمن أصل ستَّة آلاف لغة متداولة في العالم انقرضت نحو (٢٠٠) لغة على مدى الأجيال الثلاثة الأخيرة، في حين تُعتَبر (٥٧٣) لغة أُخرى من اللغات المحتضرة، و(٥٠٢) لغة من اللغات المعرَّضة للخطر الشديد، و(٦٣٢) لغة من اللغات المعرَّضة للخطر، و(٦٠٧) لغات من اللغات الهشَّة...، وعلى سبيل المثال حسبما جاء في بيان نشرته منظَّمة اليونسكو ضمن موقعها على شبكة الانترنت، فإنَّ الأطلس الجديد يتضمَّن (٩٩) لغة ينطق بها أقلّ من عشرة أشخاص في العالم، و(١٧٨) لغة أُخرى ينطق بها ما بين (١٠) و(٥٠) شخصاً...، ففي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث يتداول الناس نحو (٢٠٠٠) لغة مختلفة، أي ثلث المجموع العالمي تقريباً...
بل إنَّ هناك لغات لا يتكلَّم بها إلَّا القليل، وعلى سبيل المثال: الكورو هي لغة يتحدَّث بها عدد قليل من الشعب الهندي، ويعيش المتكلِّمون بها في إقليم أروناشال براديش، في الشمال الشرقي من شبه القارَّة الهندية، على الحدود مع مرتفعات التيبت.
(كورو)، كانت حتَّى وقت قريب من اللغات المنسيَّة، التي لم يعد يهتمُّ لها أحد من علماء اللغات والألسنيات في العالم، إلى أن اكتشف بالصدفة عالما ألسنيات أميركيان أنَّ هذه اللغة ما زالت حيَّة، ولم تنضمّ بعد إلى عداد اللغات التي تُصنَّف (ميِّتة). وبالتالي، بات عدد اللغات المعروفة حول العالم (٦٩١٠).
والعالمان هما ديفيد هاريسون وغريغوري أندرسون، كانا في رحلة دراسية إلى المنطقة عندما لفتهما أنَّ قسماً من الشعب هناك يتحدَّث بالكورو، ولاحظا أنَّ الناطقين بهذه اللغة لا يتجاوزون الـ (١٢٠٠) من كبار السنِّ بين السكّان، فيما الشبّان يتحدَّثون إمَّا بالـ (هندي) وإمَّا بالإنگليزية، وهما اللغتان المشتركتان بين معظم شعوب الهند.
وقد ظنَّ هاريسون وأندرسون، في البداية، أنَّ ما سمعاه لا يعدو كونه لهجة محلّية لإحدى اللغات غير المتداولة كثيراً، كلغة الآكا (Aka) التي يتحدَّث بها أفراد لا يتجاوز عددهم الـ (٦٠٠) من أبناء شعب صغير آخر في المنطقة، لكنَّه من التيبت المجاورة، رغم ما بين الشعبين من علاقات يومية وتزاوج.
فقد تبيَّن للعالمين أنَّ في (كورو) ألفاظاً ومرادفات وتراكيب جمل خاصَّة بها، ممَّا يجعلها لغة قائمة بذاتها، تضاف إلى الـ (٦٩٠٩) لغات التي كانت معروفة قبل اكتشاف أنَّ الأخيرة ما زالت (حيَّة)(١١).
فمن جهة هذين الأمرين فإنَّ هذا التصوّر ـ الثاني ـ يكون بعيداً عن الوقوع.
والاستشهاد بحالة ذلك الألماني وأمثاله، هي من الندرة بمكان، بل إنَّ التقارير العلمية حول أُولئك (الخارقين) تشير إلى أنَّهم خارجون عن الطبيعة البشرية، وأنَّ تلك الحالات الخارقة التي تحصل لديهم تكون إثر صدمة ما، قد تكون صدمة نفسية، أو ضربة في الدماغ، وما شابه.
نعم، حسب المعطيات العلمية، فإنَّ العقل مهيَّأ لأنْ يكون خارقاً - فيه القابلية، والقابلية شيء والعقلية شيء آخر -، ولكن هذه الحالة بالتالي نادرة الوقوع، وتحتاج إلى مقدّمات ربَّما لا نجدها اليوم في متناول اليد لدى الجميع.
نعم، يمكن أن نُقرِّب هذا التصوّر باحتمال انقراض هذه اللغات الكثيرة، فقد نُقِلَ أنَّه توجد لغات اليوم لا يتكلَّم بها إلَّا قبيلة واحدة، وربَّما بعضها لا يتكلَّم بها إلَّا أهل بيت واحد.
وحينئذٍ يمكن تصوّر انقراض جميع اللغات إلَّا لغات معدودة يمكن للبشر أن يتعلَّموها ويتقنوها، بحيث يستطيع كلُّ البشر أن يفهموا لغات كلِّ العالم آنذاك!
وحينئذٍ يكون هذا التصوّر قريباً من الفهم.
لكنَّه أيضاً بحاجة إلى إثبات.
التصوّر الثالث:
أن نفترض أنَّ هناك لغة معيَّنة، ستكون في يوم قريب من الظهور لغة عالمية، تفرض نفسها على جميع لغات العالم، بحيث يكون كلُّ البشر يعرفونها ويعرفون المعاني التي تدلُّ عليها ألفاظها.
ويمكن أن نتصوَّر حصول هذا الأمر بأحد نحوين:
النحو الأوَّل:
أن يكون أهل تلك اللغة متسلِّطين على جميع دول العالم عسكرياً، أو بنحوٍ آخر من أنحاء التسلّط، بحيث يفرضون على الناس أن يتكلَّموا بتلك اللغة، بالقوَّة.
وبالتدريج، سيتعلَّم الناس تلك اللغة ويتقنونها وسيعرفون معاني ألفاظها بيسر وسهولة.
ويمكن تصوّر هذا المعنى وإن كان بصورة مصغَّرة بما حصل إبّان سيطرة الدولة العثمانية التركية على البلدان العربية، حيث اتَّبعت الدولة العثمانية التركية (سياسة التتريك) بفرض اللغة التركية على الوطن العربي (الولايات العربية والمتصرّفيات آنذاك التابعة لحكم السلطان العثماني)، بحيث أصبحت الطبقة المتعلِّمة والبرجوازيون من أصدقاء الدولة العثمانية يعرفون اللغة التركية ويتقنونها تماماً. وإن كانت نسبة أُولئك في ذلك الوقت لا تتجاوز الـ (٥%) من السكّان آنذاك.
وكما حصل هذا الأمر أيضاً في الجزائر، حينما فرض الفرنسيون (سياسة الفرنسة) بفرض لغتهم على مدارس الجزائر، ممَّا أدّى إلى أن يتناسى كثير من عرب الجزائر لغتهم العربية، وحتَّى أُولئك الذين حافظوا على عربيتهم، فقد اندسَّت الكلمات الفرنسية فيها بصورة كبيرة جدّاً، وإلى اليوم نشاهد أثر تلك اللغة على الجزائريين.
وهكذا ما حصل في شمال العراق عندما فرض النظام المقبور اللغة العربية على الأكراد، بحيث تجد اليوم كثيراً من الأكراد يفهمون اللغة العربية.
فلنفترض أنَّ هناك قوَّة عالمية قبيل الظهور المبارك، تسيطر على العالم، وتفرض لغتها على كلِّ مواطني الدول، وبالتدريج سيفهم كلُّ أبناء العالم لغة تلك القوَّة المتسلِّطة.
وهذا التصوّر ممكن في حدِّ نفسه.
ولكن هذا التصوّر قد يواجه مشكلة، وهي أنَّ الصيحة كما هو المفترض إنَّما تصدر للتبشير بقرب ظهور الحقِّ المطلق، فكيف يتناسب هذا مع فرض اللغة على الجميع، الأمر الذي يستلزم الظلم والاضطهاد؟
ويمكن الجواب بالتالي:
١ - لا ملازمة عقلية بين فرض اللغة وبين الظلم والاضطهاد، وإنَّما هي ملازمة مستخرجة ممَّا وقع من أحداث، ومعه فلا مانع من افتراض فرض لغة نفسها على الجميع من دون ظلم واضطهاد.
٢ - ولو تنزَّلنا فنقول: إنَّ صدور الصوت بتلك اللغة التي فُرِضَت على العالم بالقوَّة والظلم لا ضير فيه، فإنَّ الصوت والصيحة إنَّما تصدر بتلك اللغة لإيصال الرسالة السماوية للبشر بقرب ظهور الحقِّ المطلق، ولا يعني هذا تأييداً لتلك اللغة، ولا للظلم الذي تفرَّعت هي عنه. ومن الواضح أنَّ هذا المعنى لا يعني أنَّ الصوت هو من سبَّب ذلك التسلّط والظلم على أبناء العالم.
النحو الثاني:
أن نتصوَّر هذا الأمر في لغة تفرض نفسها لأجل كونها لغة يحتاج إليها الناس من جهة ثقافية علمية ونحوها، كما لو فرضنا وجود دولة ستتزعَّم العالم ثقافياً قبيل الظهور، بحيث يحتاج الجميع أن يتعلَّم ويفهم لغتها ليتمكَّن من الاستفادة من ثقافتها.
وعلى أيَّة حالٍ، وبأيِّ تصوّر أمكن أن نتصوَّر تلك اللغة، فإنَّه لو حصل ذلك، لأمكن القول وفق هذا التصوّر الثالث: إنَّ الصيحة ستكون بواسطة ألفاظ هذه اللغة، ممَّا يؤدّي إلى أن يفهمها الجميع من دون حاجة إلى مترجم.
وهذا التصوّر ممكن في حدِّ نفسه، بل يمكن تقريبه إلى الواقع بالاستشهاد ببعض لغات اليوم التي تعتبر لغات عالمية تُدرَّس في جميع جامعات العالم، ويتكلَّم بها كثير من غير أبنائها الأصليين.
لكن، يبقى هذا التصوّر بحاجة إلى إثبات، كما هو حال أخويه السابقين.
ملاحظة عامَّة حول التصوّرات الثلاثة المتقدّمة:
وفق هذه التصوّرات الثلاثة، فإنَّ فهم ومعرفة معنى ألفاظ ذلك الصوت سوف يكون وفق القوانين الطبيعية المعروفة، حتَّى فيما يتعلَّق بإسماع جميع العالم لها في وقت واحد، بأن يصدر ذلك الصوت باستعمال التقنية العالية في إيصال الصوت، بل والصورة إلى العالم أجمع خلال ثوانٍ معدودة.
وهذا الأمر سيُمكِّننا من تصوّر وفهم أمرين ذكرتهما روايات الصيحة:
الأوَّل: استمرار مقاومة ومعارضة البعض للإمام المهدي عليه السلام رغم صدور الصيحة.
الثاني: إصدار إبليس لصيحة مقابلة لصيحة الحقِّ ومناوئة لها وعلى طرف النقيض منها، بحيث تكون لها القدرة على الإضلال.
فإنَّ القضيَّة ما دامت وفق القوانين الطبيعية، فيمكن لكلِّ من يمتلك قدرات علمية وإمكانات مادّية على مستوى عالٍ جدّاً أن يقوم بما يشابه تلك الصيحة الحقّ إلى حدٍّ كبير، الأمر الذي يتسبَّب في إضلال بعض من كان على الحقِّ، وفي نفس الوقت يتسبَّب في تبرير استمرار مقاومة ومعارضة المهدي عليه السلام من قِبَل البعض الآخر.
التصوّر الرابع: المعجزة:
المعجزة: هو ثبوت ما ليس بمعتاد، أو نفي ما هو معتاد، مع خرق العادة، ومطابقة الدعوى(١٣).
أو هي أمر خارق للعادة، مقرون بالدعوى، والتحدّي، مع عدم المعارضة، ومطابقته للدعوى(١٤).
وهي تختلف في تجلّياتها، فقد تكون فعلاً يعجز عنه البشر، أو قولاً لا يستطيع أُمراء البلاغة أن يجاروه، أو إخباراً بأمر غيبي ماضوي أو حاضر أو مستقبلي، أو غيرها.
والمعجزة لا تخرج عن قانون ونظام الأسباب والمسبَّبات العامّ، لكنَّها تخرج عن القوانين المعروفة والمتاحة للجميع(١٥)، لذلك كانت المعجزة من أقوى الأدلَّة على صدق مدَّعي النبوَّة، وهكذا هي أقوى أدلَّة من يدَّعي الارتباط بالغيب، ولذلك أيضاً كانت واحدة من أهمّ الطرق المفيدة في تشخيص الإمام المهدي عليه السلام فجريان بعض المعجزات على يديه، ممَّا ذكرته بعض روايات الملاحم يجري في هذا المجرى.
فقد ورد: (ويلحقه الحسني في اثني عشر ألفاً، فيقول له: أنا أحقُّ منك بهذا الأمر، فيقول له: هات علامة، هات دلالة، فيومئ إلى الطير فيسقط على كتفه، ويغرس القضيب الذي بيده فيخضرّ ويعشوشب، فيُسلِّم إليه الحسني الجيش، ويكون الحسني على مقدَّمته...) (١٦).
ومن نفس هذا المنطلق، أثبت السفير الثالث الحسين بن روح حقّانية ارتباطه بالإمام المهدي عليه السلام من خلال إقامته لمعجزة ذكرها التأريخ، فقد ورد عن الحسين بن علي بن محمّد المعروف بأبي علي البغدادي، قال: رأيت في تلك السنة بمدينة السلام امرأة، تسأل عن وكيل مولانا عليه السلام من هو؟ فأخبرها بعض القمّيين أنَّه أبو القاسم الحسين بن روح، وأشار لها إليه وأنا عنده، فقالت له: أيّها الشيخ أيّ شيء معي؟ فقال: ما معك اذهبي فألقيه في دجلة، ثمّ ائتيني حتَّى أُخبرك. قال: فذهبت المرأة، وحملت ما كان معها، فألقته في دجلة، ثمّ رجعت، ودخلت إلى أبي القاسم الروحي، وأنا عنده. فقال أبو القاسم لمملوكته: أخرجي إليَّ الحقَّة، فأخرجت إليه الحقَّة، فقال للمرأة: هذه الحقَّة التي كانت معكِ، ورميت بها في دجلة، أُخبرك بما فيها أم تخبريني؟ قالت: بل تخبرني أنت. قال: في هذه الحقَّة زوج سوار ذهب، وحلقة كبيرة فيها جواهر وخاتمان أحدهما فيروزج، والآخر عقيق. وكان الأمر كما ذكر لم يغادر منه شيئاً. ثمّ فتح الحقَّة، فعرض عليَّ ما فيها، ونظرت المرأة إليه فقالت: هذه التي حملتها بعينها، ورميت بها في دجلة. فغشي عليَّ وعلى المرأة لما شاهدناه من صدق الدلالة والعلامة(١٧).
وكون المعجزة كذلك، يعني أنَّ الحكمة الإلهية واللطف الإلهي يقتضيان عدم جريانهما إلَّا على يدي الصادق في دعوى النبوَّة أو الإمامة أو أي ارتباط مع السماء، وإلَّا فلو جرت على يدي الكاذب والمدَّعي زوراً، لكان هذا تضليلاً من الله تعالى، وهو خلف اللطف الواجب عليه (جلَّ وعلا) بحسب الحكمة الإلهية.
إنَّ المعجزة تتميَّز بأنَّها فعل يصدر من مدَّعي الارتباط بالغيب من دون سابق تعليم، وبنحو التحدّي الذي لا تنقضه المعارضة، والمعجزة لا تتحدَّد بحدود خاصَّة، فيمكنها أن تصل إلى حدِّ شقِّ القمر، وتجاوز القوانين الطبيعية في قطع المسافات، وبذلك تتميَّز المعجزة بكلِّ وضوح عن السحر الذي يأتي به المشعوذون.
وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ التصوّر الرابع في كيفية فهم لغة الصيحة من جميع البشر يقوم على هذا الأساس.
فبالمعجزة - أي بالأمر الخارج عن الحدود الطبيعية المعروفة لدى البشر -، سيكون صدور ذلك الصوت، وبه نفسه سيُتاح لجميع البشر أن يفهموا تلك اللهجة حالة صدورها.
وهذا هو التصوّر السائد والمعروف، وقد يُستَشهد له بعدَّة شواهد من داخل الروايات التي ذكرت علامة الصيحة، ككونها من السماء، وكون المنادي بها جبرئيل، وكونها تدخل البيوت وتُفزع النائم، وممَّا يُستَشهد به لذلك هو فهم الجميع لها، كلٌّ حسب لغته.
وهذا التصوّر ممكن جدّاً في حدِّ نفسه، لكن مع ذلك هناك العديد من الإثارات التي يمكن أن تُثار من أجل إكمال معالم هذا التصوّر، ومن تلك الإثارات التالي:
الإثارة الأولى:
قد يقال: إنَّ جريان المعجزة له شرط، وهو أن يتوقَّف إثبات الحقِّ على جريانها، وإلَّا أي لو أمكن إثبات الحقِّ من خلال طريق طبيعي، فلا يبقى مجال لجريان المعجزة، وسيكون صدور المعجزة آنذاك نوعاً من اللغو المنزَّه عنه الحكيم (جلَّ وعلا).
قال السيِّد الصدر في تاريخ الغيبة الكبرى (ص ٣٦): (... إنَّ المعجزة إنَّما تحدث عند توقّف إقامة الحقِّ عليها، وأمَّا مع عدم هذا التوقّف وإمكان إنجاز الأمر بدون معجزة، فإنَّها لا تحدث بحال...).
ويمكن أن يجاب عن هذا بالتالي:
أوَّلاً: إنَّ صدور المعجزة أمر خارج عن قدراتنا العادية، وبالتالي فتحديدها وتقييدها يتبع في ذلك الأدلَّة الروائية والعقلية، ومعه فيمكن القول: إنَّ تقييد الإتيان بالمعجزة بذلك أوَّل الكلام، إذ لا دليل عليه لا من رواية ولا من عقل.
اللّهمّ إلَّا أن يقال: إنَّ إجراءها من دون ذلك لغوٌ منزَّهٌ عنه الحكيم!
ولكن يمكن الجواب: أنَّ إجراءها آنذاك يمكن أن تكون له حكمة ولو كانت هي التأييد والتأكيد أو حكمة مجهولة لنا تبين بعد حدوث المعجزة.
وبعبارة أُخرى: نُسلِّم تقييد إجراء المعجزة بتوفّرها على حكمة ترفع اللغو عن فِعْل الحكيم (جلَّ وعلا)، ولكن لا نُسلِّم تقييد إجرائها بتوقّف إثبات الحقِّ عليها، أي لا نُسلِّم انحصار تلك الحكمة بتوقّف إثبات الحقِّ على إجرائها، بحيث ينسدُّ إثباته من الطريق الطبيعي، كلَّا بل يكفي أن يكون إجراؤها لحكمة معيَّنة أُخرى، ولا يُشتَرط أن تكون تلك الحكمة هي إثبات الحقِّ، كأنْ يقال: إنَّها جرت لتأييد من جرت لأجله، أو لتأكيد دعواه رغم إمكان إثباتها بالطريق الطبيعي، وهذه الحكمة كافية لرفع اللغو عن فعل الحكيم.
وحيث إنَّنا نعلم يقيناً أنَّ أفعال الله تعالى لا بدَّ أن تكون وفق الحكمة، فهذا يكفي لجريان معجزة ما وإن لم نعلم وجه الحكمة فيه.
تماماً كما قيل ذلك في مسألة غيبة الإمام المهدي عليه السلام، حيث إنَّه يكفي أنَّها موافقة للحكمة وإن لم نعلم بها الآن، وهو ما عبَّر عنه الإمام الصادق عليه السلام بقوله: (إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلَّا بعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر عليه السلام من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، لموسى عليه السلام إلى وقت افتراقهما) (١٨).
وممَّا يُؤيِّد هذا المعنى، أنَّه لو كان إجراء المعجزة مقيَّداً بتوقّف إثبات الحقِّ عليها، فما هو الداعي إلى أن يكون للنبيِّ موسى عليه السلام تسع معجزات(١٩)، والحال أنَّه ومن المعجزة الأُولى يثبت أنَّ دعواه حقٌّ!؟
وهكذا بالنسبة للنبيِّ عيسى عليه السلام، فكان له أن يُحيي ميِّتاً واحداً لتثبت حقّانية دعوته، من دون حاجة إلى أن يُخبِرهم بما في بيوتهم أو أن يُبرِءَ مرضاهم(٢٠).
وهكذا في معجزات النبيِّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم التي قيل عنها: إنَّها تجاوزت الأربعة آلاف معجزة(٢١)، والتي كانت واحدة منها كافية لإثبات أنَّه متَّصل بالسماء(٢٢)! بل ورد أنَّه عندما نزلت بعض سور القرآن الكريم، فإنَّ قريش استحيوا من القصائد المعلَّقات التي كانت على جدار الكعبة، والتي كانوا يعتبرونها القمَّة في البلاغة والفصاحة وأداء المعنى وجزالة الأُسلوب. فأنزلوها لما رأوا من بلاغة تلك السور، وخوفاً من الفضيحة(٢٣)، فكانت بعض سور القرآن كافية لإثبات الإعجاز في القرآن، فلماذا نزل باقي القرآن إذن؟
إنَّه ليس إلَّا لحكمة أُخرى غير إثبات الحقِّ، وإن كان إثبات الحقِّ يحصل أيضاً بها، ولكنَّه ليس هو الهدف الوحيد من صدور كل تلك المعجزات.
ثانياً: صحيح أنَّ كثيراً من الناس ملتفتون لقضيَّة الإمام المهدي عليه السلام ومسألة الظهور، ولكن هناك كثيراً من الناس يعيشون الغفلة عن هذه القضيَّة تماماً.
وبالتالي يحتاجون إلى منبِّه من نوع خاصٍّ ليُنبهِّهم من غفلتهم وليُذكِّرهم بقضيَّة المنقذ العالمي.
وهذا الأمر وإن لم يكن منحصراً بالصيحة، لكن وبلا شكٍّ أنَّها أفضل المنبِّهات وأكثرها صدىً وأقواها تأثيراً في النفوس، خصوصاً مع تلك الخصوصيات المرافقة لها ممَّا ذكرته الروايات الشريفة.
وبالتالي، لِنقُلْ: إنَّ الحكمة من الصيحة والحاجة إليها تكمن في تنبيه الناس على قرب ذلك الحدث، وبالتالي ليستعدّوا أو ليتهيَّؤوا للظهور المبارك.
الإثارة الثانية:
حسب المعطيات العلمية الواردة في الآثار الروائية، فإنَّ هناك العديد من العلامات القريبة للظهور، والدالّة عليه، فقد ورد عن عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (قبل قيام القائم خمس علامات محتومات: اليماني، والسفياني، والصيحة، وقتل النفس الزكية، والخسف بالبيداء)(٢٤).
وكونها حتمية يعني أنَّ الظهور لا يكون إلَّا مع سبق وقوعها، وهي وإن لم تكن العلَّة التامَّة للظهور، ولكن حتمية وقوعها تنبع من أنَّ الأئمَّة المعصومين عليهم السلام أخبروا بضرورة وقوعها، ولأنَّهم معصومون، فتكون إخباراتهم غير قابلة للتكذيب، ومن هنا قيل بأنَّ الظهور لا يكون إلَّا مع سبقها عليه.
ولكن مع وجود الصيحة الإعجازية، ما هو الداعي لقيام بقيَّة تلك العلامات؟
وبعباره أُخرى: مع قيام الصيحة الإعجازية، ما هو الداعي لقيام تلك العلامات الأُخرى، وهي أقلُّ علاميةً في الدلالة على قرب الظهور، باعتبار أنَّها خالية من الإعجاز؟
والجواب:
إنَّ تلك العلامات الأُخرى بعضها يقع قبل الصيحة، وبعضها بعدها.
أمَّا ما بعدها فالقدر المتيقَّن منه هو قتل النفس الزكية، لأنَّ الوارد فيه هو أن يقع القتل قبيل الظهور بخمس عشرة ليلة فقط.
فعن صالح مولى بني العذراء، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: (ليس بين قيام قائم آل محمّد وبين قتل النفس الزكية إلَّا خمسة عشر ليلة)(٢٥).
وحينئذٍ يمكن أن نجد حكمة أو أكثر في وقوع هذا القتل ممَّا لا يتنافى مع وقوع الصيحة الإعجازية قبله. كأن يقال: إنَّ ذهاب ذلك الشاب (النفس الزكية) لدعوة أهل مكّة هو لخصوصية في الزمان والمكان.
أمَّا الزمان، فلأنَّ إرساله يكون قبيل الظهور العلني والرسمي للإمام المهدي عليه السلام بأُسبوعين فقط.
وأمَّا المكان، فهو حرم الله الآمن، وعند البيت الحرام، حيث يكون المسلمون مجتمعين من شتّى أصقاع الأرض، لأداء مناسك الحجِّ، وهم أكملوا حجَّهم قبيل أيّام معدودة فقط، ممَّا يعني وجود الكثير منهم ومن مختلف الأعراق والجنسيات. وهم قد اجتمعوا في مكان يُمثِّل الرمز المعنوي لجميع المسلمين.
وبضمِّ هاتين الخصوصيتين تتبيَّن أهمّية هذه الدعوة، وما يترتَّب على قتله في هذا الزمان والمكان من ردِّ فعلٍ عالمي على المستوى الإعلامي، ممَّا يلفت الأنظار أكثر لقضيَّة المنقذ الموعود.
وأمَّا ما يقع قبلها، وهي الحركات أو الرايات الثلاث (السفياني والخراساني واليماني)، فهي وإن كانت من العلامات القريبة نسبياً للظهور، ولكن دلالتها وعلاميتها لا تصل إلى درجة الدلالة العلامية في الصيحة، وذلك لأجل التالي:
أوَّلاً: أنَّها تقوم بحركة طبيعية بعيدة عن المعجزة، ولا شكَّ أنَّ علامية المعجزة أقوى وأوقع في النفوس.
ثانياً: أنَّها حركات عسكرية في واقعها، كلُّ واحدة تريد أن تُثبِت وجودها في بقعة معيَّنة، نعم كلّها ستحاول السيطرة على الكوفة بالخصوص لخصوصية فيها، وهي كونها المكان الذي سيقصده المهدي عليه السلام لاتِّخاذه عاصمة لدولته المباركة(٢٦).
وبالتالي فإنَّ إمكان اتِّهام تلك الحركات وارد جدّاً، بالإضافة إلى إمكان الاشتباه فيها، وبالتالي تطبيقها على حركات ليست هي العلامات الواقعية ممكن جدّاً أيضاً.
بل هذا ما وقع اليوم حيث يحاول البعض تطبيق السفياني على داعش واليماني على حركة الحوثيين والخراساني على تحرّك إيران ضد داعش وما شابه.
وبالتالي فإنَّ إمكان الاشتباه وارد.
وهذا الاشتباه لا يرد في علامة تقوم على الإعجاز.
ثالثاً: أنَّ الدعاوى الباطلة قد كثرت، وبالتالي فُقِدَت الثقة لدى الكثير من المنتظرين من تلك الدعاوى، فاليماني الذي وصفت الروايات رايته بأنَّها أهدى الرايات، وبأنَّ الملتوي عليه في النار، وأنَّه لا يجوز مقاومته وتضعيف حركته (بغضِّ النظر هنا عن معنى كونها أهدى الرايات، وعن ضرورة أو عدم ضرورة الالتحاق به، فإنَّ هذه القضايا هي من المسائل التي أخذت حيِّزاً واسعاً من البحث والتنقيب)، نجد اليوم بعض الناس قد اشتبه عليه الأمر لكثرة المدَّعين لها.
وبالتالي، فإمكان عدم إلفات هذه الحركات أنظار الناس لقرب الظهور وارد أيضاً، باعتبار أنَّ تتابع الدعاوى الباطلة قد يؤدّي إلى تقليل تأثيرها، وعدم أخذ الناس لها بعين الاعتبار.
فتتبقّى للصيحة قيمتها العلامية والدلالية، ولا تُؤثِّر عليها علامية تلك الحركات.
رابعاً: فضلاً عمَّا تقدَّم فإنَّه يمكن القول: إنَّ كلَّ علامة من العلامات لها دورها العلامي والإعلامي الخاصّ الذي تقوم به، وإن كانت تشترك كلّها في الدلالة على قرب الظهور، فيمكن القول: إنَّ تلك الحركات الثلاث مهمَّتها التمهيد العسكري واللوجستي للظهور المبارك ، خصوصاً منطقة الشرق الأوسط.
أمَّا الصيحة، فمهمَّتها التنبيه على قرب الظهور لا في منطقة معيَّنة، بل في العالم أجمع ولجميع الناس.
ويمكن أن يقال نفس الكلام في علامية قتل النفس الزكية.
يبقى الكلام في الخسف، فإنَّه يقع أيضاً عن معجزة، فإنَّ الخسف إنَّما يقع بقانون خارج القوى الطبيعية وبأمر الله تعالى، فضلاً عن ذكر بعض الروايات لقيام جبرئيل بذلك الخسف، ففي رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (... ثمّ يخرجون متوجِّهين إلى مكّة، حتَّى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبرئيل فيقول: يا جبرئيل! اذهب فأبدهم، فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم عندها...)(٢٧).
ولكن مع ذلك، فإنَّ الخسف يقع في منطقة خاصَّة في البيداء بين مكّة والمدينة، وهو وإن كان يمكن أن ينتشر خبره في أصقاع الأرض، لكن انتشاره يحتاج إلى وقت، وربَّما تعمل القوى العالمية على التكتّم على هذا الخبر.
أمَّا الصيحة، فلا يمكن لقوَّة بشرية أن تمنع من وصول أثرها إلى جميع الناس وبلحظة واحدة.
ومعه فالفرق بينهما في العلامية، والحاجة إلى الصيحة، ما زالت موجودة، ولا يُغني عنها الخسف.
طبعاً هذا لا ينفي الحكمة والحاجة للخسف، إذ لا شكَّ أنَّ إهلاك جيش السفياني الذي كان قاصداً لقتل الإمام المهدي عليه السلام له أهمّية لا يُستهان بها في التخطيط العامّ لظهوره عليه السلام في الزمان والمكان المناسب.
الإثارة الثالثة:
مع قيام الصيحة على الإعجاز، كيف نُفسِّر إغواء إبليس بصيحته بعد تلك الصيحة، والفرض أنَّ صيحة إبليس ليست إعجازية، وقد وصفتها الروايات بأنَّها تصدر من الأرض في إشارة لذلك؟
إنَّ الروايات التي ذكرت قيام الصيحة، ذكرت إلى جنبها أنَّ إبليس سيقوم بصيحة مناوئة ومخالفة للصيحة الجبرائيلية، ممَّا يُؤدّي إلى انحراف البعض رغم سماعهم الصيحة الإعجازية، فقد ورد عن زرارة بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (ينادي منادٍ من السماء: إنَّ فلاناً هو الأمير، وينادي منادٍ: إنَّ عليّاً وشيعته هم الفائزون)، قلت: فمن يقاتل المهدي بعد هذا؟ فقال: (إنَّ الشيطان ينادي: إنَّ فلانا وشيعته هم الفائزون - لرجل من بني أُميَّة - ...)(٢٨).
وعن زرارة بن أعين، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: عجبت أصلحك الله! وإنّي لأعجب من القائم كيف يقاتل مع ما يرون من العجائب، من خسف البيداء بالجيش، ومن النداء الذي يكون من السماء؟ فقال: (إنَّ الشيطان لا يدعهم حتَّى ينادي كما نادى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم العقبة...)(٢٩).
ومن هنا، قد يتساءل البعض عن السبب الذي يعدم تأثير إعجاز الصيحة في بعض النفوس؟
الجواب:
إنَّ إعجازها إنَّما هو في صدورها لا في هدايتها، فتبقى الهداية تابعة لإرادة الإنسان نفسه.
فهي لا تجبرهم على الهداية، فتبقى هدايتها فرع المعرفة المسبقة، وفرع إرادة الإنسان.
وحتَّى مع المعرفة المسبقة، يبقى الإنسان معرَّضاً للضلال، بل وحتَّى الجحود.
وبعبارة أوضح: إنَّ قيام المعجزة لا يجبر الناس على الهداية، فإنَّ الجبر خلاف نظام التشريع، الذي يقوم على أن يكون للإنسان الدور الفعّال والمؤثِّر في عملية الهداية أو الضلال، فالإنسان هو صاحب القرار الأخير، وهو الذي يقوم بأفعال الخير أو الشرِّ، وهو المسؤول الأوَّل والأخير عنها، قال تعالى: (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (النجم: ٣٩ - ٤١).
فقيام المعجزات لا يعني أكثر من دليل إثباتي على صدق الدعوة، ولا يعني بحالٍ جبر الأفراد وجرّهم لطريق الهداية رغماً عنهم، فقيامها لا يسلب الاختيار، وبالتالي تبقى الخطوة الأخيرة بعد قيامها من شأن الإنسان نفسه، فيمكن تصوّر انحراف البعض رغم صدور الصيحة، تماماً كما انحرف الكثيرون ممَّن عاصروا وعايشوا ورأوا بأُمِّ أعينهم آلاف المعجزات تصدر من النبيِّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن قيامها لم يمنعهم من الانحراف، إلى الحدِّ الذي سيُذاد العديد منهم عن الحوض، لما أحدثوه بعد النبيِّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم(٣٠).
الإثارة الرابعة:
تقدَّمت الإشارة إلى أنَّ صدور المعجزة ليس خرقاً لنظام الأسباب والمسبَّبات الذي يحكم العالم، وإنَّما هو خرق للقوانين الطبيعية المتاحة لعامَّة أفراد البشر، وممَّا يعني أنَّ للمعجزة قانوناً وإن كان غير متاح للجميع.
والصيحة حالها في ذلك حال بقيَّة المعجزات، تقوم وفق قانون خارج عن الطبيعة، وليس ضرورياً أن نعرف ماهية هذا القانون، وإلَّا لأمكن قيام من يعرف ذلك القانون بصيحة بل بصيحات.
ومن هنا، فيمكن القول بأن إبليس، ولأنَّه يمتلك الكثير من المعارف والعلوم حسب خبرته الطويلة على مرِّ العصور، فقد يُتصوَّر بأنَّه قد تعرَّف على بعض القوانين الطبيعية، تتيح له أن يقوم بصيحة خارجة عن المألوف البشري، وإن كانت لا تصل إلى حدِّ الإعجاز، وهي بالتالي غير معروفة لدى عامَّة البشر، ممَّا يتيح لصيحته الأرضية أن تعمل عملها في الإغواء والإضلال.
وهذا ما قد يُفسِّر لنا الروايات الواردة في ضلال بعض الناس رغم صدور الصيحة الإعجازية.
الإثارة الخامسة:
في مقام بيان صدور ذلك الصوت الإعجازي، ذكرت بعض الروايات الشريفة تصويرين:
ففي أحدهما أنَّ الذي يقوم بهذا الدور هو جبرئيل عليه السلام.
عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت له: جُعلت فداك، متى خروج القائم عليه السلام؟ فقال: (يا أبا محمّد... لا يخرج القائم حتَّى يُنادى باسمه من جوف السماء في ليلة ثلاث وعشرين في شهر رمضان ليلة جمعة...، وهي صيحة جبرئيل عليه السلام)(٣١).
ولكن بعضها الآخر ذكرت أنَّ الذي يقوم به هم ملائكة موكَّلون في كلِّ بقعة من بقاع الأرض.
فعن كتاب العلل لمحمّد بن علي بن إبراهيم(٣٢): سُئِلَ أبو عبد الله عليه السلام عن العلَّة في الصيحة من السماء كيف يعلمها أهل الدنيا والصيحة هي بلسان واحد ولغات الناس تختلف؟ فقال: إنَّ في كلِّ بلد ملائكة موكَّلون، فينادي في كلِّ بلد ملك بلسانهم، وكذلك لإبليس شياطين موكَّلون بكلِّ بلدة ينادون فيهم بلسانهم ولغاتهم: (ألَا إنَّ الأمر لعثمان بن عفّان).
وبغض النظر عن سند الروايات - كما هو المفترض في هذا البحث - يمكن أن نتساءل عن كيفية التوفيق بين هذين التصورين؟
والجواب:
يمكن تصوّر الجمع بينهما بأحد الوجوه التالية:
أوَّلاً: إنَّ جبرئيل عليه السلام أُخِذَ على نحو الطريقية لا الموضوعية، بمعنى أنَّ جبرئيل عليه السلام أُخِذَ في بعض الروايات للإشارة إلى أنَّ الذي يقوم بإصدار صوت الصيحة هم الملائكة، لا غيرهم.
أو أنَّ جبرئيل أُخِذَ في بعض تلك الروايات للإشارة إلى أنَّ صدور هذا الصوت سيكون بطريقة إعجازية، وللإشارة إلى هذا المعنى جيء باسم جبرئيل للدلالة على ذلك.
وطبعاً هذا لا يمنع أن يكون أحد أُولئك الملائكة في كلا التقريبين هو جبرئيل نفسه.
ثانياً: أن يكون جبرئيل عليه السلام هو الآمر للملائكة بإصدار ذلك الصوت، فتكون نسبة إصدار الصوت إليه نسبة مجازية، كما يقال: جاء الأمير، إذا جاء جيشه. وتكون نسبة الصوت للملائكة نسبة حقيقية.
ثالثاً: أن يصدر الصوت من جبرئيل عليه السلام أوَّلاً، ثمّ يتبعه صدور الصوت من بقيَّة الملائكة الموكَّلين بهذه المهمَّة من دون فاصلة زمنية طويلة، فتكون نسبة الصوت إلى جبرئيل وإلى بقيَّة الملائكة نسبة حقيقية.
ملاحظة مهمّة:
طبقاً لرواية نداء الملائكة في كلِّ بلد بلسان أهله، يمكن أن نوجد تصوّراً خامساً لفهم الناس للغة الصيحة، وهذا التصوّر يخلو من أيِّ إشكال، وتكون المعجزة حاصلة في صدور الصوت من الملائكة، لا في فهم الناس، إذ الفرض أنَّ الملائكة تنادي أهل كلِّ لسان بلغتهم.
استخلاص النتائج:
أوَّلاً: إنَّ أهمّ علامات الظهور على الإطلاق هي علامة الصيحة، لما تحويه من عناصر تُبعِدها عن الاشتباه بغيرها، وتجعل منها علامة واضحة لجميع البشر في لحظة واحدة.
ثانياً: ثبوتاً، يمكن تصوّر اللغة التي تصدر بها تلك الصيحة بعدة أنحاء: ذاتية دلالة اللفظ على المعنى، وتصوّر لغة موحَّدة للعالم إبّان الظهور، وتصوّر تطوّر الإدراك البشري ليصل إلى مرحلة يفهم كلُّ واحد من البشر جميع لغات البشر الموجودة آنذاك، وتصوّر المعجزة في إفهام البشر له.
ثالثاً: إثباتاً، يمكن إيجاد تقريبات إثباتية للتصوّرات الثلاثة الأخيرة، والتفسير الثاني من التصوّر الأوَّل، لكن أقربها للوجدان اليوم هو التصوّر الرابع، وهو تصوّر المعجزة.
رابعاً: إنَّ أيَّ تصوّر يُفتَرض للغة الصيحة، فإنَّه لا يسلب الاختيار البشري، فيبقى تأثير الصيحة بأيِّ نحوٍ فُرِضَ، مقتصراً على اللطف المقرِّب، ولا يتجاوزه إلى سلب الاختيار، ولا يجعل هدايتها من نحو الهداية التكوينية الخارجة عن الإرادة البشرية.
خامساً: إنَّ الإعجاز وإن كان أقرب التصوّرات اليوم، ولكنَّه لا يمنع من افتراض التصوّرات الأُخرى، كما أنَّه ليس معصوماً عن الإثارات التي يمكن أن تُقلِّل من تأثير الإعجاز، ولكنَّه على كلِّ حالٍ تصوّر قريب، وموافق للأُطر العامَّة لهداية البشر.
الهوامش:
(١) قوانين الأُصول للميرزا القمّي: ١٩٤.
(٢) أُصول الفقه للمظفَّر ١: ٩.
(٣) بحوث في علم الأُصول/ أبحاث السيِّد الشهيد محمّد باقر الصدر (قدّس سرّه)/ تقرير الشيخ حسن عبد الستّار (مج ١/ ج ٢/ ص ١٥٣)، بتصرّف.
(٤) المصدر السابق: ١٥٥.
(٥) للتفاصيل راجع المصدر السابق (ص ١٧٦) وما بعدها.
(٦) المصدر السابق: ١٩٠.
(٧) المصدر السابق: ١٥٣ و١٥٤، نقلاً عن محاضرات في أُصول الفقه للفيّاض ١: ٤٢ و٤٣.
(٨) أُنظر: أيقظ قدراتك لإبراهيم الفقهي: ١١.
(٩) المصدر السابق: ١١ و١٢.
(١٠) أُنظر: موقع (www.archive.arabic.cn.com).
(١١) أُنظر: موقع (www.ankawa.com).
(١٣) كشف المراد للمحقِّق الطوسي: ٢١٨/ ط ١٣٥٣هـ/ صيدا.
(١٤) الإلهيات للسبحاني ٣: ٢٢٩/ ط اعتماد/ ١٤١٧هـ/ قم.
(١٥) المصدر السابق: ٧٣ و٧٤، بتصرّف.
(١٦) الغيبة للنعماني: ٢٠٧ و٢٠٨.
(١٧) الخراج والجرائح للراوندي ٣: ١١٢٥ و١١٢٦.
(١٨) كمال الدين: ٤٨٢/ باب ٤٥/ ح ١١.
(١٩) قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) (الإسراء: ١٠١)، وقال تعالى: )َأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (الأعراف: ١٣٣ و١٣٤).
(٢٠) قال تعالى: (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: ٤٩).
(٢١) قال ابن شهر آشوب في كتابه مناقب آل أبي طالب ١: ١٢٥: (... وكان له معجزات لم يكن لغيره، وذُكِرَ أنَّ له أربعة آلاف وأربعمائة وأربعين معجزة).
(٢٢) في روضة الواعظين للفتّال النيسابوري: ٦٣ و٦٤: (ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم انشقاق القمر لمَّا التمسوا منه، والقرآن قد نطق به. قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) [القمر: ١ - ٥]، فالنبيُّ أشار إلى القمر بإصبعه، فانشقَّ القمر، فعانده كفّار قريش، وقالوا: (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ...[ إلى قوله:] (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) [، قد أخبر عنهم تعالى. ومنها: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب إلى بعض الأجذاع، فلمَّا عمل المنبر وتحوَّل إليه حنَّ كما تحنُّ الناقة، فلمَّا جاء إليه والتزمه سكن...].
(٢٣) نُقِلَ هذا المعنى عن السيِّد عبد الله شبَّر في كتابه حقُّ اليقين ١: ١١٣؛ وذكره السيِّد حسن الشيرازي في كتابه الإمام المهدي نظرة وجيزة شاملة، وهو مقدّمة كتابه كلمة الإمام المهدي عليه السلام: ٣٢.
(٢٤) كمال الدين: ٦٥٠.
(٢٥) كمال الدين: ٦٤٩/ باب ٥٧/ ح ٢.
(٢٦) فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال للمفضَّل بن عمر في رواية طويلة: (... دار ملكه الكوفة، ومجلس حكمه جامعها، وبيت ماله ومقسم غنائم المسلمين مسجد السهلة، وموضع خلواته الذكوات البيض من الغريين). (بحار الأنوار ٥٣: ١١).
(٢٧) بحار الأنوار ٥٢: ١٨٦ و١٨٧.
(٢٨) الغيبة للنعماني: ٢٧٢ و٢٧٣/ باب ١٤/ ح ٢٨.
(٢٩) المصدر السابق/ ح ٢٩.
(٣٠) في مسند أحمد بن حنبل ٢: ٣٠٠: (ألا ليُذادنَّ رجال منكم عن حوضي كما يُذاد البعير الضالّ، أُناديهم: ألا هلمَّ، فيقال: إنَّهم بدلّوا بعدك، فأقول سحقاً سحقاً...)، وورد هذا المعنى أيضاً وبألفاظ قريبة جدّاً من هذا اللفظ في العديد من المصادر العامّية الأُخرى، منها: صحيح مسلم ١: ١٥٠ و١٥١؛ سنن ابن ماجة ٢: ١٤٤٠.
(٣١) الغيبة للنعماني: ٣٠١ و٣٠٢/ باب ١٦/ ح ٦.
(٣٢) حسب نقل بحار الأنوار ٥٦: ١٩٣.